التنويريفكر وفلسفة

الهروب من الكهف؛ من أوديسيوس إلى أفلاطون إلى واقعنا

يُعّد الكهف من أهم الرموز سواء في الأدب الميثولوجي أو الفلسفات القديمة نظراً لما يحمله من دلالة ليس فقط كمكان مغلق ومحدود، وإنّما كتمثيل صوري لذلك الجهل المحيط بساكنته وما سيلازمهم من خوف وغزلة وبلادة في التفكير، فكما واجه أوديسيوس الوحش المتجسّد في الكهف، وواجه المفكر في كهف أفلاطون ذاته في إتباع أوهام الحواس، نعيش أيضاً في زمننا المعاصر داخل عدة كهوف عبارة عن أيديولوجيات مغلقة، ولعّل أبرزها في عالمنا العربي وأكثرها أثراً سلبياً تلك الأيديولوجية الدينيّة نظير ما تنتجه من جهل وعنف مغلف بغلاف القداسة.

جاء في ملحمة الأوديسة أنّ العملاق السيكلوب بوليفيموس (ابن إله البحر بوسيدون) تمكّن من أسر البحّار أوديسيوس وأصحابه داخل كهفه، هذا الوحش صاحب عين واحدة بدأ كل ليلة بقتل أحد الرجال وتناوله كوجبة عشاء بلا رحمة، ثم وضع صخرة على مدخل الكهف لمنعهم من الخروج، السيكلوب هنا يمثّل الطغيان والعنف غير المبرر واللامعقول، قوة متوحشة لا ترى سوى نفسها ولا تؤمن بحق الآخر في الوجود، وقد أدرك أوديسيوس أنّ مواجهة هذا الوحش بالقوّة معركة خاسرة بل لا بّد من استخدام العقل، أوّل ما فعله أنّه قدّم نفسه تحت اسم “لا أحد”، ثم راقب سلوك بوليفيموس واكتشف أنّ نقطة ضعه إكثاره من شرب الخمر إلى حد الثمالة، ثم قام مع من بقي من رجاله بحلق غصن شجرة كبير وتحويله إلى رمح حاد، ولاحظ أيضاً أنّ هذا الأخير كل صباح باكر يرفع الصخرة سامحاً لغنمه بالخروج للرعي قبل أن تعود مساء، وهكذا حتى جاء اليوم المنتظر أي تنفيذ خطة الهروب، انتظر أوديسيوس خوار قوة بوليفيموس بعد السكر وامتداده على الأرض للنوم ثم فقأ عينه الوحيدة وجعله أعمى، الوحش في حالة غضب وهيجان ولكنّه لا يستطيع أن يُبصر، جاء الصباح فزحزح العملاق الصخرة قليلاً لتمّر غنمه وهو يتلمسها لعّله يمسك أحد الأسرى يريد الفرار، ولكن أوديسيوس له خدعته الماكرة، إذ تعلّق مع أصحابه على بطون الكباش فلم تكتشفهم اليد العملاقة وهي تلمس ظهور الأنعام، فيما بعد أدرك السيكلوب هروب البشر من كهفه فخرج على الجزيرة ينادي طلباً مساعدة قومه من العماليق قائلاً “لا أحد قام بفتق عيني، لا أحد هرب مني” فلم يستجيبوا له، في الأخير وبعد فشل هذا الوحش وتقبّله لحقيقة هروب البشر منه، قام بمناجاة والده الإله بوسيدون الذي لعن أوديسيوس.

هذا الهروب من كهف السيكلوب ليس مجرد نجاة جسدية من الموت المحتّم، بل خلاص عقلي من كل وحش لا يرى الآخر ولا يعترف بوجوده، وهذا جوهر كل أيديولوجية دينيّة متطّرفة، فهي أيضاً تُبصر العالم بعين واحدة، فلا ترى في الآخر المختلف عنها سوى كافر أو جاهل أو زنديق يهدد وجودها، وبالتالي كل هروب من أفكارها هو هروب من كهف الوحش الأسطوري البدائي.

أما بالنسبة لكهف أفلاطون الشهير، فالناس وُلِدت ونشأت في داخله، كل ما تراه سوى ظلال الأشياء ولكنها تظن أنها الحقيقة، وهكذا حتى جاء واحد منهم اختار تتبع منبع النور وليس الاكتفاء بتصديق الظلال التي يعكسها، استمر في الصعود حتى خرج من الكهف واكتشف أنّ كل ما يبصرونه مجرد وهم وليس حقيقة، يعود إلى قومه ليوقظهم من السراب الذي هم فيه ويخبرهم أنّ العالم ليس فقط هذا الكهف، ولكنهم يرفضونه ويسخرون منه بل ويمارسون عليه العنف إلى درجة تهديده بالقتل، وهنا نتحدث عن الصراع بين العقل والجماعة.

كهف أفلاطون ليس مكاناً جغرافياً بل هي تلك الحالة الذهنية التي يعيش فيها الإنسان وهو ينتمي لمنظومة مغلقة على أنها الحقيقة المطلقة، فتجعله يخاف من الشك ويرتعب من النقد ويهاجم بعنف كل تفكير حر، وهذا ما يقع أثناء المواجهة بين الوعي والتقليد.

الأيديولوجيات الدينيّة المعاصرة لا تزال تصنع الظلال لأنّها تُقدّم النصوص المقدسة دون الإحاطة بتاريخيتها، فجعلت منها حائط غير قابل للمس لأنّ عليه ترسم المؤسسات الكهنوتية إرادة الله في العالم والبشر، والخروج من هذه الأيديولوجيات الأصولية لا يعني الإلحاد أو العداء للدين كما جاء في رسومات هذا الكهف، بل الاعتراف أنّ الموروث ليس وحده الحقيقة الكاملة من جهة، وأنّ قداسة النص لا تعني أبداً قداسة التفسير والتأويل من جهة أخرى، وهذا الخروج هو نفسه التحرر الذي صوّرته الأوديسة ورمز إليه أفلاطون (التحرر من سلطة لا ترى إلاّ أنّها تدّعي المعرفة سواء باسم الإله أو الجماعة).

الخروج من الأيديولوجية ذات الغلاف الديني ليس قلة إيمان بل ربما هو محاولة الوصول إلى أرقى تجلياته، وليس عداء مع التراث أو نكران له بل إعادة النظر فيه بعين العلم الحديث ونور العقلانية المعاصرة، فمثلما تحرر أوديسيوس من ظلام السيكلوب، وغادر الفيلسوف كهف أفلاطون، ويخلع الإنسان المعاصر عنه رداء الأيديولوجية مهما كان شكلها، يبقى الخروج من الكهف أهم درس إنساني مستمر ومتجدد لأنّ الحقيقة ليست ما تسمعها بل ما تبحث عنها، أما سجين الكهف فسيبقى يردد ما يُقال له وهو أعمى يظن أنه يرى.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

العفيفي فيصل

الصفة: أستاذ التعليم الثانوي للغة الفرنسيَّة. البلد: الجزائر. الكفاءات: طالب دكتوراه في أصول الدين (جامعة تلمسان/ الجزائر) + شهادة الماستر في اللغة الفرنسيَّة (جامعة عين تموشنت/ الجزائر) + شهادة الدراسات التطبيقيَّة في القانون (جامعة التكوين المتواصل/ الجزائر). الإنجازات: كتاب "تصّور السببيَّة بين المدارس الكلاميَّة الكلاسيكيَّة والفكر الإسلامي المعاصر".

مقالات ذات صلة

اترك رد