
بعض الناس لا يحبون من ينتقدهم، وإن انتقدهم أحدٌ في فكرة ما،ينقلبون عليك بمجرد أن تخالفهم الرأي، فتصبح أنت العدوّ اللدود في نظرهم وأنت الخائن وأنك عديم الكفاءة و..و..و..الخ، هؤلاء اعتادوا على من يجاملهم ومن يضعهم في مرتبة العظماء وكأنهم صناع الحياة ولهم الفضل في بقائك حيًّا، ليس كل ما يكتبه الإنسان أو يقوله قرآن مُنَزَّهٌ، فالإنسان بشر ومُعَرَّضٌ للأخطاء وقد يتعرض للنقد، شريطة أن يكون النقد بَنَّاءً، لأن لكل واحدٍ رؤيته للأشياء والقضايا التي تُطْرح، والزاوية التي يعالج بها هذه القضايا في زمن التنوير، حتى الكتب المقدسة تعرَّضت للنقد، أن ينتقدك الآخر لا يعني أنه ضدك أو يريد إحباط معنوياتك، الفرق بين النقد والمجاملة هو أن هذه الأخيرة وسيلة للوصول إلى هدف ما وتحقيق غرض ما منكَ، قد نمارس هذا الأسلوب من باب تشجيع الآخر على العمل والنجاح، لكن أن تتحول المجاملة الى عادة لكسب رضى شخص ما، حتى لو كان مخطئا لا لشيء إلا لأن له نفوذًا ولأننا نريد من ورائها الوصول إلى غايتنا، فهذا سلوك غير واع ولا يـأتي من إنسان عاقل.
هناك من يهرب من الحقيقة أو يحاول إخفاءها بل وأدها لكي لا تنكشف للناس، ومجرم من يكتم الحقيقة، فهناك أحداث وقعت في زمن معين لم تكشف بعد، لكي يبقي الناس علي جهلهم وعماهم، وهنا يكمن دور المثقَّف في عملية التنوير والتبصير،، فالمثقَّف يجامل، والمفكرُ لا يجامل، والناقدُ لا يجامل، والإعلاميُّ لا يجامل، والثّوريُّ لا يجامل، والمناضلُ النزيه لا يجامل، لكن رجل السياسة يجاملُ والكاتب الحُرُّ وجب عليه أن يتحرر من صفات المجاملة، لأن المجاملة المبالغة فيها تتحول إلى نفاق وكذب على الناس، بل تؤدي بالمُجَامِلِ ( المَدَّاح) إلى أن يكذب على نفسه ويصدق الكذبة فيحولها إلى حقيقة، ويبدي على الشخص الذي يجامله على أنه شخص صالح، والمجاملة المبالغ فيها أي المُفْرَطَة تقود الإنسان إلى العبودية وتجعله فاقد الإرادة والعزيمة وقد تُجَرِّدُهُ من كبريائه، وتضع الشخص الذي يجامله في مرتبة الإله، أو ملكٌ على رأسه تاج العظمة، وكأنه الوحيد الذي خلّص البشرية وأنقذ بعبقريته الأمّة من الهلاك.
والنقد إن كان غير مبني على فكرة سليمة، نبيلة، هادفة، لتوضيح الرؤية للكاتب والقارئ معا، فهو باطل وصاحبه مفقود الثقة، لأن غايته نشويه ما كتبه الأخر أمام القراء والرأي العام لحقد دفين في قلبه ليس إلا، أو أن شيطان وسوس في قلبه وعقله فجعله أعمى، لا يرى أمام عينيه، حتى لا نقول أنه شيطان في ثوب إنسان، مهنته التخريب والهدم والغدر، وقتل عزيمة الناس وإرادتهم، لأنه ربما فشل في حياته ولم يحقق شيئا ما، يسعد به الأخرين، فكان من أعداء النجاح، فما وقع في الجزائر وفي البلاد العربية من فساد سببه الإفراط في المجاملة ( الرئيس فلان، الوزير فلان، الأديب فلان فعل كذا وكذا..) وتحول هؤلاء إلى “عمالقة” وكأن ما قاموا به معجزة من المعجزات الإلهية التي مدها الله لأنبيائه ورسله، وقد ينادونهم بـ: “السّي” فلان، في الوقت الذي نرى أناسا آخرين ضحوا من أجل أوطانهم وقدموا أعمالا جليلة، آثارها ما تزال حيّة، ولكنهم “منسيون”، لا يذكر اسمهم ولا أعمالهم.
تعود بي الذاكرة إلى كتاب للمفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري بعنوان: ” هل كانوا عمالقة؟ ” أصدره عام 1980، وقد تحرر الكاتب من صفات المجاملة التي تَضُرُّ ولا تنفع، فقد طرح الدكتور جابر الأنصاري رؤاه النقدية بصراحة تامة مسّت كبار الأدباء والمشاهير وكذلك الزعماء السياسيين في الوطن العربي، وحرص على إثارة قضايا فكرية من أجل تسخين مناخ العقل الجماعي الرّاكد وبثّ الحركة في خلاياه، وطرح في كتابه أسئلة هامة وجريئة، ليس من أجل التهجم عليهم كما يتبادر إلى الذهن أو التنكر لعطاياهم، وإنما لمعرفة الحقيقة التي هي ضالة الإنسان المثقَّف، لقد ذكر الأنصاري ثلاثة أسئلة ذكر فيها ثلاثة أسماء مشهورة.
– قال في السؤال الأول: قيل لنا أن جمال الدين الأفغاني هو حكيم الشرق وباعث نهضته وفيلسوفها، ولكن اين فلسفة جمال الدين الأفغاني؟ اين حلوله الناجعة التي قدمها؟ لماذا لم تقم النهضة العربية على اساس وطيد طالما بدأت بأفكار فيلسوف مثله؟ من يدلي على مؤلفاته الفلسفية غير رسالة “الرد على الدهريين ” التي لا تحوي من الفلسفة شيئا.
– وقال في السؤال الثاني: قيل لنا أن أحمد شوقي أمير الشعراء وأمير البيان ومجدد شعرنا العربي، ولم يتقبل الجميع ما قاله العقاد وميخائيل نُعَيْمَة في شعره، وقال في حديثه عن الشوقيات أن معظمها يشبه افتتاح الجرائد اليومية في أيامنا هذه سلسلة طويلة من المرثيات.. معظمها في أشخاص من أصدقائه ومعرفه سبب نسيهم التاريخ، وسلسلة أخرى من المدائح وسلسلة ثالثة من المفاخر، فما مصير أبنائنا إذا قلنا لهم هذا أمير شعركم الحديث؟
– وقال في السؤال الثالث: هل أن جبران خليل جبران هو بتلك العبقرية والعظمة التي تحاول أن تقيم له الدراسات والأبحاث اللبنانية المتراكمة منذ مطلع القرن العشرين؟ أهو قصاص بارع؟ أهو أديب مشرق البيان حقا؟ أهو شاعر في غير قصيدة واحدة طويلة اسمها المواكب؟ أهو مفكر فيلسوف، أليس هو في التحليل النهائي كاتبُ مقالة ذاتية تمزج بين البكاء والوعظ.؟
ما يمكن قوله هو أن المجاملة تضرُّ ولا تنفع ولكن يمكن القول أيضا أن النقد المفرط أو بالأحرى النقد اللاذع يضر ولا ينفع أيضا، لأنه نقد سلبي لا يخدم الفكرة ولا يخدم الحقيقة ويقضي على كل الأعمال والإنجازات، وقد يُوَلِّدُ الكراهية والعدائية وحُبُّ الانتقام بين الكتاب والمثقَّفين، قد يؤدي إلى التدخل في الحريات الفردية والمساس بالحياة الشخصية للإنسان، بل قد يشعل حربا ليس لها نهاية، فكل ما يكتب كما يقول البعض يدخل في إطار أدب التقليد، وهو من أشد أنواع الأمراض الفكرية شيوعا وانتشارا، فهل نحتاج إذن إلى “الوسطية” في كتاباتنا وطرح أفكارنا ونقدنا للأخر؟ وكما يقال : “إرضاء الناس غاية با تدرك” والحقيقة تكاد المجاملة أن تتحول إلى كفر. ( مجرد وجهة نظر).
علجية عيش