
يعود محور النسوية إلى النقاش الثقافي العربي، ضمن سياق يتماس ويتشابك مع النقاش العالمي الذي يسعى إلى فك الحصار على أسئلة عالقة منذ قرون. وفي هذا السياق، خصصت مجلة “أفكار” الأردنية (العدد 436) ، الحديث عنه عبر مجموعة من المحاور التي تبحث في التجارب النسوية في مجالات العمارة والسينما والمسرح وأيضا في صنع المعرفة الحرة والبرمجيات .. مما مكنهن من تغيير السرديات التقليدية حول المرأة إلى سردية جديدة تساهم في بناء مجتمع عادل ومتوازن.
أولا:العمارة النسوية: من الرؤية المحلية إلى التأثير العالمي
لطالما هيمنت الذكورية على مهنة العمارة عبر التاريخ، حيث بقيت إسهامات النساء في الظل، سواء في التصميم، أو البحث الأكاديمي، أو حتى في تنفيذ المشاريع، ومع تطور الحركة النسوية وانتشارها عالميًا، بدأت المرأة تتقدم في هذا المجال، ناقلة قضاياها من الهامش إلى قلب الحوار المعماري العالمي. وقد تم تجاهل أعمال المعماريات الأوائل أو نُسبت إلى شركائهن الذكور. فقلما ذُكرت أسماء نساء مثل “إليزابيث ويلبرن “أو “إيلسا مانفورد”في السجلات الرسمية. وفي الشرق الأوسط، كان التحدي مضاعفًا بفعل العادات والتقاليد. وظهر في السبعينيات من القرن الماضي،تيار معماري نسوي ركّز على التشكيك في معايير العمارة التقليدية؛ وإعادة تصميم المساحات بحيث تراعي احتياجات المرأة، وتسهم في تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية؛ ثم تسليط الضوء على المعماريات الرائدات:مثل “زازا حديد”، التي أصبحت رمزًا عالميًا للإبداع المعماري الأنثوي.
واليوم، تحظى النسوية في العمارة بتركيز عالمي في المؤتمرات والبحوث والمنشورات ، ومن بين أبرز الأسماء : زها حديد” (العراق)، أول امرأة تفوز بجائزة بريتزكر. وجين غانغ” (الولايات المتحدة)، المعروفة بتصاميمها المستدامة. ثم آنا هيرينغتون” (أستراليا)، والتي تهتم بالعمارة الاجتماعية.
رغم التحديات، انتقلت النسوية في العمارة من الظل إلى نور العالمية، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من الحوار المعماري الحديث. وبفضل جهود النساء الرائدات، باتت العمارة، اليوم، أكثر شمولاً وعدلاً، مع وعود بمستقبل أفضل للجميع.
ثانيا:دور النساء في تقديم المعرفة الحرة في المجتمعات الحرة
تُعد المعرفة الحرة من أهم ركائز المجتمعات المتقدمة، حيث تتيح فرص الوصول إلى المعلومات، ومشاركتها، واستخدامها دون قيود. في هذا السياق، لعبت النساء أدوارًا محورية في تقديم المعرفة الحرة، خاصة مع تزايد الحركات النسوية والحقوقية وظهور أدوات التقنية الحديثة، فالنساء بوصفهن صانعات للمعرفة الحرة،ويتمثل ذلك في المجالات التالية:
في الكتابة والإنتاج العلمي: وذلك بمشاركة النساء في إنتاج الأبحاث العلمية، والمقالات، والمحتوى الأكاديمي المفتوح، مما جعلهنّ جزءًا من مبادرات النشر الحر، مثل المجلات العلمية المفتوحة وقواعد البيانات المجانية.
في التعليم المفتوح:مساهمة النساء في تطوير منصات التعليم المفتوح، وتقديم الدروس المجانية عبر الإنترنت، وإنشاء قنوات تعليمية على يوتيوب أو منصات أخرى، مما أتاح فرص التعلم للجميع بغض النظر عن الجنس أو الخلفية الاجتماعية.
التطوع في المشاريع الحرة: مشاركتهن في تحرير موقع ويكيبيديا، وتطوير البرمجيات الحرة والمفتوحة المصدر، والمساهمة في مشاريع مجتمعية تهدف إلى نشر المعرفة دون مقابل مادي أو احتكار.
ثالثا: ثلاث موجات للنسوية في سينما المرأة
شهدت الحركة النسوية ثلاث موجات رئيسية، ولكل منها أثر مختلف على السينما التي تصنعها النساء أو التي تتناول قضاياهن.
الموجة النسوية الأولى (أواخر القرن 19 – أوائل القرن 20، و ركزت على الحقوق القانونية والسياسية للنساء، وأبرزها حق التصويت والتعليم والعمل، فظهرت أفلام تناقش موضوعات متعددة الأبعاد: الهوية، العرق، الطبقة، الميول الجنسية، التحديات اليومية للمرأة المعاصرة؛ مثلما عرفت حضور مخرجات من جنسيات وخلفيات متنوعة، مثل شانتال أكرمان (بلجيكا)، آفا دوفيرني (أمريكا)، نادين لبكي (لبنان)؛ وإنتاج أفلام مستقلة ومسلسلات عبر الإنترنت تتناول قضايا المرأة بجرأة وواقعية أكبر، مما شجع على ظهور منصات رقمية تتيح للنساء صناعة أفلامهن بعيدًا عن الرقابة الذكورية التقليدية.
وقد تركت كل موجة نسوية بصمتها على سينما المرأة، سواء عبر التمثيل، أو الإخراج، أو الموضوعات المطروحة. واليوم، باتت هذه السينما أكثر تنوعًا وجرأة، تتيح للنساء رواية قصصهن بأنفسهن، وتمثل جزءًا مهمًا من الحراك الثقافي العالمي نحو المساواة.
رابعا: نسوية الحرب: البحث عن عدالة انتقالية للنساء
تُعد الحروب والصراعات من أكثر الأحداث التي تترك آثارًا مدمرة على المجتمعات، خاصة على النساء. ففي أغلب النزاعات، تتعرض النساء للعنف، والتهجير، والاستغلال، ويُهمَّش دورهن في عمليات السلام وإعادة الإعمار. هنا يظهر مفهوم “نسوية الحرب”، الذي يطالب بعدالة انتقالية تأخذ بعين الاعتبار الحقوق والاحتياجات الخاصة بالنساء. وتشير العدالة الانتقالية إلى “المجموعة من الآليات القضائية وغير القضائية ” التي تُطبَّق في المجتمعات الخارجة من الصراع أو الديكتاتورية، لتحقيق العدالة والمصالحة، وكشف الحقيقة، وجبر الضرر، وعدم الإفلات من العقاب.
تُعيد “نسوية الحرب” تعريف العدالة الانتقالية من منظور يضع النساء في قلب العملية، ويعترف بمعاناتهن وحقوقهن في العدالة، والذاكرة، وجبر الضرر، ولا تتحقق العدالة الانتقالية الحقيقية إلا بمشاركة المرأة وبتضمين قضاياها في كل خطوة نحو السلام والمصالحة، بإحياء الذاكرة الجماعية: ضمان عدم نسيان معاناتهن، وإبراز قصصهن ضمن السردية الوطنية؛ وإصلاح القوانين المحلية والدولية ومراجعتها لجعلها أكثر حماية لحقوق النساء.
خامسا: النسوية في المسرح: مسرحية “قلادة دم” نموذجًا
لعب المسرح دورًا مهمًّا في التعبير عن قضايا المرأة وطرح الأسئلة حول العدالة الجندرية والسلطة الأبوية، ومع بروز الحركة النسوية، أصبح المسرح مساحةً حيويةً لتمثيل النساء وقضاياهن، ولمساءلة الأدوار النمطية. من بين المسرحيات العربية اللافتة في هذا السياق تبرز مسرحية “قلادة دم”، التي تُعد نموذجًا للمسرح النسوي العربي.
ويعدُّ المسرح النسوي تيارا فنيا يركز على تقديم تجارب النساء وقضاياهن، معيدا النظر في علاقات القوة بين الجنسين، وغالبًا ما يطرح أسئلة حول الجسد، والصوت، والحقوق، والهوية، ويمنح المرأة دورًا فاعلًا في النص والأداء والإخراج.
وتدور أحداث مسرحية “قلادة دم” حول امرأة تجد نفسها في مواجهة مجتمع ذكوري بعد حادثة عنف أسري أو جريمة شرف. تتناول رحلة البطلة في البحث عن العدالة، وكشف فساد السلطة، وتعرية العادات التي تبرر العنف ضد النساء . بطلتها المركزية امرأة قوية، تواجه القمع بصوت مرتفع، وتطالب بحقها في الحياة والحرية. استطاعت تعرية السلطة الذكورية، والكشف عن كيفية استغلال الأعراف والتقاليد لقمع النساء وتبرير العنف ضدهن. بحيث غالبًا ما تظهر الشخصيات الذكورية في صورة السلطة القامعة، في مقابل مقاومة البطلة. كما أن عنوان المسرحية (قلادة دم) يحمل رمزية قوية في ربطه بين المجوهرات (رمز الأنوثة والزينة) والدم (رمز التضحية والعنف)، في دلالة على أن حياة النساء عُرضة للانتهاك، وأن الجمال قد يتحول إلى لعنة في مجتمعات لا تحمي المرأة. كما استطاعت المسرحية توظيف لغة شعرية غاضبة، وأحيانًا رمزية، تكشف عن العنف النفسي والجسدي الذي تتعرض له النساء، وتخلق حالة من التعاطف والوعي لدى الجمهور، مهدت للنهاية المفتوحة بمشهد المقاومة، في إشارة إلى استمرار النضال النسوي وعدم القبول بالهزيمة.
تجسد مسرحية “قلادة دم” روح المسرح النسوي العربي، حيث تلتقي القضايا الإنسانية بالدراما، ويصبح المسرح ساحة للمقاومة والكشف. ومن خلال مثل هذه الأعمال، يُعاد النظر في موقع المرأة داخل النص والحياة، وتُطرح أسئلة جريئة حول الحرية والعدالة.
لقد كشفت التجارب النسوية في مختلف المجالات، من العمارة والسينما والمسرح، إلى المعرفة الحرة والبرمجيات المفتوحة المصدر، عن قدرة النساء على اختراق الحواجز وتغيير السرديات التقليدية في المجتمعات. لم تعد المرأة مجرد متلقية أو ضحية للأنظمة الأبوية، بل أصبحت فاعلة وصانعة للتغيير، تدافع عن العدالة، وتبتكر، وتساهم في بناء مجتمعات أكثر عدلاً وشمولاً.
في العمارة، انتقلت النساء من الظل إلى مركز التأثير والإبداع، وهن يقدّمن رؤى جديدة لتصميم المدن والمساحات، بما يحقق التوازن والعدالة الجندرية.
وفي المعرفة الحرة والبرمجيات المفتوحة المصدر، أثبتت النساء العربيات حضورهن بوصفهن مُطوّرات ومُبادِرات، يسهمن في إنتاج وتوزيع المعرفة بلا قيود، ويفتحن المجال أمام أجيال جديدة لتحقيق الاكتفاء الرقمي والمعرفي.
أما في الفنون المرئية، فقد استطاعت السينما النسوية عبر موجاتها المختلفة أن تطرح قضايا المرأة بجرأة وصدق، كاشفة عن عمق التجربة النسائية وتنوعها، بينما جعل المسرح من قضايا المرأة محورًا للدراما المجتمعية والتغيير، كما في “قلادة دم” التي جسدت معاناة النساء وصمودهن في وجه العنف المجتمعي.
أما في سياق النزاعات والعدالة الانتقالية، فقد أظهرت نسوية الحرب أهمية تضمين النساء في عمليات العدالة والمصالحة، لضمان ألا تُهمّش أصواتهن أو تُنسى معاناتهن في كتابة تاريخ الشعوب وصناعة مستقبلها.
إن كل هذه النماذج تؤكد أن العدالة الجندرية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة مجتمعية ومسارا حتميا نحو التقدم. فتمكين النساء، والاحتفاء بإبداعهن، وضمان عدالتهن، هو انتصار للقيم الإنسانية جمعاء، وخطوة نحو عالم أكثر حرية وتنوعًا وكرامة.
__
*عائشة بوزرار /كاتبة وباحثة في الإعلام.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.