التنويريمنوعات

تراث الأندلسيِّين  في أدب المناظرات

 -تقديم

رغم ما كتب على الأندلس، وعلى تراثها العلمي والفكري من بحوث ودراسات، ومن كتب جامعية وأكاديمية باللغة العربية أو باللغات الأجنبية، ورغم ما أنجز من لقاءات وندوات فكرية وعلمية حول حضارة الأندلس، وحول تراثها العلمي والحضاري والفكري، فما زالت الأندلس  بحاجة إلى مزيد من التعريف والعناية والبحث والمتابعة الأكاديمية،  تراثها الديني والعلمي والحضاري والفكري والفلسفي، وفي جميع المراحل والامتدادات التاريخية التي مر منها هذا التراث الذي يركب الهوية الحضارية والفكرية والثقافية للأندلس.

وقد عرفت الأندلس  تراثا متعددا ومتنوعا  يكشف عن التعددية الفكرية التي كانت عليها الأندلس  أبرز هذا التراث أدب المناظرات.

وأدب المناظرات  كان حاضرا في التراث العربي الإسلامي ومن أبرز المناظرات التي اشتهرت في التراث العربي الإسلامي المناظرة النحوية بين  السيرافي ومتى بن يونس المنطقي البغدادي في بغداد حول علاقة النحو بالمنطق اليوناني.

أدب المناظرات في الأندلس

من تراث الأندلس  العلمي والفلسفي  أدب المناظرات، ومن أبرز هذه المناظرات، تلك المناظرة التي كانت بين أبي الوليد الباجي  ت 474 ، وبين ابن حزم الأندلس ي ت456 ه في القرن الخامس الهجري، وهذا القرن يعد العصرالذهبي في الحضارة العربية الإسلامية، بحيث في هذا العصر ازدهرت العلوم باختلاف أصنافها وأنواعها، وكان هذا  بفضل التأثير الذي مارسه التفاعل الحضاري  والثقافي بين الثقافة المشرقية وثقافة الغرب الإسلامي.

وهذه المناظرة كانت في أصول الشريعة ومصادرها المعتمدة في الاستنباط، ونظرا لأهمية هذه المناظرة، فقد كانت موضوعا لمجموعة من الرسائل والأطاريح الجامعية، ومن  أبرز الذين اشتغلوا بهذه المناظرة الدكتور عبد المجيد تركي، بحيث عرض  للأصول الكبرى   لهذه المناظرة، وتحدث عن  مسلك  ومنهج كل واحد منهما  في  الاستدلال على  مسائل الشريعة، وجاءت أطروحته حاملة لهذا العنوان” مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية بين ابن حزم والباجي”،و صدرت هذه الترجمة عن دار الغرب الإسلامي سنة 1986.، وقام بترجمتها إلى اللغة العربية الدكتور عبد الصبور شاهين.

كما كانت هذه المناظرة موضوعا لأطروحة جامعية أعدها  الباحث مصطفى الوظيفي وهي بعنوان :”المناظرة في أصول الشريعة”: دراسة في التناظر بين ابن حزم والباجي”،وقدمها بكلية الآداب الرباط المغرب،وصدرت عن وزارة الاوقاف المغربية سنة :   1998 .

وقد تركت هذه  المناظرة  آثارا واسعة  في التاريخ الإسلامي عامة، وفي تاريخ الفكر الأندلسي خاصة، وهذه المناظرة ذكرتها وسجلتها  كتب التراجم والفهارس والبرامج ونالت شهرة كبيرة بين المشتغلين بالدراسات الأندلس ية.

ومما ميز الأجواء العلمية والثقافية  التي جرت فيها هذه المناظرة هو محافظة الأندلس  على الوحدة المذهبية، في أخذها بمذهب الامام مالك  بن انس ت179ه، فقد ذكر الإمام المقري التلمساني ت1041 ه  في كتابه المشهور ” أن السائد في الأندلس  هو مذهب الامام مالك بن انس وقراءة الامام نافع.[1]

-المناصرة لمذهب مالك

ومما نشر في الحوليات  التاريخية  التونسية التي تؤكد مدى الهيمنة المذهبية التي كان عليها المذهب المالكي،  هو أن  الخليفة المستنصر الخليفة الاموي بالأندلس  وجه رسالة إلى أحد الفقهاء وهو  اسحاق بن ابراهيم  فقال فيها “فاني ما سمعت أن أحدا نقد مذهبه قال بشيء من هذه البدع “فالاستملاك بمذهب مالك   نجاة ان شاء الله”.[2]

وبفضل قوة المذهب المالكي بأرض الأندلس   قام علماء الأندلس  بخدمة كتاب الموطأ في الحديث النبوي، وكتاب الموطأ لإمام دار الهجرة مالك بن أنس ت179ه، له مكانة خاصة، وصاحبه بين المحدثين والفقهاء، فأقبل علیه العلماء الأندلسيون  بالشرح والاختصار والتعليق والتعريف، فمنهم من أطنب ومنهم من أوجز ومنهم اختصر، ومنهم : الإمام  الحافظ   أبي الوليد الباجي  الأندلسي، وابن العربي الاشبيلي، وابن عبد البر النمري الأندلسي.

ومن آثار هذا الاختيار في مناصرة المذهب المالكي، توجه الأندلسيّون إلى العلوم النافعة التي تنفع في الدارين الدنيا والآخرة، إذ ابتعدوا عن العلوم النظرية والفلسفية لا تحقق أي نفع، قال ابن حزم في هذا الموضوع:”فأفضل العلوم ما أدى إلى الخلاص في دار الخلود،ووصل إلى الفوز في دار البقاء”[3].

ويؤكد هذا ما قاله الإمام ابن حزم واصفا عزوف الأندلسيين عن علم الجدل  في رسالته المشهورة”في فضل أهل الأندلس :” اذ صرح “أن بلادنا،وان كانت لم تتجاذب فيها الخصوم ولا اختلفت فيها النحل، فقل لذلك تصرفهم في هذا الباب، فهي على كل حال غيرعرية عنه     [4].

وهو ما كشف عنه وأكده بلغة قوية النظار والمنطقي الحاج ابن طلموس  ت620 ه في كتابه “المدخل الى صناعة المنطق “حيث بين وكشف في مقدمة كتابه سبب عزوف الأندلس يين  وابتعادهم عن  علم المنطق،وذهب أن هذا العلم كان من العلوم المردودة عنهم .[5]

فأغلب الذين أرخوا للأنساق الفكرية والفلسفية في الأندلس، ذكروا أن المنطق كان من العلوم المرفوضة ببلاد الأندلس، فهو من خانة العلوم  ضمن خانة العلوم الدخيلة…[6]

فلقد كانت للظروف  السياسية التي مرت منها وعاشتها الأندلس  الأثر القوي والمباشر في شخصية  الإمام الباجي وابن حزم  وفي فكرهما وفي تراثهما، وقد انتهت هذه المناظرات بالغلبة للإمام الباجي، وهو ما اعترف به ابن حزم في نهاية  المناظرة  . 

سياق المناظرة

تأتي هذه المناظرة في سياق  القوة والسيادة التي نالها المذهب الظاهري مع ابن حزم  في الأندلس  بحيث انتشر بقوة في ارض الأندلس .

اذ أفرط  ابن حزم في القول بظاهر النصوص، وأنكر القياس، ورفض تعليل الأحكام  وأشاع فكره  وظاهريته في ربوع الأندلس ، قال القاضي عياض المالكي”: ولم يكن يقوم أحد بمناظرته لجهلهم بعلم الجدل والمناظرة فاستهوى قلوب الناس وأخذ عقولهم، فاغتر بأقواله العامة، وسلَّم الكلام له الخاصة على اعترافهم بتخليطه..”.[7] 

فعندما  لمع نجم ابن حزم، واشتهر بالأندلس ، عرف فضله وتفوقه العلمي، لما كان يتمتع به من غزارة علم، وقوة ذاكرة، وكثرة إنتاج فكريٍّ في مختلف العلوم والفنون مع تشنيعه على الأئمة وأهل الفضل، فأفرط في القول بظاهر النصوص، وأنكر القياس وتعليل الأحكام، وعمل على نشرها في  الأندلس، وحصَّنها بقوة بيانه وحماها بحدَّة لسانه، ولم يكن يقوم أحد بمناظرته لجهلهم بعلم الجدل والمناظرة فاستهوى قلوب الناس وأخذ عقولهم، فاغتر بأقواله العامة، وسلَّم الكلام له الخاصة .

فلما قوي المذهب الظاهري في الأندلس، وأخذ ينافس المالكية انتدب العلماء أبا الوليد  الباجي لمناظرته، وقد  استجاب  الدعوة، وقبلها بعدما عرف من علمه الكثير، إرادةً منه أن تكون هذه المناظرة سبيلًا لوقف انتشار المذهب الظاهري، ورغبة في ردِّ الاعتبار للأئمة الفضلاء الذين كانوا غَرَضًا للسان ابن حزم.[8]

وقد ترك أبو الوليد الباجي تراثا متنوعا ومتعددا في أصناف المعرفة والعلوم، وقد غطت كتبه وتراثه أغلب العلوم الإسلامية، ومختلف أصناف المعرفة، ولا سيما  ما تعلق  بالدراسات القرآنية، والدراسات الحديثية وعلم التفسير وعلم أصول الفقه وعلم المنطق .

وقد برع  الإمام الباجي بشكل خاص  في  الفقه والأصول وفقه الحديث النبوي، فهو من الوجوه العلمية تجسيدا  وتمثيلا لهذا العلم عند المالكية، قال في شأنه الإمام القاضي عياض السبتي ت544ه : “لم يكن بالأندلس  قط أتقن منه للمذهب المالكي”[9].

وقد ذكرت كتب التراجم الأندلسيَّة  هذه المناظرة، والأجواء التي وقعت فيها والآثار التي خلفتها  في تراث الأندلس  العلمي والثقافي .


[1] -نفح الطيب  للإمام المقري التلمساني ج:1ص:221

[2] – الحوليات  التاريخية   التونسية  : قسم الوثائق:ج-1- السنة . 1964.من مجلة تاريغ الغرب الاسلامي .ملف خاص.

[3] ـرسالة في مرات العلوم الابن حزم :ص63

[4] ـ ـرسائل ابن حزم  تحقيق احسان عباس  ج:3 ص:166

[5] -“المدخل الى صناعة المنطق لابن طلموس تحقيق فؤاد بن أحمد منشورات ضفاف  السنة : 2016ص: 12

[6] -يراجع اطروحة الدكتور الوزاد محمد : التيارات الفكرية في الأندلس في القرن الثالث   الهجري . اطروحة مرقونة بكلية الآداب الرباط المغرب ص:15.

[7] ترتيب المدارك للقاضي عياض: ج :2- ص: 805

[8] – ابن حزم وآراؤه الاصولية  لمحمد بنعمر  دار الكتب العلمية   السنة 1996 -ص:145 

[9]  ترتيب المدارك للقاضي عياض السبتي: 8/119


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد