اجتماعالتنويري

تربية بلا صراخ: دروس من شعوب نسيناها

إلى لولو وسمكة

نص مقتبس من كتاب “الصيد، الجمع، التربية”، لمايكلين دوكليف.

https://time.com/5944210/calm-parenting-technique

ترجمة: ماهر عبد الرحمن

قبل ثلاث سنوات، جلستُ في مطار كانكون (المكسيك) عاجزة، مرتبكة الذهن. حدّقتُ بالخارج، أحاول أن أفهم إن كان ما شاهدته للتوّ حقيقيًا. هل يمكن أن تكون التربية بهذه الفعالية؟ هل يمكن أن يكون الأطفال مُفيدين ومحترمين إلى هذا الحد؟ والأهم من ذلك، هل نسيت الثقافة الغربية أفضل أساليب التربية؟

في اليوم السابق، كنتُ أزور عائلات في قرية مايا، تقع في شبه جزيرة يوكاتان (المكسيك). شعب المايا اليوكاتية هم السكان الأصليون في تلك المنطقة. قضيتُ ساعات أتحدث مع الأمهات عن كيفية تربيتهنّ لأطفالهنّ، وأشاهد مهاراتهنّ في العمل. ما رأيتُه غيّر نظرتي تمامًا لكيفية نجاح التربية. تعاملت الأمهات مع أطفالهنّ بطريقةٍ اعتاد عليها الأهل في جميع أنحاء العالم منذ آلاف السنين، وهي طريقةٌ تبناها الأهل في الثقافة الغربية أيضًا. وأعتقد أن هذا النهج قد يكون طوق النجاة الذي يحتاجه الآباء الآن مع دخولنا العام الثاني من الجائحة (كورونا). أُطلق على هذا النهج اسم “التربية الجماعية”، لعناصرها الرئيسية الأربعة: التعاون، والتشجيع، والاستقلالية، والحد الأدنى من التدخل.

هذه العناصر مجتمعةً تُقلل من الخلافات وتُعزز التعاون – وهما أمران كنتُ في أمسّ الحاجة إليهما مع ابنتي روزي، البالغة من العمر عامين، سريعة الغضب والانفعال.

في ذلك الوقت، كان أسلوبي في التربية أشبه بهبوط مُرهقٍ على منحدراتٍ خطرة، مليءٍ بالصراخ والدموع. على النقيض من ذلك، كان أسلوب أمهات المايا أشبه بتدفقٍ سريعٍ في نهرٍ عريضٍ، متعرجٍ عبر وادٍ جبلي – هادئٍ، لطيفٍ، وفعال. لم يكن هناك صراخٌ، ولا مشاحنات، ومقاومةٌ ضئيلةٌ جدًا (في كلا الاتجاهين). لكن ما أدهشني فعلًا هو كرم الأطفال ومبادرتهم.

في صباح أحد الأيام، شاهدتُ فتاةً في سن المراهقة تستيقظ خلال عطلة الربيع وتبدأ فورًا بغسل الأطباق بعد الإفطار. لم يكن على أحد أن يسألها. لم يكن لدى العائلة جدول أعمال منزلي معلق على جدار المطبخ.

سألتُ والدتها: هل تتطوع للمساعدة كثيرًا؟

فأجابتني: إذا رأت أن هناك شيئًا يجب القيام به، فإنها لا تنتظر.. في إحدى المرات، أخذتُ أختها الصغرى إلى العيادة، وعندما عدتُ، كانت قد نظفت المنزل بأكمله.

في ذلك الوقت، ظننتُ أن عائلات المايا ربما تمتلك بعض مهارات التربية التي لا يعرفها الآباء الغربيون، مثلي، لكنني كنتُ مخطئة، آباء المايا ليسوا استثناءً أو حتى نادرين.

أثناء سفري مع روزي، رأيتُ نهج “فريق التربية” مع عائلات الإنويت (مجموعة من الشعوب الأصلية الفريدة ثقافيا ولغويا) فوق الدائرة القطبية الشمالية، الذين يصطادون الفُقمات والرنة لكسب عيشهم. ورأيتُ ذلك مجددًا، في سهول تنزانيا الجافة مع عائلات الهادزابي (مجموعة عرقية من الصيادين وجامعي الثمار)، الذين يبحثون عن الدرنات وبذور الباوباب. وقد قضيتُ السنوات الأربع الماضية أقرأ عن هذا النهج في أكثر من مئة دراسة علمية، وأتحدث عنه مع علماء النفس والأنثروبولوجيا والآباء. ونظرًا لانتشار هذا الأسلوب حول العالم، وبين مجتمعات الصيد وجمع الثمار، يمكن لعلماء الأحياء تقديم حجة مقنعة مفادها أن علاقة الوالدين بالأبناء تطورت لتعمل بهذه الطريقة.

ومع ذلك، فقد نسي الآباء الغربيون عناصر أساسية في هذا النهج. لقد نسينا كيفية تحفيز الأطفال على القيام بالأعمال المنزلية دون تذمر أو رشوة، وكيفية التأديب دون صراخ أو عقاب، وكيفية التعامل مع الأطفال بطريقة تبني ثقتهم بأنفسهم واعتمادهم على أنفسهم.

العديد من ممارساتنا الأساسية – الممارسات التي نعتقد أننا يجب أن نتبعها لنكون آباءً صالحين – تتعارض بشكل مباشر مع مبادئ التربية الجماعية. هذه الممارسات تجعل حياتنا أكثر صعوبة وتزيد من قلق أطفالنا لأنها تتعارض مع غرائزهم الفطرية للعمل التعاوني مع من يحبونهم والتعلم من خلال الاستكشاف الذاتي، كما أشار عالم الأنثروبولوجيا ديفيد لانسي (David Lancy )، من جامعة ولاية يوتا، في كتابه “مساعدو الأطفال”، “نظرًا لعجزهم عن المساهمة في المجتمع، يبدو أن [الأطفال الغربيين] يعتادون بسهولة نمط حياة يتلقّون فيه ولا يساهمون”. بدلاً من فصل الأطفال عن أنشطة الكبار، يمارس آباء المايا حياتهم اليومية – من أعمال منزلية وهوايات وعمل ولقاءات اجتماعية – ويسمحون للأطفال بمرافقتهم. من حين لآخر، يطلب الأهل المساعدة من أطفالهم. مهام صغيرة، مثل “اذهب لإحضار بعض الأعشاب من الحديقة”، أو “ضع الأطباق على مائدة العشاء”.. لكنها مساهمات حقيقية، كما تقول عالمة النفس لوسيا ألكالا (Lucia Alcala) من جامعة ولاية كاليفورنيا في فوليرتون.

في مجتمعات المايا، يُتوقع من الجميع المشاركة في الأنشطة، حتى الأطفال الصغار. وتضيف ألكالا: “في دراسة، أخبرتنا إحدى أمهات المايا: منذ أن يعتادوا على المشي، يمكنك البدء بطلب المساعدة منهم، على سبيل المثال، إحضار هذا أو ذاك”. ومع نمو الطفل، تصبح المهام أكثر تعقيدًا، فبدلاً من مجرد إحضار الأعشاب، يُحضّرون طبقًا كاملاً، وبدلًا من مجرد وضع الأطباق، يُنظّفون الطاولة ويغسلون الأطباق.

مع مرور الوقت، لا يكتسب الطفل مهارات حياتية فقط، بل يتعلم ما هو أثمن: كيف يكون فردًا فعّالًا ومتعاونًا في أسرته، كيفية التعاون. تقول ألكالا: إن التنظيف بعد العشاء مسؤولية مشتركة يتشاركها كل فرد في المنزل. وبحلول سن التاسعة أو العاشرة، يصبحون مساهمين أكفاء، ويساعدون أسرهم بمبادرة شخصية، لا يحتاج الآباء إلى تأنيبهم أو رشوتهم للقيام بذلك.

وماذا يفعل الأهل في المايا عندما يرفض طفلهم المساعدة؟ حسنًا، سأخبرك بشيء واحد لا يفعلونه، تقول ألكالا، إنهم لا يبدأون جدالًا كبيرًا مع الطفل.

الجدل والتفاوض مع الأطفال شائع جدًا في منزلي، لدرجة أنني ظننت أنه ممارسة عالمية. لكن هذه الفكرة أبعد ما تكون عن الحقيقة. أثناء إقامتي مع عائلة من الإنويت في قرية فوق الدائرة القطبية الشمالية، لم أرَ قط شخصًا بالغًا يتجادل مع طفل. استخدم الآباء والأمهات كل هذه الأدوات الأخرى لتشجيع السلوك السليم، لكنهم لم يصرخوا أو يزعجوا أو حتى يتفاوضوا (حتى في متجر البقالة)، قالت لي سيدوني نيرلونجايوك، البالغة من العمر 74 عامًا، ذات ظهيرة أثناء تناول سمك السلمون القطبي في غرفة معيشتها: “عندما يسيء إليك طفل، لا تُجبه كطفل”.

وأوضحت المترجمة إليزابيث تيغوميار أن العديد من آباء الإنويت يعتبرون المناقشة العقيمة مع الأطفال أمرًا سخيفًا ومضيعة للوقت. عندما يتجادل أحد الوالدين مع طفل، ينحدر الوالد إلى مستوى الطفل. يتعلم الطفل ببساطة كيفية الجدل وتقدير فاعليته.

تقول باتيا ميسكيتا (Batja Mesquita)، عالمة النفس متعددة الثقافات في جامعة لوفن ببلجيكا: “ربما يحظى طفلك [الأمريكي] الصغير باهتمام كبير عندما يكون غاضبًا أو يسيء التصرف. لكن هناك الكثير من الآباء في العالم يتجاهلون غضب الطفل وسوء سلوكه تمامًا”. ثم مع مرور الوقت، كما تقول، يتعلم الطفل أن الغضب لا يجدي نفعًا، فيتوقف عن فعله.. يتلاشى.

لذا في المرة القادمة التي يسيء فيها طفلك التصرف، تذكر إليزابيث تيغوميار، تراجع في هدوء، أدر ظهرك وابتعد. الأمر ذاته ينطبق على الخلافات وصراعات القوة، إذا شعرت بأن الأمور بدأت تتصاعد، اصمت وابتعد. لست مضطرًا للذهاب بعيدًا، يكفي أن تنتقل إلى غرفة مجاورة أو تبتعد بضع خطوات فقط. صمتك وابتعادك سيوصلان للطفل بهدوء أن سلوكه غير مقبول.

بصراحة، هذا النوع من النصائح أصعب بكثير مما يبدو عليه، على الأقل بالنسبة لأم غربية مثلي تكتب هذا المقال. عندما لا تطيعني ابنتي، أشعر أن كل خلية في جسدي تريد أن تصرخ أو تجادل. هذا ما تربيت عليه. لكن بعدما تعلمت هذه المهارة التربوية الجديدة، لاحظت تحسنًا سريعًا في قدرات ابنتي الذهنية رغم صغر سنها (3 سنوات)، وتراجعت حدة الصراع في منزلنا بشكل ملحوظ.

تحسنت حياتنا أكثر عندما توقفتُ عن ارتكاب ثالث أكبر فخ في التربية الغربية، ألا وهو التسلط. إذا أردنا لأطفالنا أن يكونوا واثقين من أنفسهم، ونريد حمايتهم من القلق والتوتر، فعلينا الحد من الأوامر والتعليمات والمحاضرات (نعم، وحتى المديح)، بحسب عالم النفس العصبي ويليام ستيكسرود (William Stixrud) والمُعلم نيد جونسون (Ned Johnson) في كتابهما “الطفل المنطلق ذاتيًا”.

أدركتُ مدى تسلطي كوالدة عندما زرتُ أنا وابنتي عائلات الهادزابي في تنزانيا، ومثل العديد من مجتمعات الصيد والجمع، يُعلي الهادزابي من شأن حرية الإنسان في اتخاذ قراراته بنفسه، إنهم يُقدّرون حقه في الاستقلالية. وينطبق هذا الرأي على الأطفال، حتى الصغار. ونتيجةً لذلك، لا يشعر الآباء بهذه الحاجة المُلحّة إلى “إصلاح” أو “إدارة” سلوك الطفل.

في دراسة أجريت على مجتمعات الصيد والجمع في باياكا (مجموعة عرقية من الأقزام) بوسط أفريقيا، أحصت عالمة الأنثروبولوجيا شينا لو- ليفي (Sheina Lew-Levy) عدد المرات التي وجّه فيها شخص بالغ طفلًا شفهيًا أو أمره بما يجب فعله. خمنوا كم عدد الأوامر التي أصدرها الآباء في الساعة، في المتوسط؟ ثلاثة. أجريتُ نفس التجربة على نفسي، وبعد 15 دقيقة، سجلتُ أكثر من 60 أمرًا في الساعة.

في العديد من مجتمعات الصيد والجمع، يبذل الآباء جهودًا كبيرة لعدم إخبار الأطفال (أو البالغين) بما يجب عليهم فعله، كما تقول لو- ليفي. هذا الأسلوب المُقيّد لا يعني أن الآباء لا ينتبهون، أو لا يكترثون بما يفعله الأطفال. من المؤكد أن القائم على الرعاية يُراقب الأطفال للتأكد من سلامتهم. لكن الآباء واثقون من أن الأطفال يعرفون كيف يتعلمون وينمون، دون تدخل الكبار المُستمر. أي شيء يقوله أحد الوالدين – في الغالبية العظمى من الوقت – سيُعيق الطفل ويُولّد صراعًا. لذا، يتدخل الآباء في الحد الأدنى.

من المُرجّح أن سياسة عدم التسلط هذه تعود إلى مئات الآلاف من السنين. ولها فوائد نفسية جمة للأطفال (وآبائهم). ربطت الدراسات الاستقلالية بالثقة بالنفس وتحسين الوظائف الذهنية لدى الأطفال. ومع نموهم، ترتبط الاستقلالية بتحسن أدائهم الدراسي وزيادة فرص نجاحهم المهني، كما قاله ستيكسرود وجونسون.

على الجانب الآخر، عندما يُحاصر الآباء يوم طفلهم بالأوامر والتنظيم، قد يشعرون بالعجز عن التحكم في حياتهم، وفقا لما ذكره ستيكسرود وجونسون. “يشعر العديد من الأطفال [الأمريكيين] بهذه الطريقة طوال الوقت”. هذا الشعور يُسبب التوتر، ومع مرور الوقت، يمكن أن يتحول هذا التوتر إلى قلق واكتئاب.

قبل ثلاث سنوات… كانت علاقتي بابنتي مليئة بالتوتر والصراع، وكنت أهاب قضاء الوقت معها. لكن شيئًا فشيئًا، ومع إدخال هذه الممارسات التربوية العالمية إلى حياتنا، تحوّلت روزي من “عدوتي” إلى شريكتي… بل ربما أصبحت أحبّ شخص إلى قلبي.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ماهر عبد الرحمن

باحث وكاتب مصري. حاصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس، وحاليا يدرس بمرحلة الماجستير في القانون (القانون الخاص). صدرت الطبعة الأولى لروايته (عضو عامل) في عام 2007، وصدرت الطبعة الثانية عن مركز المحروسة للنشر في عام 2018. يعمل باحثا في مجال التوثيق والأرشيف منذ عام 2004، ويعمل باحثاً حقوقياً منذ عام 2006 وحتى الآن، وله عدد من الأوراق البحثية والتقارير المنشورة في مجال الحق في المعرفة. ينشر مقالاته في بعض المجلات والمواقع الصحفية منذ عام 2014 وحتى الآن. حصلت على جائزة "منصة أبحاث الشباب العربي" أحد مبادرات مركز الشباب العربي بالإمارات، عن الورقة البحثية "موازنة البرامج وآفاق التحول في مصر" في عام 2019. النشر العلمي: بحث "سقوط الشفعة بين الفقه الإسلامي والقانون المدني"- مجلة كلية الشريعة والقانون فرع جامعة الأزهر بطنطا، المجلد 35 - العدد 3 - صيف 2020.

مقالات ذات صلة

اترك رد