تربية وتعليمحواراتسلايدر

كيف نصنع معلِّمًا ناجحًا وكيف يسهم المعلِّم في صناعة ذاته؟ – حوار مع د. عامر الحافي

 

في هذا الحوار مع الدكتور عامر الحافي؛ أستاذ الأديان المشارك في جامعة آل البيت والمستشار الأكاديمي للمعهد الملكي للدراسات الدينية، نجدنا أمام رزمة من الإشكاليات الفكرية والمعرفية التي تشكّل قراءة دقيقة للتعليم في المنطقة العربية عموماً والتعليم الديني خصوصاً

 

أجرى الحوار: عبد الله الجبور

 

  • منذ زمن الكتاتيب إلى اليوم والتلقين هو الأسلوب المتبع في التعليم، لماذا؟

إذا كان الحديث هو عن التعليم الديني على وجه الخصوص؛ فإن التلقين هو أسلوب من أساليب التعليم التقليدية، ولكن  هذا الأسلوب يمكن أن يكون مقبولًا في مرحلة الطفولة، لكن أن يتحول التلقين إلى الأسلوب الأساسي في التعليم الديني فهذا لا شك يدل على وجود خلل كبير في التعليم الديني، وفي المؤسسات التعليمية الدينية.

هناك من يزعم بأن الفكر الديني يستدعي التلقين، وأن التلقين هو الوسيلة الأمثل للفكر الديني لأن الفكر الديني لا يستطيع أن يطرح فكرًا إشكاليًا، لأن الفكر الديني بطبيعته تلقيني، وليس فكرًا علميًا، أو فكرًا إشكاليًا،  إذاً على هذا الأساس من غير المفاجئ أن يكون التلقين هو الأسلوب الأساسي والشائع للتعليم الديني، لأن طبيعة الفكر الديني أو التعليم الديني يقوم على التلقين والذي بدوره ينسجم مع طبيعة الموضوعات وطبيعة الأفكار المطروحة.

يؤسفني القول بأن التلقين لا يزال يسيطر على مساحة واسعة من التعليم الديني، ويتم تسويغ ذلك من خلال مقولات ” أمروها كما جاءت، … لم يبق الأولون للآخرين شيئًا، ..الخ ” والزعم بأن الحقيقة الدينية  ولدت كاملةً وأنه لا يوجد هناك نوع من التراكم المعرفي لإضافة شيء أو مراجعة شيء أو نقد شيء من هذا التراث الديني، ولا بد من الالتفات إلى أن التلقين يمثل وسيلة آمنة بالنسبة للفكر الديني غير العقلاني، لأنه إذا أردنا أن نطرح فكرًا دينيًا يقوم على البحث العلمي ويعرض الإشكالات ويطرح التساؤلات الجوهرية والعميقة، فإن هذا النوع من التفكير وهذا النوع من التساؤلات يتطلب من المعلمين أن يكونوا على إطلاع واسع وأن تكون لديهم القدرة للتعامل مع هذا الأسلوب.

يؤدي التلقين إلى تجميد عقل الإنسان وإعاقة تطور المجتمعات لأن العقل الذي يتلقن المعرفة تلقينًا؛سيكون بالضرورة بعيدًا عن الابتكار والإبداع وإنتاج معرفة جديدة، فالتلقين لا شك أنه مشكلة قديمة ومستمرة وإن كانت بأقنعة مختلفة ومسوغات جديدة من قبيل الحفاظ على الهوية الدينية أو الطائفية، أو الحفاظ على ثقافة الأمة، ولكن من غير المقبول أن يكون التلقين هو الذي يحافظ على الدين أو الهوية، بعيدًا عن إعمال العقل والتفكير العلمي وطرح التساؤلات العميقة والجديدة وغير المسبوقة.

  • من خلال رحلتك في البحث والدراسة بين المشرق والمغرب العربي، هل لاحظت فرقًا في الإنتاج الفكري الديني بين المنطقتين؟ لماذا ينتج المغرب العربي مفكرين أمثال محمد آركون  و  محمد عابد الجابري و احميدة النيفر  ومالك بن نبي .. الخ،  ولا يبدو المشرق العربي على نفس الصورة؟ هل المدرسة الدينية تختلف، هل لتاريخ الاستعمار السياسي المختلف دور في ذلك؟

لا أعتقد أن الفجوة كبيرة جداً بين المشرق والمغرب، إذا كنا نتكلم عن وجود بعض المفكّرين أو المثقّفين في المغرب أو تونس أو الجزائر، قد يكون الفارق كميًا أكثر منه نوعيًا، على سبيل المثال: لست أتفق مع أطروحة الجابري بأن العقل البرهاني يمثل سمة للعقل الإسلامي المغاربي، بينما العقل العرفاني يمثل سمة للعقل الإسلامي المشرقي، لست أتفق مع هذه التعميمات لانه عادةً وضرورةً ما نقع في الأخطاء لأننا لا نتعامل مع قوانين طبيعية، نتعامل مع ظاهرة إنسانية متغيرة؛ مجتمعات تتغير، قد تكون هناك مرحلة معينة كمرحلة الاستعمار الفرنسي لدول المغرب العربي التي تركت بصمات قوية على الفكر والثقافة العربية المغاربية، الأمر الذي جعل هذا التفكير تفكيرًا إشكاليًا أكثر، يطرح تساؤلات أكثر، ولكن هذا لا يعني أن التفكير العربي المشرقي قد أصبح عقيماً ولم يعد فيه من يطرح هذه التساؤلات ويثير أفكارًا جديدة وينتقد ويراجع ويدعو إلى تطوير الخطاب الإسلامي.

اذن  ربما تكون هناك أسباب آنية أو مرحلية ساعدت على أن تكون هناك مدارس للتفكير الإسلامي المغاربي قد يكون لها إسهام أكبر في الخطاب الإسلامي البرهاني الذي يعتمد العقل ويعتمد وسائل تفكير معاصرة، قد يكون القرب من الغرب ونسبة الباحثين والدارسين الذين يدرسون في الغرب، والذين يتخرجون ويكملون دراساتهم في فرنسا وبلجيكا وباقي الدول الأوروبية، كما أننا  نعلم أن عدد المغاربة سواء من تونس والجزائر والمغرب الذين يتواجدون في الدول الأوروبية كبير جداً، نتحدث عن عدد لا يقل عن عشرة ملايين مغاربي، هذا التواصل الديموغرافي والتقارب الجغرافي له أثر كبير في التأثر في تجربة العقل الغربي، ومناهجه العلمية . ولا ننسى أننا في المشرق العربي لدينا مركز المدرسة النصية السلفية وهي المشهد الاقوى وهي في اتساع مستمر، الأمر الذي يجعل المثقف والمستنير المشرقي في حالة ضعف و جهد مهدور للدفاع عن نفسه وللدفاع عن فكره أمام كثافة الحضور السلفي في منطقتنا والذي يحظى بدعم سياسي ومادي في عدد من هذه الدول.

  • تحتاج منظومة التعليم في المنطقة العربية إلى تطوير مستمر، فهل نحن بحاجة إلى تطوير المنهج أم تطوير المعلِّم؟

هناك تداخل كبير بين تطوير المعلمين وتطوير المناهج، نحن بحاجة إلى تطوير المعلم الذي يستوعب المناهج المتطورة،  نحتاج إلى هذا المعلِّم الذي يستوعب ضرورة وأهمية تطوير المناهج، وأهمية إدراج مناهج جديدة في  دراسة الفكر الإسلامي   وفي دراسة العلوم الإنسانية، أعتقد أن البداية تكون من المعلِّم، لأنه لو  طورنا أو فرضنا مناهج جديدة ومدروسة،  وأحضرنا جميع الخبراء وعلماء الدراسات الإنسانية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، و أوجدنا مناهج وكتب  ومقاربات جديدة، وكنا لا نملك معلمين يقومون بالمهمة، عندها ستكون مجرد كتابات وأوراق.

إذاً: المعلم هو الذي يستوعب هذه المناهج، وهو الذي يجب تطويره وتهيئته وتمكينه من هذه المناهج، لأنه هو أساس تطوير هذه المنظومة.

  • هجرة العقول العربية إلى الدول الأجنبية، هل تؤثر على مستوى وجودة التعليم، أم أنها تفسح المجال أمام عقول عربية جديدة لترى النور؟

لا شك بأنها ظاهرة مقلقة، خاصة وأن هجرة العقول هي مؤشر على أن مساحة الحرية ومساحة الإبداع ليست مناسبة في مجتمعاتنا العربية، وبالتالي كأن هذا المبدع وهذا المفكّر أو العالم، يشعر بالإهمال والإقصاء.

حتى الذين حصلوا على جوائز عالمية – كجائزة نوبل – وهم عددهم قليل جداً لا يساوي نصف عدد اليهود الحاصلين على الجائزة للأسف، مع العلم أن عدد المسلمين مئة ضعف عدد اليهود، هذا مؤشر الى وجود خلل في منظومة الطاقة الإبداعية وفي حوافز الإبداع عند العربي وعند المسلم، ومن هذه الحوافز عدم الإحساس بأن الإبداع سوف ينال التكريم، أو سوف يصل بالإنسان إلى ما هو أفضل، وبالتالي الشعور بالإحباط والشعور باللاجدوى، كما أن هناك جملة عوامل تجعل المبدع في العالم العربي يشعر بـإحباطات، جزء منها له علاقة بواقع اجتماعي وسياسي، وجزء منها له علاقة بنمط تفكير قد يكون جزء منه ثقافي أو جزء منه ديني.

