التراث، النهضة والأنسنة.. إشكالية حيّرت المفكرين
سؤال حول اختفاء النزعة الإنسانية من الفكر الإسلامي؟

مالك بن نبي اختلف مع محمد أركون في مفهوم الإنسانية
عندما نطالع كتابات مفكرين كمالك بن نبي ومحمد أركون والجابري و علي حرب و غيرهم حول إشكالية التراث و النهضة نجد أن مالك بن نبي له رؤية دفاعية ، بينما تختلف عن رؤية محمد أركون للتراث فهي رؤية نقدية لدرجة أنه يدعو إلى إحداث ثورة فكرية تذهب إلى حد البحث في الأشياء و النظرة للتراث، و التراث يعني التمسك بكل ما هو قديم أو أصيل و منه ظهرت النزعة الأصولية التي تقف ضد الحداثة التي يرى دعاتها أن التراث ما هو إلا تقليد للماضي، و يستحيل إعادته بحكم تغير الظروف و الأزمنة لأن العصر هو عصر الرقمنة، في نفس الوقت ينظر كل منهما إلى النهضة على أنها البوابة للإقلاع الحضاري، و الإقلاع يعني مسح شامل للتراث، و هو الذي تحدث عنه المفكر محمد أركون في مشروعه نقد العقل الإسلامي رغبة منه في فهم الدين و خاصة الإسلام كما ذهب إلى ذلك مفكرين أخرين
فالتراث عند محمد أركون كما يقول الدكتور إسماعيل عرّاب يحدد المكوّن الأساسي لمشروعه العقل العربي الإسلامي الذي ظل سجين مناخ العقل “القروسطي ” بالرغم من أهميته، و قد بيّن محمد أركون هذه المعضلة في كتابه قضايا في نقد العقل الديني، إذ يرى أن تقليد التراث لا يوصلنا إلى الهدف الرئيسي لبلوغ الحداثة و نحن بذلك نبقى في اجترار المفاهيم و المصطلحات و لا نصل إلى حلّ لمفهوم التغيير والإقلاع والانطلاق و هذه المفاهيم يمكن اختصارها في كلمة واحدة هي النهضة، فهذه المفاهيم تحتاج إلى ضبط خاصة ما تعلق بمفهوم التجديد في الدين و هذا يعني إزالة الثوابت التي علقت به، ما دفع بالبعض إلى اتهامه بالزندقة والإلحاد، و هنا وجب التفريق بين نقد العقل الإسلامي و نقد العقل الإلهي، كقوة روحية ، في حين يرى الأصوليون أن التجديد محمودٌ ، أمّا إن كان يقصد به الاستبدال، أي استبدال نظام إسلامي بنظام حداثي كمن يستبدل قطع غيار محلي بقطع غيار مستورد من أنظمة غربية فهذا مرفوض عندهم ، فقد يكون التجديد في الوسائل، لأنها تختلف و تتغير باختلاف العصور، ولعل التجديد و النهضة يراد بهما الخروج من دائرة الجهل و التقليد، فالجزائر مثلا كما جاء في كتاب شروط النهضة لمالك بن نبي كانت حتى عام 1925 على الرغم من إسلامها تدين بالوثنية التي كانت نصيبها في الزوايا و كأنها عادت إلى الجاهلية الأولى ما قبل ظهور الإسلام، فالجهل يقول مالك بن نبي في حقيقته وثنية، لأنه لا يغرس أفكارا بل ينصب اصناما، و لا يؤسس نهضة أو حضارة، و هذا ما دفع محمد أركون إلى نقد العقل العربي الإسلامي لاكتشاف بنيته و بأسلوب حيادي، فلا يقف مع عقيدة ضد عقيدة أخرى، فالمشروع عنده كما يقول الدكتور اسماعيل عراب تاريخي أنثروبولوجي ضمن فضاء ثقافي فلسفي، ففي كل بحثوه يطرح محمد أركون سؤال: اين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟
يُفُهَمُ من هذا السؤال أن الفكر الإسلامي القديم يريد أن يُثَبِّتَ مكانه و يفرض نفسه بواسطة الخطاب الديني ، و لو أن هذا الخطاب في بعض جوانبه لم يعد يتماشى و العصر الذي نحن فيه ( عصر الإنسان الآلي و الذكاء الاصطناعي و الرقمنة، حتى الحروب لم تعد بالسيف، و نحن نعيش الحرب النووية) أي ان العالم يشهد تقدما و تطورا ، و الإنسان يتجاوب مع هذا التطور و الإزهار بشكل غريب جدا، حتى ابن البادية لم يعد يسافر على ظهر الجمل، بل يستعمل النقل الجوّي، و أصبح يستعمل التكنولوجية في إرسال الرسائل و ليس عن طريق حمام الزاجل، فما يزال بعض السلفيين المتعصبين يفرضون على جيل اليوم ( جيل الأيفون) منطقا، فهذا الجيل في المنظور السلفي يعيش استعمارا فكريا و له القابلية لأن ينسلخ من جلده و يرتدي جلدا جديدا حتى لو كان لا يتناسب مع مقاسه، في الواقع أن فئة من جيل اليوم تريد الانفتاح على الأخر و ما قدمته التكنولوجية، بحيث يرى أن العيش في الدائرة الإسلامية رجعية و تضييق على تفكيره و تقييد لحريته، و هذا له سبب واحد هو أننا انتقلنا من العائلة الكبيرة إلى الصغيرة ، و دور الأسرة في تحرّر هذه الفئة و معظمها شباب، الذي اصبح يطالب بحرية العيش على الطريقة التي يريدها هو، و ليس العائلة ، لأنه متأثرا بالحياة الغربية التي تعطي الحق للشاب أو الفتاة أن يستقل عن عائلته و يسكن بمفرده قبل الزواج بمجرد أن يبلغ سن الـ: 18 سنة، فالعولمة فتحت أبوابها و نوافذها للشعوب لكي تنفتح على الحداثة و تتخلى عن حياة رجل الصحراء و الرجل الدرويش و استعمال العصا في تربية الأبناء .
لماذا اختفت النزعة الإنسانية من الفكر الإسلامي؟
و المتأمل في أفكار مالك بن نبي و محمد أركون يقف على أنه الاثنان يختلفان في مفهوم الإنسانية، فمالك بن نبي ارتكزت بحوثه و دراساته على فكرة الإنسان كشرط أساسي في بناء الحضارة، في حين لمحمد أركون له رؤية مختلفة، فهو يرى أن الحضارة تقتضي أنسنة الإنسان، فهو يرى ( أي أركون) أن إحياء الأنسنة ضرورة للتحرر الفكري، وقد أشار إسماعيل عراب إلى هذه المسألة في كتابه ” محمد أركون من ضرورة حتمية إلى مشروع حضاري صدر عن دار الأيام عمان الأردن، و هذا يؤكد أن محمد أركون تغلب عليه النزعة الإنسانية، أما مالك بن نبي فهو عقلانيُّ النزعة، تشير الدراسات أن النزعة الإنسانية اختفت من ساحة الفكر الإسلامي، و قد تحدث محمد أركون عن هذه النزعة في كتابه: ” تحرير الوعي الإسلامي من السياقات الدوغماتية المغلقة”، إذ يرى محمد أركون أن الثقافة العربية الإسلامية كانت سبّاقة في معرفة النزعة الإنسانية عن ثقافة الغرب، لكنها وصلت إلى الغرب متأخرة، فهي عاشت الموقف الأنسي في القرن العاشر ميلادي و وصلت إليه متأخرة بستة قرون، ما دفع بأركون إعادة قراءة هذه النزعة و التفكير فيها لمعرفة سبب تأخرها وانقراضها في المجتمعات الإسلامية، يلاحظ أن أركون يسير على خطى التوحيدي الذي كان يكافح من أجل حرية الفكر و المعتقد، لكن هذه الحرية لا تنزع القداسة من المقدس أو تدنيسه.
في كتابه “الصّفحات السُّود لمدرسة التغريب و الحداثة و التنوير” يهاجم الدكتور محمد عبد الشافي القوصي الحداثيين الذين يسعون لإقناع الأمة الشرقية بأنها أمّة متخلفة في تاريخها و صميم تكوينها، متخلفة في جوهرها و من ثمّ لابد من انسلاخها تماما عن كل ما يربطها بماضيها من ناحية المظاهر السلوكية، ربما هو محق ، فنحن نرى بعض من عناصر التيار الإسلامي متشددين في لباسهم، (أقول بعضهم و ليس كلهم حتى لا يساء فهمي) بعضهم يتركون لحاهم تطول دون تنميق، و قطرات عصير أو لبن أو بقايا الأكل بين الشعيرات و شعرهم غير مصفف، مثل الدراويش أو أنهم في غابة، و هم بذلك يشوّهون صورة الإسلام و نبيه محمد صلّ الله عليه و سلم، و نسوا قول الله تعالى : ” و أما بنعمة ربك فحدث” فيما معناه، ( إن الله جميل يحب الجمال)، و لو سألته يقول لك هذا من التراث، فما نراه من بعض المظاهر التي لا صلة لها بديننا و بسيرة نبينا (صلعم) تعبّر عن الجمود و التحجر و التعصب، و من هذا المنطلق و ليس دفاعا عن محمد أركون ، نستنتج أن نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون لا يعني زحزحة النموذج أي الإسلام و نزع منه القداسة، فهو دين سماوي كبقية الأديان الأخرى ( المسيحية و اليهودية) و أن قراءتنا للإسلام لن تكون كافية إذا تعلق الإنسان المسلم بالتراث و يذوب فيه دون أن يتطلع إلى العالم الخارجي، و يهمل العلوم الأخرى ، خاصة و أنه ولد في زمن غير الزمن الذي عاش فيه من سبقوه من الأوائل، و لا يعني هذا أن نترك التراث، لكن من الواجب مراجعته و نقد جزءًا منه نقدا بنّاءً، في الواقع أنني كلما فتحت كتابا يناقش هذه المسائل إلا و أجد نفسي وسط معركة المفاهيم و المصطلحات، فهناك مثلا من يرى أن مصطلح النقد الجديد يختلط مع مصطلح الحداثة، و مصطلح العبثية يختلط مع مصطلح العدمية و اللاشيئية، كما أشار إليها محمد عبد الشافي، فهذه المفاهيم مفهومة و لا غبار عليها، فالعبثية (من وجهة نظري) تعني التلاعب بالأفكار و الكلمات و تمييعها، أما العدمية و اللاشيئية فهما ربما يخدمان معنى واحد هو اللا موجود أو اللاوجود ، و إن كانت الحداثة الغربية عند الدكتور الشافي قصي تعني اللاوجود، و هذا يعني أنها تدعو إلى الإلحاد أو اللادينية، و السؤال هو كالتالي: ماذا عن الحداثة من المنظور الإسلامي؟ و ما موقف الإسلاميين منها؟ و ما موقف الحداثيين العرب؟، الجواب نقول أن الحداثة هي عمل تنويري ، و قد نقف هنا مع أركون حين قال أن العمل التنويري لا يتحقق في العالم الإسلامي من دون التوسع في مجال الأنسنة و نقلها.
مالك بن نبي و التجديد
لنعد إلى مالك بن نبي و مشكلته الحضارية ، فمالك بن نبي نجده في معظم كتاباته يعود إلي راي المفكرين الغربيين و ذلك من باب المقارنة بين الحضارة الإسلامية و الحضارة الغربية، و النتيجة التي خرجة بها مالك بن نبي هي أن الغرب صنع حضارته على أنقاد الحضارة الإسلامية فيما نسميه بالاستيلاب الحضاري، أي أن الغرب سرق الفكر العربي و إنجازاته، و اغتصب ارضه ليبني دولة غير شرعية و يؤسس حضارة مزيفة قامت على القمع و العنف و التجويع، مثلما نراه الأن في غزة، إن التجديد الذي دعا إليه مالك بن نبي لا يخرج عن إطار الحداثة، لكن ليست الحداثة الغربية التي فهمها البعض و هي تنكر الإنسان لأصله وكما يقال لا أصل لمن تنكر لأصله، لقد كشفت الحروب الأهلية عورة المسلمين ، فلا الأنظمة أنظمة في المستوى و لا المعارضة في مستوى المعارضة ، لقد بالغ خصوم الحداثة في نقدهم للحداثة بل في مواجهتها، و وصل بهم الأمر أن يقولوا أن الشِّعر الحر كفرٌ، يريدون بذلك قتل الذوق و الجمال و الإبداع و كل ما له علاقة بالإحساس، ما يهمنا هنا هو ” الفكر” ، بغض النظر عن كون صاحبه إسلامي ، علماني ، ملحد أو بوذي، صهيوني ، لأن الفكر لا دين له و لا جنسية، و السؤال: هل يجوز لنا ان نحكم على النقاد بأنهم كفار؟ و من له الحق في تكفير الأخر؟، فظاهرة التكفير جرّت الأمّة إلى المآسي بعدما قامت جهة بتحويل الأفراد إلى نباتات نُزعت من الأرض وهي ما تزال في طور الإنتاش قبل أن تكون لها القدرة على النمو و الازدهار، هذه النباتات هم الشباب من هذا الجيل الذي وجد نفسه يتخبط بين أوساط تدعو إلى الحداثة و أخرى تطالب بالتمسك بالتراث و الأصالة، حيث لا يمكنه أن يتحرك إلا بأوامر تُفْرَضُ عليه، أي أنه يكون مبرمجا من قبل جماعة أساءت الفهم للإسلام فظلت الطريق، و السؤال : هل الحداثيون زنادقة فعلا؟، كما يلقبونهم خصومهم ، و هل هم دعاة للتمرد؟ أم لأنهم كذلك (في نظرهم) لأنهم كشفوا زيف بعض التراثيين (داعش) الذين أساءوا للإسلام و شوهوا صورته، حتى اصبح الغرب ينعت الإسلام بأنه دين عنف و تطرف.
نختلف هنا مع الدكتور إسماعيل عراب عندما انتقد محمد أركون بأن الأنسنة في جوهرها انتقال من عالم يسيطر فيه المقدس إلى عالم يسيطر فيه الإنسان، فمحمد أركون يرى أن المقدس الديني أقوى المقدسات، و هو ما ذهب إليه مالك نبي في دراسته المشكلة الحضارية حيث ربطها بالفكرة الدينية باعتبارها مقدسة، و في هذا نقول أن الأنسنة هي إيجاد توافق بين المقدس و اللا مقدس ( و ليس المدنس) و لا نقصد التوافق هنا بـ: “الندّيّة” ، و إنما الجمع بين الحداثي و التراثي، كما يقول المودودي، أي كل رطب و يابس من عناصر الأمّة على رصيف واحد و يتخذ من كل العناصر الصالحة و الفاسدة كتلة متضامنة تنفتح فيها روح قومية و تكون لهم سلطة مركزية و حرس قومي و جندٌ قومي و تتكون لهم دولة قومية من الأقطار التي تكون لهم فيها الأغلبية عملا بالمبدأ الجمهوري المعروف ( الحكم للأغلبية) ، فمالك بن نبي لا يمانع تشكيل وحدة العالم العربي لكنه ينظر إليها من حيث تخلف المجتمع، و لذا هو يرى أنه إن تتظافر الجهود و تضامن العالم العربي لحل مشكلاته يمكنه أن يحقق السيطرة ما دفعه إلى تشكيل كومنولث إسلامي.
الخلاصة
خلاصة القول ان محمد أركون دعا إلى نقد العقل الإسلامي ، أي نقد الخطاب الإسلامي المبني على التناقضات ( المبطن و المعلن عنه) و لم يدع إلى نقد الدين ، لأن الدين ثابت، اللهم إن تعرض للتحريف ( و يكتبون الكتاب بأيديهم و يقولون هذا من عند الله) ، أما بالنسبة للإسلام فهناك من أعطى للإسلام أسماء عديدة كالإسلام الأصولي و الإسلام الحضاري أو الحداثي، و الإسلام السياسي و ما إلى ذلك، تعرض فيها الإسلام إلى التأويل، و ما وقع من حروب أهلية إلا نتاج التراكمات التأويلية و ظهر ما يسمى بخطاب السيف في كل الأقطار العربية أصبح الإسلام كدين سماوي بحاجة إلى أسلمة و أنسنة.
علجية عيش بتصرف
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.