اجتماعالتنويري

هوامش على دفتر الصهيونيَّة

بذلت الحركة الصهيونية محاولات طويلة ومريرة من أجل كسب التعاطف المسيحي الأوروبي ، لا سيما وأن كثيرا من المسيحيين اتهموا اليهود بالهرطقة ، بل إن مجمل كنه الصهيونية أو بالأحرى اليهودية في عقيدة مسيحي أوروبا أنهم قتلوا الرب ؟ وهو الاتهام الأكثر خطورة والذي ظل ملازما للحركة الصهيونية ، بل تخبرنا كتب التأريخ المسيحي أنه ليست مصادفة أن يكون بولس هو المحرض الأول والرئيس في التوجه المناهض لليهودية ، ويمكننا رصد العلاقة التاريخية القديمة بين المسيحية واليهودية من خلال بداية الشتات اليهودي تحديدا في العام السابع بعد الميلاد حيث أصبحتا المسيحية واليهودية تسيران في طريق مختلف وأصبح الاتجاه المسيحي المعادي للسامية أكثر شراسة ، وهذا ما دفع فيما بعد الواعظ جيوفاني كريسوستمو  Giovani Cristomo أن يقول إن اليهود يشكلون جماعات منحرفة ومجموعة غوغاء من النساء الساقطات ، وفي مواعظه بعنوان : Tudaes Adversus يشير إلى أن المسيحيين يفضلون الموت بدلا من أن يتوجهوا لطبيب يهودي ، ويجب عليهم الابتعاد عن اليهود مثلما يفرون من الطاعون والكوارث التي تعصف بالبشر.

ويرى هذا الرجل الكنسي أن اليهود لا يجب أن يكونوا أبدا شعبا له أرض ، أما أوجستينو كما يذكر كارل ديخنر في كتابه ( التاريخ الإجرامي للمسيحية ، 2000)  فيرى أنه لم يكن من الصواب إهلاك اليهود لأنهم كانوا سيشكلون الدليل الحي لصدق المسيحية بسبب المصير الأبدي الذي يلاقونه وهو أنهم يهيمون في الأرض بلا وطن.

هذا ما جعل القساوسة يجتمعون في Alvira للوصول إلى عدة قرارات مهمة منها منع اليهود من تقلد المناصب العامة والأكاديمية والاحتفاظ بخدم مسيحيين والزواج بمسيحيين وعمل أي دعاية دينية أو إنشاء أي معابد يهودية والإقامة خارج الأحياء المخصصة لهم مرورا بإجراءات بسيطة لكنها مهينة مثل حمل شارات على ملابسهم لتمييزهم عن الآخرين وكذلك منعهم من التواجد في الشوارع في أثناء أسبوع الآلام المقدس لدى المسيحيين.

والحقائق التاريخية تؤكد تآمر اليهود على السيد المسيح ( عليه السلام ) ومحاربتهم له وضد أتباعه أيضا ، ولقد لقي المسيحيون الأوائل من جراء دسائس اليهود ومؤامراتهم أهوالا من الإرهاب والتعذيب والإبادة .

ويذكر عبد الله التل في كتابه ( خطر الصهيونية ) أن في ولاية نيويورك الأمريكية عددا كبيرا من دور النشر المعروفة بميولها الصهيونية تهتم بطبع الكتب التي تتعرض لشخصية السيد المسيح ( عليه السلام ) تعرضا هو في منتهى الشناعة وسوء الأدب ، ومن ذلك كتاب نشرته دار ( سيمون وشوستر ) بعنوان : ( التجربة الأخيرة للمسيح ) .

وبالرغم من العداء التاريخي والديني أيضا بين المسيحية واليهودية ، إلا أن هناك عوامل مكنت لإسرائيل من أرض فلسطين العربية وهذا تم بمباركة مسيحية غربية وهذا هو المشهد الأدهش في تاريخ الصراع بينهما من ناحية وبين الصراع العربي الإسرائيلي من ناحية أخرى .

***************************

ويشير فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد محمد الفحام شيخ الأزهر الأسبق في بحثه المعنون ( المسلمون واسترداد بيت المقدس ) إلى أسباب وأسرار التحالف بين المشروع الصهيوني الاستعماري ودول الغرب المسيحية ، ويتمثل هذا التحالف في السؤال الذي وجهه ( كامبل برمان ) عن ما مصير الحضارة الغربية إلى لجنة ألفها من بين مشاهير المؤرخين وعلماء الاجتماع والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والبترول والإذاعة ؛ للإجابة عن السؤال المذكور .

ويقول كامبل برمان في سؤاله : ” إن الإمبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ، ثم تستقر إلى حد ما ، ثم تنحل ثم تزول ، فهل لديكم أسباب ووسائل يمكن أن تحول دون السقوط أو الانهيار ، أو تؤخر مصير الاستعمار الأوروبي ، وقد بلغ الآن الذروة وأصبحت أوروبا قارة قديمة نفدت مواردها ، وشاخت معالمها ، في حين نرى العالم الآخر لا يزال في مطلع شبابه ؟ ” .

ومنذ ذلك التساؤل كما يذكر فضيلة الإمام الأكبر محمد الفحام في دراسته عكفت اللجنة على دراسة الموضوع ، وانتهت إلى وضع خطة للمستقبل ، ضمنتها تقريرا أحالته وزارة الخارجية إلى وزارة المستعمرات ، وقد جاء في التقرير أن الخطر المهدد يكمن في البحر المتوسط ، ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص ؛ حيث يوجد شعب واحد تتوافر له وحدة التاريخ والدين واللغة والآمال المشتركة وكل مقومات التجميع والترابط والاتحاد ، فضلا عن نزعاته الثورية وثرواته الطبيعية .

وطالب التقرير آنذاك بأنه على الدول ذات المصالح المشتركة أن تعمل على تجزئة هذه المنطقة ، وإبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وتأخر، وطالب التقرير بضرورة فصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي. فضلا عن مطالبة التقرير بإقامة حاجز بشري قوي غريب على الجسر البري الذي يربط آسيا وأفريقيا وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار.

واستطاعت الحركة الصهيونية أن تتسلل إلى الدول الغربية المسيحية من خلال قيام السير إيريك درموند بتوجيه رسالة إلى حاييم وايزمان أكد له فيها أن حماية حقوق اليهود ستكون من أهم واجبات عصبة الأمم ( منظمة الأمم المتحدة بعد ذلك ) وسخرت بالفعل كل إمكانات المنظمة من خلال فرض الانتداب البريطاني على فلسطين من أجل تحقيق هدف أساسي هو تنفيذ وعد بلفور.

الأخطر من ذلك كله هو ما أعلنه الزعيم الصهيوني ( ناحوم وسكولوف ) في المؤتمر اليهودي الذي عقد في كارلسباد في السابع والعشرين من أغسطس عام 1922 ونشرته جريدة نيويورك تايمز : ” إن عصبة الأمم فكرة يهودية ، لقد خلقناها بعد كفاح دام 25 سنة” .

هذا يجعلنا تمام اليقين في أن سر التحالف بين الصهيونية والدول الغربية المسيحية رغم الخلاف والصراع التاريخي هو تحالف لا يسنده شئ من التعاطف بل يقوم في الأساس على مطامع الحركة الصهيونية العالمية والتعصب العنصري الديني الذي تقوده الدول الغربية ضد الشعوب الإسلامية.

*******************

الجديد في المشهد هو ما ظهر باسم الصهيونية المسيحية ، وهو المصطلح الذي أشار إليه الكاتب سمير مرقص في مقالته بجريدة الأهرام القاهرية تحت عنوان : (الصهيونية..فالصهيونية المسيحية وغيرها) في التاسع من ديسمبر عام 2023 ، وهو المصطلح الذي وضح مسار القانون الأمريكي للحرية الدينية مطلع 1995 والدور الذى لعبه ثالوث اليمين الديني بالاشتراك مع اللوبي اليهودي والصهيونية بتجلياتها الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة، وهو المسار الذي يبرر أسباب التحالف الوثيق بين الصهيونية وسلوكها كجماعات ضغط وكتل تصويتية وجهات تمويلية للتأثير على العملية التشريعية وصناعة القرار والإدارة الأمريكية المسيحية بما يصب في صالح اليمين المتشدد في الداخل الأمريكي بما يضمن خدمة مصلحة الإسرائيليين.

*****************

ويشير سمير مرقص إلى المصطلح باعتباره أنه يعني بالصهيونية ذات التوظيف المسيحي أن نؤكد لفت النظر إلى أن الصهيونية المسيحية هي قوة صهيونية في الأصل توظف بشكل انتقائي المبادئ والتفسيرات المسيحية بما يخدم المصالح الصهيونية. ووجد اختراقات صهيونية لبعض الجماعات المسيحية، إلا أن هذه الجماعات بمجرد أن تتبنى المقولات الصهيونية فإنها تعزل نفسها بنفسها عن المسيحية إذ تصير متهودة.

إذن ـ وكما يذكر المقال ـ فإن الصهيونية المسيحية هي صهيونية ضمن عديد الصهيونيات، وتسير فكرة الصهيونية ذات التوظيف المسيحي في نفس اتجاه ما طرحه الدكتور عبدالوهاب المسيرى في موسوعته المرجعية المعتبرة: اليهود واليهودية والصهيونية؛ بالأخذ بمصطلح الصهيونية ذات الديباجة المسيحية انطلاقا من أن هذه الصهيونية: غير مسيحية بأى حال، بل صهيونية استمدت ديباجتها عن طريق الحذف والانتقاء من التراث المسيحي دون الالتزام بهذا التراث بكل قيمه وأبعاده.

وتجدر الإشارة هنا إلى التذكير بحادثتين ؛ الأولى أنه منذ ذلك الوقت تضاعفت وتزايدت القصص والحكايا والروايات المتعلقة بخيانة اليهودي أو باليهودي الخائن ويعتبر الفن التشكيلي المسيحي ثريا وخصبا بالأعمال التي تناولت بالصورة الذهنية البذيئة للرجل اليهودي . أما الثانية فإن الحملات الصليبية الأولى قدمت فرصة ذهبية لليهود أثناء رحلتها إلى الأرض المقدسة حين أزهقت روح الكثيرين منهم وسلبت ممتلكاتهم ، وهكذا بدا اتجاه متنامي يعتبر الجماعات اليهودية من الطبقات الدنيا داخل البلاد التي كانت تستضيفهم للعيش بها وكانوا يعزلون عن باقي الشعب.

وفي دراسته يذكر محمد شعبان (2023) الموسومة بـ ( قصة العلاقة الغامضة.. لماذا دعمت بريطانيا إقامة إسرائيل؟) أن بريطانيا دخلت محتلة إلى فلسطين والقدس في أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول عام 1917، وقبل هذا الانتصار العسكري بشهر كامل أعلن وزير الخارجية البريطانية (اللورد بلفور) وعده الشهير بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. ولما نجحت بريطانيا في إعلان احتلالها الذي استمر 31 عاما حتى مايو 1948، فقد عملت طوال هذه الفترة بكل قوتها، ورغم المقاومة العربية الشرسة في فلسطين وانتفاضاتها المتوالية، من أجل تنفيذ وعدها، وذلك عبر فتح باب الهجرة لليهود ودعمهم وإنشاء المستوطنات لهم، وإمدادهم بالسلاح والتغاضي عن ممارساتهم العنيفة. وفشلت فيما بعد الدول العربية السبع، مصر والعراق والأردن وسوريا ولبنان والسعودية واليمن، في مهمة إنقاذ فلسطين التي أطلقوا جيوشهم نحوها في مايو 1948.

ويطرح شعبان (2023) في دراسته تساؤلا مزمنا وهو السؤال الذي طالما حارَ المؤرخون والباحثون في الإجابة عنه: (لماذا دعمت بريطانيا الحركة الصهيونية دعما غير محدود، وكانت ولا تزال بجوار الولايات المتحدة أكبر داعمي إسرائيل حتى يومنا هذا؟) وما السر الذي جعل الرؤساء الأميركيين المتعاقبين، وآخرهم جو بايدن، ومن قبلهم الإمبراطورية البريطانية، يعلنون دون مواربة أنه إذا لم تكن توجد إسرائيل لاخترعوها وأوجدوها؟


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد