اجتماعالتنويري

تجليات مفهوم الهويَّة الثقافيَّة في المجتمعات العربيَّة

(دراسة في علم الاجتماع الثقافي)


  الظواهر الثقافية حاكمةٌ على الغريزة الإنسانية في تحولاتها الاجتماعية، ومحكومة بطريقة التفكير في تشكلاتها التاريخية. وهذا يعني أن الثقافة – باعتبارها جسداً للمجتمع وتجسيداً للتاريخ – قادرة على بناء نظريات معرفية تساهم في التطور الحضاري، وتشييد معايير أخلاقية منفتحة على التجارب الفردية والجماعية، ومعبرة عن الكيان الإنساني والكيانات المحيطة به، التي يعاد تشكيلها باستمرار ضمن الظروف النفسية، والبيئة الاجتماعية، والطبيعة المادية للأشياء والأفكار“.

– الملخص:

تشكل الهوية الثقافية نواة التماسك الاجتماعي والروحي للأمة، إذ تعبّر عن تراثها اللغوي والديني والتاريخي، وتتبلور في الأعمال الأدبية والفنية والعمارة ووسائل الإعلام. يهدف هذا المقال إلى توضيح أبعاد الهوية الثقافية وتبيان تأثير العولمة والتكنولوجيا على تجلياتها، مع تسليط الضوء على دور اللغة العربية في ترسيخ القيم الإنسانية والوطنية. اعتمد المقال على منهج التحليل والنقد السوسيولوجي لتحديد كيفية التفاعل بين الثوابت التراثية والابتكارات المعاصرة، مما يمكن المجتمعات من الحفاظ على تراثها مع الاستفادة من متطلبات العصر الحديث. وفي ذات السياق، حاول المقال باختصار إبراز أهمية التعليم والمناهج التربوية في نقل التراث والتجديد الثقافي، بالإضافة إلى تبيان دور العمل المؤسسي لتعزيز الحوار بين الثقافات المختلفة.

– المقدمة:

تعتبر الهوية الثقافية مفهوماً محورياً يشمل مجموعة من العناصر التي تكوّن الوجدان والانتماء داخل المجتمع، منها اللغة والدين والتقاليد والتراث التاريخي. وقد شهدت المجتمعات العربية، تحديات كبيرة في ظل تأثيرات العولمة والتحول الرقمي، ما أثر على استمرارية الهوية والاضطرار إلى إعادة صياغتها لتتماشى مع متطلبات وقتنا المعاصر. وفي هذا الإطار، تبرز اللغة العربية ودورها الأساسي ليس فقط كوسيلة تواصل، بل كوعاء تثقيفي يحمل بين طياته معاني التراث والقيم الاجتماعية والدينية التي توحد الأمة. كما أن التفاعل بين التراث المعهود وأساليب التعبير الحديثة في الأدب والإعلام يشكل منصة لإعادة النظر في مفاهيم الهوية وإعادة تجديدها بما يعزز من شعور الانتماء. ويعتبر هذا المقال ذا أهمية بالغة لاستقصاء آليات تجليات الهوية الثقافية وكيفية استجابتها للتحديات الخارجية دون أن تفقد جوهرها الأساسي. بناء على ما سبق يطرح المقال التساؤل الرئيس التالي: ما هي تجليات مفهوم الهوية الثقافية في المجتمعات العربية؟

– تجليات مفهوم الهوية الثقافية في المجتمعات العربية:

تُعرّف الهوية الثقافية بأنها البنية المعرفية والاجتماعية التي تمثل مجموعة العناصر المشتركة (كاللغة والدين والعادات والتقاليد والموروث التاريخي والفني والقيم الاجتماعية) التي تشكل صورة الفرد والجماعة وتمنحهما إحساساً بالانتماء والتميز. بشكل أكثر تحديداً، يمكن تعريف الهوية الثقافية على أنها النظم الرمزية والمعنوية التي تحدد كيفية رؤية الأشخاص لأنفسهم ولبيئتهم، والتي تتوارث عبر الأجيال من خلال الممارسات اليومية والتراث الأدبي والفني والتفاعلات الاجتماعية. كما أنها ليست ثابتة أو جامدة، إذ تتغير وتتجدد باستجابة للتحديات الخارجية كالعولمة والتكنولوجيا، مما يفرض على المجتمعات إعادة صياغة مظاهر هويتها مع الحفاظ على جذورها التراثية.

يرى الكثير من الباحثين أن اللغة تلعب دوراً محورياً في هذا البناء، فهي ليس فقط وسيلة للتواصل اليومي بل هي وعاء لتراكم المعرفة والثقافة. فاللغة العربية، على سبيل المثال، تمثل حجر الزاوية في المجتمعات العربية، إذ تحافظ على الصلات التاريخية والروحية التي تربط الشعوب بتراثها القديم. وقد أثبتت الدراسات أن استخدام اللغة الفصحى في الأدب والشعر وفي المناهج التربوية يعزز الوعي بالهوية الثقافية ويسهم في تثبيت الروابط بين الأجيال. ومن هنا تأتي أهمية الانتقال من مجرد الاستخدام الطفولي للغة إلى تبنيها كأداة للحفاظ على التراث والتعبير عن القيم الثقافية الأصيلة، مما يسهم في تعزيز الشعور بالانتماء والوفاء للهوية الوطنية.

ومن ناحية أخرى، يشكل الدين بعداً روحياً وأخلاقياً يضفي على الهوية قيمة لا غنى عنها، إذ يرسخ مبادئ العدل والأخلاق والتسامح التي تعد جزءاً من الإرث الديني الغني في المجتمعات العربية والإسلامية. هذا الدور الديني هو ما يساعد على توحيد صفوف المجتمع، خاصة في سياق التحديات التي تفرضها العولمة والتداخل بين ثقافات متعددة. ففي الدراسات التي تناولت إشكاليات الهوية اللغوية والثقافية عند الشباب العربي نجد أن الدين والتراث الديني يشكلان عاملاً أساسياً في مقاومة النزاعات الثقافية ومحاولة إبراز جانب الوحدة الوطنية رغم تعدد الاختلافات.

وعلى صعيد آخر، نجد أن الفنون والأدب تعبر عن الهوية الثقافية بصورة جلية، إذ تحمل القصائد والقصص التراثية بصمات التجارب التاريخية والحنين إلى الماضي، بينما يتجدد التعبير الفني في قالب معاصر يتفاعل مع التطورات الرقمية والإعلامية. فقد لعب الأدب والشعر دوراً حيوياً في نقل صورة الأمة وتوثيقها عبر القرون، الأمر الذي يبرز قدرتها على مقاومة الضغوط الخارجية وإبراز الخصوصية الثقافية في زمن تتداخل فيه الهويات بشكل متسارع. وتساهم هذه العملية الإبداعية في استحداث حوار متجدد بين التراث والحداثة، حيث يصبح الأدب وسيلة نقدية تعيد قراءة التاريخ وتقدم رؤى مستقبلية تتماشى مع متطلبات عصر العولمة الثقافية.

كما أدى ظهور التطورات التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي إلى إضافة بعداً جديداً لتجليات الهوية، إذ أثرت في الطريقة التي يعبّر بها الشباب عن انتمائهم الثقافي وأساليب التواصل بينهم. ففي ظل هذا التحول الرقمي، أصبح من الضروري إعادة النظر في سياسات التعليم والإعلام، وذلك من أجل تمكين الأجيال الجديدة من استخدام اللغة العربية والتراث الثقافي كأدوات للتعبير عن هويتهم، في مواجهة تأثير الثقافات الأجنبية المتدفقة عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتوضح دراسات عدة في تخصص (علم الاجتماع الثقافي) وبالأخص في مجال ” العولمة والهوية الثقافية للشباب العربي ” كيف يتجلى هذا التأثير في تغير الأنماط السلوكية واللغوية. حيث يتطلب الأمر جهداً أكاديمياً وثقافياً لإعادة توجيه المحتوى الرقمي بحيث يبرز الخصوصيات الوطنية والتراثية ويحافظ عليها من الذويان في الثقافات الأخرى، بالمقابل يعزز الحوار بين الثقافات بدلاً من فرض ثقافة أحادية.

ومن العوامل المؤثرة أيضاً في تجليات الهوية الثقافية هي العملية التربوية التي تعتمد على مناهج تعليمية تدمج التراث مع التجارب المعاصرة. إذ إن تضمين القيم الثقافية والتاريخية في المناهج الدراسية بالإضافة إلى استخدام الوسائط الرقمية التعليمية يساعد في ترسيخ الوعي بالهوية لدى الطلاب، مما يساهم في خلق جيل واعٍ قادر على مواجهة تحديات العولمة دون أن يفقد صلبه الثقافي. كما أن التفاعل بين مؤسسات البحث العلمي والجهات التعليمية يعزز من مجهودات التحديث في الخطاب الثقافي الذي يدمج بين القيم التقليدية والابتكارات الحديثة.

وعليه، فإن رؤية الهوية الثقافية كمشروع بحثي وتربوي مستمر يتطلب استثماراً من جانب القطاعين العلمي والتربوي لتطوير سياسات ثقافية وإعلامية تراعي التنوع وتتيح المجال للتجديد دون الإخلال بأصول الهوية. ويبرز هذا المشروع في ضرورة تبني نهج حواري يعيد التأكيد على أهمية الحوار بين الثقافات المختلفة، مع التركيز على ما يجمع الشعوب من قيم ومبادئ إنسانية عامة، وهو ما يمهد الطريق لتشكيل هوية مشتركة تكون مرآة للتراث الوطني والتفاعل الحضاري العالمي.

خلاصة القول، إن الهوية الثقافية ليست بناءً جامداً بل هي عملية ديناميكية تستند إلى تفاعل دائم بين العناصر الثابتة مثل اللغة والتراث الديني والتاريخي، وبين عوامل التجديد المعاصر الناتجة عن تأثير العولمة والتكنولوجيا. إن الحفاظ على الهوية الثقافية يتطلب استراتيجيات تربوية وبحثية وإعلامية شاملة تعنى بتفعيل دور اللغة العربية وترسيخ القيم التراثية في المناهج التعليمية، إلى جانب تعزيز الحوار الحضاري الذي يجمع بين التنوع والاتحاد. كما أن العمل المشترك بين المؤسسات الأكاديمية والجهات الحكومية والإعلامية يعتبر أساسياً لتحديث الخطاب الثقافي وتأمين استمرارية الهوية الوطنية في مواجهة تحديات العصر. وفي هذا السياق، تعد إعادة صياغة الهوية ثقافياً مشروعاً مستقبلياً يتطلب استثماراً علمياً وتربوياً مستمراً للحفاظ على التراث والتجديد بما يتماشى مع التحولات العالمي.

________

– المراجع المعتمدة:

– نهلة إبراهيم: الثقافة في مواجهة العصر (قضايا سوسيولوجية معاصرة في علم الاجتماع الثقافي)، الحضري للطباعة، الرواد للكمبيوتر والتوزيع، الإسكندرية، ط1، 2008.

– سميرة إبراهيم منصوري: العولمة والهوية الثقافية للشباب الجزائري: مفاهيم وتجليات، مجلة آفاق للعلوم، جامعة زيان عاشور (الجلفة)، العدد: 07، الجزائر، مارس 2017، ص(316-324).

– وضيحة الجملي: تجليات الهوية؛ رحلة بين ثراء التنوع وتحديات العصر، مجلة إشراق العمانية، 1 فبراير، 2025. https://eshraq-om.com/?p=18546

– حسام الدين فياض: في جدلية العلاقة بين الهوية الثقافية واللغة، الحوار المتمدن، العدد: 7568، 01/04/2023. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=788293

– أحمد مرسي: الهوية الثقافية ماهيتها وخصائصها، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، المجلد: 31، 2013، ص(309-318).

– إيمان بن زايد: تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على الهوية الثقافية دراسة في الاستعمالات والإشباعات لطلبة طاهري محمد بشار (الفايسبوك نموذجاً)، مجلة دراسات، المجلد: 07، العدد: 02، الجزائر، جوان 2018.

– إبراهيم أبو عواد: الثقافة في تجلياتها الزمنية والمكانية، الصحيفة، الجمعة 24 يونيو 2022. https://2u.pw/YHbmE

– حسين عبد الحميد أحمد رشوان: الثقافة (دراسة في علم الاجتماع الثقافي)، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 2006.

– فاطمة موسى عبد العباس: اللغة العربية وإشكاليات الهوية، مجلة العلوم الإنسانية والطبيعية، المجلد:02، العدد:11، 2021.

– إيمان سكور: بناء الهوية الثقافية على الخط وعلاقتها باستخدام موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك، رسالة دكتوراه غير منشورة، قسم الاتصال، كلية الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر 3، للعام الجامعي 2019-2020.

– دنيس كوش: مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة: منير السعيداني. مراجعة: الطاهر لبيب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، آذار (مارس) 2007.

__________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

حسام الدين فياض

د. حسام الدين فياض الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.

مقالات ذات صلة

اترك رد