أدبالتنويري

أصول الشِّعر الغنائي

إنَّ الشِّعْرَ الغِنائيَّ لَيْسَ تَجْميعًا عَبَثِيًّا للقِيَمِ العاطفيَّة، وإنَّما هُوَ تَعْبيرٌ عَن العَواطفِ الخالصة، وتَجسيدٌ للمَشاعرِ الإنسانية النبيلة. ويَمْتاز بِحَرارته وخَيَالاتِهِ وتأثيرِه في المُتَلَقِّي، وتَجَاوُزِ الواقعِ، وكَشفِ أسرارِ الذات الإنسانية، والمُوازنةِ بَيْنَ أفراحِها وأحزانِها.

والشِّعْرُ الغِنائيُّ لَيْسَ مَحصورًا في الغَزَلِ وَوَصْفِ مَحاسنِ المَرأة، بَلْ هُوَ رُمُوزٌ معرفية، وَرُؤيةٌ وُجودية، وأفكارٌ اجتماعية، وهَكذا تَتَّسِعُ اللغةُ الشِّعريةُ لِتَشْمَلَ المَشاعرَ الحاملة للعَلاقات الاجتماعية، وَتَحْتَضِنَ المواضيعَ المُتَغَيِّرَةَ والأحوالَ المُتَقَلِّبَةَ في حَياةِ الإنسانِ، وتُعيدَ صِيَاغَةَ التفاصيلِ الحَيَّة في التُّرَاثِ، وَتَدْمُجَ التَّجْرِبَةَ الذاتيةَ معَ التَّجْرِبَةِ الاجتماعية باستخدامِ الصُّوَرِ الفَنِّية المُدْهِشَةِ، والإيقاعِ الكَلِمَاتيِّ شَدِيدِ الوَقْعِ في النَّفْسِ الإنسانية.

والصُّورةُ الشِّعريةُ هِيَ حَجَرُ الأساسِ في بِنَاءِ القصيدةِ الغِنائية، والزَّمَنُ الحقيقيُّ القادر عَلى تَكثيفِ الأفكارِ في لَحظةٍ لُغَويةٍ واحدة شديدة التَّركيز، والرابطةُ الوُجودية بَيْنَ الإنسانِ والأرضِ، والعَلاقةُ المَصيرية بَيْنَ خَيَالِ الإنسانِ وَمَشَاهِدِ الطبيعة، والصِّلَةُ المَنطقيةُ بَيْنَ اللغةِ والرَّسْمِ، باعتبار أنَّ اللغةَ هِيَ الرَّسْمُ بالكَلِمَاتِ، والرَّسْمُ هُوَ الكِتَابَةُ بالألوان. كَمَا أنَّ الصُّورةَ الشِّعْرية تُحَقِّقُ التَّوَازُنَ بَيْنَ التَّجْرِبَةِ النَّفْسِيَّةِ والتَّجْرِبَةِ الاجتماعية، اعتمادًا عَلى البِنَاءِ اللغويِّ المُتَمَاسِك، واستنادًا إلى مَصادرِ المَعرفةِ التي تَتَكَاثَر باستمرار نَتيجة البَحْثِ عَن المَعْنى. مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادةِ اكتشافِ جَوْهَرِ الشِّعْرِ بِوَصْفِهِ عَملية تَزَاوُج بَيْنَ ذَاتِيَّةِ الشاعرِ وَتَجْرِبَتِهِ الوِجْدَانِيَّة، وَالغَوْصِ في أعماقِ العَواطفِ بِكُلِّ أبعادِها المَعنوية والمادية.

وَيَرتبطُ الشِّعْرُ الغِنائيُّ بشكلٍ وثيق بالمُوسيقى، والإيقاعُ والنَّغَمُ والتَّنَاغُمُ الصَّوْتِيُّ هِيَ عناصر أساسيَّة في بِنَائِهِ المَعْنَوِيِّ وهَيْكَلِهِ الرَّمْزِيِّ، وَيَتَميَّزُ بِرَهَافَةِ الأُسلوبِ، وَنَقَاءِ الإحساسِ، وَشَفَافِيَّةِ الصُّورةِ، والصَّفَاءِ العاطفيِّ. وكُلُّ هَذه المُكَوِّنَاتِ مُجْتَمِعَةً تُمثِّل رُوحَ التَّعبيرِ الفَنِّي، وتُجسِّد قُدرةَ الفِعْلِ الشِّعْرِيِّ عَلى حَمْلِ المَشاعرِ الشَّخْصِيَّة، ونَقْلِ التَّجَارِبِ الحَيَاتِيَّة، وتَكثيفِ المَعَاني المُتَشَظِّيَةِ دَاخِلَ فِكْرَةٍ واحدة، مِنْ أجْلِ تَسْهِيلِ تَركيزِ الانطباعِ لَدَى المُتَلَقِّي، اعتمادًا على العُمْقِ اللغويِّ، والتراكيبِ المُوحِيَة، وَسَلاسَةِ الأفكارِ، وَالصِّدْقِ الشُّعُورِيِّ، والذَّاتِيَّةِ في التَّعبير، وَهَذا مِنْ شَأنِهِ تَجذيرُ الهُوِيَّةِ الثقافية، وتَرسيخُ سُلطةِ النَّصِّ الأدبيِّ، وتَثبيتُ القِيَمِ الاجتماعية، لَيْسَ بِوَصْفِهَا أنظمة استهلاكية مُعَاشَة، بَلْ بِوَصْفِهَا حالات إبداعية مُتَجَدِّدَة وَمُتَدَفِّقَة.

وَمِنْ أبرزِ أساتذةِ الشِّعْرِ الغِنائيِّ الإنجليز، الشاعرُ ألفريد تنيسون ( 1809 _ 1892 ). وَقَدْ تَمَيَّزَ شِعْرُهُ بالرُّومانسيَّةِ الحالمةِ والحزينة، والتَّسَاؤُلِ عَنْ مَعْنَى الحَياةِ والمَوْتِ، وَهِيَ أسئلة عادَ إلَيْهَا الشاعرُ كثيرًا في مَراحل مُختلفة مِنْ حَياته. كما أظهرتْ بَعْضُ أعماله اهتمامًا واضحًا بالشرق العربي وشِعْرِه، وذلك نتيجة حركة الاستشراق التي عَمَّتْ أوروبا في القرن التاسع عَشَر، فجاءتْ مُقَدِّمَة قصيدة ” لوكسلي هول “، لِتُظْهِرَ تَأثُّرَهُ بِمُعَلَّقَةِ امرئِ القَيْسِ، ولا سِيَّما مَطْلَع القصيدة على أطلال بناء لوكسلي.

وَتَمَيَّزَتْ قَصائدُ الشاعرِ الفرنسي آرثر رامبو ( 1854_ 1891 ) بِالغِنَائِيَّةِ وَالبَرَاءَةِ وَنَضَارَةِ الشَّبَابِ مِنْ جِهْة، والتَّمَرُّد والسُّخْرية مِنْ جِهَة أُخْرَى.

والشاعرُ السويدي إريك أكسل كارلفلت ( 1864 _ 1931 ) يُعْتَبَر بالدَّرَجَةِ الأُولَى شاعرًا غِنَائِيًّا، وَيَتَمَيَّز شِعْرُه بالأبعاد الرمزية والفَضَاءاتِ الغِنائية، وَقَدْ حَوَّلَ الأغاني الشَّعْبية إلى قصائد رمزية حيَّة عابقة بالتَّحَوُّلاتِ اللغويةِ، والطُّقوسِ المَعرفيةِ، والإشاراتِ الغامضة.

والأديبُ الرُّوسيُّ بوريس باسترناك ( 1890 _ 1960 ) تُعْتَبَر الغِنَائِيَّة سِمَةً بارزةً في كِتاباته، وهي غِنائية قائمة على الأصوات والألفاظ المُتناغمة المُثْقَلَة بالأحاسيسِ والصُّوَرِ والإيقاعاتِ المُتَنَوِّعَة. كَمَا تَتَمَيَّز قِصَائِدُهُ بالدِّقَّة، وَتَدَاعي الأفكار، والتَّراكيب المُعَقَّدة. وَيَتَّصِف مُعْجَمُهُ اللغويُّ بالضَّخَامَةِ والغِنى. وَصُوَرُهُ الفَنِّية تَمتاز بالتكثيف، والأداءِ الجَمَاليِّ، وَقُوَّةِ التعبير.

وَيُعَدُّ الشاعرُ شيلي (1792_ 1822) مِنْ أفضل الشُّعَراء الغِنائيين باللغة الإنجليزية. وكانت حياته غير العادية وتفاؤله العنيد وصَوْتُه القوي المُعترِض عواملَ ساهمتْ في جَعْلِهِ شَخْصِيَّة مُؤثِّرة، وَعَرَّضَتْهُ للتَّشْويه خِلال حَيَاتِه وَبَعْدَ مَمَاتِه. وَقَدْ أصبحَ أيقونةً لِلْجِيلَيْن الشِّعْرِيَّيْنِ اللذَيْن تَلَيَاه.

والأديبُ الإسباني لوبي دي فيغا ( 1562 _ 1635 ) يُعَدُّ واحدًا مِنْ أفضل الشُّعَراء الغِنَائِيِّين في الشِّعْرِ الإسبانيِّ، وَتَتَبَدَّى حَسَاسِيَّتُهُ الغِنائية في القصائد التي كَتَبَ كَلِمَاتِها لِتُغنَّى.

والشاعرُ الفرنسي سان جون بيرس (1887_ 1975) يَمتاز شِعْرُهُ بِغِنائيَّة ذات طبيعة مَلْحَمِيَّة لا نظير لها بَيْنَ مُعَاصريه، كما أنَّه يُعْتبَر أكبر مُجدِّد في الشِّعْر الفرنسي. فعلى المُستوى التِّقني، نَجِدُه يَتَخَلَّى عن البَيْتِ الشِّعْري، لِيُؤَسِّس المَقْطَعَ الشِّعْري المُتكامل الذي يُشْبِه الفِقْرَةَ، كما أنَّه تَخَلَّى عَنْ بُحُور الشِّعْر الفرنسي التقليدية، وراحَ يَكْتُب الشِّعْرَ على شكل إيقاعات مُتتالية ذات مُوسيقى خاصَّة بها. في عام 1924، نَشَرَ قصيدته  الأشهر ” آناباز ” التي كرَّسته شاعرًا عالميًّا. و ” آناباز ” ليس اسْمًا لفتاة، بَلْ هُوَ تَعْبير إغريقي قديم يعني ” رحلة إلى داخل الذات “.

________
*إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد