*سفيان سعدالله
تتكوّن كل منظومة تربوية من عناصر متداخلة فيما بينها وأطراف فاعلة في عملية التدريس. ولا يتوقّف تأسيس مشروع تربوي ما على وضع برامج ومناهج وضبط مبادئ وأهداف فقط بل أيضا تنظيم العلاقات بين المعلّم والمتعلّم ضمن مسار تعلّمي يجعل من الأطراف المشاركة – مهما اختلفت منزلتها – أطرافا مربّية، فكل جيل (المعلّم) يُربّي جيلا آخر (المتعلّم) والإنسان مثلما يقول كانط: “هو الكائن الوحيد الذي يجب تربيته. ونقصد فعلاً بالتربية الرعاية (التغذية، التعهد) والانضباط والتعليم المقترن بالتكوين […] ومن هذه الزوايا الثلاث يكون الإنسان رضيعًا وتلميذًا وطالبًا”. ومن اللافت للانتباه أن كل فيلسوف لم يقتصر على خوض تجربة التدريس أو الحوار مع الغير بل اهتم أيضا بالتأمّل في مسائل تربوية متنوعة ومنها منزلة “المعلِّم” ودوره التربوي.
من بين الأسس التي تنهض عليها المشاريع التربوية منذ اليونان إلى يومنا هذا الحوار ولا يُعدّ مجرّد أسلوب في الكلام وإنّما طريقة في التعلّم والتفكير والحياة.
ولعلّ ما يبرّر اختيار الحوار واعتباره من شروط بناء مشروع تربوي تنويري هو الاعتقاد بأنّ المتعلّم بإطلاق في مستطاعه التّفكير، ما دام جوهره الفكر وإنّه بإمكانه التوصّل بفضل الحوار إلى اكتشاف الحقيقة، التي هي ليست ملكاً لأحد ولكن يمكن لكلّ أحد أن يكتسبها إن احتكم إلى عقله.
ولا ريب في أن الحوار أسلوب شائع في الأوساط الفلسفيّة والعلميّة على حدّ سواء في كل عصر يشهد ثورة حقيقيّة، ممّا يذكّرنا بزمان الفلسفة وبدايتها في ساحة «الأَغُورَا» وتشكُّلِ الحوار طريقةً في الدّحض. فكانت المحاورة الأفلاطونيّة شاهدًا محرجًا على الصّراع بين السّفسطائيّين خطباء اليونان وسقراط فيلسوف العقل أو الحوار. وما ميّز الحضارة العربية الإسلامية أيضا عقد مناظرات في شتى المجالات الفلسفية والأدبية بوجه عام. وفي القرن السابع عشر تُجْرَى المناظرات بين مناصري العلم الأرسطيّ وروّاد الحداثة ديكارت. لايبنتز. كانط…، وهذا ما يدلّ على أن الشعوب لا تصنع حداثتها إلا عبر الحوار والتفكير الحق وليس القمع واستباحة القتل “المقدَّس”. وإذا ما ارتأينا اليوم بناء مشروعِ تربويِ ناجعِ ينبغي أن نعيد التفكير في منزلة الحوار وعلاقة المعلّم بالمتعلّم. وترتبط معالجة نقطة الإشكال هذه بفهم معين للأطراف المشاركة في العملية التعليمية ولا تنحصر في اعتبار المتعلم محور النظام التربوي ولا في أن نجعل من المعلِّم سلطة معرفية. لأن التعلم من زاوية فلسفية بيداغوجية حديثة هو فعل تشاركي يقوم على التفاعل بين المعلِّم والمتعلم ولا يمكن بأيّ شكل أن يُردّ إلى أحد الأطراف.
انبنت الطّريقة التّربويّة التقليديّة على رواية تاريخ الأفكار وترديد ما قاله «المعلّمون» والاطّلاع على كتب القدامى. ويلزم عن اعتبار المعلّم مالكًا الحقيقة أن يعمد إلى تلقين المتعلّم معارف جاهزة يتفنّن في عرضها مستخدمًا تقنيّات حجاجيّة لإقناع المتعلّمين واحتوائهم على النّحو الذي كان ينهض به “الشيوخ” ورجال الدين. فتكون علاقة المعلّم بالمتعلّم علاقة تسلّط وإلزام. ويكتفي المتعلم بتقبّل الآراء السائدة والانصياع لسلطة المعلّمين، “وبقدر ما يتمسّك [المتعلمون] باتّباع خطى معلّمهم، وإن ابتعدوا أحيانا عن الحقيقة، يكونون أكثر ثقة في انتهاج طريق أكثر ضمانًا من غيره، في معنى أنّ اختاره من يفوقهم رأيا.
أمّا الآن وقد تحررنا من الولاء لكلام المعلّم، وبلغنا سنّ النضج، فقد تخلّصنا من هذا الإلزام”. وفي نقده للأسلوب المدرساني في التعلّم يؤكّد الفيلسوف ديكارت على ضرورة وضع “قواعد لتوجيه الفكر” ومراجعة دور المعلّم والمتعلّم، لأن الأهم ليس حفظ ما قاله المعلّم الذي أضحى سلطة وإنما القدرة على اكتساب معرفة تتولد عن نور العقل فـ”لن نصبح رياضيين إن حفظنا كلّ البراهين التي صاغها الآخرون إذا كان فكرنا غير قادر على حلّ كل أنواع المشكلات، ولن نصير فلاسفة أبداً بمجرد قراءة كل استدلالات أفلاطون وأرسطو دون أن نكون قادرين على إصدار حكم موثوق به في ما يعرض علينا من مسائل، إذ سنظهر عندها كمن تعلّم الأقاصيص لا العلوم” . بينما من دلالات التّربية الحديثة تدريب المرء على أن يفكّر بشكل حر مستقلّ عن سلطة الآخرين، وهو ما يذكّرنا بالمبدأ الكانطي “كن جريئًا في استعمال عقلك أنت ذلك شعار الأنوار”. لقد لازم التفكير في مسألة الأنوار الاهتمام بالإنسان وقدرته على استعمال العقل استعمالًا مستقلًاعن كل سلطة وكما يقول كانط: “إنّ بلوغ الأنوار هو خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه، والذي يعني عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد الغير”.
من مظاهر القصور اعتبار المعلِّم سلطة معرفية وأن علاقة المتعلِّم بالمعلِّم علاقة امتثال وانصياع.
ويستدعي بلوغ الأنوار الاحتكام إلى العقل وتغيير نوعية العلاقة بين المعلِّم والمتعلم من علاقة إلزام إلى علاقة التزام بالبحث عن الحقيقة، إذ يتكفّل المعلّم بوظيفة بيداغوجيّة حديثة تقوم على ابتكار الأساليب الممكنة التي تؤهّل الفرد للتّفكير وإدراك الحقيقة. ومن أهمّها السؤال الذي يعبّر عن حاجة الذّهن إلى معرفة ماهيّة الشيء. وهذه النقطة بالذات هي التي تميّز المعلّم الحق وقد اتّخذ من الحوار مبدأ أساسيًا في التعلّم ومن السؤال أسلوبًا بيداغوجيا. وينبغي للمعلّم أن يتحرّى في كيفية وضع السؤال من أجل معرفة حقائق الأشياء. وعلى هذا النّحو يمكّن هذا الإجراء البيداغوجي من الاضطلاع بعدّة مهمّات معرفيّة مثل التّحديد (Détermination) والتّوضيح (Clarification) والتّمييز (Distinction) وهي أساسًا مهمّات تتعارض حتماً مع أسلوب الحفظ واستعراض الأجوبة الجاهزة. وتبرز تلك المهمّات عند سقراط بوصفه نموذجًا لمنهج التربية على التفكير. وما يميز السؤال السقراطي هو أنه سؤال بحثي ينبني على اعتراف سقراط نفسه أنه لا يعرف شيئًا، ويعطينا في محاوراته التي احتفظ بها أفلاطون على نحو ما، أمثلة على المنهج الذي به يمكن أن يرشد المتعلم إلى التوصل إلى أشياء كثيرة من عقله هو. وتنبّهنا هذه الطّريقة في التعلّم على وجه العموم إلى ضرورة فهم السّؤال والتّريّث في إبداء الحُكْم، بدلا من التسرّع وادّعاء المعرفة. لذا تُصوّر المحاورات الأفلاطونية صراعًا بين الفيلسوف والسفسطائي، الأول لا يعرف شيئًا بل يسعى إلى المعرفة والثـاني يدّعي المعـرفة. وعندما يبدأ سقراط في الحوار وطرح السؤال يستفيق السفسطائي على ضيق معارفه، وبالتالي ينقد سقراط مخاطبه السّفسطائيّ فيشكّكه في معارفه ويجرّده من الحقيقة. وهنا يضعنا السّؤال خارج النّظام السّائد فهو نقد للمذهبيّة والانغلاق وتشريع لحق الإنسان – المتعلم في التفكير على نحو آخر. ولذا لا بدّ من اتخاذ المنهج السقراطي قاعدة في التعلم. إنه منهج صعب بلا شك، أشبه بعملية “التوليد” واستخراج معرفة ما من ذهن أحد التلاميذ. وفعلا يعترض المعلّم على بعض الأجوبة الجاهزة كأن يكشف عن تناقضها وتهافتها من وجهة منطقية أو واقعية. ويبدو سقراط بتأسيسه للتفكير الفلسفي مؤسسًا أيضاً لفن التعلم وبيداغوجيا الحوار.
يستعمل المعلّم آلية أخرى في الحوار هي النقد وغاية الأمر تدريب المتعلّم على أن يتخلّص من الأحكام المسبّقة بحثًا عن الحقيقة. وإذا رمنا إصلاح منظومات التربية السائدة في الوطن العربي ينبغي تعليم التّلميذ آليتي الفهم والنقد، وتدريبه على التّفكير والبرهنة، لا تقديم ما يُزْعَمُ أنّه الحقيقة، فلا نحتاج اليوم إلى مقاربة كمّيّة، بل إلى مقاربة كيفيّة تعلّم التّلميذ النقد الذي أصبح بهذا المعنى تأسيسًا لطريقة مغايرة في التعلّم، من شأنها أن تحثّ المتعلّم على التّفكير. ومن المواد الأساسية الفلسفة إذ يجب إعطائها قيمة سواء تعلق الأمر في البرامج أو الضوارب لأنها تساعد المتعلم على النقد والتحليل. إنه نقد ينطلق من موقع البحث عن حقيقة معيّنة وليس الاعتقاد في امتلاك الحقيقة مطلق الحقيقة والتشكيك في كل ما خالف ذلك. إن ما يميز النقد من زاوية فلسفية بيداغوجية هو كونه آلية من آليات الحوار لا تُدخل المتعلم في دوّامة الشك بل قل التشكيك وإنما توجّهه نحو التفكير في مسألة ما على نحو مختلف. فكل فرد أي متعلّم في مستطاعه التفكير ما دام يتوفّر على عقل. إلا أنه يتوهّم التفكير لأنه يظل مشدودًا إلى أحكامه المسبقة. ههنا يكون الحوار فالنقد سبيلا للتخلص من الآراء السائدة باتجاه بناء تفكير مختلف. وقلّما ننتبه إلى أن من فضائل المعلّم أن يشغل ذهن التلميذ بأن التفكير حركة متواصلة وأن النقد ليس موقفا متشككا ينفي بإطلاق وجود حقيقة وإنما هو تأسيس لفكر متنوع حيث يتم الحديث عن غزارة الحقائق ونسبيتها.
هكذا نلاحظ أنّ الحوار ليس مجرّد أسلوب بلاغيّ بل هو إجراء منهجيّ من مقوّماته السؤال والنقد والتريّث في إصدار الحُكم، وهي تكاد تكون كلّها معاني المنهج التربوي التنويري، فلم يعد الإلمام بالمعارف والإحاطة بالكتب وترديد ما قاله المعلّم هو مبتغى العمل البيداغوجي، وإنّما إثارة بعض المسائل بغاية التّدرّب على التّفكير. ولذا يعسر خوض تجربة التّعلّم أو ممارسة الاقتدارات التّعليميّة مثل السؤال والنقد ما لم نحسن التّفكير.
وعلاوة على ذلك يكون من أولى الخطوات البيداغوجية اتباع منهج أي نظام سيسلكه المعلم في تفسيــر كلّ مسألـــــــة إذ يحدّد المعلِّم بادئ ذي بدء المسألة ثمّ يرسم منهجا ويضبط الأهداف. فيتدرب المتعلم على البحث في دواعي طرح المسألة ورصد الصّعوبات وكيفية تجاوزها، ثمّ استخلاص حقائق. وليس من باب الغلوّ أنّ نقّر بأنّ إبداع طريقة جديدة في التعلم مشروط بإبداع طريقة في التّفكير لأن التعليم في عمقه هو طريقة في طلب الحقيقة وليس أسلوبا في الكتاب أو شكلًا من أشكال عرض الحقائق. قلنا يقتصر المتعلّم في المنظومة التّربويّة التقليديّة على تلقّي المعارف فيحسبها حقائق ويتوهّم اكتسابها كلّما اقتفى أثر معلّميه، لهذا تقوم نظريّة التّربية على الحفظ والاتّباع. وعلى عكس ذلك ينبغي أن نفكر اليوم في تأسيس أسلوب تعليمي مغاير يحتكم إلى سلطان العقل. وتترجم الطريقة على حركة العقل. فلا يفرض المعلم على أيّ كان أفكارًا ولا يلزمهم باتّباعها، وإنّما يعمد إلى الإرشاد والتّصويب، فتزول سلطة المعلّم ويحلّ محلّها اللّوغوس جوهر الطريقة. ومن تجلّياتها اختيار أساليب بيداغوجية متنوعة تتناغم مع مستوى المتعلم وقدراته.
ومن أولى نجاحات البحوث البيداغوجية اليوم الإيمان بتنوّع أساليب التعلم بحسب اختلاف المتعلمين وطبائعهم وردود أفعالهم وبالأساس مستوياتهم الذّهنيّة. فلا وجود لطريقة واحدة وثابتة. فقد يكتفي المعلّم بإرشاد المتعلم نحو الطّريق السّويّ ويوجّهه لاكتشاف الحقيقة. وبتعبير آخر، ينحصر جهد المعلم في شدّ انتباه المتعلم ويدفعه إلى التّفكير ولا يستعمل أثناء محاورته معه مفاهيم صعبة ولا يمدّه بحقائق جاهزة وإنّما يساعده على التّخلّص من الآراء الخاطئة والمذاهب الفاسدة، فيصوّبه ويوجّهه. وتلك هي بعض الأساليب البيداغوجيّة الحديثة. وفي الحقيقة تتغيّر آليّات التعلم وأبعاده بحسب الأطراف المتعلمة، والسّبب في ذلك هو التّغيّر الحاصل في الوضع التّعليميّ، فإنْ أسرع المتعلم في الإجابة دون فهم السّؤال، يستوقفه المعلم مبيّنًا مواطن الخطأ النّاجم عن عدم فهم السّؤال فهمًا جيدًا. وإن استعصى عليه فهم بعض الأفكار ينطلق المعلم من أمثلة لتوضيح الفكرة أو أشياء حسية لبيان بعض المعاني الموغلة في التجريد.
كما يمكن استعمال أسلوب المقارنة أو التّشبيه، والغاية من ذلك تبسيط ما استغلق على الفهم من مسائل جدّ معقّدة. فلا نرى مانعًا من تعايش المناهج المختلفة واستعمالها حسب الحاجة وحسب مناسبتها لوضعيّة التّعلّم (الحفظ، التّحليل، التّعليل، التأليف، التّركيب). لأن المهم مساعدة المتعلّم على تنمية قدراته وتمكينه من المعارف الأساسية والمناهج بما يغذي ملكة الإبداع لديه ويفتح له أبواب الابتكار والمساهمة في تطوير مجتمعه على الصّعيد المعرفيّ والتّقنيّ.
نلمس من خلال عرضنا لمكوّنات العمليّة التّربويّة وأطرافها المتفاعلة على وجه العموم، أنّه إذا كان مدلول التّربية التّقليديّة هو التّلقّي والاتّباع، فإنّ من معاني التّربية التنويرية الحوار والسؤال والنقد والمنهج وبإيجاز شديد التّفكير الحقّ. وأنّه لا وجود لأسلوب في التعلم هو أنجع الأساليب بإطلاق نتخذه أنموذجا بقطع النظر عن الأطراف المشاركة في العملية التربوية. ولئن حاولنا نقد الأساليب التّربويّة التّقليديّة ورفض كلّ أشكال التّبعيّة إزاء “المعلِّم”، فغاية الأمر التأكيد على قيمة جميع الأطراف التّربويّة وانخراطها معاً في الحوار والتّفكير والنقد وبناء منهج خاص والمشاركة في اكتشاف الحقيقة.