يجب أن ينصب التفكير على إيقاف ما يسمى – نزيف العقول – لا بد من إيقاف هذا النزيف (Brain Drain) لأنه لن يعوضه شيء، هو خسارة  فادحة رغم محاولة تبرير هذه الخسارة بصيغة أو بأخرى، ولكن الحل الأمثل هو أن نوقف هذا الهدر وهذا الضياع في طاقاتنا الإبداعية وفي مفكرينا بأن نعمل على استرجاع العقول المهاجرة، وأن يكون من مهام وزراء الخارجية العرب أن يبحثوا عن المبدعين العرب الذين هاجروا وإرجاعهم أو تحفيزهم على الرجوع إلى بلدانهم ليبدعوا.

يجب أن نعترف بوجود علاقة بين هجرة العقول وبعض المواقف السياسية لعدد من هؤلاء المفكرين والمبدعين بحيث انه ربما بعض الدول قد تجد هجرة هذه العقول شيئًا جيدًا بالنسبة لها، وخاصة تلك الدول التي تتبع نهجًا سياسيًا غير ديمقراطي، والتي لا تفكر في استرجاعهم لأنها هي في الواقع من تخلصت منهم.

  • هل تؤثر المخرجات الكميَّة من حيث عدد الخريجين على جودة التعليم في المنطقة العربية؟

الكثير من الأُسَر في العالم العربي  تنظر للتعليم كوسيلة لتحقيق حياة أفضل، لأن هناك شعورًا بأن التعليم يمكن أن يحقق نوعًا من الرقي الاقتصادي، أو  يحقق حياة أفضل، وهي تحث الأبناء على نيل الشهادات والنجاح  في الدراسة، ولكن هذه الشهادات من الجانب الكمي  –  في الأردن مثلاً –  هي مناسبة  وممتازة مقارنة  مع عدد الجامعات وعدد المواطنين، ولكن  السؤال الذي يجب أن يسأل هنا : كم عدد طلاب كلية الحقوق الذين تخرجوا؟ أو طلاب كلية الشريعة الذين تخرجوا؟ الذين لديهم القدرة على أن يبدعوا أو ينجزوا بطريقة مميزة  في مجالاتهم؟ أتصور أن هذا السؤال الأكثر حرجًا،  ليس في عدد الطلاب وعدد الخريجين وإنما في إيجاد خريج متميز، مع أنه  من الجميل وجود حملة شهادات بنسب كبيرة، وقد يكون في ذلك تحسين اقتصادي ومادي للأسر وللأبناء  وللأهالي، إلا أنه على المستوى المعرفي والعلمي؛ نحن بحاجة للتركيز على نوعية هذا التعليم، وعلى التعليم الإبداعي الذي يتجاوز تحميل معلومات وإعطاء شهادات، إلى  إيجاد نوع من الحس المعرفي والشوق المعرفي والبحث عن الأسئلة التي يجب أن تسأل والبحث عن معارف جديدة.

  • في وزارات التربية والتعليم؛ يجب على المعلِّم أن يكون مربيًا أم معلِّمًا؟

نلاحظ في التعليم الديني خصوصًا؛ أن أغلب المعلمين الدينيين يقوم بدور الداعية والواعظ وعلى هذا الأساس يصبح الجانب العلمي والأكاديمي حالة تابعة؛ هناك من يعتقد أن أستاذ الشريعة يجب أن يكون داعيةً وواعظًا ثم بعد ذلك يتحدث في الأمور العلمية بالمعنى العلمي الأكاديمي، وهذه مشكلة من مشاكلنا خاصة في كليات الشريعة حيث تصبح المهمة العلمية الأكاديمية في المرتبة الثانية.

لكن تبقى هناك أهمية للدور التربوي، ولا أقول الدور التربوي بالمعنى الديني فقط ، فالأصل أن يكون المعلِّم ملهمًا ومحفِّزًا والمعلِّم يمكن أن يكون قدوة سلوكية “وليس بالضرورة أن يكون كذلك”مثلاً: قد أذهب لأفضل طبيب لأُعالج عنده ويكون هذا الطبيب لديه مشكلة وبالتالي لا أعتبر هذا الطبيب قدوة في حياتي  مع أنه أحسن طبيب على سبيل المثال.

القول بأن الأستاذ الجامعي  أو المعلِّم يجب أن يكون قدوة سلوكية؛ بالمعنى المثالي للكلمة، يضع المعلِّم  في مشكلة وفي ورطة، لأن المعلِّم هو إنسان والناس متفاوتون، نحن لا نتكلم عن مؤسسة دينية روحية، لا نتكلم عن مؤسسة مرجعية بالمعنى الديني  أو بالمعنى الروحي ، الأستاذ يفكر بطريقة صحيحة  والأستاذ يوجه تربويًا، ولكن قد لا يكون الأستاذ بمقام القدوة التي نحن نتوقعها.

الأصل بالمؤسسة التعليمية أنها تعليمية، لكن إن لم يستطع الأستاذ  أن يكون له دور تربوي إيجابي، فلا يعني ذلك أنه أستاذ فاشل ! كما لا يعني ذلك أن يكون في مؤسساتنا التعليمية أناس لديهم مشكلات أخلاقية أو تربوية ، لكن أقول إنه من الصعوبة بمكان أن نتوقع من كل أستاذ في المدرسة

أو الجامعة بأن يكون قادرًا  على أن يكون قدوة أخلاقية على المستوى السلوكي والتربوي لطلابه أو لتلامذته.

  • خطيب الجمعة معلِّمًا؛ الطالب في المدرسة وفي الجامعة، والأستاذ في المدرسة وفي الجامعة، يتلقون درسًا دينيًا اجتماعيًا أسبوعيًا؛ هل خطيب الجمعة على قدر كافٍ من المسؤولية التي يواجهها؟

الخطيب  والمعلِّم  والأستاذ الجامعي؛ هم نتاج لنفس المجتمع ومؤسساته التعليمية، وبالتالي يجب أن نتوقع بأن يكون لدينا أئمة ليسوا على مستوى الإمامة، أو أساتذة ليسوا بالمستوى المطلوب، لأن المؤسسات التعليمية التي خرجت هذا الإمام هي التي خرجت ذلك المعلِّم، وبالمناسبة هناك العديد من الأئمة معلمون؛  فهو إمام ومعلِّم بنفس الوقت، وأغلب ما يقولونه على المنبر؛ ينقلونه إلى غرفة الدرس.

ومن جهة أخرى ليس من المعقول أن نحمِّل الأئمة والوعاظ أكثر مما يستطيعون أن يتحملوا، وليس من الإنصاف القول بأن الأئمة والوعَّاظ يقع عليهم عبء  وخطيئة جمود العقل الديني  وانحرافه وتطرفه.

  • كيف نصنع معلِّمًا ناجحًا وكيف يسهم المعلِّم في صناعة ذاته؟

يجب على المعلِّم الذي يدرك بأن تكوينه المعرفي وقدراته ليست بالمستوى الذي يطمح إليه، أن يكون لديه طموح  وإرادة للتغيير والتطوير،  وبالتالي إذا المؤسسة التعليمية الرسمية لم تستطع أن تجعل مني أستاذًا متميزًا؛ فما تزال الفرصة أمامي سانحة،كما يجب أن نراعي الفروقات الفردية بين الأساتذة الذين يتخرجون من نفس الجامعة ومن نفس الكلية ونفس المؤسسة التعليمية،فهناك تفاوت واضح فيما بينهم؛  ومن الضروري أن نستفيد من فرصة وجود مؤسسات المجتمع المدني المختصة بالتدريب في مختلف حقول المعرفة الإنسانية.

أي أن الفرد الآن مهما كان مجاله المعرفي سواء كان معلِّمًا أو مهندسًا أو إمام مسجد، يستطيع أن يطوّر كفاءته التعليمية، ويستطيع تطوير مهاراته وطريقة تفكيره، وأن يشارك في ورشات التفكير الإبداعي  وفي الإدارة التعليمية وفي وسائل التعليم وتقنياته الحديثة، والكثير من المهارات التي يمكن أن يحصل عليها من المؤسسات  التعليمية الموازية.إذاً؛ الجانب الأول المطلوب هو إصلاح التعليم بالمعنى الرسمي ، وأنا مع أن يحدث تعديل وتطوير فيه، ونحن جميعًا شاهدنا محاولة تطوير بعض المناهج  التعليمية في الأردن،  وكيف كان التعاطي معها بطريقة سياسية واستقطاب شعبوي وتجييش لمشاعر العوام، وما جرى من تحويل الموضوع إلى مشكلة صراعية وحرب على الإسلام والمسلمين.

إن تطوير كفاءة المعلِّم  يرتبط بالإصلاح من زاوية التعليم الرسمي وهو من مسؤوليات ذلك التعليم من ناحية، كما يرتبط بمسؤوليات المؤسسات التعليمية المدنية من ناحية ثانية، كما أن على المعلِّم أن يدرك بنفسه  مدى أهمية تطوير مهاراته وقدراته وضرورة توسيع معارفه وتطويرها، حتى إن قصرت المؤسسة التعليمية الرسمية أو تأخرت في إجراء الإصلاحات التعليمية اللازمة.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة