التنويريفكر وفلسفة

” كان معلّمي”!

جيل دولوز يتحدّث عن معلّمه "سارتر"

” لا ينصت الطلبة جيدا لأساتذتهم إلاّ إذا كانوا لهم أيضا معلّمين.” ( جيل دولوز)

” مساكين هذه الأجيال من غير “معلّمين” . ليس معلمونا أساتذة عموميين فحسب، بالرغم من حاجتنا الملحة إلى أساتذة. ففي اللحظة التي نبلغ فيها سن الرشد، يكون معلّمونا هم أولئك الذين يُلفتون انتباهنا إلى جٍدَّة جذرية ، أولئك الذي يعرفون كيف يبتكرون تقنية فنيّة أو أدبية وإيجاد طرق تفكير تناسب حداثتنا، أي صعوباتنا كما تناسب طموحاتنا المعبّر عنها. نحن نعلم أنه لا توجد سوى قيمة للفن ، بل وحتى للحقيقة هي ” الاستخدام الأوّل ” أصالة ما نقوله من جديد، ” الموسيقى الصغيرة” التي بها نعبّر عنه. لقد كان سارتر كذلك بالنسبة إلينا ( جيل العشرينات زمن التحرير ).من إذن قد عرف قول شيء جديد ، إن لم يكن سارتر؟  من علمنا الطرق الجديدة في التفكير ؟ طرقا كانت جد ألمعية وعميقة،  فقد كان عمل مارلوبونتي  أكاديميا مرتبطا بأعمال سارتر من جوانب كثيرة .( يماثل سارتر عن قصد وجود الإنسان بـ لا وجود ” ثقب” في العالم : بحيرة صغيرة للعدم “كما يقول . لكن يراها مارلوبونتي بمثابة طيّات ، مجرد طيات وتعاريج. فيكون الفرق هكذا بين وجودية صلبة وثاقبة ووجودية أكثر ليونة وتحفّظا). وألبير كامي ، مع الأسف! مرّة هو ” الفضيلة المنتفخة”، ومرّة أخرى العبثية المستهلكة؛ يَعتبر كامي نفسه من المفكرين الملعونين ، لكن كل فلسفته تردنا إلى لالاند ومايرسون ، المؤلف المعروف بعدُ لدى تلاميذ الباكالوريا. فالموضوعات الجديدة وضرب من الأسلوب الجديد ، وطريقة جديدة سجالية ومشاكسة في طرح المسائل تتأتّى من سارتر . فنعيد اكتشاف كل شيء ، في فوضى وفي الأمل في التحرر : كافكا ، والقصة الأمريكية ، هوسرل وهيدجر ، تدقيقات بلا نهاية للماركسية ، والتوجه نحو القصّة الجديدة …كل شيء يمرّ عبر سارتر ليس لأنه فحسب كفيلسوف، يملك عبقرية التشميل، بل لأنه يعرف كيف يبتكر الجديد. فالتمثّلات الأولى لمسرحية” الذباب” ، وظهور ” الكائن والعدم” ، ومحاضرة ” الوجودية فلسفة إنسانية”، كانت أحداثا : نتعلّم منها بعد ليال سهر طويلة، ماهية الفكر والحريّة . يتعارض ” المفكرون الخصوصيون ” على نحو ما مع ” الأساتذة العموميين”. فحتى جامعة السربون تحتاج إلى ” سربونا مضادا” . ولا ينصت الطلبة

جيدا لأساتذتهم إلاّ إذا كانوا لهم أيضا معلّمين. لقد كفّ نيتشه في زمانه عن أن يكون  أستاذا ليصبح مفكّرا خصوصيا: وقد فعل سارتر ذلك أيضا، في سياق آخر، وبنتيجة أخرى. للمفكرين الخصوصيين سمتان: ضرب من العزلة تظل عزلتهم ؛ ولكن أيضا شغب ، ضرب من الفوضى للعالم حيث ينبثقون وفيه يتكلمون. إضافة إلى كونهم لا يتكلمون إلاّ باسمهم، دون “تمثيل” شيء ، ويلتمسون في العالم أشكال حضور بٍكْر، وقوى عارية ليست قابلة للتمثيل أكثر . يرسم سارتر بعدُ في ” ما الأدب؟” ، المثل الأعلى للكاتب:” يستعيد الكاتب العالم كما هو ، خامّا تماما ، في عَرَقِه ، نتنا ، في يوميّته حتى يقدّمه إلى الحريّات على أساس كونه حرية …فلا يكفي أن نسند إلى الكاتب حرية قول كل شيء! بل لابد أن يكتب لجمهور له حرية أن يغيّر كلّ شيء، وهو ما يعني ، فضلا عن إلغاء الطبقات، إلغاء كل ديكتاتورية ، والتجديد المستمرّ للأطر، وقلبا مستمرا للنظام كلما مال إلى التكلّس. فالأدب في كلمة، هو حقيقة ذاتية مجتمع في ثورة مستمرة”.(1)  لقد تصوّر سارتر منذ البداية الكاتب في شكل إنسان مثل الآخرين ، متجّها إلى الآخرين بوجهة نظر هي حريتهم فحسب. تندرج كل فلسفته في حركة تأملية ترفض مقولة التمثّل، و حتى نظام التمثل : تغيّر الفلسفة مكانها، تغادر مجال الحكم كي تستقرّ في عالم ملوّنا أكثر ” بالماقبل حُكْمي”« préjudicatif،  والـ” ممثل – الفرعي”« sub-représentatif ».  . لقد رفض سارتر جائزة نوبل للآداب. أليست استمرارية عملية لنفس السلوك، خوفا من فكرة تمثّل عملي لشيء ما، قيما روحية كما يقول ، أن نكون ممأسيسين. إنّ الفكر الخصوصي في حاجة إلى عالم يحوي على قدر أدني من الفوضى، حتى لو كانت أملا ثوريا، بذرة ثورة دائمة. يوجد لدى سارتر ضرب من التثبيت fixation على الثورة، على الآمال المحطمة لهذه اللحظة. وكان لابد من حرب الجزائر حتى يعثر من جديد على شيء من المقاومة أو الشغب التحرّري، وإذن ، في ظروف أكثر تعقيدا مما لو كنّا تحديدا المضطَهَدين، بل أولئك الذين يجب أن يواجهوا أنفسهم. آه! يا شباب. لم تتبقّى سوى كوبا والأدغال الفينزويلية. لكن يوجد ما هو أكبر من عزلة المفكر الخصوصي، عزلة أولئك الذين يبحثون عن معلّم، الذين يريدون معلّما، ولن يلتقوا به إلاّ في عالم مشاغب. النظام الأخلاقي، والنظام ” التمثّلي” قد انغلق علينا. وحتى الخوف من القنبلة الذرية أخذ منعرج خوف بورجوازي . يحدث أن نقترح على الشباب ، الآن، تيلار دي شاردان كمعلّم للتفكير . لنا ما نستحقّ. فبعد سارتر ، ليس سيمون فايل فحسب ، بل سيمون فايل “القرد” .  ولا يعني هذا مع ذلك أنه لم تحدث أشياء جديدة عميقة في الأدب الحديث. نذكر دون تمييز : القصة الجديدة و كتب كوقمبرويز، وقصص كلو سوفيسكي، وعلم اجتماع ليفي شتروس ومسرح جينيه وغاتي ، وفلسفة ” اللامعقول” التي بلورها ميشيل فوكو …غير أن ما ينقص اليوم، هو ما استطاع

سارتر جمعه وإدماجه للجيل السابق من شروط تشميل: تلك التي تجتمع فيها السياسة والتخيلي والجنسانية واللاوعي والإرادة ، وحقوق الشمولية الإنسانية. تظلّ أعضائنا إلى اليوم متناثرة. يقول سارتر عن كافكا: عمله “ردّة فعل حرّة وموحّدة عن العالم اليهودي- المسيحي لأوروبا الوسطى؛ ورواياته هي تجاوز للوضع الإنساني، ليهوديّ، تشيكي وخطيب متمرّد ومريض بالسلّ، الخ. (2) لكن سارتر ذاته : مؤلفه هو الآخر، هو ردة فعل على العالم البرجوازي على نحو ما وضعته الشيوعية  موضع السؤال. إنه يعبّر عن تجاوز لوضعه كمثقف برجوازي ، لتلميذ قديم لدار المعلمين العليا وخطيب حرّ ، وإنسان قبيح الوجه ( بما أن سارتر كان يقدم نفسه غالبا هكذا.)…الخ: وكل شيء ينعكس ويتردّد صداه في حركة كتبه. نحن نتحدّث عن سارتر كما لو كان ينتمي إلى عصر انقضى. للأسف ! بل نحن بالأحرى من انقضى أمره في النظام الأخلاقي والمحافظ الراهن. يخوّل لنا سارتر على الأقلّ، بشكل مبهم، انتظار لحظات مستقبلية، واستئنافا يعيد الفكر فيه إصلاح نفسه و يعيد صناعة كلّياته، كقدرة في ذات الوقت عمومية وخصوصية. لأجل هذا يظلّ سارتر معلمي. في آخر كتاب لسارتر، ” نقد العقل الجدلي”، أحد الكتب الرائعة والأكثر أهمية والصادرة هذه السنوات الأخيرة. يعطي سارتر لـ” الوجود والعدم ” اكتماله الضروري، في معنى تأتي فيه المتطلبات الجماعية ، لتمّم ذاتية الشخص. وحينما نعيد التفكير في “الوجود والعدم” فذاك من أجل العثور من جديد على الدّهشة التي نجدها أمام هذا التجديد للفلسفة. نعرف بشكل أفضل اليوم بأنّ العلاقات بين سارتر وهيدجر وتبعيته لهيدجر كانت أشباه مشاكل، ترتكز على سوء فهم. إنّ ما يلفت انتباهنا في ” الوجود والعدم” كان سارتريا فحسب وبه نقدّر مساهمة سارتر : نظرية الوعي البائس، حيث يلعب الوعي ، داخل نفسه ، قوته المزدوجة بأن لا يكون ما هو وان يكون ما ليس هو ؛ ونظرية الغير حيث نظرة الغير كافية كي تقلب العالم و”تسرقه” منّي ؛ ونظرية الحرية حيث تحدّ ذاتها بخلقها وضعيات ؛ وعلم النفس التحليلي الوجودي حيث نعثر من جديد على الاختيارات الأساسية للفرد داخل حياته الفعلية. وتدخل في كلّ مرّة ، الماهية والمثال في علاقات مركّبة تضفي على الفلسفة أسلوبا جديدا. ويشكّل نادل المقهى والعاشقة الشابّة والإنسان القبيح المنظر وخاصّة صديقي بيير الذي لم يكن أبدا هنا ، قصصا حقيقيّا في الأثر الفلسفي وتخضع الماهيات لإيقاع هذه أمثلتها الوجودية. يشع نور تركيب عنيف في كل مكان ، مكوّن من كسور وتمدّدات، تذكّر بهاجسي سارتر : بحيرات اللاوجود، ولُزُوجة المادّة. كان رفض جائزة نوبل خبرا سارّا. في النهاية وجد من لا يحاول تفسير ما يمثل مفارقة لذيذة بالنسبة إلى كاتب ومفكّر خصوصي، وهو أن يقبل تكريمات وتمثلات عمومية. يحاول بعدُ كثير من الخبثاء جعل سارتر في تناقض: نمنحه بعض المشاعر، وكون الجائزة جاءت متأخرّة ؛ ونعترض عليه بأن الجائزة تمثّل على أيّ حال شيئا مهمّا؛ ونذكّره ، على أيّ حال بانّ نجاحه كان ويظلّ بورجوازيا ، ونقترح بأن يكون رفضه غير معقول ولا راشد؛ ونقدم له مثال أولئك الذين يقبلون بالرفض حتى لو انتهى الأمر إلى صرف المال في أعمال خيرية.  لا يجب أن نلحّ على الأمر، فسارتر رجل سجال يخشى جانبه…فلا يوجد عبقريّ دون محاكاة ساخرة من ذاته. لكن ما هي أفضل محاكاة ساخرة؟ أن يصبح شيخا نرعاه، سلطة روحية ذات أناقة سخيفة؟ أو أن نريد أن يظلّ رجل التحرّر؟ أن نراه أكاديميا أو نحلم أن نراه مقاوما فينيزويليا؟ من لا يرى الفرق النوعي واختلاف العبقرية  والفرق الحيوي بين هذين الاختيارين و هذين التمثيلين الساخرين؟ لأيّ منها كان سارتر وفيّا؟ للصديق بيير الذي لم يكن أبدا هنا. إنه قدر هذا الكاتب ، أن يجعل الهواء النقيّ يمرّ حينما يتكلّم ، حتى لو كان هذا الهواء النقيّ ، هواء الغيابات ، من الصعب استنشاقه. “

 ترجمة : عبد الوهاب البراهم     

جيل دولوز ” الصحراء القاحلة” نصوص ومحاورات 1953- 1974 نسخة من إعداد دافيد لابوجاد – دار نشر مينوي

– هوامش:

– آرتس 28نوفمبر 1964 ص8-9 شهر قبل ذلك رفض سارتر جائزة نوبل 

1- ما الأدب ؟ باريس غاليمار سلسلة فوليو ، محاولات ص 162- 163

2- ما الأدب ؟ المصدر السابق ص 293


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى