ماذا يجب أن ندرس اليوم كي يتغير غدنا؟
ما الذي حوَّل مدن المشرق العربي المضيئة بالشمس والثروات والحكايات إلى قبور تدفن فيها آمال الإنسان وأحلامه وأشواقه إلى الحياة والجمال والإبداع؟
في العراق وسورية ومصر بالذات، فشلت المؤسسات التقليدية من دولة ومساجد ونخب فشلًا ذريعًا في تقديم إجابات فعَّالة لأسئلة العصر، وبدل أن تفسح الطريق لخطاب جديد وحلول مبتكرة وتجارب إبداعية ضخَّمت الموروث وأعادت تدويره وإنتاجه ورمته في وجه المستقبل.
النخب الثقافية والأكاديمية انسحبت من دورها في إعادة إنتاج منظومة القيم المجتمعية الملائمة لحركة التاريخ، وتصاغرت في أغلب الأحيان إلى التنافس على رضا السلطان أو الترويج لمجد شخصي لاهية عن الحطام الذي يحيط بها.
الأحزاب السياسية مؤسسات قزمة لا تقدم حلولاً ولا رؤى للمستقبل ذلك أنها لا تنشأ من رؤية حضارية تقود المنطقة إلى مستقبل أفضل، إنما تنشأ من ردود أفعال على أحداث لا تصنعها هي ولا تجد أمامها غير الـتكيّف معها بغرض البقاء على قيد الوجود فقط، حدًّا أدنى من الاستجابة لتحولات العصور. لذلك فإن المأزق الذي يمر به تحديداً المشرق العربي هو مأزق وجودي وحضاري في الجوهر وليس سياسيًا. المأزق الحضاري سماته إشكاليات الهوية العاصفة، الصلة المضطربة بالنفس والعالم، التأخُّر الإنتاجي والصناعي، غياب الرؤية وانتشار الفقر والجهل والعنف.
الاستجابة الاستراتيجية والعاجلة للمأزق الحضاري تكمن في التعليم، التعليم النوعي الذي ينشر العلم والتفكير الحر والإبداعي، فيقود إلى جماعات تنظِّم نفسها حول رؤية للمستقبل بدل الجماعات التي تنظم نفسها حول صراعات الماضي. ويقود إلى أجيال سيدة تشعر بالملكية تجاه أرضها ومواردها ومستقبلها بدل أجيال محاصرة بشعور الضحية تتحيَّن الفرص للفرار من مدن الخراب التي أقام فيها الجهل والاستبداد والفقر.
أكثر من 60% من سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الآن هم شباب تحت سن الثلاثين، نشأوا في طواحين الحروب العبثية ومكائن العنف الشرسة التي تلف المنطقة ولا يجد معظمهم غير ثلاثة خيارات لا رابع لها: الغضب والانخراط في الماكنة ليصبح أداتها ووقودها، والذهول عن العالم بالمخدرات، المادي منها والمعنوي، أو عبور البحار إلى المجهول.
ليس غير المجانين من يتصور أن تؤدي هذه المسارات الثلاثة إلى مستقبل أفضل. إنها طرق أكيدة إلى مزيد من الحروب ومزيد من الموت ومزيد من الدمار في المنطقة.لذلك فإن المهمَّة عاجلة وملحّة أمام مجتمعاتنا كي تهب لنجدة نفسها، إذ لم يعد مجديًا ولا منطقيًا انتظار الحكومات حتى تقوم بتطوير المناهج الدراسية الرسمية كيما تستجيب بذكاء لهذا المأزق الوجودي الخطير.
لا بد من التسابق لتعليم وتأهيل جيل من الفاعلين والقادة المجتمعيين
القادرين على إنتاج خطابات وسرديات وجدليات تتدافع مع خطابات وجدليات وسرديات العبثية والكسل، والكراهية والتطرف الديني، والفساد والاستبداد. جيل يتسابق مع الزمن كي يتزود بما يلزم من مهارات وقدرات على إعادة إنتاج صلته بنفسه وعصره وماضيه، جيل يتسابق مع الزمن كي يتزود بالشجاعة والثقة على إعادة إنتاج مروياتنا عن الصراع الجوهري في هذه المنطقة: صراعها مع الجهل والتخلف العلمي والإنتاجي، لا صراع التأويلات الدينية وصراع الميثولوجيا التاريخية. الشيء الجوهري الذي يجب أن يتعلمه هذا الجيل هو الحرية والمسؤولية، أي تعليم لا ينشئهم على حرية التفكير لا يعول عليه، وأي تعليم لا ينشئهم على الشعور بالمسؤولية تجاه مصيرهم ومسار مجتمعاتهم لا يعول عليه.
والحرية لا تتجزأ، إنها الأصل في بناء الحضارة، الأصل في الخروج من هذا المأزق الوجودي، والمسؤولية لا تتجزأ، العالم بدأ يفيق من غفلته وأدركت الدول والشعوب البعيدة عن مراكز الحروب والمشاكل أن لا فرار لأحد من النار إن هي اشتعلت في أي ركن من أركان الأرض.
كتب الرئيس الثاني للولايات المتحدة الأمريكية جون آدامز لزوجته قائلًا:
“يجب علي أن أدرس السياسة والحرب عسى أن يتمتع أبنائي بالحرية ليدرسوا الرياضيات، والفلسفة. على أبنائي أن يدرسوا الرياضيات والفلسفة، والجغرافيا، والتاريخ الطبيعي، والهندسة البحرية، والإبحار، والتجارة والزراعة من أجل أن يعطوا أبناءهم الحق في أن يدرسوا الرسم، والشعر، والموسيقى، والهندسة، والنحت، والنسيج والخزف.” إنه يصف الدائرة التصاعدية لصناعة مجتمع قادر على إنتاج الحضارة. فما هي دائرتنا التصاعدية لصناعة مجتمعات قادرة على إنتاج الحضارة ومن أين تبدأ؟ على هذا الجيل أن يتَّسِم بالجرأة والشجاعة على إيقاظ العقل من خدر التاريخ، وتحرير القرآن من سدنة الدين وتجاره وتحرير الإيمان من الأحبار والكهنوت من أجل أن تكون لدى الأجيال المقبلة الحرية والقدرة على إنتاج حضارة النور والحياة الطيبة التي وعد بها إسلام محمد وإيمان محمد (ص).