
ليس من المبالغة القول إن السيادة شكلت حجر الزاوية في هندسة السلطة السياسية منذ الأزمنة الحديثة. فقد مثلت، منذ تأسيسها المفهومي في القرن السادس عشر، بنية رمزية وقانونية تمنح الدولة شرعيتها، وتجعل من قراراتها نافذة فوق كل إرادة أخرى داخل حدودها. ومع ذلك، لم تكن السيادة يوماً مفهوماً مستقراً؛ بل عرفت منذ نشأتها توترات فكرية، وصراعات عملية، ونقداً متواصلاً من مختلف التيارات السياسية والفلسفية. فكلما تطورت أنماط الحكم وتوسعت شبكات القوة، كلما بدا أن مفهوم السيادة يدخل في أزمة دلالية وعملية. وفي هذا الأفق، لا يمكن تجاهل أن العالم اليوم يعيش مرحلة إعادة تعريف للشرعية، حيث تُمارَس السلطة غالباً خارج الإطار الكلاسيكي للدولة، وتُدار عمليات السيطرة عبر أدوات جديدة مثل البيانات الضخمة، والخوارزميات، وآليات التقييم الدولية.
منذ أن كتب جان بودان عبارته الشهيرة: «السيادة هي السلطة المطلقة والدائمة للدولة» [1 ]، ظلّ مفهوم السيادة يشكل نواة صلبة للفكر السياسي الحديث. فقد ساهم هذا المفهوم في إرساء الإطار النظري الذي تأسست عليه الدولة الحديثة، من خلال تأكيده على احتكار العنف المشروع، وتركيز القرار السياسي في مركز واحد، ومنح الشرعية لممارسات السلطة باسم القانون والنظام. غير أن التحولات الجذرية التي شهدها العالم، خصوصاً مع تسارع العولمة النيوليبرالية، واختراق التكنولوجيا الذكية للفضاء العام، قد زعزعت منطق السيادة ذاته، بحيث لم تعد الدولة تمثل المرجع الأوحد للسلطة، بل أصبحت جزءًا من شبكة معقدة من الفاعلين غير الحكوميين والآليات التقنية العابرة للحدود.
في ظل ما يسميه أولريش بك بـ«مجتمع المخاطر»، [2]، لم تعد الدولة الوطنية قادرة على التحكم الكامل في مجريات السيادة، بل أصبحت في موقع التفاعل المستمر مع قوى غير مرئية: مثل الأسواق المالية، والشركات التكنولوجية العملاقة، والمنصات الرقمية، والخوارزميات، وهي كلها تمارس شكلاً من أشكال السلطة من دون مساءلة ديمقراطية. هنا تتولد مفارقة فلسفية عميقة: كيف يمكن لسلطة غير ممثلة أن تهيمن على فضائنا العام والخاص؟ وكيف نعيد التفكير في الشرعية السياسية في عالم لم تعد فيه الحدود واضحة بين العام والخاص، بين الدولة والسوق، بين الإنسان والآلة؟
أولًا: السيادة الكلاسيكية بين القرار والمجتمع
في الفلسفة السياسية الكلاسيكية، كان لمفهوم السيادة طابع حاسم في رسم معالم التعاقد السياسي. فتوماس هوبز مثلًا، يرى أن السيادة هي نتاج الخوف من الفوضى، وهي التي تسمح للإنسان بالخروج من حالة الطبيعة التي يتنازع فيها الجميع ضد الجميع، إلى حالة من السلام المدني المستقر. هذا الانتقال يتم عبر عقد اجتماعي يُفوض فيه الأفراد سلطتهم لكيان موحد هو الدولة أو “الليفياثان [3]”.
في حين عمد جون لوك، إلى تقييد مفهوم ودلالات هذه السيادة من خلال التأكيد على الحقوق الطبيعية، مثل الحق في التملك، والحرية، والحياة، جاعلًا السيادة نفسها خاضعة لشرط التمثيل والمساءلة [4]، منفتحًا بذلك على صيغة جديدة أكثر سجالية للمفهوم، ونزعته من رؤاه التقليدية والمباشرة.
ثانيًا: من السلطة السيادية إلى السلطة الحيوية – فوكو وشميت
لقد أشار كارل شميت، في تحليله الكلاسيكي، إلى أن السيادة تتجلى في لحظة الاستثناء، حيث تظهر قدرة الحاكم على تعليق القانون باسم الحفاظ على النظام [6]، على أساس أن هذه الجزئية هي جوهر التعريف، بما يعنيه من قدرة على الربط بين ممارسة السلطة وفترات إدارة الأزمات، والمنعرجات الفارقة في تاريخ الأنظمة السياسية.
بيد أن فوكو، في انقلابه على هذا التصور، يؤكد أن السلطة الحديثة لا تنتظر الاستثناء، بل تمارس تأثيرها من داخل الحياة اليومية، عبر السجون، المستشفيات، المدارس، والمؤسسات. ففي محاضراته حول «يجب الدفاع عن المجتمع»، ميّز بين السلطة السيادية التي تقوم على الحق في القتل، والسلطة الحيوية التي تسعى لتنظيم الحياة وتطبيع السلوكيات [7]، وهذا يعني عنده أن السلطة تصبح لا مركزية، شبكية، وتُمارَس بصمت من خلال آليات الرقابة، الإحصاء، والتنظيم الحيوي، ما يجعل مفهوم السيادة التقليدية يفقد وجاهته.
ثالثًا: تفكك السيادة في ظل النيوليبرالية
ترى وندي براون أن النيوليبرالية لم تكتفِ بإضعاف الدولة، بل قامت بإعادة تشكيلها لتصبح أداة لخدمة مصالح السوق. فالدولة لم تعد تمثل الإرادة العامة، بل باتت تسعى إلى إرضاء الأسواق المالية وتكييف سياساتها مع منطق التنافسية والعولمة[8].
أما فريديريك لوردون، فقد قدّم مقاربة سيكولوجية-اقتصادية تُظهر كيف أن الأفراد أنفسهم باتوا يخضعون طوعًا لمنطق الهيمنة، بفعل تشكل رغباتهم داخل نسق السوق ذاته [9]، وهو على هذا الأساس كان مساهما في صياغة التصور المعاصر لمفهوم السيادة، الذي يتجاوز المنحى الأمني السياسي، نحو آفاق جديدة ترتبط بسيكولوجية الاستهلاك.
رابعًا: السيادة وأزمة الفضاء العمومي
في مقابل هذا الانهيار في مرجعية السيادة، حاول «يورغن هابرماس» أن يستعيد الأفق الديمقراطي من خلال مفهوم “الفضاء العمومي التداولي”، حيث تقوم الشرعية على التوافق العقلاني، والمشاركة الحرة بين المواطنين في النقاش العمومي [10].
غير أن هذا الأفق أصبح مهددًا بفعل صعود الخوارزميات التي تستبدل النقاش بالترويج، والمعنى بالإثارة، كما حذر من ذلك أنطوان فيرنو في كتابه المجتمع التلقائي [11]، ما يعني أن الفضاء العمومي، الذي كان يُنظر إليه كمجال حر لتداول الأفكار، بات اليوم مجالًا خاضعًا لمنطق السوق، حيث تُوجّه الآراء وتُفلتر المعلومات وفق مصالح خفية.
خاتمة: هل يمكن إعادة اختراع السيادة؟
في ضوء كل ما سبق، يبدو أن السيادة لم تختفِ، لكنها تحولت جذريًا. نحن بحاجة إلى إعادة التفكير في السيادة بوصفها ممارسة تشاركية، متعددة المستويات، شفافة وخاضعة للمساءلة. قد لا تكون السيادة المطلقة ممكنة في عصر الشبكات، لكن سيادة موزعة ومقننة أخلاقيًا يمكن أن تشكل بديلاً معقولًا. وهي سيادة تتأسس لا على القرار من فوق، بل على الذكاء الجماعي، والتشاركية الرقمية، والحوار المفتوح. ربما هذا ما نحتاجه فعلاً: إعادة بناء السيادة لا على أنقاض الدولة، بل انطلاقًا من إمكانات جديدة للمشاركة والتمثيل والعدالة.
1-Jean Bodin, Les Six Livres de la République, LGDJ, 1993, France, p. 185.
2- Thomas Hobbes, Leviathan, Penguin Classics, 1985, United Kingdom, pp. 117–138.
3- John Locke, Two Treatises of Government, Cambridge University Press, 1988, United Kingdom, pp. 287–315.
4- Jean-Jacques Rousseau, Du contrat social, Garnier-Flammarion, 1966, France, Livre II, pp. 63–71.
5- Carl Schmitt, Politische Theologie, Duncker & Humblot, 1922, Germany, p. 5.
6- Michel Foucault IL faut défendre la société, Gallimard/Seuil, 1997, France, pp. 213–245.
7- Wendy Brown, Undoing the Demos: Neoliberalism’s Stealth Revolution, Zone Books, 2015, USA, pp. 115–139.
8- Frédéric Lordon, Capitalisme, désir et servitude, La Fabrique, 2010, France, pp. 89–117.
9- Jürgen Habermas, The Structural Transformation of the Public Sphere, MIT Press, 1989, USA, pp. 102–140.
10- Antoine Vernōn, La Société automatique, La Fabrique, 2019, France, pp. 135–165.
11- Ulrich Beck, Risikogesellschaft: Auf dem Weg in eine andere Moderne, Suhrkamp, 1986, Germany, p. 41.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.