التنويريفكر وفلسفة

من التفكير إلى اللامفكَّر فيه: أفاية ونقد العقل العربي المعاصر

لا يمكن فهم مسارات التحول التي عرفها الفكر العربي المعاصر دون الوقوف عند إسهامات المفكر المغربي محمد نور الدين أفاية، الذي استطاع أن يشيد مشروعًا فلسفيًا نقديًا يتجاوز منطق الاستئناف أو الاستمرار، ويتجه بدل ذلك نحو تفكيك سرديات العقل العربي واستشكال مفاهيمه المركزية مثل التراث، الهوية، الحداثة، العقلانية، والعيش المشترك.

لقد راهن أفاية على الفلسفة كأفق للانفتاح والسجال والنقد، ولم يكتف بنقل المفاهيم أو تكرار النماذج، بل سعى إلى مساءلتها من داخلها، عبر عدّة مفهومية تستفيد من الفلسفة الغربية المعاصرة دون أن تقع في أسر التبعية، ومن التراث العربي دون أن تستسلم للانغلاق أو التقديس. وهذا ما يجعل مشروعه الفكري جزءًا من ما يمكن تسميته بـ “التيار الفلسفي النقدي الإنساني””، الذي ينطلق من استشكالات الحاضر ويستهدف بناء معرفة يقظة تقاوم التواطؤ مع الجمود أو التكرار.

في هذا الإطار، تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على خصوصية المشروع الفلسفي لأفاية، من خلال تحليل موقع النقد في تصوراته الفلسفية، واستعراض الكيفية التي مارس بها نقده لمقولات الفكر العربي، مستعينًا بالتجربة الغربية من جهة، وبالفاعلين العرب من جهة ثانية، ضمن دينامية فكرية مفتوحة على التاريخ، السياسة، الفن، والعيش المشترك.

1. موقع أعمال أفاية في خارطة الفكر العربي المعاصر

تشكل كتابات محمد نور الدين أفاية لحظة مائزة داخل المشهد الفلسفي العربي والمغربي، من حيث تفردها المنهجي وتنوعها المفهومي. فمن يطالع مؤلفاته لا يمكنه إلا أن يلاحظ انفلاتها من أسر النزعة النصّية التي اختزلت الإبداع الفلسفي في مجرد تعليق على النصوص الكبرى، سواء الغربية أو العربية، في تغييب لرهانات الواقع وخصوصياته الثقافية والاجتماعية والسياسية.

لقد اختار أفاية الاشتغال على الراهن العربي من موقع التفكير النقدي، متنقلاً بين حقول معرفية متعددة: الفلسفة، الأدب، السياسة، الجماليات، السينما، في سعي إلى مساءلة مستمرة لسؤال الهوية، التواصل، والعولمة. ويصرّح في مقدمة كتابه الوعي والاعتراف أن الغاية الأساسية التي تحرك مشروعه هي “الفهم”، أي فهم ما يجري أمامنا وضدنا من تحولات وصراعات (1)

2. النقد كمفهوم وممارسة في فكر أفاية.

يمثل النقد ركيزة مركزية في مشروع أفاية، ليس فقط بوصفه أداة منهجية، بل باعتباره نمطًا من الفكر وسلوكًا اجتماعيًا. يقول أفاية في كتابه النقد الفلسفي المعاصر إن “النقد ليس مجرد موضوع، بل هو علاقة اجتماعية تساهم في إنتاج معرفة يقظة” (2)، من هذا المنظور، تتأسس فلسفة أفاية على تفكيك الثابت، ورفض البداهة، والتمرّد على السكون، سواء تعلق الأمر بالفكر الغربي أو العربي.

وقد تبلور هذا المسار النقدي في أبرز أعماله، مثل كتابه المرجعي النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية، حيث استعرض فيه مسار النقد الفلسفي الغربي بدءًا من كانط وماركس، مرورًا بـمدرسة فرانكفورت وهابرماس، وصولاً إلى دريدا وتفكيكيته. ثم انتقل إلى معاينة تأثير هذا المسار على الفكر العربي، عبر مشاريع عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، عبد الكبير الخطيبي، أركون، ناصيف نصار وغيرهم، ضمن ما أسماه “الفكر النقدي الإنساني”.

3. مساءلة العقل العربي: من التراث إلى الحداثة.

يرى أفاية أن هناك تحولًا نقديًا بدأ يتشكل في الفكر العربي المعاصر، يتمثل في محاولة “خلخلة الفهم المشترك” الذي ساد في التعامل مع الذات، التراث، الحداثة، والمجتمع. غير أن هذا التحول لم يكتمل، إذ ظلت الكثير من المشاريع النقدية العربية أسيرة إما للهاجس التوفيقي كما في مشروع حسن حنفي، أو للإيديولوجية التاريخانية كما في بعض أطروحات العروي.

ويعتبر أفاية أن أغلب هذه المشاريع، رغم أهميتها، لم تنجح في بلورة مفهوم للنقد بوصفه ممارسة تاريخية وفكرية واجتماعية. ففي قراءته لعبد الله العروي، ينتقد “محدودية وعيه التاريخي في مقاربة التشكيلة الاجتماعية وعلاقاتها”، ويشير إلى أن الجابري ربط النقد بمفهوم النهضة، بينما ركّز ناصيف نصار على فكرة الاستقلال الفلسفي دون مساءلة كافية للأشكال الرمزية للهيمنة (3).

أما عبد الكبير الخطيبي، فقد خصّه أفاية بإعجاب خاص، مشيدًا بـ”تفكيكه الهادئ” للتراث العربي، وبتجنبه الوقوع في شرك الأدلجة أو الخطاب المتفوق، مع استثماره في مساءلة “اللامفكر فيه” دون تصادم هووي أو ادعاء للسيطرة.

4. تعددية الحقول وتكامل المفاهيم

ما يميز مشروع أفاية، مقارنة بكبار المفكرين العرب، هو رفضه بناء مشروع فلسفي مغلق على غرار ما فعله الجابري أو نصار، واختياره عوض ذلك الانخراط في سجالات متعددة دون الإذعان لأي نمط معياري أو منهجي واحد. فهو ينتقل بسلاسة بين تحليل الصورة والسينما، إلى قضايا الهوية والاعتراف، ثم إلى الحداثة والتواصل، فالنهضة والعولمة، دون أن يشعر القارئ بفجوات منهجية أو تناقضات بنيوية.

إن فلسفة أفاية تقوم على ما يسميه بـ”الانفتاح النقدي”، وهو ما يعني تفكيك الموضوعات لا اختيارها، وقلب الإشكالات حسب ما يفرضه الواقع لا حسب ما يمليه المفكر. كما دعا في أكثر من مناسبة إلى إخضاع كتاباته ذاتها للنقد، باعتبار أن “النقد هو دينامية التفكير وتطوير له ضد كل ركود” (4)

خاتمة:

إن مشروع محمد نور الدين أفاية هو رهان فلسفي على النقد لا بوصفه مجرد أداة، بل باعتباره نمطًا من التفكير والعيش والمساءلة. إنه مشروع يراهن على عقلانية مفتوحة، غير مكتفية بذاتها، غير مغلقة على تراثها، ولا مستسلمة أمام المركزية الغربية. وهو بهذا يقدّم مساهمة نوعية في تفكيك السرديات المهيمنة على الفكر العربي، ويدعو إلى معالجة استشكالات الراهن بمعرفة يقظة وفكر متجدد.

إن فكر أفاية يعلمنا أن “الفلسفة ليست فقط تاريخًا للأفكار، بل هي ورشة مفتوحة للتداول والنقد والمرونة”، وأن المفكر الحق هو من يقبل أن يكون موضع مساءلة دائمة، داخل التاريخ وضده، من أجل مستقبل أكثر عدلاً وتفكيرًا وحيوية.

_________

1.    النقد الفلسفي المعاصر،مصادره الغربية وتجلياته العربية، محمد نور الدين أفاية، أفريقيا الشرق، 2013، الدار البيضاء، ص 33.

2.    الوعي والاعتراف،الممكن والممتنع في الفلسفة والثقافة العربية المعاصرة، محمد نور الدين أفاية، أفريقيا الشرق، 2019، الدار البيضاء، ص 7.

3.    الزمن المنفلت،التأويل والحجاج والنقد الفلسفي، محمد نور الدين أفاية، أفريقيا الشرق، 2015، الدار البيضاء، ص 59.

4.    الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، محمد نور الدين أفاية، أفريقيا الشرق، 2006، الدار البيضاء، ص 41.

5.    الهوية والاختلاف،قراءة في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، محمد نور الدين أفاية، أفريقيا الشرق، 2002، الدار البيضاء، ص 84.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد