أدبالتنويري

همسات مع جناح “الحريَّة” للشاعرة رفعة يونس

الشاعرة رفعة يونس لا تتوقف روحها عن التحليق في فضاءات الجمال الشعري حتى لو كانت فضاءات تشعرنا بالألم أحيانا، وعبر قرائتي النقدية للعديد من اصداراتها وعدد كبير من القصائد، كنت دوما أسعى لاستكشاف هذا الجمال الذي كنت أجده فيما أقرأ وفيما هو خلف الكلمات، فالشاعرة ابنة الوطن المحتل وإبنة سلواد والتي أجُبرت على النزوح عنها طفلة اثر هزيمة حزيران 1967، فأصبح جسدها خارج الوطن وبقيت روحها تحلق فيه، وحين اقرأ لها كنت أشعر أن الشاعرة يحلق طيفها ويقف على أعلى تلة العاصور في بلدتها وهي ثالث أعلى قمة في فلسطين، تعصف بها الرياح، ولكنها تقاوم وتنظر في أرجاء الوطن وفي دروب سلواد وتنزف روحها نزف قصائدها والجمال، فأنشدت للأسرى وللشهداء وللأمكنة في بلدتها وفي غيرها، نزف روحيّ لا أظن أنه يأتي بتخطيط وتفكير مسبق، بقدر أنه يأتي ابن اللحظة والمشاعر الفياضة والأحاسيس.

قصيدة “جناح الحرية” نص شعري ولدته الأحاسيس والمشاعر التي هاجت وهي ترقب عبر شاشات الفضائيات الإفراج عن الأسرى وهم منهكون من سنوات طويلة من وأد الحرية، والمعاناة مع الأمراض دون علاج واهتمام، بعد عملية تبادل الأسرى التي فرضتها المقاومة قسرا على الإحتلال بعد حرب صمود طاحنة استمرت خمسة عشر شهرا في مواجهة بين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبين احتلال لا يعرف الأخلاق في الحروب وغيرها، وبدعم مالي وتسليحي من قوى الاستعمار الأوروبي وغير الأوروبي، وظلم ذوي القربى، والمقارنة كيف خرج أسرى العدو بصحة جيدة مقابل وضع أسرانا وكيف خرجوا.

القصيدة التي بدأت بتساؤلات وجودية ووجدانية عن من يمكنه استعادة الزمن الضائع والمسروق من عمر الأسرى، ومن يمكنه أن يعيد الفرح المسلوب، ومن يمكنه أن يجدد الأمل الذي أصبح حلما مع المعاناة وطول السنوات، فهناك من تم أسره شابا صغيرا وخرج كهلا، فنجد هذه التساؤلات التي وردت في عبارات مثل: “من يعيد لهم” و”من يرد لهم” و”من يطوي الليل” و” ضحكات الصغار”، وهذه تساؤلات مشروعة ولكنها تعكس في ثناياها البحث عن اجابات في ظل الحيرة والألم، وهذه التساؤلات الوجدانية أخرجت القصيدة عن سياق القصائد التقليدية التي نقرؤها والتي تتغنى بالأسير وتصوره وكأنه من كوكب آخر أو من معدن الفولاذ، فهنا الأسير إنسان يحب ويكره ويعاني ويتألم ويصمد عبر سنوات الاعتقال التي تمتد عقود من الزمن، فهو رَهن حياته وعمره لوطنه.

القصيدة تحدثت عن الظلم الذي تعرض له الأسرى والحرمان والقهر والحرية وكرامة الانسان، معتمدة الرمز مؤكدة على الحلم، فالفكرة والمضمون الذي قامت عليهما القصيدة تدور حول المعاناة للأسير بسبب القهر والحرمان والسجون التي تفتقد الحد الأدنى من حقوق الأسرى المناضلين من أجل الحرية لشعبهم ووطنهم، من أجل سحق أرواحهم وحرمانهم من أحلامهم، فالأسرى “موج سنابل، تروي تاريخا، أساطير حب”، وهذه الأبيات الشعرية المعتمدة على تخيل الصورة الإنسانية للإنسان الأسير، تعطينا صورا بليغة ولوحات مرسومة بالكلمات، فنرى الشاعرة تستخدم كلمات لها جمالية وأبعاداً مثل “من يعيد لهم،  دفة العمر” في تصوير متميز فالدفة في القارب تحتاج من يوجهها، وهنا في التشبية والاستعارة سيتولد أكثر من سؤال، وكذلك في التشبيه والاستعارة بقولها: “من يرد لهم، ضحكات الصغار، شراعا لفجر.. نقي”، فهنا أصبحت “ضحكات الصغار” هي المبشرة بالغد وهي “شراعا لفجر ..نقي”، وهذا الفجر الذي يحلم به الأسير وهو يطوي سنوات العمر بالقهر والحرمان هو الذي “يبعث حلما شهيا”، ونجدها بقوة اللغة وتكثيفها توظف برمزية الأمل والنقاء مقابل القهر والألم والفقد والذي رمزت له بعبارت رمزية مثل: “سياط الأسى”، مرايا الغياب”.

فحلم الأسير وهو يعاني من الوحدة ومن “حرقة الآهات” يبحث “عن جناح حرية.. يعلو في شغافة” بدون أن يضعف أمام الجلاد والسجان، في مشهد شعري يجمع بين الحلم والحرية والتاريخ والصمود، وبإيقاع موسيقي يحمل أكثر من صورة، في نص يظهر أن الأسير انسان له مشاعر وأحاسيس وأحلام وتوتر وصبر وصمود في نفس الوقت، وكما في نصوص وقصائد سابقة نجد الشاعرة رفعة يونس تستخدم كلمات تثير الأبعاد التأملية في روح القارئ من خلال أسماء مجردة وقوية مثل الحزن والغياب والقهر، إضافة للحركة المستمرة من خلال استخدام الأفعال المضارعة مثل يمحو ويعلو،  وكل ذلك بلغة سلسلة وقوية تعتمد على الاستعارة والتشابيه والرمزيات، وكل هذه الصور تحمل أبعادا وجدانية قوية ومؤثرة، فهي تنقلنا من صور الألم والتساؤلات في البداية إلى الأمل والحلم والواقع في النهاية، بدلالات فكرية تؤكد على مفهوم وفكرة الحرية وفكرة القيمة للفرح الغائب، مؤكدة في النهاية على أن النضال من أجل حرية الوطن والإنسان هي فكرة لا يمكن التخلي عنها، فمن يتخلى عن المقاومة والنضال يستمرئ العبودية والبقاء في القيد، ولكن الانسان الحر يقاوم ولا ينظر خلفه ويبقى هدفه أن “يمسح الحزن” وأن “يمحو لسع أيامه” من أحل الحرية فعندها فقط “تشرق في البال، شمس القصائد”، ومن خلال تألق الشاعرة بتقديم تجربة انسانية ونضالية قوية، بلغة شعرية مكثفة وقوية تجمع بين الواقعية والرمزية، تشد القارئ وتترك الأثر في روحه كما: “أساطير حب، تزهو… بعيني هذا الوطن”.

جناح الحرية

رفعة يونس

من يعيد لهم

دفة العمر

حين مضى

وانقضى

في غياهب هذا القهر

خلف القضبان

وبوابات الزمن

من يرد لهم

ضحكات الصغار

شراعا لفجر ..نقي

يبعث حلما شهيا

بأعينهم

من يطوي الليل

سدوله

يخفي سياط الأسى

ويشظي مرايا الغياب

شجون الوسن

حرقة الآهات

بوحدتهم

يمسح الحزن

وجه سحاباته

يمحو لسع أيامه

كي تشرق في البال

شمس القصائد

تعمر في القلب

أنشودة

عن جناح لحرية

يعلو في شغافه

موج سنابل

تروي تاريخا

أساطير حب

تزهو….

بعيني هذا الوطن .


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد