التنويريفكر وفلسفة

تداخل العلوم الاسلامية :الأثر-التداعيات

هجرة المفاهيم والموسوعية: تداعيات تداخل العلوم في التراث الإسلامي

تداخل العلوم الإسلامية  في وحداتها ومكوناتها ،كانت له نتائج وتداعيات كثيرة منها:

انتقال  المفاهيم والمصطلحات

بهذا الاعتبار المنهجي الذي ينص أن لا  علم  بدون فهم  ،ولا فهم  بدون ضبط  المصطلح،فإن الوضوح والبيان في المصطلح أو المفهوم المتداول من شأنه أن يخلق أكبر مساحة واسعة من الفهم المشترك،ومن التواصل الجامع بين الباحثين والمتدخلين في العلوم.

 والضرر الذي يلحق العلوم عادة ما يكون من عدم الضبط للمفاهيم والمصطلحات وقديما قال ابن حزم،فلا شيء أصعب وأشد من ايقاع الأسماء على غير مسمياتها “.

ومن نتائج  تداخل العلوم في التراث العربي الإسلامي،هو انتقال كثير من المفاهيم من حقولها المعرفية الأصلية التي نشأت فيها في الأول إلى حقول معرفية وعلمية أخرى مستقبلة لها ووافدة عليها،مثل مفاهيم  علماء الأصول  التي كانت متداولة  ومستعملة بينهم، فقد انتقلت هذه المفاهيم إلى علماء اللغة ،وأخذت  في الاستعمال الثاني معنى  خاصا ودلالة مغايرة عن الاستعمال التي كانت عليه في  الأصل الأول ومن هذه المفاهيم :  القياس،والعلة،والنسخ ،والاستحسان،الاستعمال ،والوضع  والحمل …


وهذا يدل بشكل صريح أن تحديد المفاهيم في أصلها الأول أو في المعنى الثاني الذي اكتسبته في رحلتها إليه،كان من التقاليد الراسخة،ومن الأعراف المعهودة  في مجال البحث العلمي في التراث العربي الإسلامي،لأن تحديد المفاهيم هو في الأصل تحديد للأرضية العلمية المشتركة بين الباحثين والمشتغلين في أي علم من العلوم ،وفي أي تخصص من التخصصات.

والمفاهيم في الاستعمال الجديد عادة ما تأخذ مفهوما مغايرا ودلالة جديدة مغايرة عن الاستعمال الأول.

فهذا التوجه في رحلة المفاهيم ،واكتسابها لمفاهيم جديدة،على غير ما كانت عليه في حقولها الأصلية،التي نشأت فيها ينبغي للباحث استحضاره، والوقوف عنده في مكوناته وعناصره،في أية مقاربة أو مدارسة علمية أو بحثية ، وفي أي حقل معرفي في التراث العربي الإسلامي، خاصة ما تعلق بالحقل اللغوي و البياني الذي استثمرت واستعملت فيه تلك المفاهيم،لأن الحقل اللغوي والبياني كان أكثر التخصصات التي جسدت مبدأ هجرة المفاهيم والمصطلحات…..

من هنا نقول إن انتقال المفاهيم والمصطلحات من حقولها المعرفية الأصلية إلى حقول معرفية أخرى مستقبلة لها،هي من الأساسيات والمميزات والمواصفات التي طبعت علوم التراث  العربي الإسلامي،ومن ثم لا ينبغي التنكر،أو التغاضي، أو التقليل من أثر هذا العبور والانتقال،خاصة  للباحثين والمشتغلين بالدراسات المصطلحية تأصيلا ، وتوصيفا ،وتنظيرا، وجردا وتحديدا .

الموسوعية في الكتابة والتأليف

ومن تداعيات هذه التداخلية الحاضرة بين العلوم الإسلامية،هو حضور الموسوعية في التأليف والتصنيف والكتابة بحيث صنفت الموسوعات،ووضعت المصنفات الضخمة، والكتب الكبيرة في مختلف العلوم، بحيث  كان العالم  الواحد يشتغل بأكثر من علم ، ويصنف ويؤلف في أكثر من علم  ،والموسوعية كانت طابع الكتابة عند علماء الاسلام.


الموسوعات المصطلحية:

من نتائج هذه التداخلية بين العلوم الإسلامية هو ظهور عدة مصنفات ومؤلفات تعتني بالمصطلح في مختلف  العلوم والفنون ،تحديدا وتصنيفا وتوصيفا وترتيبا وجمعًا وبيانًا وتدوينًا ،ومن هذه المؤلفات الرائدة في هذا الباب:كتاب التعريفات للجرجاني،والكليات للكفوي،وكتاب اصطلاحات الفنون للتهاوني،وشرح الحدود النحوية لجمال الدين الفاكهي، وطلبة الطلبة  في الفقه الإسلامي لنجم الدين النسفي، وكتاب الحدود في علم أصول الفقه لأبي الوليد الباجي،وكتاب الحدود الفقهية لابن عرفة الورغمي،وكتاب الحدود والمواضعات لابن فورك وغيرها من المصنفات كثير،وهي مصنفات ومؤلفات تدل على مدى الحرص الشديد في العناية بالمصطلحات والمفاهيم ، وتجسد العناية التي لقيها علم المصطلح في التراث العربي الإسلامي عامة ، و في مختلف العلوم ، والفنون خاصة  ….

كما أن مقدمات المؤلفات الفقهية، والكتب الكلامية، و المصنفات الأصولية، جاءت حاملة لمقدمات ونصوص ،  تخص  علم  المصطلح تحديدا وتوصيفًا وبيانًا،فلا يكاد يخلو كتاب أو مصنف من هذه الكتب إلا وتجده حاملا لمقدمة في المصطلح والمفاهيم الأكثر تداولا واستعمالا في ذلك العلم….

ومن الموسوعات المصطلحية كتب المعاجم القرآنية التي اشتغلت بالكلمة و اللفظة القرآنية..

وحضور المسالة المصطلحية في التراث العربي الإسلامي  مؤشر واضح على مدى حضور المنهج في  العلوم الاسلامية من حيث هو آليات ضابطة،وقواعد راسخة ومساعدة في اكتساب  وتحصيل  المعرفة،لأن المنهج هو السبيل الهادي في تحصيل المعرفة بصفة عامة.

نمو علوم في احضان علوم أخرى:

ومما يثير الباحث ،وهو يستحضر ويتابع أثار هذا التداخل أن كثيرا من العلوم نضجت وتطورت في أحضان علوم أخرى ، خاصة العلوم التي يجمعها وحدة الموضوع ، والمنهج، فعلم البلاغة وعلم اللغة، وعلم التصريف ،وعلم الصوتيات من العلوم التي نضجت ونمت وتطورت في أحضان كتب التفسير،خاصة الكتب الأمهات، وهو ما تؤكده مدونات ومصنفات المفسرين، فعلم النحو الذي   نشأ  أساسا لقصد فهم القرآن .ومن ثم فإن علم التفسير من العلوم الجامعة لعدد من العلوم ، من لغة وبلاغة، وتصريف، وعلم القراءات ،وعلم الدلالة، وعلم أصول الفقه…بحيث اجتمع في هذا العلم-علم التفسير-  ما تفرق في غيره من العلوم.وهو التصريح الذي سجله عدد من المفسرين ومنهم  ابن عطية الغرناطي الذي  جاء على لسانه عندما قال  في كتابه المحرر الوجيز”: إن كتاب الله لا يفسر إلا بتجميع جميع العلوم فيه..”.

محمد بنعمر


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد