خطاب المنهج في العلوم الإسلاميَّة

-مقدِّمة في المنهج
نقول في البداية إن اكتشاف المنهج الناظم للفكر، والمنتج للمعرفة، والمعين على الفهم، والمساعد على التلقي والاستدلال، والمفضي إلى الوصول إلى المعارف التي تتعلق بالمعرفة بصفة عامة، كان فتحا كبيرا،وعهدا جديدا للعقل البشري عامة،والعقل الإسلامي بصفة خاصة وهو يتعامل مع المعارف بمختلف تخصصاتها وفروعها وأصنافها [1] .
وقد ظلت المسألة المنهجية من القضايا الشائكة والمركبة، فهي ما زالت تحظى بالمتابعة، وتنال الاهتمام والدراسة والنقد في مجال البحث العلمي، وهو ما يكشف عن مدى الاهتمام والعناية الذي نالها المنهج بين الباحثين والدارسين والمشتغلين بعلم المناهج.
و من مسلمات الدرس المنهجي قديما وحديثا أن”: سلامة الأفكار والنتائج في أي تخصص معرفي، أوعلمي،عادة ما يتوقف على مدى سلامة المنهج،وصحة الطرق و المسالك الموصلة إلى المعرفة في ذلك التخصص العلمي”.[1].
وعليه وانطلاقا من هذا الاعتبار،نقول إن المناهج المعرفية بجميع أنواعها وفروعها وأشكالها وأقسامها،كانت حاضرة عند علماء الإسلام،ثابتة في عقولهم،ومتأصلة في أذهانهم،يسيرون عليها في بحوثهم،و يتقيدون بها في دراساتهم، فقد كانت لهم عناية راسخة،واهتمام بالغ،و متابعة خاصة بمناهج العلوم وبمسالكها في انتاج المعرفة،وان كانت وجهتهم نحو مناهج الفهم والتفهم والتلقي والتفسيرأكثر،و كانت العناية بشكل خاص بطرق البيان والتبين وبمسالك الفهم،بناء على هذا الثابت الحاضر في العلوم الإسلاميَّة، وهو أن مدار العلوم في الثقافة الإسلاميَّة،كان هو البيان والتبين كما قال الجاحظ قديما.
وهو البعد الذي جعل الحرص على اختيار وانتقاء المنهج السديد والمسلك السليم في البحث العلمي من أولى الأولويات في التراث العربي الاسلامي، وظل الحرص العلمي على المنهج ومقدماته من الأولويات،ما يعني أن المنهج شكل جامعا، وقاسما مشتركا بين جميع العلوم التراثية.
وما لاحظه طه عبد الرحمان في كتابه “تجديد المنهج في تقويم التراث” وهو يتصفح كتب التراث العربي الاسلامي في مضامينها المعرفية،وفي مناهجها المنتجة لتلك المضامين والمحتويات،أن الآليات المنتجة للمضامين في علوم التراث،لم تنل بعد العناية اللازمة والمتابعة الضرورية،وانما اتجه الحرص والعناية بشكل أكثر إلى جهة المضامين والمحتويات والنقول.
من جهته أشار محمد عابد الجابري وهو يتصفح مناهج العلوم، أن العلوم التراثية في اشتغالها على المنهج،أدركت أن قيمة العلوم واستمراريتها، تكمن في ما تحمله من المناهج،وهذا من أساسيات وضرورات تحصيل العلم،ومن لوازم اكتساب المعرفة، ومن دعائم وأركان النظر والبحث العلمي بشكل عام.
وعليه فقد عرف الجابري المنهج بأنه جملة من العمليات العقلية،والخطوات العملية التي يقوم بها العالم والباحث والدارس في الاشتغال على بحثه،من أجل الكشف عن الحقيقة،وفي البرهنة عليها….”.[2].
-تعريف المنهج
يطلق المنهج أو المناهج في اللغة العربية ليراد به الطريق الواضح، والمسلك البين،ومنه قوله تعالى: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا“المائدة: 48.
ثم صار المنهج مصطلحا يعني إجمالا: “طريق البحث عن الحقيقة في أي علم من العلوم، أو في أي نطاق من نطاقات المعرفة الإنسانية”[3].
ووهناك من اختار هذا التعريف المنهج “هو الطريق والمسلك المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة أو البرهنة عليها “.[4]
المنهج بصفة اجمالية هو مجموعة من المراحل للبرهنة أو الإجابة على إشكالية البحث سواء أكانت نظرية،أم تطبيقية لها تعلق بالميدان.
وقد اختار الدكتور عباس الجراري هذا التعريف للمنهج فقال :”المنهج هو خطة مضبوطة بمقاييس وقواعد شاملة،والقصد من المنهج هو الوصول إلى الحقيقة،أو تقديم الدليل عليها “.[5]
ومن مقتضيات التعامل المنهجي كما أشار إلى ذلك الدكتور عباس الجراري أن يتجرد مستخدم المنهج ومستعمله عن التحيزات القبلية، وعن الأفكار المسبقة التي تحملها اختياراته في هذه الحياة، كما يجب أن يعمد إلى تغييب وإبعاد أحكام القيمة،لأن المنهج هو مجرد وسائل موصلة إلى هدف معرفي معين،مهمته ووظيفته تأمين الطريق للباحث في الوصول إلى المعرفة وتحصيل مداخلها والبرهنة على اشكالياتها .
فهذا المعطى المعرفي والعلمي شكل ثابتا محوريا، وقاسما مشتركا في الممارسة التراثية في اشتغالها، وعنايتها واهتمامها بالمنهج وعناصره.
وحضور المنهج في العلوم التراثية،جعل العلوم الإسلاميَّة بمختلف فروعها وأقسامها،تستحضر في مقدماتها وفي مداخلها خطاب المنهج بشكل كبير، وتعد المنهج من المقدمات الأساسية في تحصيل واكتساب المعرفة بشكل عام.[6]
وانطلاقا من هذا البعد الإجرائي،المحدد في أن طبيعة الموضوع ومضمونه ومحتوياته هو الذي يفرض ويحدد المنهج،وبحكم وجود علاقة جامعة ومتبادلة بين الموضوع والمنهج،فإنه يصعب حسب ما ذهبت اليه البحوث والدراسات، الفصل بين المنهج والموضوع،في أي تخصص علمي،أو معرفي،أو شرعي.[7]
وما يزكي حضور المنهج في العلوم الإسلاميَّة هو وجود كثير من البحوث اختارت ان تولي وجهتها نحو دراسة المنهج ومنها ومن هذه الكتب::
– مقدمة في المنهج للدكتورة عائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ.
– خطاب في المنهج لعباس الجراري.
-مقدمة في المنهج لأحمد عبادي.
-مدخل إلى فلسفة العلوم لمحمد عابد الجابري: مركز دراسات الوحدة العربية:-4-السنة:1998.
–-إشكالية المنهج في العلوم الإنسانية : المنهج البنيوي مثالا للدكتور بغورة الزواوي: مجلة البصائر الأردنية العدد: المجلد:12-العدد:-2- السنة:2008.
– نظرية الاعتبار في العلوم الإسلاميَّة للدكتور عبد الكريم منشورات المعهد العالمي للفكر الاسلامي السنة :2008
-سؤال المنهج: في افق التأسيس لأنموذج فكري جديد لطه عبد الرحمان المؤسسة العربية للفكر والإبداع 2015.
– إشكالات الفصل والوصل بين المنهجية والمذهبية في الفكر الإسلامي لسعاد كريم مجلة إسلامية المعرفة -العدد:77-السنة:2014.
-خطاب المنهج في العلوم الإسلاميَّة لمحمد بنعمر أوراق نماء السنة :2017.
تجليات العناية بالمنهج
ومن تجليات العناية بالمنهج،العناية بتحديد المفاهيم وكانت هذه الجهة من التقاليد الراسخة والمعهودة بين علماء الاسلام، اذ تقرر بينهم ان لا علم بدون ضبط المفهوم، وبناء على هذا الاعتبار فان المصنفات التي اشتغلت مقدماتها على المفهوم نذكر:
– المستصفى لابي حامد الغزالي ت505ه
– إحكام في أصول الأحكام للإمام أبي الوليد الباجي الأندلسي ت474 ه.
-المنهاج في ترتيب الحجاج للإمام أبي الوليد الباجي الأندلسي ت474 ه.
-التنقيح للاما القرافي .
– الإحكام في اصول الاحكام لابن حزم الاندلسي ت 456 ه.
-تقريب الوصول لابن جزي الكلبي ت741ه.
وهذه العناية بالمفهوم تدل على مدى الاهمية التي نالتها المفاهيم في العلوم الإسلاميَّة،اذ كانت هذه العناية من التقاليد الراسخة والمعهودة في مجال البحث العلمي في العلوم الإسلاميَّة،لأن تحديد المفاهيم كان في الاصل هو تحديد للأرضية العلمية المشتركة والجامعة بين العلوم .
ومن شأن ضبط المصطلحات والمفاهيم المستعملة في العلوم، أن يعين الباحث على تجنب وتلافي الالتباس ،لأن التحقق من المفهوم من شأنه ان يرفه الخفاء ويبعد الالتباس، وهو ما عبر عنه ابن حزم الاندلسي ت4546 ه عندما قال “فلا شيء اعون على ذلك من :تخليط الاسماء الواقعة على المعاني.. “.[8]
كما عبر القدماء أن الضرر الذي قد يلحق العلوم بصفة عامة،إنما مرده إلى عدم التحقق من المفهوم المتداول والمستعمل في العلوم الشرعية بشكل خاص.
—تقرير:
ظل تحديد المفهوم من المطالب الحاضرة بقوة في أغلب العلوم الإسلاميَّة،وعند أغلب علماء الإسلام،ما يدل أن علماء الإسلام كانت لهمة عناية بالغة بالمصطلحات والمفاهيم التي يشتغلون عليها في العلوم.
.
[1] -نظرية الاعتبار في العلوم الإسلامية للدكتور عبد الكريم منشورات المعهد العالمي للفكر الاسلامي السنة :2008ص:10.
[2] -مدخل إلى فلسفة العلوم لمحمد عابد الجابري: مركز دراسات الوحدة العربية:-4-السنة:1998.ص: 23.
[3]- مقال في المنهج لأحمد عبادي منشورات الرابطة المحمدية المغرب 2008ص : 33
[4] -المعجم الفلسفي اصدار مجمع اللغة العربية القاهرة السنة 1993ص:15
[5] -خطاب المنهج لعباس الجراري اصدار مؤسسة عبد الله الجراري ط-2- السنة 2015ص:15
[6] -مقدمة في المنهج للدكتورة عائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ ص:23
[7] – إشكالات الفصل والوصل بين المنهجية والمذهبية في الفكر الإسلامي لسعاد كريم مجلة إسلامية المعرفة -العدد:77-السنة:2014.ص:33
[8] – الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم دار الافاق الجديدة لبنان :السنة :1980 – ج :8 ص:101
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.