التنويريسلايدرفكر وفلسفة

فلسفة الخطأ

فلسفة الخطأ: كيف يولد التفكير والنمو من تحديات اللغة والوجود

ربما كانت الفلسفَةُ عند البعضِ دواءً للاغترابِ ولا يخفى على كثيرين أن كتبًا فلسفية مبسطة مثل “عزاءات الفلسفة” لآلان دو بوتون تطرقت إلى العلاج بالفلسفة كدواء للاغتراب ولغيرها من الحالات الشعورية المرضية والشاذة التي تُميلنا إليها اللغة والحياة في المجتمع ولا بد منها فإما أن نختنق بالمجتمع ويختنق بنا أو نذهب إلى متنفس إمَّا  أن يكون فلسفيًّا محضًا وإما أن يكون بمعنى من معانيه غير التخصصية الذي قد نسميه حكمةً شخصية أو تجربة مشابهة تجاوزها صاحبها وأسدى إلينا نصحه.

إن استخدامنا للمفاهيم التي ننتجها بفضل اللغة لفهم العالم تبدو في البداية وكأنها تعدنا بالقدرة على الكلام وتحقيق رغباتنا ولكنها في النهاية تهدد بإبعادنا عن عالمنا وحيدين ، نعاني في بيئة تبدو غريبة هذه هي اللغة.

 هايدجر وفيتجنشتاين يريان أن اللغة ليست مجرد أداة تستخدم خارج العالم بل هي الوسط الذي نسكنه وبذلك فإننا لا نرى العالم بل نرى انعكاساته في اللغة وعندما نعبر عن تجاربنا الخاصة فيتبدل الوجود إلى خطاب والإنسان إلى متكلم يعيش في ظل ما يقوله لا في ما يعيشه أضف إلى ذلك أن اللغة مشحونة بكمية كبيرة من الخيال لأننا ننازع في انطباق الأسماء على المسميات كما كان النزاع القديم الطويل عند الكلاميين الإسلاميين  هل الاسم هو المسمى. 

إن المسافة التي تفصل اللغة عن الواقع التي تبدو وكأنها علامة اغتراب لأن اللغة تحاول في تراكيبها أن تمسك المعنى وتضبطه ولكنها تفشل ومن هذا ينشأ الخطأ الذي قد يكون سمةً على النشاط الحيوي للعقل وفي اللغة تراكيب تدل على تدارك الغلط ( الخطأ ) فإذا قلت: دخل القاعة هوسرل بل هايدجر فهذا تدارك للخطأ في عملية تصحيح لغوية وهذا يعني أن الأخطاء والتصحيح عملان قائمان في الحياة راعتهما اللغة وجعلت لهما تراكيب تؤدي مقتضياتهما هذا في جانب اللغة ، فلا مفر من الأخطاء ولا بد بعدها من التصحيح.

 هذا الذي ذكرناه ليس فقط في اللغة بل إنه أكثر من ذلك إنه  عملية كونية معقدة جدًا ففي الفيزياء والرياضيات شيء يعرف بمعامل الخطأ (Absolute Error) إذ أنها التعبير الكمي عن حدود الإنسان في تمثيل الواقع وعن وعي الرياضيات بذاتها كنسق لا يدعي الكمال بل يدرك أن كل معرفة عددية أو نظرية هي تقريبٍ متناهٍ نحو حقيقة غير قابلة للبلوغ التام عندما يؤدي وظيفة إبستمولوجية مزدوجة : فهو اعتراف باللايقين داخل نظام يفترض الصرامة المطلقة وفي الوقت نفسه ضمان لإمكان التصحيح وهذا يجعلنا نتأكد من شيء مهمٍ جدًا أن الحقيقة لا تمتلك بل يقترب منها ، وهذا إذا كان في أكثر العلوم دقة وتحديدًا فيعني أن غيرها من الأشياء التي نمر بها تفتقد اليقين المطلق  وهذا ما يجعل الأخطاء والتصحيح شيئين لائقين بالحياة الإنسانية وطريقة في الاتساع مع الآخر وانشراح أكثر مع المخالف.

على النقيض من اللغة وعدت الفلسفة بالتأمل في أحكامنا وخرجت من التحيزات في الأسماء ومحاولة حصر الواقع في رموز لغوية إلى التأمل في أحكامنا العفوية والظروف التي تجعلها ممكنة بإثارة الفكر لدى الأفراد وتوسيع الحياة العضوية بجعلها أكثر نشاطًا وقيامها بربطهم بالكون من خلال إدراكه بشكل أكثر حماسة على أن امتداح الفلسفة يحتاج إلى التأمل فإنها أي الفلسفة حين ممارستها للتفكير والتأمل لا تخرج عن اللغة فتبقى الرموز اللغوية هي هي نفس الوسيلة،  فمما ينسب إلى فيتجنشتاين : ” الفلسفة صراع ضد سحر العقل بواسطة اللغة”  إلا أن هذا يعطينا نظرًا آخر أن اللغة الفلسفية نعم تستخدم اللغة ولكنها تخرجها من الإطار التقابلي البحت أو الكلاسيكي المحض إلى اختبارها كأفق للوجود والمعنى  وهذا ما يعني أن اللغة قادرة على الخروج من إطارها الرسمي  وأنها تحمل في جيناتها قدرة هائلة على استيعاب لا نهائيات الوجود. 

في المجتمعات المنغلقة تقل الأخطاء حيث يكون الجميع في إطار واحد كلي ونسق متفق عليه ومن ثم تَخْفُتْ روعة الحياة ويضمر الإبداع عندما تنكمش الأفكار وتتوارى في الخفاء لكن هنا تبرز معضلة  أنطولوجية وهي مسألة الحدود والسؤال الذي يطرح نفسه متى أقف لأن الاستمرارية في مثل هذا يعني سيل من الأخطاء لا ينتهي وهو ما يعني وجود فترة تصحيحية قادمة لا محالة قد تكون مؤلمة جدًا والتشافي منها يكون  بطيء أو على مراحل متباعدة وكل هذا يتداخل في قضية أكبر وهي الحرية ويطرح تساؤل مثير جدًا إلى مدى تنتهي هذه الحرية ؟ هذه أسئلة شائكة ومعقدة لأن الإنسان كائن محدود بطبعه ومن طبيعة الوجود الإنساني أن يتشكل من مكونين اثنين النهائية باعتبارها حيز محدود واللانهائية باعتبارها أفق ممتد إلى ما لا يحد وهذه هي الإشكالية الكبرى في كل شيء.

وكل هذا يردنا إلى القوة التي تفسر كل شيء حتى المبادئ الأخلاقية التي  يكتنفها الغموض الشديد، فالمكانة والقوة تعطيانها نوعًا من المعيارية إذا احتكمنا للتعالي الأخلاقي ودرجاته؛ على أن هناك حدًّا يتسم بالوضوح إلى حد ما قد يتولد من فهوم جمعية فطرية فيما يتعلق بتحديد معانٍ كالظلم والعدل؛ لذلك كانت رمزية النظام محل جدل واسع عند دريدا.

والقوة أيضًا تفسر الأخطاء وتجعلها غير ثابتة عند تناولها من مفهوم القبول والرفض وتعطي لها معنًى لا يتحدد تحت ضابطية محددة سلفًا.

فالجمهور يسعى دائمًا لتبرير أخطاء الأقوياء واستخراج الحكمة الخافية منها بينما لا يحظى غيرهم بهذه القوة التبريرية وهذا موجود في الشرائع ففي حديث ” أقيلوا ذوي الهيئاتِ زلَّاتِهم ” وهو حديث صححه بعضهم والهيئات المقصود بها الشخصيات المعروفة التي تتفرد بالجاه والسلطة والقوة والمكانة فمن مفهوم الحديث أننا نقيل لذوي الهيئات ولا نقيل لغيرهم فمن لم يكن ذا هيئة فليس بداخلٍ في النص وهذا ما يعطينا دلالة أن الأحَظِيَّةَ موجودةٌ والاختصاص بالمنافع شيء موجود ومقرر ولا يخلو نظام أو دين أو فكر من هذا المعنى. 

 لا توجد حرية بدون نظام هذا شيء متفق عليه تمامًا ففي إطار الأنظمة تتحدد الحريات وتتشكل التفاعلات الإنسانية وكما لا توجد حرية بدون نظام لا توجد أخطاء بدون نظام وإذا اقترفنا آلان باديو الفيلسوف الفرنسي بنحوٍ ما وافترضنا نظامًا رياضيًّا يحكم الوجود كما في كتابه : ” الوجود والحدث” لا يعدو الوجود عنده أكثر من عدد كبير من العناصر والعلاقة بين ” الانتماء ” و ” الاحتواء ” هي ما يشكل البنية الأساسية لكل ما يوجد فباديو لا يقول إن الكون مكون من أرقام ومعادلات أو رموز رياضية بل إن المسألة علاقات الانتماء والاحتواء بين الأشياء  التي أخذها من نظرية المجموعات أي : من ينتمي إلى من  ؟ ومن يحتوي من ؟ وهي الهيكل الأساسي الذي يجعل الوجود قابلًا للفكر.

لكني أذهب إلى أكثر مما ذهب إليه باديو وأرى أن هناك علاقات رياضية لا بالمعنى الرقمي ولكن بالمعنى التركيبي فهناك امتزاج في العلاقات الاجتماعية موزون إلى حد كبير متى داخله الخلل فإن نظام العلاقات يختل ويحصل الخطأ والاضطراب لأن المادة كما يتفق أهل العلوم موزونه وزنًا تركيبيًّا كيميائيًّا في ذاتها  وفيزيائيًّا في حركيتها والمعاني هي أيضًا موزونه في تركيبها وفي حركتها فإذا زادت عن حدها انقلب الموقف الذي هي فيه إلى موقف بائس وإذا تحركت بأكثر مما ينبغي تجاه الطرف الآخر كانت حركتها سيئة ومضرة وتعود على صاحبها بالخذلان ومن هذا كله ينشأ الخطأ في حياتنا كل هذا بسبب واحد سأوضحه فالكون كما نعلم موزون فيزيائيًّا لا خلل فيه وإنما المسألة في الحادث الفجائي الذي يخرق النظام ويهز المعادلة الكونية المنضبطة وبالمثل في الإنسان يحدث فائض الانفعالات غير المحسوبة كميةً :خطأ لا بأس به وينتج عنها الانفصام في العلاقات أو انشراخ البنى الاجتماعية وهذا قدر الإنسان فكيركجارد يقول الفرق بين الإله والإنسان أن الإله لا يخطئ 

والمجتمعات كلها تتحدد بين عنصرين الطاعة والمقاومة ومنها تتشكل الجماعات والاحزاب الثورية والدول الحادثة والتنظيمات بشتى أنواعها والمؤسسات الاجتماعية  والحركات التجديدية وطبيعة الحراك المجتمعي فلا بد من طاعة ولا بد من مقاومة يستمران معًا وتتفاوت نسبهما ففي بداية نشوء الدول تكون الطاعة عمياء بلا بصيرة وما إن يمر الوقت وتتصرم الأجيال حتى تبدأ صورة المقاومة والدفاع كما قال الله { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} وفي الآية تقرير مسألة مهمة وهي القدر وأن كل شيء من صنع الله وفعله وأن الدفع من بالله بالبشر وذلك من الغيب الذي يقصر عنه عقل الإنسان مع إيمانه بوجوده حقًّا، فبين الطاعة والمقاومة يحدث الخطأ فتزداد المقاومة ويشتد النزاع ويكون بعدها الانتزاع عندما ينزع الله الملك ممن يشاء ويهبه لمن يشاء كما في سورة آل عمران  وبالمثل التعسف في كل شيء  والإباحة لكل شيء هما بالمثل طريقان أو ضدان يعملان مع بعضهما البعض مثل الطاعة والمقاومة ففي بداية نشوء الدول تكون الشدة والقبضة الحديدة وشيئًا فشيئًا تبدأ المقاومة فتذهب الدول إلى الإباحة شيئًا فشيئًا وبينهما تقع الأخطاء ويدب الوهن ثم ماذا تتسع الإباحة إلى شيء يصعب معه زم الأمور فيقع ما وقع قبل في مفهوم الطاعة والمقاومة.

الفيلسوف الفرنسي جورج كانغليم له عبارة مهمة جدًا ” الخطأ علامة التفكير ” فالعقل الذي لا يعمل لا يخطئ فالخطأ ليس مجرد نقص في المعرفة او انحراف عن الصواب بل هو علامة التفكير ذاته أي الشرط البنيوي الي يتيح للتفكير أن يتحرك ويتطور ومنطلقه في هذا أن الخطأ سابق على الحقيقة في التجربة المعرفية لأن التفكير لا يبدأ من اكتمال الحقيقة ، بل من التعثر ، من الاصطدام بحد ما ، من مواجهة ما لا ينسجم مع النسق القائم ، الخطأ بهذا المعنى ليس فشلًا ، بل تجربة إنتاجية تخلق وضعية معرفية جديدة ، أي أن الفكر لا يعيش إلا بالخطأ الذي يحركه ومن ثم كل مفكر مخطئ وكل مخطئ مفكر فالتقدم رهن الأخطاء فالأمة التي لا تخطئ لا تتقدم فإذا رأيت مجتمعًا خاليًا من الأخطاء فاعلم أنه مجتمعٌ لا يفكر لأن الثابتية ليست من شرط وجودنا بل وجودنا يتكون من التغيرية التي تنشأ عن الاصطدام وهذا ما يفتح مجالًا واسعًا للمغفرة والتسامح لأن بهما أيضًا ندخل في تجربة إنتاجية مثمرة ويؤكد كانغليم أن تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه المصححة لأن كل نظرية علمية جديدة لا تبنى إلا على تجاوز أخطاء سابقة فالخطأ يكشف حدود المفهوم ، ويدفع العقل إلى بناء مفاهيم أكثر دقة ويساعدنا على تجاوز كثيرٍ من المشاكل التي حدثت في النماذج السابقة بشكل عام سواء في داخل المجتمعات أو المعامل العلمية وإذا تأملت آدم أول البشر فقد ابتدأ حياته بالخطأ الذي أتاح لأبنائه أن يقيموا عالمًا عظيمًا ويدخلوا في تجرية إنتاجية كبيرة ويكون خطأ آدم مهما جدًا في تحديد طبيعة الإنسان عندما تحدد بين الخطأ والاعتذار ( التصحيح) كمحددان لكل العمليات الإنسانية في هذه الحياة وعلى هذه الأرض ، وهكذا يصبح الخطأ مرحلة من مراحل الحقيقة لا نقيضها فالحقيقة لا تحدث عند انتفاء الخطأ بل تتنج من حدوثه : لا توجد حقيقة بشروطها الوجودية دون خطأ سابق كشف ضرورة إنتاجها.

وكما يرى كانغليم أن الخطأ جزء من الحياة نفسها كما ذكرنا سابقًا لأن الكائن الحي سواء في البيولوجيا أو في الفكر ، لا يمكن أن يتطور دون تجربة الاختلال والانحراف ، فكما أن المرض في الجسد ليس مجرد خلل بل هو طريقة للتعافي عندما تتغلب قدرة الكائن على تجاوز وضعه وهو دليل على فعالية الجسد في المقاومة والتجاوز.

قد يقول قائل إن بعض الأمراض تقضي على الإنسان حيث لا مكان للتجاوز فيكون الجواب أن هذه فرديات ككثير من الأمراض التي استطاع العلم أن يتجاوزها بعد عدد هائل من التجارب والمقاومة من الخطأ والتصحيح حتى انتهت كثير من الأمراض وما زال العلم يستفيد من أخطائه ويحاول أن يتجاوز كل العقبات حتى يصل إلى التصحيح الكامل على أن الأخطاء لن تنتهي ومحاولة التجاوز ما زالت مستمرة  وهذه طبيعة الوجود الإنساني بين الخطأ والتصحيح وبما أن هذا الخطأ والتصحيح يشمل المكونات الكبرى فربما تكون بعض الأنظمة والحكومات الناشئة عمليات تصحيحية لأخطاء سابقة وهذا هو التفكير وبذلك تكون العبارة السابقة ” الخطأ علامة التفكير ” لكانغيلم عبارى صحيحة تمامًا.

خالد الغيلاني


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى