
المكان يسكننا قبل أن نسكنه، والمنزل يظل رمزًا للوطن الذي نعشقه، مهما ابتعدنا عنه. في نص الكاتبة مريانا أمين، نقف أمام نص يعكس تجربة نثرية شاعرية، تنبض ببعد روحي يتمازج فيه الرمز بالحنين مع الوطن، ويتداخل فيه الخاص بالعام، والعاطفة الفردية بالانتماء الجمعي. النص يعكس تألقًا وجدانيًا نابضًا بحب الوطن، حيث تنسج الكاتبة خيوط الحنين من خلال لغة مشحونة بالعاطفة والتصوير الرمزي.
مريانا أمين، التي تعيش وتعمل في شمال فرنسا، تنتمي إلى الجنوب اللبناني، ذاك الجنوب الذي يعانق شمال فلسطين المحتلة. لبنان هو الوطن، والجنوب، وجبل عامل تحديدًا، هو القلب والمنزل، وهو موطن الأسرة وذاكرة الطفولة. من هنا، يتجلى الحنين كقوة داخلية تواجه بها الكاتبة اغترابها، في وطن آخر لا يشبه وطنها، وإن لم تذكره صراحة، إلا أن النص يشي به ضمنًا.
المنزل في جبل عامل، كما تصفه الكاتبة، ليس مجرد مكان للإقامة، بل منبع للدفء، ورمز للأصالة، وحاضنة للرغبة بالعودة والاستقرار. إنه وطن مصغّر يحتضن الذكريات والأهل والأصحاب. كل ما في هذا البيت يشدها إليه، وكل ما فيه له نكهة أخرى مختلفة، بدءًا من فنجان القهوة الصباحي بين الأشجار والزهور، وحتى استقباله للضيوف بـ”أريجه وألوانه”. الجنوب هنا لا يظهر كمجرد بقعة جغرافية، بل ككينونة روحية، وجبل عامل ليس مجرد جبل، بل حامل لهوية، ولبنان ليس مجرد وطن، بل بيت معنوي للذات.
تستند الكاتبة في بنائها الفني إلى الاستعارة والرمزية، فترسم لوحات حية مستمدة من الطبيعة فتستخدم منها “الزهور، العصافير، الأشجار، الفراشات”، حيث نجد “الزهور متدلية عشقا بعفوية” ونشاهد “العصافير ترقص بين أهل الدار”، فتمنحها بعدًا إنسانيًا وروحيًا. نقرأ مثلًا: “الأشجار تسجد، ثم تقيم الدعاء”، فيتحول المشهد الطبيعي إلى مشهد طقسي مقدّس، حيث تتماهى الطبيعة مع الإنسان في روحانية خاشعة. وتقول عن العصافير: “وجودنا يشعرها بالأمان، بالاطمئنان”، لتغدو العصافير شركاء في لحظة البيت “فأعشاشها تتدلى بين الغصون”، يحلّقون لا فرارًا بل مشاركة في الفرح والألفة.
ولعلّ أبرز ما يميز النص هو رهافة العاطفة والتعبير، كما في قولها: “حتى الحب في قلوبنا، عفوي بلا شروط”، أو حين تقول: “منزلنا، في جبل عامل، يشبه ربيعًا دائمًا”، و”نفتح قلوبنا كما تفتح الزهرة قلبها لنحلة عاشقة”. هذا الحب غير المشروط “عفوي بلا شروط، حتى آخر الحدود”، الممتد بين العقل والقلب، حيث تقول: “هو أفضل حب، بين العقل والقلب”، يمنح النص إشراقًا وجدانيًا خاصًا.
النص زاخر بالصور البلاغية من استعارات وتشبيهات وكنايات ورموز، تُضفي عليه طابعًا شعريًا عميقًا. كقولها: “أشتاقكم كشوق النحلة للزهور”، أو: “تغدو أحاديثنا، مشغولة من عسل، وبخور الجنوب”، وهي صور تمزج بين الحواس والوجدان والروح، لتُجسد الانتماء الروحي العميق بين الإنسان ومحيطه الطبيعي، مؤكدة على البيت كرمز لذاكرة المكان وتأكيد على الهوية الوطنية بلغة شاعرية رقيقة.
ومع ذلك، فإن التكرار اللافت لبعض العبارات، كـ”منزلنا في جبل عامل”، ورغم مساهمته في تحقيق وحدة النص وإيقاعه الداخلي، قد أضفى نوعًا من الرتابة، بسبب غياب التصعيد إلى الذروة الشعورية، فالنص يسير على وتيرة سردية واحدة تقريبًا، من دون تصاعد ملحوظ في البناء العاطفي أو الانتقال إلى نقطة ذروة تُتبع بخاتمة تنفتح على تأمل أوسع، و كان بالإمكان تعزيز الحبكة عبر خلق لحظة انفعالية عالية، تُكسب النص عمقًا إنسانيًا أكبر، وتمنحه بُعدًا شعوريًا أكثر تكثيفًا.
في النهاية، يظل النص قطعة وجدانية تنبض بحب الوطن، وتحتفي بالمنزل كرمز للمكان والهوية والانتماء، بلغة رقيقة وصور شاعرية نابضة، تلامس وجدان القارئ، وتحاكي ذاكرة مشتركة للمنفى والحنين.
“عمَّان 12/5/2025”
منزلنا
بمنزلنا
في جبل عامل
الحجارة مرصوصة بعفوية
الزهور متدليّة عشقاً بعفوية
حتى الحبّ في قلوبنا
عفويٌّ بلا شروط
حتى آخر الحدود
هو أفضل حبّ
بين العقل والقلب.
بمنزلنا
في جبل عامل
العصافير ترقص بين أهل الدار
تغرد ليل نهار
لا تخاف على حياتها
فاعشاشها تتدلى بين الغصون
ووجودنا يشعرها بالأمان
بالاطمئنان
بمنزلنا
في جبل عامل
الأشجار تسجد
ثم تقيم الدعاء
لتغدو احاديثنا
مشغولة من عسل
وبخور الجنوب
منزلنا
في جبل عامل
يشبه ربيع دائم
يستقبل الضيوف
بأريجه والوانه
كما يستقبل الفراشات
وكما تفتح الزهرة قلبها
لنحلة عاشقة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.