فلسفة الدين عند هيجل: من الدين إلى الفلسفة؛ رؤية نقديَّة

محمد بركان[1]
ملخص:
حينما ننظر إلى مفهوم ” فلسفة الدين” ” La philosophie de la religion “عادة ما يذهب تفكيرنا إلى الفيلسوف الألماني فردريش هيجل F Hegel، باعتباره أول من وظف المفهوم ( مفهوم فلسفة الدين )، حيث أراد هيجل إعادة فهم الدين ( المسيحية )، الذي لم يتحدث في كتبه ومحاضراته، إلا ويعطي إشارة للدين في علاقته بالفلسفة، وقد صاغ هيجل فلسفته في الدين- بشكل خاص- على شاكلة محاضرات، كتبت فيما بعد من قبل طلابه بعنوان ( محاضرات في فلسفة الدين ). في هذه المحاضرات يبرز هيجل تطور الوعي الديني مستعملا منهجه الجدلي ( الموضوع، والنقيض، ومركب الموضوع )؛ فقد بين أن الدين سمة تخص الإنسان وتميزه عن غيره من الكائنات، وفضيلة هذا التفكير الفلسفي في الدين عند الفيلسوف الألماني، هي الوصول إلى الفكرة الخالدة، أو اللحظة الكلية، ولبلوغ هذه اللحظة كان لابد للوعي الديني قطع لحظات متدرجة من أجل استكمال السمة العينية للدين بدءا من حالة الطبيعة، وصولا إلى اللحظة الكلية. فإن كان تجلي الفكرة المطلقة يتم في الفن عن طريق الحس، فإن في الدين تتجلى في التمثل. أما في الفلسفة، فالوصول إليها ( الفكرة المطلقة ) يكون عن طريق الفكر.
يعتبر كل من فيشته ( Fichte ) وشلينج ( Schelling ) وهيجل ( Hegel ) من كبار المفكرين والفلاسفة النسقيين الذين أكملوا طليعة المثالية الألمانية بعد كانط ( Kant )، وقد يصعب علينا الأمر أن نوفيهم حقهم في الدراسة والتحليل، كونهم هم من رسموا سمة [ المثالية الألمانية ][2]؛ إذ نجد لديهم تفلسف حقيقي تجاه الدين والمسألة الدينية، لكن في هذه الدراسة سوف نوجه النظر حول الحديث عن مساهمة الفيلسوف الألماني هيجل ( Hegel ) داخل حقل ” فلسفة الدين “. فقد أعطى هيجل دروسا (محاضرات ) في هذا المبحث الفلسفي، وهو ما كان له الإسهام الرئيس في بلورة مفهوم ” فلسفة الدين “؛ إذ لا يمكن أن نتحدث قبله عن مفهوم يلفظ ب ” فلسفة الدين “، بل كان تأسيسه الأول مع هيجل، وهو الذي كان له هذا النزوع نحو عنونة أعماله بهذه الطريقة المركبة في المفاهيم (فلسفة الدين، فلسفة التاريخ، فلسفة الجمال )؛ إذ إنها – محاضرات في فلسفة الدين – دونت من قبل طلابه ونشرت بعد وفاته، لكن هذا لا يعني أن الرجل لم يتحدث في كتبه الرئيسة ( فينومينولوجيا الروح) ( علم المنطق ) ( موسوعة العلوم الفلسفية ) حول هذه الموضوعات وهذه المفاهيم، بل نسقه الفلسفي محمول بكل توهجاته الفلسفية المترابطة وقد يوجد تداخل فيما بينها لتشكل بعد عصارة، تبلورت عنها مفاهيم جديدة لها معنى محاي للزمان الذي وجد فيه[3]، حيث سنعمد في هذه الدراسة على كتابه الرئيس ( محاضرات في فلسفة الدين )[4]، كي نبلور دراسة في إمكانية وجود فلسفة الدين عند هيجل، فقد رصه على شاكلة منهج جدلي ثلاثي ( الموضوع، والنقيض، والمركب )، فعن طريق هذا، تم طرحه لمفهوم الدين القويم؛ أي الذي يتقوم في جوهره على البحث عن ( المطلق) بواسطة ( التمثل ) ( Vorstellung ) [5]الذي عادة ما يترجم إلى الفكر التصوري أو الفكر المجازي. وهكذا، فإن التمثل يبقى كلي المغزى، رغم أنه تصور مجازي، أما في ( الفن ) ( L’art )، فإن الانكشاف أو التوصل إلى ( المطلق ) يقوم على ( الحس )؛ أي ذلك الجوهر الذي يتصور في شكل حسي هو ما يتجلى فيه ( المطلق )، ويتم الانتقال من هذه المرحلة ـ مرحلة الفن والدين ـ إلى مرحلة الفلسفة[6] التي تتخذ من الفكر سمة البحث عن ( المطلق ) أو الفكرة الخالدة، عن طريق التفكير العقلي. وهكذا، فإن سيرورة التاريخ الإنساني الكوني عند الرجل ما هي إلا مسيرة العقل من أجل الوعي بالذات ودرك الحرية التي تتحقق على نحو مطلق، حينما يصبح العقل المستلب عن ذاته (الوعي الشقي )[7] عبارة عن روح ( الوعي السعيد ).
وهكذا يعد مفهوم ( الدين ) من المصطلحات الصارمة في نسقه، حيث يجسد وعي الذات بالروح المطلق[8]، وهذا هو الطابع السامي للدين عند هيجل؛ أي عن طريق ( التمثل ) يكون الإنسان قادرا على معرفة ( الروح الكلية ) التي تحركه، والتي هي الكل، وبذلك يتحرر الإنسان مما هو خاص[9] إلى ما هو لا نهائي؛ ومنه يحصل التجانس والتكامل بين الإنسان ( الجزء ) والله ( الكل ) في جمع واحد، متجاوزا بذلك التعارض بين الطرفين؛ هذا ما قد يتبلور في اللحظة التي تجسدها المسيحية ( مركب الموضوع ).
· أهم ركائز فلسفة الدين عند هيجل:
لم يكن هيجل منعزلا عن تلك التلوينات التي سبقته، بل كان لتلك الترسانة الفكرية والفلسفية والأدبية والعلمية الفضل الكبير في خلق منظور جديد لسلسلة من التصورات [ المثالية الألمانية ]، وقد دخل الرجل من خلال فلسفته في الدين في اشتباهات عدة؛ بين الموقف الإلحادي من جهة والموقف الإيماني من جهة أخرى؛ إذ هو الذي خرج منه المؤمنون والملحدون[10]، فهو الذي حول الله إلى مطلق والوحي إلى معرفة مطلقة والمسيح إلى توسط والتثليث إلى جدل والحب إلى ذاتية والشريعة إلى قانون مجرد…، وكل هذا قد يجعل من وضعية هيجل في مأزق واشتباه آخر؛ هو هل تفكير هيجل هذا في الدين يعتبر فلسفة، أم دين مقنع بأدوات ” عقلية فلسفية ” ؟ يرى الأستاذ حسن حنفي أنه إذا نظرنا في تحليلات الرجل ( هيجل ) يتبين أنها غارقة في التجريد والمفهومية المنطقية، هذا من حيث الشكل، لكن إذا نظرنا إليها من زاوية المضمون فسنجد أن مصارها لا يختلف كثيرا عن المعطى الديني بوجه عام وعن المسيحية بوجه خاص، فعند تتبع سيرورة كتاباته نجده لا يتحدث عن مجال إلا ويطرح الجانب الديني كعنصر مواز للموضوع. فكي يتأتى لنا الزاوية الصلبة التي ستمكننا من عرض أكثر التداخلات التي توجد في فلسفة هيجل، كان لزاما طرح سؤال ماذا تعني فلسفة الدين أولا؟
يحاول هيجل في الجزء الأول من محاضراته ( محاضرات في فلسفة الدين ) أن يقوم بدراسة واقعية للدين من خلال إثارة مجموعة من المواضيع التي تمثل جوهر الدين ك (علاقة الفلسفة بالدين، الفلسفة والمعرفة المباشرة، الفحوى، دين الوحي، الحكم الديني )، سماها ب ( مدخل إلى فلسفة الدين )[11]، فقد أراد هيجل في هذا الجزء الأول أن يفرغ الدين من مضمونه الإيماني ويدخله إلى عالم التعقل والمنطق، ليفسح المجال للفلسفة بأن تسعى إلى فهم الدين عن طريق منطق سليم يخرج به الدين من دائرته الإيمانية إلى دائرة الفكر، يقول هيجل (( أنه ليس من اهتمام الفلسفة أن تقدم الدين في أي فرد، بل بالعكس، إن وجودها يفترض تشكيل ما هو أساسي عند كل فرد. ))[12]، وهكذا تسعى الفلسفة إلى كشف المشترك الديني بين الأفراد، للإفراغ عن ماهية الوجود الديني، يقول في هذا الصدد: (( ومن الحق أن الفلسفة عليها أن تطور ضرورة الدين في ذاته ولذاته والتقاط الفكرة الذاهبة إلى( الروح ) …))[13]، وهكذا قد توجه هيجل إلى الكشف عن منحى الفلسفة في الديني، لكي لا يسقط في تطلعات إيمانية ليس للفلسفة أن تناقشها. إن فكرة الروح موجودة في الفني والديني والفلسفي، لكن تختلف باختلاف سبل التطلع إليه ( الروح )، وقد اعتبر أن الفلسفة هي أرقى وسيلة للكشف عن الروح المطلقة، مما سيجعل هيجل في الجزء الأول أن ” يعقلن ” الدين ويجعله قابل للدراسة والتمحيص الفلسفي، إذ البحث في الله فلسفيا يصبح أمرا ممكنا، فموضوع الفلسفة هو ( الله ) بغض النظر عن الأسماء التي تعطى له ( الوجود العلة المثال الخير…) وهكذا يعطيه صورة متباينة فيصبح ( الله ) داخل نفوسنا كفكرة يقول: (( إن ( الله) في ( ذاته ) أو بالإمكان هو ( روح )، هذه هي فحواه عن تصورنا له ( هو )… ))[14]، فقد يصبح مجسدا في التاريخ يسمى الدولة، وفي الدين الله، وفي الفلسفة المطلق، بذلك يصبح موضوع الفلسفة والدين واحد: هو الحقيقية الأبدية، إذ أن الدين هو الحقيقة الفلسفية في الشعور (( لم يجعل هيجل العقل معارض للإيمان وهادما للعقائد كما هو الحال في فلسفة التنوير لدى المفكرين الأحرار، بل وحد بين العقل والوحي، وأصبح الدين لديه كل شيء ليس له مجال خاص منفصل عن الوجود ))[15]، فقد يعيب هيجل عن فلاسفة التنوير لتحويلهم ( الله ) إلى مبدأ مجرد خواء، فقد أراد أن يجعل من مضمون الدين ( الله ) تلك الفكرة الخالدة الغير فارغة، وقد مثل هذا المحمول المعنوي في التثليث المسيحي ( الأب، الابن، الروح القدس )، وفي جوهر هذا التثليث يمكن إدراك الله وبذلك إدراك الحرية الحقيقية – أي التحرر من الطبيعة- ويعرف الإنسان تجلي الله فيه لأجل العمل على الإتحاد معه، فالمراد من فلسفة الدين عند هيجل أن تنأى إلى إبراز فكرة أنه كل من الفلسفة والدين لهم موضوع واحد، ومدام أن( الدين ) طرأ عليه أشياء على إثرها بدأ يتلاشى وتنخري قواه كان لزاما إعادة فهمه والكشف عن مظنونه الحقيقي، لا الركن إلى معاداته ولا تبريره، وبهذا يصبح لا يختلف عن مسعى الفلسفة، وهكذا سوف يعمل هيجل على تقويض ذلك التعارض الذي أقامه فلاسفة التنوير قبل، بين الفلسفة والدين، إذ سيجعل الغاية من فلسفة الدين هو تسويغ ضرورة ملحة كونها هي المنفذ الوحيد الذي من خلاله يمكن تجاوز التعارض القائم بين الديني والفلسفي؛ أي بين الإيماني والعقلي الذي سماه ( بالفكر الإيماني )، فقد يوجد تعارض واسع بين المعنى الإيماني وبين المعنى العقلي، إذ أن الجانب الإيماني يوحي بسيرة مثالية لأحداث من شئنها أن توهج الشعور الإنساني نحو تطلعات دنيوية، أما الجانب العقلي يحاول أن يوحي بصورة واقعية محضة، وواقع الإنسان أنه شعوري، فكيف له أن يركن إلى صورة العقل الخالص الذي لا يقبل مبرراته الشعور الإيماني في الإنسان؟، هكذا إذن تجدر الضرورة لفلسفة الدين عند هيجل لحل هذا الانقسام بين مثالي إيماني وبين واقعي عقلي.
الفلسفة كما سلفنا الذكر سابقا موضوعها ( الله ) ، بمنأى عن الأسماء التي يبوح بها هيجل ( المطلق الوجود الحقيقة الخالد الفكرة العينية…)، فيصبح الله منطقيا يسمى التصور Begriff وإذا تحول داخل النفس تحول إلى فكرة Idée وإذا تجسد في التاريخ سمي الدولة، وتبقى الغاية دائما واحدة هي التحرر. إن الدين هو تتبع مسار ( الله ) على اختلاف صوره في الكون والتاريخ، وما قد يجمع بين الفلسفة والدين هو موضوعهم الواحد؛ الذي هو الوصول إلى الحقيقة الخالدة والعينية.
تختلف فلسفة الدين إذن عند هيجل عن اللاهوت الطبيعي القديم، رغم قول البعض بذلك [16]، فقد يسطع هذا التمييز ظاهرا حين نجد أن هيجل يرنو نحو اعادة فهم الدين عن طريق إخراجه من شكله الإيماني إلى شكل فكري عقلي، مما سيجعله أن يحلل بنية الدين لمعرفة أساسه، وواقعه:
- أساس الدين: يرى هيجل أن للدين أساسين؛ واحد تجريبي والآخر تأملي، والتجربة هنى تختلف عند هيجل عن معناها عند العالم الأنجلوساكسوني، بل يقصد بها المعرفة المباشرة الحسية، وقد يأخد الأساس الديني في إطار من التجربة صورة الموضوعية، والتمثل هو مرادف للحدس؛ أي أنه شعور بشيء وتمثله في الذهن، فأنا أحس بوجه أمي فأتمثل صورة حسية في ذهني لوجه أمي، ومذام أن ” الفكر الديني ” يقوم على رموز، فإن هذه الرموز تشكل الأساس التمثلي للدين، ولبروز أكثر معنى التمثل سيعمل هيجل بمثل ما توجه به جوته، حيث أن إدراك اللون الأزرق هو إدراك حسي، ولكن أن يعرف من أنه فاتح أم داكن فهذا مجال للفكر، فيصبح التمثل مرتبط بالذات في تحديده للأشياء.
- واقع الدين: يتموقع في الدين الوجود الإنساني، حيث الإنسان متناهي في الوجود، وقابل للتحيز والتغير أما اللامتناهي هو الثابت ( الخالد )، وبهذا سيحاول هيجل تجاوز هذه الواقعانية الدينية التي سادت قبله، باعتبار أن الله يوجد في التفكير والتأمل فحسب، وهو القادر على إداك الفحوى بأكثر إجلاء. يقوم الدين في واقعيته على عدة جوانب ( عبادي، عملي، روحي، تنظيمي ): الجانب العبادي والجانب العملي؛ العبادة: وهي التي تتمثل في العلاقة التي تربط بين الله والإنسان – تسمى عند اليونانيون التقوى-، إذ بها يتقرب الجزئي إلى الكلي ، وقد تأتي بعد إدراك الجزئي أنه روح وليس فقط أنه ذات، وتسعى إلى الكشف عن روحها الكلية كي تشكل الإتحاد. أما عن الجانب العملي: يتمثل في الصلوات وتقديم القرابين والأذكار…، من أجل التقرب إلى اللانهائي. والجانب الروحي: هو الجانب الذي يحضر فيه الروح المطلق ( الله ) في أعماق الذات. الجانب التنظيمي: تقام الشعائر والطقوس الدينية داخل مكان يتميز بالقدسية ( الكنيسة )[17]، ويترتب عنه هذا الجانب ( التنظيمي ) ترتيب العبادة عن طريق ما يسمى بالتربية الدينية.
- معرفة الدين: يتميز الدين عند هيجل، كونه ليس [ هو وجود الله]، بل معرفته ومعرفة مضمونه الروحي، ومن أجل ذلك كانت هناك ثلاث طرق بمستويات متفاوتة؛ هناك الفن، وهناك الدين، وهناك الفلسفة. سوف يقارن هيجل بين طريقتين في المعرفة الدينية؛ هناك الطريقة الأولى التي تقوم على منهج استنباطي كما هو الأمر مع ديكارت واسبينوزا القائم على ( الجوهر )؛ أي أن الله لايظهر في الوجود[18]، بل الوجود يأتي من الجوهر الذي استنبط العقل منه معرفته حول العالم بالفكر، وهناك الطريقة الثانية التي تقوم على ( التتبع )؛ وهي طريقة دينامية لمعرفة الله، تنبجس من داخل العقل والتي فيها قسم هيجل المراحل التاريخية لأجل الوصول إلى ( اللحظة العينية ) ( الدين الطبيعي، دين الفردية الروحية، الدين المطلق )، فللوصل إلى معرفة الله عند هيجل هناك سبلين: الأول يتمثل في ( البعدية )؛ حيث ينتقل من النهائي إلى اللا نهائي، والثانية تصدر عن اللا نهائي عن طريق تحليل مضمون الفكر نفسه[19].
