السُّؤال في عين كونِه جوابًا

تمهيد
كيف للسؤال أن يُرقَّى إلى المنزلة التي يكون فيها عينَ الجواب عن واقعٍ لم يظهر أثرُ وقوعِهِ بعد؟..
ينقلنا هذا السؤال عن السؤال إلى حقلٍ معرفيٍّ نميل إلى وصفه بـ “الوقوع الذاتيِّ” للإجابة في قلب الاستفهام. و”الوقوع الذاتيُّ” الذي نعنيه، هو ذاك الذي يشير إلى واحديَّة السؤال والجواب، واستحالة انفكاك أحدهما عن نظيره. يعمل السؤال على شاكلة الجواب، ولولا هذا لما حقَّت استجابةٌ ولا استحقَّ فهم. تَبَعًا لعمل الشاكلة لا يكون السؤالُ عينَ جوابه ما لم يكونا معًا من جنسيَّةٍ واحدة. فالسؤال الخطأ لا مناص له من الجواب الخطأ. والمنطق نفسه يصحُّ كذلك على السؤال الصائب وجوابه. بهذا سنكون بإزاء كائنيَّة واحدة، مهمَّتها الاستفهام والتعرُّف على ما تختزنه حضرات الوجود من لطائفَ وكثائفَ لا حصر لها.
- السُّؤال في منزلة كونهِ رغبةً واعية
تلقاءَ ما نقصدُه من بحثنا الذي أقمناه تحت عنوان “السؤال في عين كونه جوابًا”، نرانا نمضي بلا ريب إلى مسرح الميتافيزيقا. هنالك سنرى أنَّ كلَّ استفهام عن شيءٍ- سواء كان ظاهرًا أم خفِيًّا- هو استفهام ميتافيزيقي. فللإنسان – بوصفه كائنًا ميتافيزيقيًّا – القدرةُ على مساءلة الأشياء، والاستفهام عن الغاية من حدوثها أنَّى كانت عصّيَّة على الفهم. والقدرةُ الاستفهاميَّة في حقيقةِ أمرِها إعلانٌ عن فرادة كائنٍ يُسائلُ نفسه في سرِّها وعلانيتها، ويُسائلُ الوجود في ظهوره واستتاره. هذه المساءلة المركَّبة التي اختُصَّ بها الإنسان، تمنحه – من دون سواه – إرادة التعرُّف على ما يظهر وما يحتجب، بوصفهما عالميَن لا يفصل بينهما إلَّا فاصلُ الظنِّ والاعتبار. فالسؤال في عالم الظهور سعيٌ لفهم طبائع الممكنات وإدراك الغاية من وجودها. أما السؤال عن العالم المستتر بذاته، فبذلٌ فوق عاديٍّ لاكتناهِ ما يقع فوق استدلالات العقل الأدنى ومقولاته: كالاستفهام عن سرِّ الغيب، ومقصد الوحي، وخلود النفس. في المدوَّنة الفلسفيَّة الكلاسيكيَّة – كما هو معلوم – تتأسَّس نظريَّة معرفة عالم الممكنات والسؤال عنها على مبدأين- كما هو معلوم-: أ-عدم التناقض- ب- العلَّة الكافية. وتبعًا لهذين المبدأين ليس ثمَّة من واقعة يمكن أن تكون حقيقيَّة أو موجودة، من دون علَّة كافية تفسِّر لنا لماذا كانت هذه الواقعة على الصورة التي ظهرت فيها، وليس على صورة أخرى. ولبيان ما ذهبنا إليه، ينبغي أن يتوفَّر شرطان: أوَّلًا، أن يوجد على الدوام أساسٌ ما للعلاقة الرابطة بين عناصر قضيَّة ما، وهو أساس يجب أن يوجد في تصوُّرها. وينبغي ثانيًا، الإيقان بأن لا شيء يحدث من دون أن يكون لحدوثه علَّة ما، وأنَّ كلَّ ما يوجد يستمدُّ كيانه من علَّة كافية تفصح لنا لماذا وُجد هذا الشيء بدلًا من عدم وجوده. مثل هذه الأسئلة والتساؤلات هي بلا شكٍّ، ذات طبيعة ميتافيزيقيَّة، وإن كانت تستهدف الموجود الفيزيائيّ كموجود ممكن. فإذا كان الممكن (Le Possible) هو الذي لا يؤدّي نقيضه إلى تناقض، حيث يكون جوهره له، أي أنَّ هذا الجوهر ليس شيئًا آخر خارج دنيا الممكنات. بل إنَّ هذه الممكنات في مظهرها وجوهرها أمرٌ واحدٌ، وبالتالي، فإنها من أمر الله ومرعيَّةٌ بعنايته، وموجودة منذ الأزل في علمه. وعليه، فإن الممكن الذي صار واقعاً، لن
يكون واقعًا إلَّا لأنَّ الله قد رأى الخير الذي تضمَّنه. ولأنَّ الممكن مرعيٌّ بالعناية الإلهيَّة، فقد حظي بفعلية التمكين بمعنى أنَّه ممكنٌ متماكن (compossible) كما يقرِّر ليبنتز (1646- 1717). والمتماكن هو الذي يصل إلى درجة من الكمال تجعله خليقًا بالتحقيق. ولأنَّه “متماكن” فهو يتضمَّن ميلًا إلى الوجود. إلَّا أنَّه بهذه المواصفة يظلُّ ناقصاً، (Ens diminutum) ولا يكتمل إلَّا إذا أُنجز وجوده في الواقع. وعندما يُنجَزُ وقوعُه يصبح السؤال عنه ناجزًا ذهنًا وعينًا، وحضورًا وغيابًا. مع كل هذا، لا يعني وجود الممكن، من جهة إمكانه، أنَّه يتحوَّل بالضرورة الى واقع؛ إذ لو تحوَّل كلُّ ممكن إلى واقع، لأصبح كلُّ ما في العالم ضروريًّا، ويفقد الخلقُ بذلك دلالاته، إذ يعسر وقتها أن نتحدَّث عن إرادة خلقٍ تميِّز فعل الله. [ليبنتز – مقالة في الميتافيزيقا].
ما تقدَّم يفضي إلى ما يلي: حتى يكون السؤال سؤالًا ذا غاية وعن غاية، لا بدَّ له من الجمع الواعي بين ما يتراءى للعيان، وما لا يتراءى لها، ومن ثمَّ النظر إليهما يلتقيان في غاية واحدة. تلك مسألة لا يفقه مغزاها أولئك الذين أنكروا العلل الغائيَّة في العلوم الطبيعيَّة والميتافيزيقا. فالذي فعله هؤلاء أنهم اقترفوا عيبًا موصوفًا حيث جحدوا بما هو بديهيّ. كان الأحرى بهم في حالٍ كهذه، أن ينكروا أيضًا سيْريَّة العِللَ في ميدان المنطق. فالعلل الغائيَّة أنَّى تنوَّعت مراكبها، أو اختلفت ألوانها، تبقى ضرورة لِسويَّة الفهم في الظهور والاحتجاب. فلو لم يكن للسؤال غاية في نفس السائل لما أخرجه السائلُ من كمونِه. ولمَّا أن كانت غاية السؤال عين المعرفة بأطوارها ومراتبها المشرعة على الَّلامتناهي، كان هذا دليلًا على استحالة أن يُبدي السائلُ سؤالَه من دون معرفة قَبْليَّة بالغاية من إبدائه. فإنك عندما تسأل عن شيء،، تكون أدركتَ بفطرة التعقُّل ماهيَّة هذا الشيء؛ أمَّا الاستفسار عنه من بعد ذلك، فليس سوى طلب الإحاطة بصورته البادية في عالم الحسّ. فلئن عرفتَ ماهيَّة كلِّ موجود بما هو عليه في خفائه، ستعرفه بما هو عليه في ظهوره. وبهذه العبرة يصير الموجود المستَفهمُ عنه ناطقًا بحقيقته، شاهرًا للملأ ماهيَّته وهوّيَّتَه. ومن هذا الوجه تصير العمليَّة الاستفهاميَّة، أدنى إلى استدعاءٍ صريحٍ للجواب الكامن في قرارة الذَّات السائلة.
الذي مرَّ قولُه، قانونٌ يسري “على” المبدأ الأول، و”منه” إلى سائر مبادئ الطبيعة وقوانينها. السؤال عن المبدأ، وفقًا لهذا القانون، لا يُحصَّل إلَّا من عقلٍ قاصدٍ وذي غاية. والعقلُ القاصدُ حين يسأل عن الأصل، يستشعر هذا الأصل بقدرة استفهاميَّة غير مألوفة في محسوبات العقل الأدنى ومقاديره. ذلك بأنَّ العقل في أطواره الامتداديَّة يستطيع أن يشهد على ذات الشيء، لا على مظهره وحسب. أي أنَّه قادرٌ على شهود الشيء في ذاتِهِ، خلافَ ما زعمت الفلسفة الأولى باستحالة التعرُّف إليه. والشهود دالٌ على أنَّ بإمكان العقل أن يذوق الأثر الآتي من خفاء الشيء في ذاته، فيعرف الشاهد من أثر الشيء ما خَفِيَ عليه من تلك الذات. ها هنا نفهم كيف أنَّ الاستفهام عن المبدأ بلسان العقل الممتدِّ هو في ذاته إعرابٌ عن رغبة واثقة في استكشاف ما عَسُرَ كشفُه بالقياس والاستدلال. معنى هذا، أن لا يكون للسؤال منفسحٌ للصدور إلَّا من رغبة واعية. تلك التي لا يَسَعُها إلَّا عقلٌ يتمدَّد إلى الماوراء ويشهد عليه. لذا يصير من غير الجائز النظر إليها باعتبارها مجرَّد فضول يُراد منه علمٌ عارضٌ بأشياء متحوِّلة ومجهولة في كينونة الإنسان، أو في عالم الطبيعة، فضلًا عن عالم الأفكار. إنَّما الرَّغبة الواعية إدراكٌ وإرادةٌ وانهمامٌ عالٍ بوجوب الإنجاز. بل هي قبل أيِّ شيء، شغفٌ حميمٌ باستكشاف المخبوء، والسرِّيِّ، وغير المتوقَّع من عالَمَيْ النفس والكون. والذين ظنُّوا أنَّ العقل هو الحاكم الأخير على تفكير الإنسان ومسلَكهِ، لم يهبطوا إلى قاع الوعي ليشهدوا على الرَّغبة الناشطة هناك، تلك التي تحرِّك العقل متى أصابه أو حلَّ به كسل. بل غالبًا ما ينخدع الإنسان حين يتناهى إليه أنَّ وعيه العقلانيَّ هو الذي يقوده ويرسم له معالم الطريق إلى بلوغ الغاية، بينما ثمَّة في الأعماق قوَّة خفيَّة لا تخضع لمنطق العقل، ولا تصغي إلَّا لمنطقها الخاصّ. تلك التي تحيا انفعالاتها وأفعالها على نحوٍ تصبح فيه إجراءات العقل كلُّها مجرَّد مساحة متلقّية لسلطاتها وحاكميَّتها على أسئلة الوجود كلِّها. لهذا سيتبيَّن لنا كيف ينظر الكائن ذو الرَّغبة الواعية، بعينٍ مدركةٍ إلى نفسه، وإلى العالم الذي هو فيه. ثمَّ سنرى كيف يمضي في فضول الاستفهام إلى تحصيل مساحات أوسعَ ممَّا غمُض عليه من إجابات آمنة. تبعًا لهذه الخصوصيَّة، سيحظى سؤاله بمفارقات ونعوتٍ ما كانت لتكون لو لم تتأتَّ من طبيعته الفريدة. وبسببٍ من هذه المفارقات والنعوت تستوي ملحمة الاستفهام لديه على منشأ ميتافيزيقيٍّ مُفارِق تتعدَّد فيه منازل السؤال، من دون أن يحدث أيُّ تناقض بين منزل ومنزل. حتى ليبدو الحال، كما لو أنَّ كلَّ سؤال عن الله والكون والإنسان ينال نصيبه من الإجابة بمقدارٍ يناسب النُزُل التي يحلُّ فيها. ولأنَّ جَريَان الأسئلة جميعًا يتمُّ تحت رعاية طور “ما بعديٍّ” في علم الوجود، فقد اكتسبت(هذه الأسئلة) مفارقاتها وصفاتها ونعوتها الأصيلة، بينما هي على تواصل وطيد مع مبدإها الأول. ربما لهذا سيقال، إنَّ لسؤال المبدأ – المستوعِبِ للممكن والمحسوس والمجاوز له- منزلةً عظمى يفارق الإنسان معها سائر الكائنات، ويكون موصولًا بها في الآن عينه. خاصِّيَّةُ هذه المنزلة أنَّها ترقى به فتحيلُه إنسانًا يعقل نفسه، كما يعقل الكينونة، فيسائلها ويتدبَّر أمره فيها طبقًا لصراطها وقوانين الألوهيَّة التي فيها. هنا على وجه الدقَّة نستطيع فهم معنى الاستفهام – لدى صاحب هذه المرتبة – إذ يؤدّي مهمَّة وجوديَّة تضمُّ المتناهي إلى الَّلامتناهي على نحوٍ يصير السؤال فيهما عينَ الجواب عنهما.
- السُّؤال وجوابُه: واحديَّةٌ بصيغة المثنَّى
لمَّا قيل إنَّ السؤال حركة ممتدَّة من المجهول طلبًا إلى معلومٍ ما، فقد دلَّ هذا على رغبة الفكر في الامتداد إلى ما لا يتوقَّف فيه عند حدّ. ولو شئنا لَظَهَر لنا كيف يتبوَّأ السؤال الطَّالع من الشعورِ القصيِّ عرش الفكر ليفتِّح له الآفاق ويمنحه الجواب الآمن. وإذا كان الجواب غالبًا يبدو شقاءً للسؤال، فلأنَّه بهذا المعنى يغدو أقرب إلى دعوة مفتوحة على أسئلة لا نهاية لها، الأمر الذي يستولد هلعًا لدى السائل، ظنًّا منه أنَّ الحصول على الجواب قد يدخله لجُّة أسئلة واستفهامات لا تنتهي إلى يقين. مع ذلك، فإنَّ هذا القول لا يشير إلى أنَّ الجواب شقيٌّ في ذاته. فالمجيب يبقى على ارتباطه الذاتي بالسائل حيث يترجم جوابه الَّلحظة التي ينضج فيها السؤال ضمن ما نسميه بـ “زوجية المثنى”.
فالاستفهام والإجابة في هذا المطرح، شأنهما شأن كلِّ موجود استوت نشأته على مبدأ الزوجيَّة. كلٌّ من طرفَيْ هذا المبدأ يتمِّمُ نظيرَه وهو في غاية الرِّضى. إنَّهما في الآن عينه “ما قبلُ وما بعدُ”، ذلك بأنَّ الواحد متضمَّنٌ في قلب نظيره ولا يغادره قطّ. فالسؤال القاطن في جوف الإجابة، هو أشبه بحبل متين يمتدُّ من الجهل إلى العلم، وحركته بينهما امتدادٌ جوهريٌّ تنساب معها البداية في النهاية، والنهاية في البداية، على نصاب الواحديَّة التامَّة. فلو حصل تقدُّم أو تأخُّر في طلوع العلم من الجهل، فذلك عائد إلى الشروط الفيزيائيَّة التي تحكم الوعي البشريَّ ضمن دائرة الزمان والمكان. أمَّا الحقيقة فهي السَّرَيان الجوهريُّ الذي يتوقَّف انكشافه على التناسب بين السؤال والجواب.
المفارقة العظمى في مبدأ الزوجيَّة، أنَّ السؤال حين يكون عين الجواب، فإنَّه يبطل المغالطة الشائعة حول انفصال أحدهما عن نظيره. السؤال بما هو سؤال لا يعوَّل عليه من دون موضوع يحمله.. ذلك بأنَّ موضوعَه هو إيَّاه الإجابة التي جرى استدعاؤها من قلب السؤال نفسه. عندما نبدي سؤالًا عن شيء، فلن يكون هذا السؤال معزولًا عن ذلك الشيء. وهنا تكمن خصوصيَّة المثنَّى كمفهوم لا نظير له بين المفاهيم. فالمثنَّى واحد وإن تركَّب من صورتين. ثمَّ إنَّ كلًّا من هاتين الصورتين المؤلِّفتين لكيانه، إنَّما هي صفة من صفات واحديَّته. لذلك صار السؤال وجوابه جوهرًا يتجلَّى في واحديَّة المثنَّى.
السؤال إذًا، مفطور على المثنَّى. مبنيٌّ على تلازم وثيق الصلة بجوابه في حضرة الزوجيَّة. وهذه الخاصِّيَّة التكوينيَّة للسؤال أكسبته صفة الحضور المركَّب في الميتافيزيقا وظاهريَّات التاريخ. لكنَّ الشيء الأهمَّ والأعمق في طبيعته، أنَّه ليس مجرَّد علاقة توسُّطيَّة بين مجهول ومعلوم. إنَّه أبعد من ذلك، بل وأعمق تأثيرًا ممَّا تنطوي عليه كلمة علاقة من معانٍ ودلالات. من سمات “العلاقة” كونها مقولة بسيطة لا تُدرَك إلَّا بالتركيب؛ إنَّها مولود بديهيٌّ لقوانين هذا العالم المتناقض والكثيف ولا تقوم إلَّا به. فالعلاقة لا تحدث إلَّا بين واقعين وأكثر. وإن لم توجد الحدود والوقائع فلا وجود لشيء اسمه علاقة. فالعلاقة ـ على ما تنظر الفلسفة الأولى ـ من أوهن مقولات الفكر، بل إنَّها الأكثر زوالًا وتبدُّلًا. بينما السؤال لا يزول كهوّيَّة ودور ولا يتبدَّل كماهيَّة وجوهر. غير أنَّ المفارقة في العلاقة هي أنَّها موجودة مع كونها غير قائمة بذاتها. بها تظهر الأشياء متَّحدة من دون أن تختلط، ومتميّزة من دون أن تتفكَّك. وبها تنتظم الأشياء، وتتألَّف فكرة الكون. إنَّها تقتضي الوحدة والكثرة في آن. هي واحدة، وكثيرة بحكم خصيصة الأُلفة التي حظيت بها بين البساطة والتركيب. على صعيد الفكر تربط (العلاقة) بين مواضيع فكريَّة مختلفة، وتجمعها في إدراك عقليٍّ واحد، تارة بسببيَّة، وأخرى بتشابه أو تضادٍّ، وثالثة بقُرب أو بُعد. أمَّا على صعيد الواقع فإنَّها تجمع بين أقسام كيان واقعيٍّ أو بين كائنات كاملة محافظة عليها في تعدُّدها. وهكذا يستحيل تقديم توصيف محدَّد للعلاقة، حيث لا وجود مستقلّ لها. إنَّها كالماهيَّة من وجهٍ ما، لا موجودة ولا معدومة إلَّا إذا عرض عليها الوجود لتكون به ويكون بها. لذلك سيقول عنها أرسطو إنَّها واحدة من المقولات العشر، وهي عَرَضٌ يظهر لدى الكائن بمثابة اتِّجاه. أي أنَّها صوب آخر، تطلُّع، ميلٌ، مرجعٌ، ويقتضي دائمًا لظهوره وجود كائنين متقابلين على الأقلّ. صاحب العلاقة وقطبها الآخر، ثمَّ الاتصال بينهما.[1]
تَظهرُ العلاقة في ميتافيزيقا السؤال على خلاف ما انطوت عليه في كلاسيكيَّات الفلسفة. فالسؤال والجواب – كما مرَّ معنا – لا يرتبطان بعلاقة، بقدر ما يؤلِّفان معًا كينونة واحدة مصانةً بأصالة المبدأ ووحدته. قد يتميَّز شيئان متباينان أحدهما عن الآخر، إمَّا بتنوُّع صفات هذه الجواهر، أو بتنوُّع أعراض هذه الجواهر، فلو وجدت جواهر عدَّة متميّزة بعضها عن بعض لكان تميُّزها إمَّا بتنوُّع الصفات أو بتنوُّع الأعراض. إذا كان تميُّزها بتنوُّع الصفات فحسب، فسنسلِّم إذًا بأنَّه لا يوجد غير جوهر واحد للصِّفة الواحدة. وإذا كان تميُّزهما بتنوُّع الأعراض، وبما أنَّ الجوهر متقدِّم بالطبع على أعراضه، فإنَّنا لا نستطيع، -إن نحن أبعدنا الأعراض واعتبرنا الجوهر في ذاته، أي من منظور الحقيقة – أن نتصوَّره متميّزًا عن جوهر آخر. بمعنى أنَّه لا يمكن أن يوجد في الطبيعة جوهران لهما صفة واحدة، أي أنَّهما يتَّفقان في شيء ما. وتبعًا لذلك فإنَّه لا يمكن لأحدهما أن يكون علَّة للآخر، بمعنى أنَّه لا يمكن لأحدهما أن ينتج من الآخر. وما يبرهن على هذه القضيَّة أنَّه لو أمكن للجوهر أن ينتج من شيء آخر لكانت معرفته متوقِّفة على معرفة علَّته، وبالتالي لما كان الجوهر جوهرًا.[2] في ميتافيزيقا علم المبدأ، لا يعمل السؤال وجوابه خارج المثنَّى.. ولا يرتضي لنفسه أن يكون انشقاق الواحد عن الإثنين، بحيث لو تآلف هذان الإثنان من بعد المكابدة في مشقَّة التناقض، لظهر كثالث يروح يستعيد استبداد الأنا بالغير ليصبح أولًا من جديد. بهذه الصيرورة لا يُشتقُّ السؤال وجوابه من نقيضين: الأنا السائلة والآخر المجيب. بل بوصفه إرادة استفهام هو ممَّا يُشتقُّ منه، نظرًا لأصالته وفعاليَّاته التوليديَّة. يستطيع صاحب السؤال أن يتمثَّل حال سواه ويكونه، بشرط أن يعقد النيَّة على الخروج من كهف الغيريَّة القاتمة واحترابها. ففي هذا الكهف تحتدم الأنا مع كلِّ من يغايرها هويَّتها. وفي هذه الحال يستحيل كلٌّ منهما نقيضين متنافرين لا يلتقيان على كلمة سواء. بل قد يسعى كلٌّ منهما إلى تدمير نظيره، أو- في أحسن حال – ليقيم معه توازنَ هلعٍ لا يلبث بعد هنيهةٍ أن ينفجر لتصيب شظاياه الإثنين معًا.
في السؤال الذي ينمو في واحديَّة المثنَّى يصير كلُّ شيء بالنسبة إليه قابلًا لسَرَيان الزوجيَّة الخلَّاقة في الوجود. لقد صار الأمر بيّنًا لمن رأى نقيضه قائمًا في ذاته، وفي هذه الحال لا حاجة لأحدٍ من طرفَي الزوجيَّة إلى البحث عن صاحبه في غير ذات زوجهِ، لأنَّ كلًّا من الزوجين النقيضين قائمٌ في ذات الآخر، وكلٌّ منهما يحسُّ بزوجهِ، ولولا رؤية كلٍّ من الباطن والظاهر قائمًا في الآخر لما استطاع الإنسان التكيُّف وتناقضات الزمان والمكان وفهم معاني الأشياء ودلالاتها. ربما لهذا كان علمُنا بباطن الشيء سببًا للعلم بظاهره ضرورة وبداهة والعكس بالعكس. فلو علمتَ أنَّ الحركة في كلٍّ من الزوجين النقيضين من كلِّ شيء، تنتهي وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، لوجدت أنَّ السبب في ذلك إنَّما هو من أجل أن تظلَّ مستمرَّة دائمًا وأبدًا. فالشيء المتحرِّك الذي تنتهي حركته في أحد الزوجين وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، إنَّما هي حركةٌ مستمرةٌ لا تتوقَّف، وفيها تتمثَّل الصلة بين الخالق والمخلوق،- وبين النظير ونظيره-، وذلك في صورة رحمته التي وسعت كلَّ شيء. وفي استمرار هذه الصلة المتبادلة على السواء والتعادل المتبادل، يتجلَّى سرُّ هذا الوجود في صورة قيام النهاية في البداية والبداية في النهاية في كلِّ شيء. فإذا نظرت مثلًا إلى معنى التزاوج الذي يتَّجه إلى الاتِّصال مستقلًّا عن معنى التجاوز الذي يتَّجه إلى تعدّي الشيء الذي تتجاوزه منفصلًا عنه، وجدت أنَّه ليس إلى تعرُّف أيٍّ منهما من سبيل إلَّا من خلال الآخر.
إذا كان المثنَّى يقوم على الضدِّية في إطار التماثل والانسجام والتكامل. فالاثنينيَّة قائمة على جدليَّة التناقض. لذا، تختزن الضدّيَّة أمرين متضادَّين مرتبطين برباط واحد، وهو المبدأ نفسه الذي ينحكم إليه إيقاع الكون ونظامه، فالنور والظلمة في النهار والليل ثنائيَّة ضديَّة يجمعها اليوم، والفرح والحزن متضادَّان، ويختفي أحدهما وراء الآخر، وكذلك النجاح والفشل، والغنى والفقر، والعلم والجهل…. في حين تقوم علاقة التناقض على مبدأ النفي والاقصاء وإعدام النظير.
أمَّا في المحلِّ الذي ينضج فيه السؤال ليُستفهم به ومنه عن الماوراء، تصبح الأضداد أساسًا للجمع والتناغم بدل الوحدة والقسمة والتشظّي. وعليه، فإنَّ للسؤال في الماوراء مقامًا مخصوصًا يعتني بالاستفهام عن الكيفيَّة التي ينتظم فيها شأن العالم، حيث تنشأ ضروب غير مألوفة من الاستفهامات حول الحكمة الأنطولوجيَّة من جمع الأضداد وانعدام التناقض.
- طبائع السُّؤال الفلسفيِّ ورغائبه
عند أول أمرها تخرَّجت الفلسفة من رحم السؤال. لأجل هذا سيظهر الاستفهام عن سرِّ الكينونة والغاية من وجود الكائن الواعي كما لو كان رغبة تفلسُفٍ يُراد لها الكشف عن الميقات الذي نضج فيه العقل البشريُّ ليسأل عمَّا يتعدَّى فيزياء العالم. لكأنَّنا حيال السؤال عن الموجود، ولماذا صار الموجود موجودًا بدلًا من العدم، هو سؤالٌ جاء في أوانه. ولنا أن نعترف أنَّ سؤال الميتافيزيقا ولو لم يُجب عليه، جاء مناسبًا للميقات. ربما لهذا السبب صحَّ أمرُه وسرى بيانُه إلى يومنا هذا. لكنَّ السؤال الأرسطيَّ – على سموِّ شأنه في ترتيب بيت العقل – سيتحوَّل بعد برهة من زمن، إلى علّةٍ سالبة لفعاليَّات العقل وقابليَّته للامتداد. وما هذا إلَّا لحَيْرة حلَّت على أرسطو فأمسك عن مواصلة السؤال، بعدما أعرَضَ عن مصادقة الأصل الذي أطلَّ منه الموجود على ساحة الوجود. الحاصل أنَّ فيلسوف “ما بعد الطبيعة” مكث في الطبيعة وآَنَسَ لها فكانت له سلواه العظمى. رضي أرسطو بما تحت مرمى النظر ليؤدّي وظيفته كمعلِّم أول لحركة العقل. ومع أنَّه أقرَّ بالمحرِّك الأول، إلَّا أنَّ انسحاره بعالم الإمكان أبقاه سجين المقولات العشر. ثمَّ لمَّا تأمُّل مقولة الجوهر وسأل عمَّن أصدرها عاد إلى حَيْرته الأولى. على ذلك، يبيّنُ لنا كيف أنَّ استيطان الفيلسوف في عالم الممكنات قد أفضى به في الغالب إلى الجحود بما لم يستطع نَيْلًه من دابَّة العقل. لكنَّ حَيْرة زائدة عن حدِّها ستجيئه على حين غفلة، فلا يجد معها مخرجًا. ثمَّ سيكون عليه أن يسترجع ما اقترفه من ظنون، من أجل أن يكتشف مصدر حيرته. حتى لتبدو أحواله وقتئذٍ كذاك الذي دخل المتاهة ولن يبرحها أبدًا.
الفلسفة إذًا، سليلة القلق الذي غالبًا ما ينتهي إلى الغمّ.. فإنَّها تسأل وتتساءل وغالبًا ما تنمو إجاباتها وسط مُنفسَحَات الظنّ. مع ذلك، فمن دون القلق ما كان للسؤال عن مواقيت الأشياء وحقائقها أن يبتني عرشه في حقول الفكر. وإذ يجتاح القلقُ العقلَ على حين مباغتة، يصير كلُّ جواب عن مسألةٍ ما، ضاجًّا بالقلق أو أنَّه في أحسن الأحوال، سيبدو مشوبًا بالرّيب والتحيُّر. أمَّا فضل القلق على الفلسفة ففي أنَّها صارت معه حقلًا خصيبًا لاستنبات الأسئلة وعلامات الاستفهام. لهذا غدا كلُّ سؤال تعلنه الفلسفة مثقلًا بحوامل الموجودات وعروضها. وسنجد كيف اكتظَّت بياناتها بألوان الظنون، وهي تُسلِّم أمرها لسلطان العقل الصارم. بسبب من ذاك الحال، غالبًا ما دارت فكرة الفيلسوف مدار الفراغ العجيب. هنالك حيث تتخطًّفه جواذب السؤال لتلقي به في عالم غريب من أشياء تظهر له كلَّ حين بآلاف الألوان. إذ كلَّما بَسَطَ يَدَه على شيء من أجل أن يتعرَّف إليه، انزلق من بين أصابعه ككائنٍ زئبقيٍّ، فلا يأتيه من بعد ذلك نفعٌ ولا ضرٌّ.. وهكذا يظهر أنَّ الفيلسوف المأخوذ في حَيْرته كما لو كان في دوَّامة لا مخرج لها. سؤالُه فيها حائرٌ وجوابُه حائرٌ. لهذا السبب وجدناه كيف نأى من أرض اليقين واستطاب الإقامة في دنيا الأسئلة الفانية. من أجل ذلك سيكتب على نفسه أن يتعرَّف إلى الأشياء كما هي في ذاتها؛ وأن يقتفي أثر الأحداث والظواهر قصد تحرِّي عِللِهَا وأسبابها والنتائج المترتِّبة عليها. وما ذاك إلَّا لأنَّه مفتونٌ بما هو فيه، ومأخوذٌ بالظنِّ أنَّ الاهتداء إلى الحقيقيِّ والعقلانيِّ إنَّما يمرُّ عبر الحواسِّ وما استدلَّ عليه الذهن.
كثيرون ممَّن عيّنوا مقصدًا للسؤال الفلسفيِّ اتَّفقوا على فضائله التي لا تُحدّ. قالوا إنَّ الفلسفة تستحقُّ أن تُدرَس ليس فقط من أجل أن نجد فيها أجوبة دقيقة على الأسئلة التي تطرحها، بل بسبب قيمة الأسئلة ذاتها. ثمَّ أضافوا إلى ما ذكروا أنَّ مهمَّة السؤال لمَّا اعتلى عرش الفلسفة أن يكشف للسائل ما ينبغي كشفه من استتار العالم واحتجابه. لذا كان الاستفهام الجداليُّ في الفلسفة فعلًا عقليًّا محمولًا على رغبة جامحة للاستعلام عن المحتجب. على التوازي مع هذا النَّسق، يجد الكائن الإنسانيُّ نفسه تلقاء سؤاله عن ذاته، والاستفسار عن شرط وجوده ومعناه. والإنسان كما نقرِّر الفلسفة منذ أول عهدها، هو كائن سِمتُهُ الجدل، أو أنَّه الموجود الوحيد الذي له القدرة على إحراز فضيلة الإدراك والفهم بالمساءلة. إذ كلُّ “موجود” في العالم يصير سؤالًا موجَّهًا إليه بما هو موجودٌ واعٍ وعلى أنحاء شتّى:
– في نحو علم الوجود (الأنطولوجيا): السؤال كفعل وجوديّ.
– في نحو الميتافيزيقا: استكشاف للسؤال كمرآة للذات والَّلانهائيّ.
– في نحو الإلهيَّات: سؤال الله كفعلٍ خالق للعالم. إذ إنَّ فعل الخلق سؤال وجواب في أمر واحد.
– في نحو علاقة الإنسان بالموجود: تأمُّلٌ في الكيفيَّة التي تصوغ منها الموجودات أسئلتها وترسلها إلينا.
4- عقل الفلسفة وفتنة الفراغ العجيب
من المفارقات العجيبة أن تكتفي الفلسفة بنعماء السؤال من دون أن ترجو له جوابًا. وبسبب هذا الاكتفاء سيتحوَّل السؤال بجميع أطواره إلى ضربٍ من إدمان لا شفاء منه، ثمَّ إلى طقسٍ مديد يمارسه الفكر ويسكن إليه أمدًا طويلًا. عند ظهور النتائج سيكون للفلسفة من حصاد عملها صدعٌ تكوينيٌّ لا سبيل إلى ردمه. فالعقل المحض الذي أنتج السؤال المحض بات أسير الاستفهام المفتوح على الَّلايقين. الأمر الذي تأدَّى إلى ولادة عالم تاهَ ساكنوه بسيل من الاستفهامات من دون أن يفيدوا منه بإجابة مطمئنة. وعلى دربتها المسكونة بصيرورة الانتقال من المجهول إلى المعلوم، يظلُّ السائل في ميادين الفلسفة يسأل حتى يتبدَّد السؤال.. وحين يصل إلى تلك المنطقة من السديميَّة وامتناع الطلب، يجد نفسه كما لو كان على حافَّة الفراغ العجيب. ثمَّ إنَّه سيكون تلقاء أحد سبيلين: إمَّا التطيُّر والسقوط في لجَّة العدم، وإمَّا أن يغمره الأنس الأتمُّ ويعود الكون كلُّه على كثرتهِ وكدرهِ حضرة رحمانيَّة واحدة …
والفراغ العجيب الذي استولدته الفلسفة السائلة، هو حاصل خوضٍ مرير في صحراء المعنى. الخائضُ فيها محمولٌ على الظنِّ، أنَّ السؤال المُستَنْبَتَ من حجَّة العقلِ قد يكون كفيلًا بجعلنا ننحني لظهور الحقيقة. لكنْ الظانُّ إيَّاه غالبًا ما يغفل عن أمرٍ يؤيِّده العقل نفسه، وهو أنَّ السؤال الذي اُتُخِذَ سلاحًا أوحَدَ لنيل الحقيقة المدَّعاة، سوف يمسي مع الزمن داءً لا شفاء منه. كلَّما انتهى من سؤال ابتدأ بآخر. ثمَّ تتوالد الأسئلة إلى غير نهاية. حتى ليصير الخائضُ في الُّلجَّة كالظمآن المضطرِّ لماء البحر، كلَّما شرب امتلأ منه ازداد عطشًا. في هذه الآونة يمسكُ السائلَ المتعبَ حالٌ مُفارقٌ لا استشعار فيه للمكان ولا للزمان، حتى ليخال الذي هو ساكن فيه، كما لو كان في تيهٍ لا مُمْسِكَ له. أو لكأنَّه شيء محاطٌ بالَّلاشيء. يبدو كما لو أنَّه غريبٌ في دنياه. لا يجد ما يؤنسه في غربته سوى علامات استفهام وإشارات تعجُّب أو اندفاعة إلى هلعٍ لا قرار له. ثمَّ كيف له ألَّا يهلع وهو كمثل الواقف بقدمين مهزوزتين يوشك على السقوط من منحدر شاهق؟…
الممتحنُ في “الفراغ العجيب” يستشعر في نفسه ضدَّين يتنازعان بلا هوادة: ضدٌّ يصرُفه عن الامتلاء ليبقيه في بئرٍ دهريَّة بلا ماء، وضدٌّ يتطلَّع إلى الانعتاق ولا يجد إلى ذلك سبيلًا.. ولولا أن بقي للممتحن حظُّ من العقل والرجاء لمكث في جوف الظلمة أبدًا. فما على الداخل إليه حالئذٍ إلَّا أن يأخذ بناصية نفسه ويتخيَّر: إمَّا التلاشي في عتمة الفراغ، أو النموّ تحت شمس الحضور المنفتح على الأبديَّة. إلَّا أنَّه سيبقى محمولًا على التساؤل الأليم: وهل تأتي وَخَزَاتُ الشكِّ من عند غير العقل؟ ولولا أن أصرَّ العقلُ على كبريائه الأرضيِّ لَمَا مَكَثَ في كهفه دهرًا يكابدُ رمضاءَ الجهل. وما الألم المرتَّبُ على السؤال المكتظِّ بالشكِّ إلَّا جزاء ما اقترف السائلُ من غلواء الطلب. والذين يسألون – لما أسدلوا على أبصارهم حجاب الرؤية – خاب سؤالهم وما كان لهم من جواب. والسؤال من غير تبصُّر سؤالٌ فانٍ، وليس الفاني بقادر على طلب الاستفهام الذي يحيي ويدوم. فإذا كان الجواب متضمَّنًا في كلِّ سؤال يُسأل، فكلُّ ما لا يتضمَّنُه السؤال استحال فهمه. فالعقلُ المحتجبُ بالأسئلة الفانية لا يستطيع الحصول على جواب حين يُسأل عن شيء خارج حياضه. وما ذاك إلَّا لأنَّ العقلَ المستغرقَ في الأعراضِ العارضِة لا يقوى على إبرام ميثاق مع الأصل. فما هو مستتر في الأصل، محفوظ بأصله ويتأبَّى على الإظهار. وما دام العقل مفصولًا عن أصله، نائيًا منه، كيف له أن يتعرَّف عليه أو يقرَّ له بالحضور؟.. وعليه، لا ينبغي للسؤال الساكن في العالم الفاني أن يطلب الإجابة عن عالمٍ لايفنى. والذي حالُه الفناء، لا يقدر على النفاذ إلى الذي شأنه الحياة والديمومة.
تستطيع الفلسفة برغبتها الموصوفة مجاوزة الفراغ، سوى أنَّها لا تلبث حتى تستعيد أسئلتها القديمة ضمن تشكيل يطابق المستحدث من مكابداتها. وفي هذه الحال لن نشهد أيَّ تبدُّل جوهريٍّ في رغائبها الكبرى. وما ذلك إلَّا لأنَّ لكون العقل المنتج للسؤال عقلٌ مشبَّع بفيزياء النظر ورياضيَّات الأحكام. سنرى أنَّ فيلسوف ما بعد الفراغ العجيب لم ينحُ بعد من جاذبيَّة الفراغ وسطوته. لذا لن يكون له حظُّ الخلاص من رَهَقٍ ثقيل الظلِّ تفترضه عليه نقلة العقل من طور غامضٍ إلى طور أشدَّ غموضًا… حتى أنَّه ليوشك على صراخ كتومٍ يضيق به الصدر.
حين يدعوك “الفراغ العجيب” إلى التهيُّؤ لتحصيل الدرجات القصوى من النشاط الواعي، فذاك لمجاوزة معاثر أسئلة واستفسارات كَابَدْتها ردحًا طويلًا من الوقت. فالإنسان الذي يسأل لا يلبث أن يضمُّه السؤال ويدور مداره ثمَّ ليجعله أصل الإشكال. والإنسان إيَّاه هو الذي يميل إلى جعل تساؤله الحائر، تساؤلًا موصولًا باللَّامرئيِّ، أملًا بشهود قبسٍ ما من المعرفة… ذلك يومئ إلى أنَّ حامل السؤال حاضرٌ في جوف كلِّ سؤالِ ولا يغادره البتَّة. حتى إذا سأل عن شيء، فإنَّما يسأل عن نفسه في ذلك الشيء. وفي هذه الحال إمَّا أن يصبح كلُّ سؤال أدنى إلى صدىً شاردٍ في برِّيَّة، وإمَّا أن يغدوَ منفذًا للإدراك. فإنَّ من تيسَّر له الأخذ بسؤال الفهم ستحمله همّةٌ عالية ليكون شاهدًا على ما لا عهد له به. حالذاك ينظر الشاهد الفاهم بحدقات البصيرة إلى محلِّ السرِّ: يسائله، ويستحكي صمته الدهريَّ، ثمَّ يمضي إلى ما هو مستترٍ داخل احتدامات الكثرة. وكلُّ هذا من أجل أن يضع الشاهدُ الفاهمُ تساؤلَه في المحلِّ الأنسب، أو في قلب الشيء الذي هو ناظرٌ إليه.
5- النجاة من الفراغ العجيب كحادث وجدانيّ
لن يكون للناجي من القلق من سبيل، إلَّا من بعد سؤالٍ يسأله بشغف وله صفة التأسيس. ثمَّ لن يتسنَّى له مثل هذا السؤال إلَّا من بعد حادث وجدانيٍّ يطيح بما استحكم به من أسئلة لم تأتِه إلَّا باغتمام الصدر وتيهِ العقل. فإذا قُدِّر للسائل الواعي أن يعبر الحادث الوجدانيَّ بأمان، فسوف يُقدَّر له أن ينعطف نحو سفرٍ مستحدث ينقله من العَرَضيِّ إلى الجوهريِّ، أو من الاستفهام عن الفاني إلى السؤال عن الحيِّ والدائم. ولو كان لنا من توصيف مناسب للانعطافة الوجدانيَّة المشار إليها، لوجدناها في الَّلحظة التي يستتبُّ فيها رخاء الوجدان بمنأى من سطوة المفاهيم. نستطيع أن نرى إلى هذه الانعطافة باعتبارها مفتتحًا لوعي مُفارِق ترتسم معالمُه ضمن طور عقلانيٍّ متحرِّر من مفاهيم العقل الأدنى وأحكامه. حتى أنَّ من فلاسفة الَّلاهوت وصف هذا الوعي المُفارِق بـ “السرِّ الرهيب” mysterium tremendum [رودولف أوتو- فكرة القدسي- ص 209] لكنَّ هذا السرَّ الكامن في قاع الوعي لا يلبث في لحظة ما، أن يظهر على نحوٍ غير متوقَّع، ثمَّ ليُحدِث انعطافة تتبدَّل معها معاني الأشياء، حتى تغدو الأسئلة والاستفهامات في شأنها على منقلب جديد. لكنَّ “السرَّ الرهيب” الذي توصف به هذه الانعطافة هو في الآن عينه، حادثٌ واقعيٌّ، ويمكن استشعاره والإحساس به، تارة على شكل لمحٍ باطنيٍّ يجتاح الصدر أنساً وبهجة، وطورًا على صورة إعصار روحي يأتي على حين بُغتةٍ ليقوِّض مجمل البناءات النفسيَّة والمعنويَّة والمعرفيَّة التي قام عليها الوعي على امتداد الأحقاب المنصرمة.
بعد الفراغ العجيب بقليل يتهيَّأ للخارج منه أنَّ يدًا قدسيَّة تمتدُّ نحوه وتُشعِرُه بشيء من الأمان وَسَعةِ النظر. إذا تنبَّه المتهيِّءُ إلى هذا “التأتِّي الَّلطفانيِّ” النازل عليه من الامتلاء المحض، فسوف يسائل نفسه عن الكيفيَّة التي ينبغي له أن يستقبله بها. والتأتِّي بهذه الصورة غالبًا ما يتدفَّق من دون حسبان على الناجين من أغلال الفراغ العجيب. ولذلك فهو تدفُّق مفاجئ يثير مشاعر متضادَّة تراوح بين الدهشة والحبور والتهيُّب. وعلى الرغم من الفجأة التي غمرته برهبتها، لا يجد الناجي غرابة في ما حلَّ فيه. فالتأتِّي الَّلطفانيُّ الصادر من اليد القدسيَّة ينبسط أمام المتلقّي على أكثر من صورة. حينًا على هيئة عقلٍ هادٍ يفيض على الكلّ، وحينًا كأمرٍ قدسيٍّ يعتني به ويمدُّه بالسرور العجيب، وثالثًا على صورة روح كليِّ العطاء ينفق من غير مِنَّة. لكنَّ اليد القدسيَّة فوق كلِّ الذي قيل، ليست إلَّا ما هي عليه في ذاتها. ذلك بأنَّها أشدُّ بعدًا من كلِّ كائن، وفي الآن عينه هي أقربُ إلى كلِّ كائن من كلِّ كائن. من أجل هذا، لا يقدر المرء على إدراكها إلَّا إذا غادر كهف أنانيَّته، وانْسَرَحَ في الَّلامتناهي. أمَّا كيف له أن يفعل ذلك.. فدون ذلك بابٌ عالٍ سيكون على المتوجِّه شطر المحضر القدسيِّ دفعه من دون كلل، والإيقان بأنَّ ثمَّة بعد الفتح مُعطىً يملأ الفراغ العجيب أمرًا عجبًا..
يوشك صاحبُ الحظِّ الذي جاوز الفراغ أن يتعرَّض إلى جذبٍ غير عاديٍّ، هو أقرب إلى إحساس خاطف بلذَّة الدفَقِ المعنويّ. معه يتبدَّد كلُّ سؤالٍ مميت، لينبعث من بعدهِ التساؤل المحيي. والمتعرِّض للجذب من بعد المجاوزة هو في سفر معرفيٍّ لم يألفه من قبل. حتى لكأنَّ سَفَرهُ هذا، عزوفٌ شغوفٌ عن الكثرة المملوءة بالغيظ. أو أنَّه هجرة تروم الوصول إلى ما يتعدَّى شوائب الماهيَّات الفانية وعيوبها، أو أنَّه ذاك الاستشعار الباطنيُّ الذي جعله الحكماء فكرًا هاديًا يقود إلى الأصل، ويحيل كلَّ ما في الكون إلى جناب الحضرة القدسيَّة.
الجذبُ الذي يغمرُ الناجي من الفراغ العجيب، سرٌّ مكتظٌّ بالرَّهبة. وهو نظير الشيء الذي يوجدُ بتمامه خارج دائرة المعهودِ، وهو المأمون منه، والمأنوس به، وهو الذي يملأ المشاعر دهشة وانذهالًا. أمَّا حين يكشف الجاذبُ عن هوّيَّته، لا يعود للسؤال عن السرِّ آنئذٍ من نفع. فلا لزوم لإشغال الفكر بأسئلة ومطالب قد تودي بصاحبها إلى الاغتمام. فمن أدرك سرَّ الاندهاش العجيب إدراك عيشٍ ومعاينة، لا يعبأ إن كان قد تعقَّل السرَّ بالحجَّة والاستدلال. فقد وصله الدليل بالمعاينة والاختبار لا بالخبر المشوب بالنقص. فإن من عاش السرَّ لا يَعُود يهمُّه التعرُّف على صفاته وآثاره. فإنَّه بلغ ما بلغ من التعرُّف، وبات يعرف ما لا يطيق معرفته أكثر أهل الندرة. عند هذا الطور الشاقِّ في مجاوزة الفراغ العجيب، ينبري السائل نحو استفهامات ترتقي بالسؤال وتقيمه في حقلٍ ميتافيزيقيٍّ مُفارِق. الخاصِّيَّة الأصليَّة لهذا الحقل أنَّه يتطلَّع بسؤاله إلى المابعد بحيث تتعيَّن استفهاماته عن مبتدأ الوجود ونوع السؤال الذي يناسبه.
6- السُّؤال عن المبدأ كسؤال مؤسِّس
داخل الحقل المعرفيِّ الميتافيزيقيِّ المشار إليه، لا يُنظر إلى السؤال باعتباره تطلُّعًا لعلمٍ يقي من جهل. إنَّما هو فعلٌ وجوديٌّ يختزن حضورًا باطنيًّا لمبدأ الوجود ومعناه. حين يسأل العقل الواعي عن مبدأ الوجود فلا يفعل ذلك من فراغ، بل من أثر لهذا المبدأ سبق أن رَسَخَ في فطرته الأولى. وهذا هو الداعي الذي يجعل من الاستفهام عن مبدأ الموجودات فعل “تذكُّر” لما هو موجود في عالم المُثُل كما في نظريَّة المعرفة الأفلاطونيَّة. وهو الداعي نفسه الذي يجعل الاستفهام فعل تكشُّف وتجلٍّ لدى العرفاء. فالسؤال الطالع من وعيٍ فائق لا حاجة له إلى دليل من خارجٍ يسوِّغ طلوعه، ذلك بأنَّه سؤال يستنطق العلم المودَع في قلب السائل فيجاب. على هذا صحَّ أن نتصوَّر السؤال في مطارح “علم المبدأ” بوصف كونه حضورًا لحقيقة هذا العلم وأثره المبين في نفس السائل. ما يعني أنَّ السؤال عن المبدأ وعلم “البَدء الأول”، هو سؤال مؤسِّسٌ ويؤسَّس عليه؛ وما ذلك إلَّا لأنَّه موصول بالفطرة، ويعرب عن شوق داخليٍّ للإمساك بالطرف الأقصى لمعاني الأشياء والغاية من وجودها.
نقصد بكلامنا على “السؤال المؤسِّس”، ذاك الذي يؤسَّسُ منه وعليه فهم الوجود كوجود بالذات، والتعرُّف على الموجود بما هو موجود. ما يعني أنَّ حقيقة التأسيس في هذا السؤال مبنيَّة على تلازم وطيد بين الأنطولوجيِّ (علم الوجود) والفينومينولوجيِّ (علم ظواهر الوجود). وجلاء هذه الحقيقة لا يتأتَّى من التشطير بين المرتبتين، وإنَّما من التجانس والانسجام بينهما، حيث يكون السؤال مطابقًا لكلِّ مرتبة وجوديَّة بقَدَرِها.
وما كنَّا لنتطلَّع إلى سؤال يؤسِّس ويفتح على بدءٍ جديد، إلَّا لإخفاق الميتافيزيقا في الإفلات من الأسئلة الجارية مجرى عالم الممكنات. فالأسئلة الناشئةُ من هذا العالم والمشدودةُ إليه هي أسئلة تتغيَّر وتتبدَّد تبعًا لتغيُّر وتبدُّد موضوعاتها. أمَّا السؤال المؤسِّس فسمْتُه الأصالة والامتداد ومجاوزة الممكنات العارضة. ذلك رغم الاعتناء بها من جهة كونها ممرًّا ضروريًّا إلى متاخمة المطلق. هو إذًا سؤال جوهريٌّ أصيلٌ ولا يتبدَّد لأنَّه موصول بالَّلامتناهي. لأنَّه بالمطلق يكتسب السؤال المؤسِّس القدرة على التأسيس للمابعد. حيث لا يحدُّ من تجدُّده وديمومته تعاقب الزمن الفيزيائيِّ مهما تنوَّعت موضوعاته وتكثَّرت أحداثه.
والسؤال المؤسِّس يرقب كلَّ سؤال يأتي من بعده. يعاينُه ويعتني به ويسدِّدُه. والأثر المترتِّب على المعاينة والاعتناء والتسديد لا يقتصر على نتائج المراقبة والفحص لجهة صوابها أو خطأِها، وإنَّما في معرفة صواب وخطأ السؤال نفسه. أي أنَّ المؤسِّس يعاين حصاد عمله في ما هو يعتني بكلِّ سؤال فرعيٍّ ويختبر جدواه. فلو جاءت النتيجة، باطلة، دلَّ هذا على أنَّ السؤال نفسه يحمل في داخله علَّة بطلانه. إنَّها طريقة عمل السؤال المؤسِّس التي تتوسَّل حكم الواقع لا حكم القيمة. تبعًا لهذه الطريقة لا أحكامُه متعلِّقة بخيريَّة مقاصد الفكرة أو حسن طويَّتها، وإنَّما بالظرف الزمانيِّ والمكانيِّ التي ولدت فيه. وهو ما تشير إليه القاعدة التالية: إنَّ حقَّانيَّة كلِّ استفهام تعود إلى التناسب بين لحظة صدوره والَّلحظة التي يستجاب له فيها. على سبيل المثال، لو أخذنا بفكرة ما لنصنع منها حدثًا تاريخيًّا، فإنَّ سَرَيانها في الواقع من أجل أن تحقِّق غايتها لا يتوقَّف على مشروعيَّتها الأخلاقيَّة فحسب، وإنَّما أيضًا على تناسبها مع أوان ظهورها، أي على توفُّر الشروط الزمانيَّة والمكانيَّة المناسبة لماهيَّتها وأصلها. فالفكرة التي تظهر في غير أوانها لا تبطل فقط لأنَّ الظروف لم تكن ناضجة لولادتها الطبيعيَّة، وإنَّما أيضًا لخلل في ذات الفكرة نفسها. فالسؤال المؤسِّس بصيرٌ بظروف الزمان والمكان، يستدلُّ ويدلُّ، يستهدي ويهدي، يدبِّر الفكرة ويرعاها بعقل صارم، ولا يهمُّه حُسن مظهرها وقوَّة جاذبيَّتها. والفكرة التي تستثير دهشة سائلها وحيرتِه، هي وليدة ظرف زمانيٍّ ومكانيٍّ محدَّد. لهذا السبب تروح تُفرغ كلَّ طاقتها ضمن هذين الظرفين ولا تتعدَّاهما. فإنَّما هي محكومة بوعي تاريخيٍّ معيَّن تستجيب له وتنتهي بانتهائه. وعليه، فإنَّ للأفكار بَدءًا وختامًا، ومبتدأ وخبرًا. وهي ككلِّ العوالم تولد وتعيش ثمَّ تشيخ وتؤول إلى الانتهاء. ولأنَّها متعلِّقة بزمان حدوثها وجغرافيَّته كان لكلِّ فكرة مكان تولد فيه وتنمو حتى تؤدّي الغاية من ولادتها.
والسؤال المؤسِّس محيطٌ بمبتدأ الأفكار وخواتيمها، ومتبصِّرٌ في مسار زمن الكائن الإنسانيِّ ومآلاته. من أجل ذلك، كان له أن يحظى بمكانة أصيلة في علم الإلهيَّات وفي فلسفة التاريخ. وهذه المكانة متأتّية من توفُّره على تكوينٍ ذاتيٍّ يمكِّنه من متاخمة الوجود بحاضريَّتيه المطلقة والنسبيَّة. ولذا فهو سؤال أصيل التناسب بين لحظة صدور الفكرة وزمن تحقُّقها في واقع محدَّد. على حين أنَّ تحويل الفكرة إلى حدث هو أمرٌ غير مرهون فحسب برغبة السائل والميقات الذي يحدِّده لتلقّي الجواب وإنَّما يعود إلى ما تقرِّره روح الزمن التي تحدِّد الوقت الأنسب لمثل هذا التحويل. فلكي يكتمل السؤال المؤسِّس وينجز ذاته سيكون على سائله أن يبذل جهدًا مضنيًا للعثور على ما يؤسِّس لآفاق الفكر وما يوقظ التاريخ من كسلِهِ ووهنه، وكذلك ما يحمل على التساؤل عمَّا يحتجب أو يتعذَّر فهمه. وهكذا فإنَّ العثور على استفهام يؤسِّس للآفاق هو فعل إبداع. ولأنَّه كذلك فهو إمَّا أن يكون استئنافًا ليقظة بعد إخفاق، وإمَّا أنَّه بدءٌ مستحدث غير مسبوق بنظير. وفي كلا الحالين يحتاج الأمر إلى استراتيجيَّة مسدَّدة بجميل الصبر. فلا شيء يقوى على الزمن وما يكتظُّ به من أسئلة قهريَّة سواه. ولو شئنا أن نجعل الصبر منهجًا لأقمناه في فضاء يتعدَّى زمان الصابر ومسكنه. فبذلك يستطيع من اتَّخذ سيريَّة الصبر دُربةً له أن يتلقَّى الجواب من دون أن يستيئس، أو أن ينال منه ضيق الصدر. والصبر مقولة زمانيَّة لا يستطيع السؤال المؤسِّس أن يحظى بأهليَّة التأسيس إلَّا بتدبُّرها. ذلك بأنَّ جلاء كلِّ غامض أو مجهول، سواء في عالم المعقولات المجرَّدة أم في عالم الممكنات الحسّيَّة، يلزمه عزم دؤوب على احتواء الزمن. وعليه، فإنَّ شرط إنجاز السؤال المؤسِّس نفسه، هو في تمكُّنه من السيطرة على زمن الاستفهام عن الكينونة وما فيها. أمَّا لو تعجَّل السائل تحصيل الجواب على ما سأل بقي سؤاله ناقصًا. ففي هذه الحال لا يعود يتسنَّى للسائل أن يعقد ميثاقًا مع المجيب ليأتيه بالإجابة. والإجابة المأمولة تمكث هنالك في مكان ما من المقبل، فمتى آنت مدَّتها أقبلت نحو طالبها كأنَّما تجيء إليه من هيكل الكمال الأبديّ. السؤال الذي كمُلَت عناصره وصار أهلًا للتأسيس جوابُه كامن فيه من قبل أن يظهر إلى العلن. ولأنَّ العلاقة بين السؤال والجواب هي علاقة إيجاد وتبادل، فإنَّ مقوِّمات السؤال المتشكِّلة من ضرورات الَّلحظة ومن وعي السائل بها، هي ما تجعل كلَّ سؤال فرعيٍّ على عهد وثيق بالسؤال المؤسِّس. ولهذه العمليَّة التبادليَّة لها زمانها الوجوديُّ الخاصُّ؛ حيث يتعرَّف السائل على ما يسأل عنه بوساطة السؤال نفسه. أي بالسؤال الذي ينضج ويكتمل قوامه بصبر المتدبِّر على المطلوب.
7- إستحالة السُّؤال عن ذات الله
ينتمي السؤال عن الله إلى نوع الأسئلة التي لا يُجهر بها. ذلك لأنَّه ليس استفهاماً عن شأنٍ عارض، فلا ينحكمُ إلى زمان ومكان، ولا يمكن إدراجه في حقل الاستفهام الفينومينولوجيِّ عن الأشياء. وهذا هو السبب الذي حدا بالَّلاهوتيين والعرفاء إلى القول أنَّ السؤال عن عظمة الله وكذلك عن ذات الله هو سؤال ممتنعٌ أصلًا، حتى من قبل أن نتدبَّر جوابًا عليه. فالمسألة في هذا الموضع الَّلطيف تتعلَّق بما لا يمكن إدراكه. وكذلك بما يمتنع أصلًا عن الاستفهام، فالطبيعة البشريَّة تنطوي على الأسئلة التي تطابق هندستها التكوينيَّة. ولذا لا تستطيع الإحاطة – بوساطة السؤال- بما يغاير تكوينها الأصليّ. والعجز عن الإدراك لا يعود فقط إلى ضيق العقل البشريِّ ومحدوديَّته، وإنَّما أيضًا وأساسًا إلى الاختلاف الجوهريِّ بين صمديَّة الخالق و”كيميائيَّة” المخلوق. بناءً على هذه الفرضيَّة، يصير بيِّنًا كيف أنَّ الاستفهام في هذا المقام هو استفهام حائرٌ عن الَّلامتناهي المحيط بكلِّ شيء، بل هو سؤال عن الذي لا تحاط ذاته بالفهم لأنَّه مطلق. ولأنَّ المطلق يعني ذكر الشيء باسمه، فلن يعود جائزًاً أن تُقرَنَ به صفة. ولأنَّه مطلق ومحيط بالموجودات في زمانها ومكانها، فلا مناص للموجودات من أن تأخذ من محيطها أصل موجوديَّتِها. المحيط عطاءٌ أزليٌّ يمدُّ كلَّ شيءٍ بما يحتاج إليه، والعطاء الأزليُّ لا ينتظر السؤال حتى يجيب، بل من طبيعته الإعطاء ليكون للموجود وجودٌ حيٌّ، سواء كان هذا الموجود صامتًا متلقّيًا كالموجودات الفيزيائيَّة، أم ناطقًا ذا إرادة واختيار كالإنسان. بهذه الدالَّة يفيض العطاء الأزليُّ على الموجودات بإعطاءات تناسب خصائصها الوجوديَّة. يجيب على مطالب الأشياء سواء تلك المضمَرة في نفس الشيء، أو تلك الظاهرة على شكل مناجاة واعية. هو أنَّه الوحيد الذي يعلم سرَّ أسئلتها ومتى وأين وكيف تكون الإجابة. إجابة الأزليِّ على سؤال الشيء والإنسان لا تتأخَّر ولا تتقدَّم، وإنَّما صدور لواحديَّة السؤال والجواب في عين الَّلحظة. فالأشياء تحت عينه وعنايته، وفيضُه عليها لا ينقطع حتى لو تبدَّلت صورها المادّيَّة. أمَّا علاقة الأزل بأزمنة الإنسان فهي علاقة مُفارِقة، فالإنسان شيء لا كالأشياء، ولذا فإنَّ سؤاله لا يجيء صامتًا، بل هو أشبه بضوضاء تشغل الكينونة بنداءات لا تنقطع.
السؤال في المقام “فوق الميتافيزيقيِّ” منفتح على الَّلامتناهي ومقيَّدٌ فيه في الآن عينه. فالسؤال عن الأزل، وبالتالي عن الله لا يسري في عالم المفاهيم الذي نشأ ونما في محراب الماهيَّات الفانية. أمَّا السؤال عن الباقي والأزليِّ دائم فهوما لا يمكن أن يُحمل على قول. لأنَّ القول المحمول على شيء ما، هو قول محدَّد ومحدود بماهيَّة ذاك الشيء. ولو شاء السائل أن يجيب على ماهيَّة الأزليِّ بالوصف فلن يسعفه الَّلفظ. فالأزليُّ يتأبّى على كلِّ لفظ، ولو تُلفِّظ عنه – كما يقول ابن فارس في فقه الُّلغة- فليس الَّلفظ بصائب حتى لو كان صادقًا في الَّلحظة التي يصدر فيها على لسان الَّلافظ.
التساؤل الحائر هو غاية الطريق إلى وعي الوجود على أتمِّة. وخلافًا للَّذين قالوا إنَّ الهدف من البرهان والاستدلال هو رفع الحَيْرة، يمضي الذي وجدوا في كلِّ سؤال عين جوابه إلى أنَّ غايتهم تحصيل الحَيْرة. ذلك لأنَّها المنطقة التي يبلغ فيها الوعي بالوجود رتبته العليا المتجلِّية براحة العقل وهدأة القلب. فمن مشى مع الحَيْرة الهادية وَصَلَ مبتغاه. فإنَّما هي مقامٌ عقليٌّ رفيع يتواصل فيه الحائر مع الروح القدس ليوصله الروح القدسيُّ إلى حضرة الحقّ. وحضور الحائر في الحضرة الحقَّانيَّة هو حضور شاقٌّ ومُحيِّر، لأنَّ صور التجلّي فيه غير متناهية ولا تتوقَّف عند حدّ. بل هي على تدفُّق دائم من التجلِّيات الرحمانيَّة والصور العلميَّة. لأجل هذا يحارُ العارفُ الواصلُ في أيٍّ منها ينبغي له أن يتخيَّر حظَّه ممَّا في المائدة الإلهيَّة من مذائق. فالعارف الواصل في مقام التحيُّر هو في حَيْرة آمنة، ذلك بأنَّ حيرتَه هي حيرةٌ محفوظةٌ بالحضرة ومطابقة لقوانينها وشرائطها. وأعظم قوانين الحضرة هي تلك المنبعثة من المكنون والخفيّ. فلا تعلن الحضرة عن نفسها حتى للحاضرين فيها. فإنَّما هي سرٌّ محفوظٌ في الغيب الأعظم. فلا يدرك هذا السرَّ أحدٌ. والخائضُ في غمرة الحضرة لا ينبغي له الخوض إلَّا عند سواحلها، وليس له أن يبلغ الُّلجَّة. فثمَّة بحرٌ خِضَمٌ من أدرك نقطة منه غاصَ في قاعه العجيب، ثمَّ لم يعد يميّز النقطة من النقطة، ثمَّ يمضي بعيدًا في الماء فلن يبلغ النهايات، ثمَّ يميل ثانية نحو الشاطئ علّه يجد ما يريد في صحراء الجهل. فإن المعرفة التي ما فيها جهل –كما يقول العرفاء – هي المعرفة التي ما فيها معرفة.
ولمَّا أن كانت الحَيْرةُ في السؤال عن الله على منازل، أمكن لنا أن نترقَّب بعض أخبارها، ونبتني لكلِّ خبرٍ سؤالًا يناسب الوعي به.
أوَّلًا: سؤال الحائر الواقف على باب السرّ
وهي مبتدأ رحلة وعي الحائر لحَيرته. وحيرتُه في أثناء ذلك كلُّها انذهالٌ لفرط ما يستترُ وراء الباب من غرائب. وبفعل الوقوف المهول على باب السرِّ يغفُلُ الحائرُ عن كلِّ سؤال. فلا يعود لديه مُنفَسح من وقت للاستفهام عن شيء. ولشدة غفلته يثوي ما يختزنه من أسئلة إلى قاع النفس. لكأنَّما انصرف الحائرُ بجميعه عن كلِّ مسألة وطلب، فتعطَّل الفكرُ وانعقد لسانُ الحال. الاستفساراتُ كلُّها انحشرت في برهة حتى أوشكت كلُّ أوقاته على التبدُّد. والذين عاينوا أحواله من قرب يقولون: إنَّ الحائر رأى الحقَّ في كلِّ صورة يتجلَّى بها الحقّ. وأنَّ حَيْرته أشبه بدورانٍ دائم مع صُوَر التجلّي. وحين سعى إلى التعرُّف عليها، صار مسعاه سببًا في حيرته، وما ذاك إلَّا لأنَّ سعيه بالفكر وحده يفضي إلى قطيعة بين سؤاله عن حضرة الغيب وإيمانه بها في الآن عينه. لذا قال العارف: “إنَّ من طلب الواحد في عينه لم يحصل إلَّا على الحَيْرة. فإنَّه لا يقدر على الانفكاك من الجمع والكثرة في الطالب والمطلوب.. وكيف يقدر على أن يحكم على نفسه بأنَّه طالب وأن يحكم على مطلوبه بأنَّه مطلوب؟! ولأنَّ الحقَّ تعالى ينسب إلى نفسه صفات تعبِّر عن نوع من التشبيه، فإنَّ أدلَّتها العقليَّة تبقى مستحيلة وعصيَّة على الإدراك. في هذا الموضع قال الشيخ الأكبر إنَّ “العقل السليم يبقى حائرًا في الأخبار التشبيهيَّة، وليس بمقدوره الوصول الى مقصود الحقِّ في هذه الأمور”.
ثانيًا: سؤال الحائر الواقف أمام مرآة التجلّي
في هذا المنزل تنفتح عين العارف على مسرح الأسرار. وهو ما يسمَّى عند العرفاء مقام الكشف والشهود. في هذا المقام لا توجد حَيَرةٌ كتلك الناشئة من تقييدات العقل. فقد انتقل الحائر من عقل مقيَّد يرعى الموجودات الفانية، إلى عقل ممتدٍّ يروم العناية بما لا يفنى. والعقل الممتدُّ يستطيع الجمع بين الأضداد، وهو ما لا يستطيعُه العقل المحدود. فلئن كانت حَيْرة العقل المحدود ناشئة من تفرُّق الفكر والنظر، كانت حَيْرةُ العقل الممتدِّ منشأً لتوحيد الوجود والتعرُّف على حقائقه المستترة. من أجل ذلك قيل: إنَّ صاحب الكشف لا يُصاب بالحيرة كما يصاب أهل النظر العقليّ. فإنَّ لأهل الكشف حيرتَهم المخصوصة الدافقة عليهم من التجلّي الإلهيِّ بجميع صوره المتضادَّة، حيث يقبلونها جميعًا، ويصبحون مظهرها جميعًا. فالوصول إلى الحَيْرة في باب الحقِّ إنَّما هي عين الوصول إلى الله. فإنَّها تزداد مع كلِّ تجلٌ. وبهذا تصبح الحَيْرةُ مقامًا علميًّا، يعود العارف معها إلى نفسه، ويسأل بلسان الحقِّ أن يزداد علمًا فوق علم.
ثالثًا: سؤال الحائر الغارق في حَيْرته
هذا المنزل من الحَيْرة مخصوصٌ بالعارف الذي استقرَّ في مقام التدفُّقات الرحمانيَّة فَحَارَ في أيِّ سبيل يسلك: البقاء في أفق نفسه بما تكتظُّ به من الصور الشهوديَّة، أو مفارقة ما هو فيه ليستأنف صعوده. وحالما يبتدئ الصعود تأخذه حَيْرتَه إلى مطارح أخرى من التجلّيات. كلَّما تراءى له تجلٍ تضاعف حَيْرة على حَيْرة، ولا مناص له من السير في أرجاء الحَيْرة الَّلامتناهية حتى يُكشف عنه الغطاء.
رابعًا: سؤال الحائر الواقف على باب الله
في الإجابة عن معنى قوله: (الَّلهم زدني فيك تحيُّرًا) أنَّ الله لم يزل على ما هو عليه قبل الخلق ومعه وبعده. فإنَّه لم يجعل مخلوقًا من المخلوقات شيئًا من ذاته ليتعرَّفه به، أو يُتوصَّل به إليه، وإنَّما اخترع الأشياء عن مسٍّ مشيئته لها بأنفسها، وأقامها بأظلَّتها. فإنَّ الله أحبَّ أن يُعرَف ليُذكر فيُحمد، ويُشكر فيُعبد، ولا يمكن ذلك من حيث ذاته؛ لأنَّ ذاته في الأزل، والمخلوقات في عالم الإمكان، فلا يتجاوز شيء منها ما وراء مبدئه. كلُّ الموجودات حيال ذاته تعالى كرة مستديرة على نفسها على التوالي، ونفسها هي الصفة، التي هي لها بمنزلة القطب والنقطة. فالموجودات لعلَّة امتناع المجاوزة إلى ما وراء المبدأ هي بنفسها حجاب لنفسها؛ لأنَّه تجلّى لها بها، وبها امتنع منها.
سيكون لنا بإزاء الجمع بين الضدَّين في السياق الاستفهاميِّ عن الله، أن نستحضر ما ذكره ابن عربي عن أنَّه تعالى هو الجامع للضدَّين بل هو عين الضدَّين إذ لا عين زائدة، فالظاهر عينُ الباطن، والأول والآخر، والأول عين الآخر والظاهر والباطن. في السياق ينبري جمع من الحكماء الوجوديين إلى الحديث عن أنَّ رفع الأضداد أو جمع الأضداد هو أمرٌ بديهيٌّ في ساحة ما فوق الوجود، أي في الذات الربوبيَّة (Godhead)، والتي هي عديمة الَّلون مطلقًا. ففيها يفقد كلَّ شيء لونه وتجتمع الأضداد. هناك كلُّ الأشياء شيء واحد، والواحد كلٌّ في كلّ. هناك الجميع واحد في النفس والواحد في الجميع. والعالم المحسوس يحمل أضداده معه. والأضداد لا يمكنها أن تبقى بهذه الخصوصيَّات في الوجود الذاتيِّ (essential being). فالإنسان من وجهة نظر المعلِّم إيكهارت يمكنه من خلال اجتياز هذه الحياة ودخول ساحة حياة أعلى اجتياز العقل الجزئيِّ الذي يميّز الأشياء بعضها عن بعض والوصول إلى الله. هناك – حيث الطور الذي وراء طور العقل – ينعدم امتناع اجتماع أو ارتفاع النقيضين. فبما أنَّ الله جامع الضدَّين بل هو عين الضدَّين فبإمكانه أن يكون ظاهرًا وباطنًا، واحدًا وكثيرًا، أولًا وآخرًا في آن واحد. لذلك يُعدُّ الجمع بين الضدَّين أو “هو لا هو”. أصل أصول التناقض أفعال الرحمانيَّة.
عالم الوجود حسب ابن عربي غير قابل للإدراك في شكله الحقيقيِّ إلَّا في صورة جمع الأضداد. فهو يعتقد أنَّ الماهيَّة الحقيقيَّة للعالم غير قابلة للمعرفة إلَّا عن طريق قبول الأضداد مجتمعة فقط. خلاصة القول أنَّ جمع الضدَّين واجتماع النقيضين، يبدأ من الله، ثمَّ يتجلَّى ذلك في كلِّ العالم. ومثل هذا الأمر يظهر بشكل أكبر في وجود العارف والإنسان الكامل الذي هو مظهر أتمّ لله، ويبعث على حيرته. وهذه الحيرة ليست ناشئة من عدم عثوره على الحقيقة، وإنَّما لأنَّه أدرك الحقيقة فوجد نفسه لا شيء وكلَّ شيء في آن واحد، ومتحرِّرًا من كلِّ قيد لكنَّه يقبل كلَّ قيد. إنَّه لم يشمّ رائحة الربوبيَّة لكنَّه يحكم العالم بأسره. فهو فانٍ وضائع ومجهول، لكنَّه معلوم. إنَّه بكلمة يتمتَّع بخصوصيَّة المقامات كلِّها لأنَّه بلغ مقام الَّلامقام.
مع هذا التحوُّل يرتقي الإنسان درجة من المعرفة لا يعود معها سؤاله عن العالم مقَّيدًا بما تفترضه التجربة الحسِّيَّة واستدلالات العقل الأدنى. وعند هذه المنطقة من التعرُّف يتَّصل مبتدأ السؤال بخبره وخبره بمبتدإه، وتصبح البدايات عين النهايات، والمساءلات عين الإجابات. يجري هذا التحوُّل المُفارِق “حين يبلغ الإنسان مقام الإدراك الواقع في ما فوق عالم الحسِّ، حيث لا يبقى أيُّ أثر من الأضداد”. وبالنتيجة لا يتحرَّر الأسود من سواده، ولا الأبيض من بياضه، وإنَّما الأسود أبيض، والأبيض أسود. فالأضداد تجتمع بعضها مع بعض من دون أن تفقد ذواتها. وإذا كان العقل الفعَّال لا يستطيع أن يعطي شيئًا لم يُعطَ له، أو ليس بمقدوره أن يرى تصوُّرين أو صورتين في آن واحد، فإنَّ بمقدور القدرة الإلهيَّة أن تخلق في النفس صورًا عدَّة، في آن واحد وفي نقطة واحدة.
_______
*د. محمود حيدر/ مفكر وأستاذ في الفلسفة – لبنان.
[1]– الموسوعة الفلسفيَّة ـ معهد الإنماء العربي ـ إشراف: معن زيادة، بيروت- 1984. راجع مصطلح علاقة.
[2] – باروخ سبينوزا – علم الأخلاق – ترجمة: جلال الدين سعيد – المنظَّمة العربيَّة للترجمة – توزيع مركز دراسات الوحدة العربيَّة – بيروت – 2009 – ص 35.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.