
لم يأتِ فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك من فراغ، بل يعكس موجة صاعدة لليسار الديمقراطي الاشتراكي داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي. هذه الظاهرة غذّاها إلى حد بعيد صعود التيار اليميني المتطرف مع دونالد ترامب خلال السنوات الماضية. فقد أدّت تجربة ترامب الشعبوية إلى كشف زيف الكثير من وعود حركة MAGA اليمينية، مما أحدث ردة فعل عكسية لدى قطاعات واسعة من الأمريكيين نحو اليسار. على سبيل المثال، تضاعف عدد أعضاء منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا (DSA) بسرعة بعد فوز ترامب عام 2016، إذ شهدت تلك الفترة “انفجارًا في العضوية والاهتمام بالمنظمات الاشتراكية”. كثيرون ممن خابت آمالهم في سياسات ترامب انضموا لحراكات يسارية بدافع “الغضب والاشمئزاز” مما رأوه. لقد وعد ترامب في حملاته بالوقوف مع العمال وتخفيض كلفة المعيشة، لكنه لم يفِ بشيء يُذكر؛ بل تباطأ خلق الوظائف وارتفع التضخم، فيما انشغل بإعطاء إعفاءات ضريبية للأثرياء وتجاهل قضايا الإسكان ورعاية الأطفال والصحة. وهكذا شعر كثير من الأمريكيين بأن آمالهم في ترامب كانت كالسراب. وليس جديدًا في السياسة الأمريكية أن يولّد فشل تيار ما نقيضه؛ فكما مهد الفشل الذريع لولاية جورج بوش الابن الثانية الطريق لفوز باراك أوباما الساحق عام 2008، ساهم تطرف حقبة ترامب في إنضاج جيل سياسي جديد أكثر راديكالية يسارًا يبحث عن التغيير الجذري.
برنامج يلبي هموم الناس
ركز ممداني، ابن الـ34 عامًا وعضو مجلس ولاية نيويورك، في حملته على أكثر ما يمس الناس يوميًا: تكلفة المعيشة التي باتت لا تُحتمل في مدينة بحجم نيويورك. جعل شعاره “مدينة يمكننا تحمل كلفتها” وخاض معركته ضد سياسات الإدارة السابقة التي أغرقت المستأجرين بزيادات فاحشة في الإيجارات. تعهّد بتجميد الإيجارات فورًا للمساكن الخاضعة للضبط، وببناء مزيد من الإسكان الميسر لكبح أزمة الإيجار. كما وعد بجعل حافلات المدينة مجانية بالكامل وتسريعها عبر تخصيص مسارات أولوية – مستندًا إلى نجاحه سابقًا في إطلاق خطوط حافلات مجانية تجريبية. وتعهد أيضًا بتوفير رعاية أطفال مجانية من عمر 6 أسابيع حتى 5 سنوات لتخفيف عبء التكاليف على الأسر العاملة. هذه الأفكار التي وصفها خصومه بـ”الجنونية” ليست بعيدة المنال كما زعموا؛ فقد أثبتت تجارب سابقة في نيويورك إمكانية تطبيقها تدريجيًا. الأهم أنّ ممداني صاغ خطابه بلغة بسيطة تفهمها جميع شرائح المدينة، وركز على ما يوحّد معاناتهم بغض النظر عن العرق أو الدين: الجميع مرهقون من الإيجارات وكلفة المعيشة والغلاء. هذا التركيز جعل رسالته “شيئًا اشتاق إليه سكان نيويورك ومختلف أنحاء البلاد” كما تقول البروفسورة كريستينا جرير. وقد حقق ما أراد – إذ صوّت له الناس من كل الخلفيات لأنه لامس أولوياتهم الحقيقة، خلافًا لخصومه الذين ظلوا أسرى خطابات تقليدية. حتى أن أندرو كومو، الحاكم الأسبق المخضرم الذي نافسه في الانتخابات التمهيدية، وجد نفسه متخلفًا لأن حملته ركزت على مخاوف الجريمة أكثر من هموم الغلاء. لقد تغيّرت روح العصر (Zeitgeist) للمدينة خلال أربع سنوات؛ فما نفع إدواردز (عمدة 2021) لكسب الناخبين آنذاك لم يعد البطاقة الرابحة في 2025. باختصار، قدّم ممداني للناخب العادي ما يتطلع إليه: حلول واقعية لتكاليف الحياة، مدعومة برؤية أيديولوجية واضحة تنحاز للكادحين. وبذلك نجح في حشد ائتلاف انتخابي كبير هزم المؤسسة التقليدية التي مثلها كومو بدعمها من رموز الحرس القديم (حتى أن تأييد شخصيات كبرى مثل كلينتون ومايكل بلومبرغ لكومو جاء بنتيجة عكسية إذ أكد رواية ممداني بأنه مرشح التغيير في وجه مرشح الماضي). من هنا يمكن فهم صدمة فوزه في الانتخابات التمهيدية على كومو في يونيو الماضي – لقد كان بمثابة زلزال سياسي في معقل كان يُظن أنه محكوم لذوي الخبرة والنفوذ.
الكاريزما وذكاء الحملة
إلى جانب البرنامج الجريء، لعبت شخصية ممداني الدور الأبرز في إنجاح أكبر حملة شعبية في تاريخ نيويورك. فهو شاب حيوي ذو جاذبية خاصة وقدرة تواصلية ملموسة مع الناس. حتى معارضيه اعترفوا بذلك؛ فقد وصفه عضو الكونغرس المعتدل توم سوازي بأنه “اشتراكي يتمتع بشخصية كاريزمية وذكية وحملة فعالة” رغم اختلافه التام مع سياساته. يتمتع ممداني بابتسامة دائمة وحضور متفائل جعل البعض يلقبه “المحارب السعيد”. وقد أدار حملته بروح الأمل بدل التشاؤم، فلم يكتفِ بانتقاد الأوضاع بل أظهر للناخبين أنه يستمتع بخوض التحدي من أجل مستقبل أفضل للجميع. هذا التفاؤل المعدي ساعده في اجتذاب كثيرين، تمامًا كما كان الحال مع ساسة ملهمين في الماضي أمثال ريغان وأوباما ممن خاطبوا الناخبين بروح الرجاء لا الخوف. أضف إلى ذلك مهارته الفائقة في مخاطبة الجيل الجديد عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يصفه المحلل إيزرا كلاين بأنه “أول سياسي وُلد فعليًا من رحم عصر الفيديو على السوشيال ميديا”, إذ برع في استخدام المقاطع القصيرة والجذابة على تيك توك وإنستغرام للوصول لشريحة واسعة من الشباب. لقد قلب المعادلة الإعلامية التقليدية؛ فبدلًا من إنفاق أموال طائلة على إعلانات تلفزيونية، صنع هو وفريقه محتوى إبداعيًا انتشر كالنار في الهشيم وجعل رسائله المركزية واضحة ومتداولة (حتى أصبح شعار “جمّدوا ال…” فيصدح الجمهور مكملًا “الإيجار!” في لقاءاته الجماهيرية). كما لم يتردد في خوض النقاشات الصعبة بجرأة. فعندما هاجمه ترامب ونعته بـ”الشيوعي الراديكالي”، رد ممداني بثبات وحنكة، ما أكسبه احترامًا حتى من بعض خصومه. هذا المزيج من الكاريزما الشخصية والحنكة السياسية والتمكن الإعلامي خلق ظاهرة غير مسبوقة في سباق عمدة نيويورك، قد يصح وصفها بأنها “موجة ممداني” التي أذهلت المراقبين.
جيل الشباب وكسر هيمنة القديم
لم يكن انتصار ممداني ليتحقق لولا تعبئة جيل شاب ثائر على كل ما هو تقليدي وقديم. لقد نجح في إشعال حماسة عشرات الآلاف من المتطوعين الشباب في حملة طرق الأبواب والهاتف، حيث شارك نحو 100 ألف متطوع في إقناع الناخبين من مختلف الأحياء. وتشير البيانات إلى أنه غيّر تركيبة الناخبين جذريًا عبر استقطاب وجوه جديدة صغيرة السن إلى صناديق الاقتراع. فبحسب نيويورك تايمز، ارتفع عدد الناخبين تحت سنّ الأربعين بنسبة ضخمة في انتخابات 2025 مقارنة بانتخابات 2021، مع تسجيل ارتفاع خاص بين من هم دون 35 عامًا. في المقابل، بقي إقبال من هم فوق الستين على حاله. هذا الفرق العمري كان حاسمًا في ترجيح كفة ممداني. فهو ترشح باسم المستقبل، في حين مثل خصومه الماضي. وليس سرًا أن شرائح واسعة من الديمقراطيين سئمت من تقدم قيادات الحزب بالعمر وبقائهم في الواجهة لعقود. وقد ازدادت هذه النقمة بعد الأداء المخيب للرئيس جو بايدن (82 عامًا) الذي انسحب من سباق 2024 إثر مناظرة كارثية عزتها وسائل الإعلام لهرم سنّه. جاء ممداني بنصف عمر منافسه الرئيسي وبخطاب يسخر من تقادم الطبقة السياسية؛ حتى أن رسالة حملته الوطنية للديمقراطيين كانت ببساطة: “كونوا جددًا” (Be new). لقد تعب الناس من حزب تشبث بقياداته الهرمة ورؤاه البالية، فجاءتهم موجة الشباب هذه كنسمة تغيير. ويمكن القول إن أبناء جيل Z فما بعده (أي ممن وُلِدوا أواخر الستينات وصولًا إلى الألفية وما يليها) وجدوا في حملة ممداني متنفسًا لطموحهم بإزاحة الحرس القديم. فها هي نيويورك، أكبر مدن أمريكا، تنتخب عمدة اشتراكيًا – حدث كان ضربًا من الخيال قبل سنوات قليلة. إنه انتصار يُبرز دور الأجيال الشابة في إعادة رسم المشهد السياسي، ويبعث رسالة بأن صوتهم لا يمكن تجاهله بعد الآن.
الانقسام اليهودي
من بين أكثر جوانب حملة ممداني إثارة للدهشة كانت قدرته على كسب تأييد شريحة كبيرة من يهود نيويورك رغم مواقفه الجريئة تجاه إسرائيل. فممداني لا يُخفي معارضته للصهيونية ودعمه الصريح لحقوق الفلسطينيين منذ كان طالبًا أسس فرعًا لـطلاب من أجل العدالة في فلسطين في جامعته. هذه المواقف جلبت له سيلًا من الهجمات من جماعات موالية لإسرائيل اتهمته بـ”معاداة السامية” لمجرد تأييده لحركة المقاطعة BDS ورفضه الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. مع ذلك، نجح في اختراق أكبر تجمع يهودي حضري في العالم (نيويورك تضم نحو 1.6 مليون يهودي) عبر خطاب يركز على القيم المشتركة والعدل الاجتماعي. زار ممداني العديد من المعابد التقدمية خلال حملة الأعياد اليهودية، وقوبل بالترحاب والتصفيق. ونال دعم منظمات يهودية تقدمية مثل Bend the Arc وJewish Voice for Peace وJews for Racial & Economic Justice التي أعلنت بوضوح تضامنها مع موقفه من حرب غزة. النتيجة أن استطلاعات الرأي أظهرت تقدم ممداني بفارق كبير على منافسيه بين الناخبين اليهود. فقد كشف استطلاع في يوليو أن ممداني يحظى بتأييد يفوق منافسيه بـ17 نقطة بين اليهود في سباق متعدّد المرشحين. حتى لو انسحب المرشحون التقليديون من السباق، ظل ممداني متقدمًا بنسبة 43% مقابل 33% لأقرب منافسيه بين الناخبين اليهود. وكما علّق الخبير آدم كارلسون: “لا مجموعة تصويتية تسير ككتلة واحدة… واليهود ليسوا استثناء”، في إشارة إلى الانقسامات الداخلية العميقة في المجتمع اليهودي الأمريكي. بالفعل، يبدو أن الأجيال الأصغر سنًا من اليهود أكثر ليبرالية وتعاطفًا مع الفلسطينيين مقارنة بالكبار. كثير من اليهود الشباب رأوا في ممداني مرشحًا يمثل قيم العدالة الاجتماعية التي يؤمنون بها، بدلًا من التركيز الأوحد على إسرائيل. تقول بيث ميلر، مديرة منظمة JVP Action التي أيدت ممداني: “تهافت عليه الناس في الكنيس لتحيته بحماس، ليس لأنه نجم مشهور، بل لأنهم متحمسون لما يمكن أن نبنيه سويًا حين يصبح عمدة”. بالطبع لم يكن الدعم اليهودي لممداني إجماعًا؛ فقد وصفه الصهاينة المتشددون بأنه “خطر” واعتبروا مجرد تأييد بعض اليهود له “أمرًا مفجعًا” بنظرهم. بيد أن ذلك يعكس واقعًا جديدًا: تفكك الإجماع الصهيوني القديم بين يهود أمريكا، وظهور صوت يهودي تقدمي لا يجد تناقضًا بين هويته اليهودية ومعارضة سياسات إسرائيل. ولعل أبلغ تعبير جاء على لسان بروفسور جوناثان بويارين الذي قال: “هناك نوعان من الناس يخلطون بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية: الصهاينة والمعادون للسامية. وزهران ممداني ليس من أيٍ من الصنفين”.
هذا الجيل هو الذي أعطى ممداني قوة الدفع ليصل إلى سدة أكبر مدينة أمريكية، في رسالة مدوية بأن زمن شيطنة التضامن مع فلسطين قد ولّى على الأقل عند قطاع واسع من الشباب.
ما بعد 7 أكتوبر
شكلت الأحداث المأساوية في المنطقة العربية مؤخراً خلفية مهمة أثرت في وعي شريحة واسعة من الناخبين الشباب. فأحداث السابع من أكتوبر 2023 ورد إسرائيل بحرب إبادة على غزة أحدث صدعًا عميقًا في الرأي العام الأمريكي، وخاصة لدى الأجيال الصاعدة. رأى كثير من الشباب في مشاهد الدمار ومعاناة المدنيين الفلسطينيين أمرًا لا يمكن تبريره بسرديات الماضي. وبرز جيل جديد لا يحمل نفس العقد التاريخية التي حملها آباؤه وأجداده عندما كان الانتقاد العلني لإسرائيل يعد من المحرّمات السياسية. تشير استطلاعات حديثة إلى انقسامٍ غير مسبوق بين الأجيال في النظرة للصراع: إذ يفضل 60% من الأمريكيين بين 18 و24 عامًا جانب الفلسطينيين/حماس على إسرائيل في الحرب على غزة، في حين ترتفع نسبة التأييد لإسرائيل إلى 89% بين من هم فوق 65 عامًا! حتى بين اليهود الأمريكيين أنفسهم، بدأ يتبلور خطاب أكثر نقدًا لإسرائيل؛ إذ وافق 39% منهم على أن ما تفعله إسرائيل في غزة يرتقي إلى إبادة جماعية، وهي تهمة تبنتها أيضًا لجنة خبراء في الأمم المتحدة مؤخرًا. صحيح أن غالبية اليهود الأمريكيين ما زالوا يرون وجود إسرائيل ضروريًا لضمان مستقبل شعبهم، لكن الحرب على غزة عجّلت بابتعاد الليبراليين منهم عن التأييد الأوتوماتيكي لحكومة نتنياهو اليمينية. لقد خرج عشرات آلاف الشباب اليهود وغير اليهود في المدن الأمريكية – ومنها نيويورك – في تظاهرات تطالب بوقف ما وصفوه بمجزرة غزة. هذا الزخم انعكس في السياسة المحلية؛ فممداني تبنى خطابًا جريئًا إذ وصف رد إسرائيل بأنه “إبادة جماعية” ودعا لوقف فوري لإطلاق النار، مسجّلًا موقفًا أخلاقيًا نادرًا بين السياسيين. ورغم الهجوم العنيف الذي تعرض له بسبب عباراة “عولموا الانتفاضة” التي رددها المتظاهرون المؤيدون لفلسطين، أصر بدايةً على عدم التبرؤ منها باعتبارها شعارًا للتضامن مع مقاومة الظلم. صحيح أنه اضطر بعد الانتخابات التمهيدية إلى تهدئة خطابه قليلًا لـ”طمأنة” بعض المعتدلين، إذ قال إنه لا يشجع على استخدام تلك العبارة، لكنه بقي ثابتًا على جوهر رسالته وهي الدفاع عن إنسانية الجميع. ففي ذكرى حرب غزة الثانية، نشر بيانًا أكد فيه إدانة قتل المدنيين من أي طرف، ووصف رد إسرائيل بأنه “إبادة جماعية” ملتزمًا بالدفاع عن حقوق الإنسان للجميع. هذا الموقف المتوازن نسبيًا أغضب المتشددين من كافة الأطراف – ربما علامة على أنه وجد نقطة المبدأ وسط كل الضغوط. خلاصة الأمر أن جيلاً جديدًا تشكل وعيه السياسي على وقع مجازر غزة ولن يقبل بعد الآن بالرواية الأحادية القديمة. وهذا الجيل هو الذي أعطى ممداني قوة الدفع ليصل إلى سدة أكبر مدينة أمريكية، في رسالة مدوية بأن زمن شيطنة التضامن مع فلسطين قد ولّى على الأقل عند قطاع واسع من الشباب.
أمريكا ما بعد فوز ممداني لن تكون كما قبله؛ فربما نكون حقًا أمام نهاية حقبة وبداية أخرى
نهاية حقبة أم بداية إعادة تشكل المشهد السياسي؟
يُعد فوز ممداني تاريخيًا بكل المقاييس. فهو أول اشتراكي ديمقراطي يتبوأ عمدة نيويورك رسمياً، مما اعتبرته بعض التحليلات “أكبر انتصار في تاريخ الاشتراكية الأمريكية منذ قرن”. لكن رمزية هذا الحدث تتجاوز حدود المدينة؛ فهي بمثابة استفتاء شعبي ضد اليمين الأمريكي المتطرف وتجديد لشباب الحزب الديمقراطي. لقد جاء هذا الفوز على خلفية ولاية رئاسية ثانية لدونالد ترامب بكل ما رافقها من استقطاب وصدامات (إذ تشير التقارير إلى أن ترامب – الذي عاد للبيت الأبيض في يناير الماضي – لم يتورع عن مهاجمة ممداني وتهديده بالاعتقال أثناء الحملة). ومع ذلك اختار سكان نيويورك الطريق النقيض تمامًا لرؤية ترامب. وكأن الناخب الأمريكي – عبر أكبر مدنه – يعلن أنه سئم أكاذيب اليمين المتطرف ومزاعمه الشعبوية، وقرر الانحياز نحو يسار ديمقراطي جديد يعده بنتائج ملموسة. وربما كان الكاتب دامون لينكر محقًا حين وصف ظاهرة ترامب منذ 2018 بأنها “بداية النهاية للحزب الجمهوري” – مجرد صحوة موت أخيرة لثقافة قديمة آيلة للأفول. فترامب تمكن بالكاد من الفوز عام 2016 بأضيق الهوامش وفي ظروف استثنائية، لكنه أوهم الجمهوريين أن بوسعهم حكم البلاد ببرنامج أقصى اليمين إلى الأبد. واليوم يظهر فوز ممداني أن الرياح جرفت باتجاه معاكس تمامًا. فالحزب الديمقراطي بات يضم تحالفًا متنوعًا يمتد من الاشتراكيين التقدميين أمثال ممداني إلى معتدلي الوسط – طيف واسع هو الذي شكّل القاعدة الشعبية لانتصاره – في حين انحسر الحزب الجمهوري داخل قاعدة ضيقة يمينية تكافح للحفاظ على أغلبيتها. تغيرت التركيبة الديمغرافية للناخبين بطرق لا تصب في صالح الجمهوريين؛ فمع تحول كثير من العمال البيض غير الجامعيين إلى معسكر ترامب، كسب الديمقراطيون نسبًا متصاعدة من أصحاب الشهادات الجامعية العالية الذين يصوّتون بانتظام أكبر. وهذه الفئة الأخيرة كانت عاملًا حاسمًا في انتخابات التجديد النصفي 2018 التي شهدت اكتساحًا ديمقراطيًا انعكس باستعادة السيطرة على مجلس النواب. ويتوقع خبراء كـويليام غالستون في معهد بروكينغز أن يواجه الجمهوريون سيناريو مشابهًا في انتخابات 2026 إذا لم يكن ترامب نفسه على ورقة الاقتراع لتحفيز قاعدته، إذ من الصعب تعبئة المصوتين العرضيين الذين أتى بهم ترامب للساحة في غيابه. هذا يعني أن استثمار المحافظين في شخص ترامب وتياره لإعادة تشكيل أمريكا على صورتهم قد ينقلب عليهم. فالنتيجة الملموسة حتى الآن هي تعميق العزلة الشعبية لليمين المتطرف، وصعود جيل من السياسيين التقدميين يحظون بدعم شعبي حقيقي. وليس أدل على ذلك من أن ثقة الأمريكيين بالحزب الجمهوري تراجعت لمستويات تاريخية متدنية بحيث لم يعد يُنظر إليه كمعبر عن الطبقة الوسطى مثلما كان قبل عقود. في المقابل، يستعد الديمقراطيون – بفضل موجة الحيوية الجديدة التي يمثلها ممداني وأقرانه – لتحقيق مكاسب أكبر في الانتخابات التشريعية المقبلة وربما زيادة عدد النواب التقدميين في الكونغرس. لقد أثبتت حملة ممداني أن الأفكار التي كانت توصف بالراديكالية قبل سنوات (كالمواصلات المجانية أو الإسكان العام أو التضامن الصريح مع فلسطين) صارت تحظى بتأييد شعبي واسع في قلب أكبر مدينة أمريكية. هذه رسالة لا يمكن للساسة الوطنيين تجاهلها. فإن كان فوز ترامب في 2016 و2024 دق جرس إنذار بتصاعد موجة يمينية شعبوية، فإن فوز ممداني في 2025 يدق جرس الإنذار بنهوض موجة يسارية تصحيحية قد تعيد تشكيل السياسة الأمريكية لعقود قادمة. باختصار، أمريكا ما بعد فوز ممداني لن تكون كما قبله؛ فربما نكون حقًا أمام نهاية حقبة وبداية أخرى، حيث تكتب هذه الانتصارات التقدمية فصلًا جديدًا تنهار فيه مسلّمات قديمة ويبرز مشهد سياسي ثنائي جديد لا يكون فيه اليمين الجمهوري قطبًا مكافئًا كما كان منذ القرن الماضي.
عبيدة فرج الله
4 نوفمبر/تشرين الثاني 2025
الولايات المتحدة الأمريكية
المصادر
More Americans joining socialist groups under Trump
Trump’s Broken Promises to Working People | American Federation of Teachers
Progressives Can’t Repeat the Mistakes of 2008 – The Atlantic
Zohran Mamdani’s proposals for NYC build off city’s progressive foundation: Experts – ABC News
Why Zohran Mamdani’s victory matters: How it happened, what it means | Brookings
For Democrats, Mamdani is a Wake-Up Call—and a Bad Example | Congressman Thomas Suozzi
Zohran Mamdani’s unlikely coalition: Winning over NYC’s Jewish voters | Elections | Al Jazeera
60% of US Gen Z support Hamas in Harvard-Harris poll – JNS.org
Many American Jews sharply critical of Israel on Gaza, Post poll finds – The Washington Post
The DSA Is More Radical Than Ever—and Winning – by Eli Lake
The last, dying gasp of Republican America | The Week
What history tells us about the 2026 midterm elections | Brookings
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


