اجتماعالتنويري

مظاهر التعسُّف في الجزائر في مرحلة ما بعد الاستقلال

إنّي اعرف جلادي”، وإنَّ أي قضية تكون خاسرة كلما دافعت عن نفسها بالتعذيب، الذي يشكِّل  واحدًا من مظاهر العنف البشعة الممارسة من طرف قوى الردع، والاستغلال على قوى التقدُّم، تلك رسالة من مجموع  الرسائل التي أرسلها السجين السياسي بشير حاج علي إلى وزير الدفاع بتاريخ 03 أكتوبر 1965  بعدما وصف له صور ومراحل تعذيبه يضيف فيها: “ولكنني أعتقد أنَّه ينبغي وضع المسؤولين أمام مسؤولياتهم، حتى لا يمكن لأي أحد أن يقول غدا.. كنت أجهلُ.. “، وقد كشف بشير حاج علي مضمون هذه الرسالة في كتاب عنونه بــــ ” التعسُّف”، ضمَّ شهادات حية من المؤرخ محمد حربي وحسين زهوان عن صور التعذيب داخل مركز بوارسون بالأبيار

وكتاب “التعسُّف” ألِّف في 20 نوفمبر 1965، في محلات الأمن العسكري، وفي سجن لامبيز قام بنسخه على ورق صحي وبمساعدة ورفقائه، وقد أدخله في سجائر كانت قد أفرغت من تبغها، وخلال الزيارة الثانية التي سمح لهم بها أي في 05 فيفري 1966 سلم بشير حاج علي عددا من علب السجائر لزوجته، وقامت زوجته برقنها على الآلة ووجهته الى المديرية السرية للحزب الشيوعي الجزائري، ووزع كتاب التعسف في كل مكان بعد نشره، وقد أرهق نشر هذا الكتاب السلطات الجزائرية بقوة، لم يكن التعسف في الجزائر احتكارا أبدا، وهو ليس ثمرة عدو خارجية، ولا نتيجة تبادل أدوار بين المسيّرين، كما انه ليس شيئا طارئا، بل هو مبرمج من قبل طبقة فوضوية بواسطة العنف في حيزها الشخصي، والتصفيات والصراعات التقسيمية التي عرفتها جبهة التحرير الوطني منذ 1954، إنما تشكل بهذا الصدد دليلا لا يقبل الرد، وأن التضامنات المحلية والجهوية التي هي أثر وسبب وحدة وطنية أسيئ دعمها، إن الموجة الاستعمارية خلفت في لا شعور الشعب الجزائري الجمعي طعما ملإرًّا للعنف، وطرحت على رمال صحرائه ركاما من العادات المذمومة، إنه الامتداد للكارثة التي نكبت الجزائر طيلة مائة واثنين وثلاثين سنة وعلى الأخص خلال الحرب التحريرية، ذاق فيها الشعب ألوانا من العذاب على أيدي جلادين يوصفون بالوحشية.

وربما شهادة بشير علي، الذي ذاق طعم التعذيب وألوانه، ما جعله يناضل مدة سبع سنوات في السرية، خير دليل على ذلك، حيث أعطاه تعريفا دقيقا،  يقول بشير حاج علي: إن التعذيب ما هو  سوى الثورة  الفاسدة للتعسف، كما وصف الجلادون بأنهم الثمرة الفاسدة للمجتمعات  المقسمة على طبقات، وهو اكبر مظهر للإرهاب، يمارسه جهاز الردع لدى الطبقات المستغلة في السلطة ضد القوى الصاعدة، وفي الوقت الذي كان فيها العربي بن مهيدي وموريس أودان وعلي بومنجل يموتون تحت التعذيب في أقبية باريسية وفي بعض بيوت القصبة بالعاصمة، كان رجال يصرحون أنهم من جبهة التحرير الوطني يعذبون المناوئين للثورة من الحركة الوطنية الجزائرية أو “الحركى”، في حين كان ثوار ومثقفون أو شيوعيون يتعرضون للذبح بسبب صفتهم الوحيدة كمثقفين أو شيوعيين.

الجلاد جزائري وله أسماء عديدة

يكشف بشير حاج علي معاملات أحد المحافظين تحفظ عن ذكر اسمه ورمز له بحرف ( هـ )، وهو يعذب في مخابئه أعضاء من جبهة القوى الاشتراكية، في حين كانت جماعة من جبهة القوى الاشتراكية تقوم بنفس الشيء في منطقة القبائل، وهذا يدل على أن ممارسة التعذيب بدأت تتعمم غداة الاستقلال في أجهزة الدولة، والمدعم من طرف الدفعة الديغولية يستخدم شرطته وهم عناصر تعتمد على القوة، وتتعامل بوحشية، الحياة في المعتقلات والسجون قاسية جدا، حيث يخبأ الخبز  في الأحذية للغد، وأحيانا يخبأ في المراحيض، يصف بشير حاج علي الجلاّدين  بـ: ” الخنزير” وهو الاسم الذي أطلقه سجناء جبهة التحرير الوطني على أحد القادة الفرنسيين مشهورا بوحشيته بسجن لامبيز عام 1957، أما “الأصهب”  فهو مكلف بوحدة المناضلين الثوريين عند الخروج من المغطس بعد التعذيب، يحترف الشتم السياسي مثل ترديده عبارة ” خسيس” و”نذل”، واستعمال الوصلات الكهربائية على القلب، كما يحدد مرات التعذيب.

ثم يأتي ” الحلـّوف” محترف في التعذيب داخل الماء حتى يمنع السجين من التنفس، ثم يقفز فوق بطنه المنتفخ بالماء، كما يطلقون عليهم أسماء أخرى مثل القط المتوحش،  في كل هذا وذاك ، فالجلاد يخاف الرأي العام، ويحتقر الجلاد الرجل ويخافه في نفس الوقت، لأنه يعتقد أن “المُعَذَّبُ” سيكون غدا محضر سماع وتصديق من طرف الرأي العام، إن لم يتنازل أمام التعذيب وتحمل آلامه وعذاباته،  وهنا يرسم بشير حاج علي صورة أخرى للمعذب بأنه رجل رافض حتى النهاية مهما كان ثمن الكلام، ويشير الشاهد على الأحداث أن الموقوفين في معتقل بوارسون كانوا يخافون من التعذيب الجسدي ويخافون ألا يخرجون منه أحياءً.

تعرض بشير حاج علي للتعذيب إحدى عشر  ( 11 ) مرة وهو مكبل اليدين والرجلين، عاريا،  كانت آخر عملية تعذيب له في شهر أكتوبر 1965، لكن كان رفضه دائما يتكرر للإجابة على الأسئلة التي تطرح عليه، يستطرد بشير علي قائلا: “انهرت في زنزانتي عند أقدام الخنزير، كان فمي وأنفي ينزفان،  كانت رجلي اليسرى مشلولة…، وكانت معدته تصفر وتتلوى، لقد أشبعني الخنزير ضربات بمقبض معول بعد أن مرنت قبضته على وجهي وكبدي..،  ثم رفعوني وعلقوني بعارضة حديدية أفقية والحبل الخشن يقص جروح معصمي الداميين، وكان الخسيس المسلح بقضيب طويل مرن وحاد يضربني على عضوي التناسلي، إلى أن انسابت قطرات من سائل ساخن بين فخذي، إنه الدم وفقدت الوعي. الخ “، كانت طرق التعذيب متعددة ومتنوعة، مثل تقييد يديه خلف ظهر كرسي ووضع سطل فارغ على رأسه لإخفاء وجهه، حتى لا يرى شيئا،  بعد التعذيب يوضع المسجون منفردا في زنزانة، مع فئران ضخمة مع استعمال وسائل تمنعه من النوم، ولم يشفع إضرابه عن الطعام لمدة 14 يوما في أن يرد المحامون ووزير العدل والدفاع على رسائله التي أرسلها إليهم كوسيلة ضغط على جلاديه، وعلى مدار كل تلك المحن، ورغم إعلامه بالحكم عليه بالموت، لم يفش بشير حاج علي في أي لحظة كانت سرا واحدا من أسرار التنظيم.

إن هذه الرسالة التي كتبها بشير حاج علي كسجين سياسي  غير معترف بحقوقه، تؤكد أن التعذيب لم يأت على يد أوساريس ولا على يد  العميد  شميدت، لكن الجلاد كان جزائريا، وهو نفسه من واصل ممارسة هذه المهمة القذرة في مخيم سيدي فرج في أكتوبر 1988، ويكشف صاحب الرسالة تورط بشير بومعزة واشتراكه في تأليف الفساد،   أما المنظمة العلمية للتعذيب فكان يرأسها  رجلان هما: خليف الملقب بالرائد مرباح  وهو عضو قديم بمصالح الاستخبارات في وزارة التسليح والعلاقات العامة بتونس، وهو المسؤول الأسمى للأمن العسكري، وبن حمزة الملقب بالنقيب عميروش، تعلم بالمدرسة العسكرية بسان ميكسان، لقد طرحت مسألة التعذيب على المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني أثناء أزمة منطقة القبائل بعد أن توفي فلاح من عزازقة تحت التعذيب، ووجدت عناصر ومن بينها بشير بومعزة الذي كان ناطقا باسم الحكومة والذي أكد أن التعذيب كان ضروريا،  وتم التحفظ على تقرير يكشف تجاوزات قامت بها مصالح الأمن في منطقة القبائل.

___________

* قراءة علجية عيش.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد