الحاجة وتأثير تلبيتها على شخصيَّة الطفل

ذ. لوكيلي عبد الحليم[1] أستاذ مادة الفلسفة–المغرب.
بحسب التحولات والأبحاث الفكرية والعلمية التي شهدها الفكر الإنساني المعاصر، يتميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية بكونه كائنا يملك القدرة على الفهم أو التعقل؛ أي أنه يملك القدرة على إدراك واستيعاب ما يقوم به من سلوكيات وأفعال في علاقة ذلك بذاته، أو محاولة إدراك واستيعاب الأشياء لتكوين تمثل عنها. واستنادا إلى هذه السمة الفريدة التي حصلها نتيجة تكيفه مع التحولات الطبيعية التي طالت العالم منذ الأزمنة الغابرة، فإنه أصبح بذلك، متعدد السمات والخصائص، أهمها أنه كائن راغب؛ أي أنه ذلك الكائن الوحيد والفريد الذي يملك ميلا طبيعيا مؤطر عقليا لتحقيق ما يبتغيه ويريده، سواء كان ذاك الذي يسعى إلى تحقيقه مرتبطا بأشياء قابلة للتحقق واقعيا، أو نسج مجموعة من الأحلام التي يفرزها في حالة النوم. وإذا كان الإنسان يميل عقليا إلى تحقيق ما يبتغيه، فما أثر تحقيق ذلك على ذاته في الآن، والمستقبل؟
للإجابة عن هذا التساؤل، يمكن الانفتاح على إحدى المقاربات النفسية التي تكتسي أهمية بالغة في تفسيرها لبعض مسببات الآثار المتجلية في شخصية بعض الأفراد، وإرجاؤها إلى مسألة لم ينتبه إليها الكثير من المفكرين والفلاسفة عبر التاريخ. أعني بذلك، مقاربة العالمة النمساوية «ميلاني كلاين» المتخصصة في علم النفس الطفل، في كتابها «الرغبة والامتنان». تؤكد ميلاني كلاين على أطروحة أساسية مفادها أن من مسببات امتلاك شخصية شجاعة أو خنوعة يعود إلى كيفية تلبية حاجة الطفل إلى الأكل. فالطفل وهو حديث العهد، ليس له إمكانية لتلبية هذه الحاجة إلا بواسطة الرضاعة. وإذا كانت الرضاعة -كما يشاع- تنشطر إلى صنفين: واحدة طبيعية، وأخرى، صناعية-ثقافية، فإن «ميلاني كلاين» تولي أهمية للرضاعة الطبيعية حتى تكون قادرة على تعميم حكمها المفسر لأثر تحقيق ما يبتغيه الطفل على شخصيته المستقبلية.
فحينما يشتد الجوع على الطفل، لا إمكانية له في التعبير عن تلك الدوافع التدميرية المصاحبة لهذه الحاجة البيولوجية إلا بالبكاء. لكن، كيفية تلبية هذه الحاجة، ومن ثم، التفاعل مع الطفل هي ما تطرح بعض المشكلات التي تؤثر إما إيجابا أو سلبا على شخصيته المستقبلية. لذلك، يمكن التمييز في سياق المقاربة السالف ذكرها، بين مستويين في التعامل مع الطفل، مع ما يترتب عن ذلك من آثار ومظاهر. في المستوى الأول: يكون تعامل الأم بوصفها الملاذ الذي يلجأ إليه الطفل في تلبية حاجته تعاملا لا يولي أية أهمية لعامل الزمن الذي ينبغي إتاحته للطفل للتعبير عن دوافعه التدميرية وقلقه الاضطهادي قبل إرضاعه. بمعنى آخر، فالأم لا تضع مسافة فاصلة بين لحظة بكاء الطفل ووقت إرضاعه. ينتج عن ذلك، أن الطفل يتشبع نفسيا بمنطق العادة في تلبية الرضاعة بمجموعة من السمات والخصائص التي تصاحبه في مراحل حياته، وإن كانت قابلة للتغيير والتصحيح بعد الوعي بها واستيعابها. فالطفل في هذه الحالة، يتشبع بكون الأم هي الوحيدة القادرة على تلبية حاجته إلى الأكل، بل وكل ما يرغب فيه ويريده، لكونها لا تقمع فيه شيئا، ولا تترك له مساحة للتعبير عن ما يخالجه من دوافع وقلق. كما أن عدم إتاحة مساحة فاصلة بين بكائه وتلبية حاجته، لا يسمح له بتكوين تصور واضح عن الواقع الحقيقي. معنى ذلك، أن تلبية حاجة الطفل دون تركه يعبر عن دوافعه التدميرية المصاحبة لحاجته، يجعله في حال اعتقاد بأن كل ما يتغياه قابل للتحقق في الأن، وهذا اعتقاد خاطئ لا محالة، إذ هناك أشياء في هذا العالم قابلة للتحقق في اللحظة الزمنية التي نبتغيها، وهناك ما لا نستطيع تحقيقه إلا بعد نزر ليس باليسير من الزمن، بالإضافة إلى أن هناك أحلام ومبتغيات يطويها المرء معه كطي الصحف وترحل معه إلى عالم الأبدية. وبالتالي، إن التعامل مع تلبية حاجة الطفل بهذه الكيفية لا يكسبه اعتقادا سليما حول الواقع الحقيقي. أخيرا، إن عدم ترك مساحة فاصلة بين لحظة بكاء الطفل ولحظة إرضاعه، يجعل من ذلك الطفل، وبحكم العادة، ممثلا بارعا، إذ اكتسب نتيجة هذه الكيفية أن البكاء دليل على التأثير في الآخر لتلبية ما يبتغيه ويريده. أما المستوى الثاني: فيتمثل في أن الأم بوصفها المكون الأساس في تلبية حاجة طفلها، لابد وأن يكون لها وعي بأن فسح المجال أمام الطفل للبكاء، يعزز في ذاته أولا: الاعتماد على ذاته في السعي نحو كسب ما هو في حاجة إليه، ذلك، أن تركه في حالة من البكاء دون أن يتم تلبية حاجته، يجعله في حالة إحباط التي تكون بمثابة دافع نحو البحث ذاتيا عن بدائل للخروج من بوتقة الدوافع التدميرية التي آلمت به. ولهذا السبب، لا يعتقد هذا الطفل بأن أمه مصدرا لتحقيق كل ما يبتغيه ويريده، بل بعضها فقط. وثانيا؛ يكسبه بالعادة معالم الواقع الحقيقي، ما دامت الأم تدفعه نحو الإحساس بالإحباط في كون ما يطلبه لن يتحقق. وأخيرا، لا يمكن لطفل لا ينظر إلى أمه بمنطوق العادة في كونها قادرة على تحقيق كل شيء، وقد كون بعض معالم الواقع الحقيقي، أن يكون ممثلا في سعيه نحو كسب ما يبتغيه، بقدر ما سيعتمد على ذاته في ذلك. وبناء على ما سبق، إن الطريقة الأولى تفرز لنا شخصا ذو شخصية ضعيفة، أما الطريقة الثانية، فتنتج لنا شخصا ذو شخصية قوية ومدركا لبعض معاني الحياة.
[1] لوكيلي عبدالحليم حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، ويشتغل أستاذا لمادة الفلسفة بالسلك الثانوي التأهيلي بالمديرية الإقليمية وجدة-أنجاد، بالإضافة إلى كوني أستاذا عرضيا بالمدرسة العليا للتربية والتكوين بوجدة. كما أنه لي عدد من المقالات والأبحاث المنشورة في مجلات محكمة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.