
الأزمة السياسية في الجزائر ازدادت تعقيدا منذ ما عرف بصيف 62 و تأزمت في أول مؤتمر لجبهة للتحرير الوطني ( ج ت و) في سنة 1964 حين ظهرت الخلافات بين الرئيس أحمد بن بلة والشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ( ج ع م ج) عندما أصدر بيانا يتعلق بمسألة النهج الإشتراكي الذي تبنته الجزائر عشية الإستقلال وأوصى بالعودة إلى المبدأ الإسلامي الذي ينظم العلاقة بن الحاكم والمحكوم وهو الشورى من أجل بناء دولة قوية تقوم على العدل واحترام الحريات، إن الانسداد بين النظام والفيس والتماطل في تسوية الوضع سببه الأزمة التي تمر بها المنظومة القضائية في الجزائر وافتقادها الاستقلالية وهذا دليل على أن النظام السياسي في الجزائر لم يتغير ولن يتغير
وبالعودة إلى نص بيان الشيخ البشير الإبراهيمي نقرأ ما يلي: كتب الله لي أن أعيش حتي استقلال الجزائر ويومئذ كنت أستطيع أن أواجه المنية فيرتاح الضمير، إذ تراءى لي أني سلمت مشعل الجهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام الحق والنهوض باللغة العربية، ذلك الجهاد الذي كنتُ أعيش من أجله إلى الذين أخذوا زمام الحكم، وبذلك قررت أن ألتزم الصمت، غير أني أشعر أمام خطورة الساعة وفي هذا اليوم الذي يصادف الذكري الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد ابن باديس أنه يجب عليّ أن أقطع ذلك الصمت، إن وضعنا يتدحرج نحو “حرب أهلية” طاحنة والجزائر تتخبط في أزمة روحية لا نظير لها وتواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل، لكن المسؤولين فيما يبدو لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيئ إلى الوحدة والسلام والرفاهية، وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب ان تنبعث من صميم جذورها العربية الإسلامية لا من مذاهب أجنبية ( انتهي البيان) .
كان من نتائج بيان الشيخ البشير الإبراهيمي السجن، ثم الإقامة الجبرية والحرمان من الزيارات وإيقاف مرتبه الذي كان يصرف له، ولكنه ظل على موقفه ذاك، ينتقد أول رئيس في الجزائر، وقد أخذت الخلافات بين الرئيس بن بلة والشيخ البشير الإبراهيمي منعرجا خطيرا، بعد إصرار كل منهما على موقفه، خاصة وأن بيان الإبراهيمي كان معارضا لسلطة الحكم الفردي، وصل الوضع إلى حالة انسداد، فاضطر الشيخ عبد الرحمان شيبان التدخل لحل الانسداد بين بن بلة والإبراهيمي، علما أن بعض من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين اتخذوا موقف استنكار لبيان الإبراهيمي وحاولوا التبرؤ منه، ظنا منهم أن البيان يخالف مبادئ الجمعية، كاد مؤتمر (ج ت و) أن يتحول إلى فرصة لتصفية الحسابات مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ( ج ع م ج).
كان أول شخصية يتصل بها الشيخ عبد الرحمان شيبان توفيق المدني وزير الأوقاف لتهدئة الوضع، لكن كان رد الوزير بأنه على الإبراهيمي أن يحل المشكلة مع الذين أوحوا له بإصدار البيان، كان الطاهر التيجاني أمين عام وزارة الأوقاف قد أصدر بيانا أخر يستنكر فيه موقف الشيخ الإبراهيمي، وجاء في بيان التيجاني أن الإبراهيمي لا يمثل إلا نفسه وأن بيانه عمل تخريبي، وأكد تأييده لبن بلة، إلا أن الشيخ شيبان أصر على إحداث الصلح بين بن بلة والإبراهيمي وطلب من بن بلة بزيارة الإبراهيمي في بيته، وقام بن بل بزيارته وتعهد أمامه على إحياء الإسلام والعروبة، الخلاف طبعا ظل قائما وكأن بن بلة تراجع عن مواقفه أو كان يخدع الإبراهيمي، حيث قام بن بلة باعتقال نجليه ( محمد وأحمد) ولم يطلق سراحهما إلا أيام قبل وفاة والدهما بعد أن عاش عزلة وتنكر له رفقاءه، حيث توفي في 20 ماي 1965 بالجزائر العاصمة، للعلم أن من فضائل الشيخ البشير الإبراهيمي انه قبل وفاته تنازل عن مكتبته لصالح فلسطين، وكما يقال: “الجماعة البشرية لا تنقاد إلا للفارس السباق” كان هذا تعليق الشيخ شيبان على أدب رضا حوحو.
نستنج من هذه الأحداث أن الجزائر بعد الإستقلال عاشت حربا كلامية يمكن تسميتها بـ: حرب البيانات بين النظام و(ج ع م ج ) مما أدّى إلى انقطاعها لمدة ثلاثة عقود، وظلت غائبة أو مغيبة، حتى عادت في سنة 1992، وهي السنة التي قامت فيها حرب أهلية، بعد الانقلاب على الشرعية و توقيف المسار الانتخابي، بعد فوز الفيس في الانتخابات التشريعية، لم يتقبل النظام الجزائري الهزيمة، ولذا لم يكن هناك أي اتفاق بين النظام والفيس وهذا لأسباب عديدة وكما يقول الشيخ البشير الإبراهيمي لأن الذين يسكنون الوطن صنفان، وطن توجد فيه كنيسة حرة ومسجد مستعبد، وهذا ما يؤكد أن الصراع بين النظام وجبهة الإنقاذ الإسلامية ( الفيس) سببه الإستعمار الذي كان يعمل لضرب الإسلام وطمس الهوية الإسلامية، لكن أطراف تكيد للإسلام أرادت بأفكارها أن تشوه صورة الإسلاميين، وقد وجهت لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين تهمة بأنها حزب سياسي في ثوب جمعية تنادي بالإصلاح لتحقيق مأرب خفية.
كان على الشيخ عبد الرحمان شيبان وهو عضو في جمعية العلماء المسلمين إلا بالرد على الأسئلة ( الاستفزازية) التي كان يطرحها السياسيون وبعض المثقفين، على غرار سؤال من حجب جمعية العلماء ؟ وكيف ومن سمح لها بالعودة؟، لعل موقف شيبان مع الإبراهيمي يعود إلى مبادرته هو الأخر يوم جمع نخب من أعضاء ( ج ع م ج) لإحباط دعوة تجعل اللائكية قاعدة أساسية للدستور الجزائري ونشرت هذه الرسالة أو البيان عبر صفحات وسائل الإعلام، لا يختلف إثنان أن البيان في السياسة هو إعلان منشور يتضمن أراء أو دوافع تخص ناشر البيان، وقد يصدره فرد أو مجموعة أو حزب سياسي أو حكومة للتأثير على الرأي العام ، وهو ما سارت عليه الجبهة الإسلامية للإنقاذ عندما أصدر قادتها بيانا منذ سنتين بيانا، وهذا إيمانا منها بسنن التغيير والدعوة إلى الحوار، رغم أن خطابها يختلف عن خطاب السلطة، ورغم أن هذه الأخيرة رافضة للحوار.
وأمام هذا الانسداد كانت البيانات الوسيلة الوحيدة ليوصل الفيس صوته للسلطة وإلى الرأي العام بعد أن سُدَّتْ في وجهه كل أبواب الحوار مع النظام، فإذا السيناريو يتكرر ويحدث لجماعة الفيس ما حدث للشيخ الإبراهيمي وهو الاعتقالات والسجن وإصدار ضدهم أحكاما تعسفية، وتم النطق بالحكم في 27 يوليو/ جوان 2025 ، المطلع على بيان الفيس الأخير يلاحظ أنه لا يجد ما يسيئ للبلاد أو الجيش أو لأمن الدولة، ماعدا دعوتهم للحوار والتخفيف من الإحتقانات والإفراج عن السجناء السياسيين ومعتقلي الرأي، لكن النظام سدّ أذانه، خاصة في هذا الوقت بالذات كون الجزائر تعيش مرحلة انتقالية وتحتاج إلى الوعي السياسي وأنا عقلاء يمثلون الإجماع ويتحكمون في الوضع لا يتركون المجال للخصومات السابقة تتحكم من أجل التعاون وإعادة الكلمة إلى الشعب.
علجية عيش
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.