يعد الدين أهم ركائز المُؤسسة للحضارة وللاجتماع، إلى جانب العلم والفن..، وقد يتحدث هيجل في الجزء الثاني من محاضراته المعنون ب( فلسفة الدين ) عن مفهوم ” فلسفة الدين ” كأساس يجد بنيته في التفكير العقلي، بعدما تحقق من ماهية ( الدين ) وناقشه كمفهوم قابل للتحليل وإعادة الفهم، ومن خلال ذلك عبر أن الدين خاصية تميز الإنسان عن غيره، باعتبار أن الإنسان هو الكائن الوحيد القابل للتدين؛ نظرا لأن وصم الدين وصم شعوري، والشعور لا يوجد إلا عند الإنسان ( الشعور بالحياة، الشعور بالموت، الشعور بالحرية…) ، وبهذا فإن الإنسان كائن شعوريHomo sapiens ، وفي جوهره الشعوري يوجد ذلك النزوع الديني، وهكذا يرى الباحث حسن حنفي أن هيجل في هذه النبرة قد يبدو أوغسطينيا، نظرا لأنه يرجع الله إلى قوة بروزه في النفس ( الشعور )، مما جعل هيجل أن يتحدث عن الدين كظاهرة شعورية تميز الإنسان، يقول: (( وهكذا إذا كان الدين سيصبح وسيلة فإن الروح تعرف أنها تستطيع أن تستفيد منه، وهي تعرف أيضا أنها تستطيع – مهما يكن الأمر – أن تلجأ إلى وسائل أخرى…))[20].
تعد فكرة الله شيء ثاوي في نفوسنا ( الإنسان )؛ أي أن الإنسان دائما ما لديه اعتقاد بالله في نفسه: (( إن بداية الدين – على نحو مماثل لمحتوى الدين بصفة عامة – هي التصور الذي لم يتطور بعد للدين، ألا وهو أن ( الله ) هو ( الحقيقة ) المطلقة، ( حقيقة ) كل شيء، وأن الدين وحده هو المعرفة الحقة بشكل مطلق، وهكذا علينا أن نبدأ بالمحاولة ))[21]؛ وهكذا فإن الله هو المحتوى، ولا يمكن لهذا المحتوى إلا أن يدرك بالفكر الخالص، ومذام أنه كذلك، فإن وجوده الواقعي شيء يوجد، والتفكير يوجد من أجل فهمه وإدراكه، تلك إذن هي جوهر ” فلسفة الدين ” عند الرجل؛ أي ارتفاع من كل ما هو حسي طبيعي متناهي، إلى ما هو كلي لا متناهي، عن طريق الوعي الذي يتحقق مع تطور التاريخ: (( وذلك أن ( فلسفة الدين ) التي هي التكشف والتي هي الاستعاب ( الله ) موجود وعن طريقها فحسب تكون معرفتنا الفلسفية بطبيعة ( الله ) قد تم التوصل إليها. )) [22]، قد يريد هيجل أن يجعل من مجال الفلسفة نطاقا لدراسة الله، لا عن طريق التمثل والحس بل عن طريق الفكر، ومن أجل ذلك تجده يحاول إخراج هذا الأخير من كل صور تمثلية أو حسية، ويجعله ذا صورة تنكشف بالفكر، هذا إذن هو موضوع فلسفة الدين لديه، إذ البحث عن المطلق في الفلسفة يقتضي البحث عن تفكير خالص يلازم الفكرة المطلقة، يقول هيجل (( إن هذا الكلي له مكانة في الفكر.. )) [23] ؛ أي أن الفكر هو الأجد للكشف عن جوهر الفحوى، والفحوى لا يجد منهجه الذي يحتويه من غير الفكر، لأن المطلق تجتمع فيه كل الاختلافات؛ هو الجامع الأوحد.
تشكل ( الأنا ) جزء من هذا المطلق، فقط أنها ووجدت في مأزق عدم الوعي، أو عدم إدراك أنها جزء من الكل، بذلك تتيه لتأمها الطبيعة وتستعبدها، لكن قد تعود في حين من الأحيان؛ حينما تدرك أنها روح وأنها جزء من الكل لتصير كما يسميها هيجل ( الفكرة الجوهرية )، فقد يرفض هيجل أن يسميها ( وحدة الوجود ) ، لكون غالبا ما يتم الخلط بين الكلي والجزئي في ( واحد ) لكن هم ليس شيء واحد، بل يتجمعان ليعطيا الكلية. يؤكد هيجل عن هذا الأمر كما أنه يعيب على أصحاب القول ب ( وحدة الوجود ) فيقول أنهم لم يفهموا بعد حقيقة الدين وبذلك كانت الضرورة على ” فلسفة الدين ” أن تظهر لهم حقيقة الدين والفلسفة على شكل الفكر والتعقل، وقد تجده يستحضر تلك النزعة السبينوزية[24] التي تمثل بقوة هذه الرؤية؛ التي تذهب إلى أن الكل هو ( الله ) وهو الذي يوجد في كل الأشياء هو الغاية والقانون الذي تسير به الطبيعة، وهذا حسب هيجل أمر خاطئ، وبذلك سوف ينحو إلى ما نحى إليه براهما؛ أي أن القوة هي التي تحرك المادة، وليس للمادة أن تتحرك من تلقاء نفسها، ليصبح الكلي ( الله ) هو ماهية Une sense في الأشياء الجزئية، فإذا كان الكل هو واحد كما يقول اسبينوزا، فإن الشر والخير شيء واحد، وهذا ما لا يتماشى مع المنطق الفلسفي نفسه.
يتناول هيجل مفهوم الدين، من ثلاث جوانب: جانب الفكرة، وجانب التمثل، وجانب العبادة.
- الفكرة: هي تلك الدرجة القصوى من تطور الدين، بدأ من اللحظة الأولى وصولا إلى اللحظة الكلية.
- التمثل: هو الصورة أو المنهج الذي به يدرك الإنسان الله في الدين.
- العبادة: وهي الطريقة التي يتقرب بها الإنسان إلى الله، عن طريق ممارسات وشعائر وصلوات.
وعليه قد قسم هيجل الدين إلى لحظات متدرجة، فيها أبدى تصوره الفلسفي في الدين، ليشكل بذلك بنية ” فلسفة الدين لذيه، وفي هذا الصدد سوف نحاول أن نكشف تلك التقسيمات التي وردها، والتي تتوافق مع منهجه الجدلي.
الدين المحدد:
يعتبر الدين المحدد من الطرق التي تميز بها الدين البدائي، وهو الذي وجد بالأساس عند الشعوب الأفريقة والآسيوية وفي أمريكا اللاتينية كذلك، بحيث أن هذه الشعوب تقع في آخر سلم التطور الديني، بينما الشعوب الأوروبية عكس ذلك؛ كونها تحتوي على ديني أكثر تطورا، وقد أعدها هيجل ضمن سلم الوعي الدين. فقد توجد مجموعة من الديانات التي تدخل في هذه الخانة ( الدين المحدد )، التي يسميها هيجل وجوته كذلك ب ( الديانات الإتنولوجية )؛ أي تلك الديانات التي توجد خارج الفكرة، وهي المتمثلة في الديانت الأفريقية ( الفتشية )، والصينية ( التاوية )، و الهندي ( البارهمانية البودية )، والفارسية ( الزراديتشية )، والمصرية ( دين السحر )[25]، وهذه الديانات كلها يصنفها هيخل داخل خانة ( الدين المحدد ).
فحينما يتحدث هيجل عن الدين المحدد، يقصد به أنه نوع من جنس واحد، هو الدين، يقول هيجل: ” عندما نتحدث عن الدين المحدد فإنه يتضمن – في المقام الأول – أن الدين يجرى تناوله بشكل عام على أنه جنس والأديان المحددة على أنها أنواع..”[26] لكن أقل تطورا، بمعنى أن الجزئي لا يمكن أن يصل إلى الكلي، إلا من خلال التحدد والاستقرار في تحديد يجعله قابلا للتناقض، وبالإدراك الواعي تخلق هناك لبنة التطلع من مستوى ” التحدد “، فتصبح (الفحوى ) بهذا المعنى تتحدد وتنكشف عن ماهيتها، لكن بأقل تطور، يقول: ” إن الدين له واقعيته كوعي “[27]؛ أي وجود الدين يتحقق بتحقق الوعي، ليصبح للدين وجود واقعي قابل للمساءلة . يحاول هيجل إذن أن يوافق بين الشعور الداخلي اتجاه الأشياء التي يبوح بها الدين، وبين المعطيات الدينية المطروحة؛ حيث يريد أن يجد منفد لتبيان أن الدين ليس شيء آخر، سوى أنه معطى ” إنساني ” شعوري، يبرز طريقة للتكشف عن جوهر ( الفحوى )، وهكذا فإن الديانات ما هي إلا لحظات متفرقة من سيرورة إبراز وتحديد ( الروح المطلق).
يرى هيجل أن كل من الأفارقة والأسيويين يجب أن يوضعان في خانة الدين المحدد، كونهم يصلون لفحواهم الإنسانية التي تحمل وعي التطابق مع الكلي، وبذلك فإن الدين لا يجب أن يتحدد كدين إلا كونه محدد في ذاته، ويحمل فحوى داخله إذ هي التي تحرر ( الإنسان )، وعليه يجعل هيجل من ( الأفارقة والآسيويين ) خارج المضمون الديني؛ هذا المضمون الذي يشكل علاقته بالروح، يقول في هذا المنحى: ” غير أن الدين هو علاقة ( الروح بالروح ) “[28] – يقصد بالأول ( الله )، والثاني ( الإنسان) –
الدين الطبيعي:
يسميه هيجل بالدين المباشر؛ حيث لا وجود لحرية فيه، تطوق الطبيعة الإنسان وتجعله موغل في وهم التحكم فيها، بذلك الأفريقيون والأسيويون لا يدخلون في خانة الحرية، كونهم تحت قبضة الطبيعة، إذ ليس لهم أي إدراك على أنهم أرواح وليس ذوات فقط. يميز هيجل هذه الفترة في التطور الديني بهيمنة الطبيعية على ” الوعي ” الإنساني، إذ يطلق عليها ( الديانة الطبيعية )، حيث تسيطر الطبيعة عن خصائصهم الإرادية، وتجعلهم حبيسي المعنى الأناني والذاتي، وهكذا قد نجد أن هيجل ينحو نحوا مثل الذي نحى منه كانط؛ أي اعتبار أن الحرية ضد الطبيعة، فالحرية هي ميدان للسلوك الإنساني الروحي الإرادي..، والضرورة والحتمية ميدانها الطبيعة، لذا كانت الحرية على النقيض من الطبيعة، وحينما نقول الطبيعة فإنها تأخد معنا وحمولة مع هيجل غير ما أشير لها من قبل الفلاسفة؛ حيث تعني السيادة التي تفرضها الطبيعة على الإنسان، وبذلك تحتل مكانة الإله، ويكون الإنسان في هذه المرحلة تحت خضوع تام لها ( الطبيعة )، فيكون الرهان على أن تمده بالقوة والإعانة على فعل الشيء، وهذه هي الديانة الطبيعية بمعناها العام. يقسم هيجل الدين الطبيعي إلى ثلاث أقسام هم: ( دين السحر، دين الجوهر، دين الذاتية المجردة ).
- دين السحر: وينقسم إلى قسمين؛ الدين المباشر، والدين الغير مباشر.
دين السحر المباشر: هو ذاك المقام الذي يحل فيه الخوف من الأرواح الخفية، ويكون نزوع نحو رغبة في السيادة على الطبيعة من أجل تحويلها إلى خدمة الإنسان، ذلك لاستلهام العون منها وقضاء حاجاته الفردية ، وهنا قد تجدر بنية التفرقة بين الصلوات الدينية، وبين الأفعال والحركات السحرية؛ فالصلوات لها طابع المناجاة الروحية التي تترجم إلى خطابات وكلمات، أما السحر فشيء آخر؛ حيث يكون السعي إلى تحويل قوى الطبيعة، إلى قدرته، حتى يتأتى له أن يضر فرد آخر، لأنه ليس هو، وهكذا فإن دين السحر يأخد أقدم صورة للدين، إذ وجد هذا النمط من الدين، عند الشعوب الأكثر بربرية ووحشية، وهي كما حددها هيجل الشعوب ( الأفريقية ).
دين السحر الغير مباشر: هذا النوع الثاني يحتوي على شيء من الإحساس الروحي، إذ يوجد في هذه الحالة نوع من الإيمان بوجود قوة عليا تفوق قوة الإنسان، فقد نجده عند (الصين ) المنبث في ( الطاوية.
- دين الجوهر: وقد ينقسم بدوره إلى قسمين: دين الموجود بذاته، ودين الخيال.
دين الموجود بذاته: فيه يكون اعتبار الوجود الإلهي حق، وهذا الذي ما سماه اسبينوزا بالفكر، إذ تجسد هذا النوع بصورة حسية تمثلت في ( البودية ).
دين الخيال: ساد هذا النوع من الدين في الهند وكذلك موجود في اليونان، وتعتبر هذه المظاهر التدينية الأولى للتجسد المسيحي .
- دين الذاتية المجردة: وقد ينقسم إلى قسمين: دين الخير والشر، ودين السر.
دين الخير والشر: وهو الذي يتجسد عند هؤلاء الذين يعتقدون بالثنائية الإلهية؛ حيث هناك إله النور، و إله الظلمة، وهم يتواجدان في صراع دائم هم أتباع ماني[29] .
دين السر Enigme: والذي انتصر في ( ديانة مصر القديمة )، إذ فيها يُعتبر أن الله يوجد في الذات الإنسانية، وأن الذات هي رمز للجوهر الإلهي، إذ قد تتميز هذه الديانة بعدم وجود معجزات، بل فقط أشياء إيمانية ( الخلود، البعث، ..).
وهكذا فقد يجعل هيجل السحر من الأشكال الأولى للتدين، حيث الارتباط بالطبيعة يشكل كلي، لكن على مستوى الذاتي، ولا سبيل له للخروج من قوة وسطوة الطبيعة، ففي هذه الأثناء يكون للإنسان في إدراك بقوة موجودة في ( الطبيعة )، وهذه القوة لا يحسن التقرب إليها إلا أناس معنيين؛ الذين بوسعهم التقرب إلى هذه القوة [30]، هذا الإدراك القائم على المعرفة التي يحمل صاحب مدرك القوة، بحيث توجد في هذه القوة مناطق الضعف؛ وعنها يعى هجوم الناس المعنيين بتصريف هذه القوة إلى حاجياتهم الفردية، وتحويلها إلى خدمته.
وهكذا فإن السحر يأخد شكل الديانات البدائية القديمة، التي لا تختلف عن الديانة الطبيعية؛ فيعتقد الإنسان أنه متحكم في الطبيعة كونها تخدم مصالحه الفردية، لكن الأمر ليس كذلك، بل هي التي تستخدمه وتستعبده، فيكون العون مرهون بالتوجه الكلي لها ( الطبيعة )، وهكذا تتحول الطبيعة إلى إله . قد يصف هيجل أحوال السحرة الذين أقامو في أنجلترا والذين سموا ب ( الإسكيمو والإنجيكوك ) بحيث يرجع هذه الهياكل ” الدينية ” إلى الديانات السحرية التي تتماها بها مع الشعوب الأفريقية والمغول والصين[31].
يستحضر هيجل تلك الشعوب التي توجد في أمريكا الشمالية والتي يصفها بالقبائل المتوحشة [32]، أي هي التي قد أبانت عن طبيعتها السحرية بأكثر إجلاء، فيقتلون الرجال والشيوخ كي لا يتلاشو بالطبيعة، بل ينالوا تكريما بانقضاء عن حياتهم على الأيادي البشرية، وفي شعوب أخرى يشيع فيها أن الملك إذا أصبح مريضا، يجب أن تنتهي حياته على الأيادي البشرية كذلك، لكن ما إن يموت يقال أنه قتله سحرة، ويحين تعيين سحرة من قبل كهنة، ليجري عنهم معاقبةٌ بالقتل وإنهاء حياتهم، إذ يعتبرون أن الشيطان هو الذي قتل وعوقب في هذه الأثناء، وبهذا الوصم يحاول هيجل أن يفرز الدين عن هذه الخاصيات السحرية، إذ أن العبادة في ديانة السحر تقوم على محاولة التسيد عن الطبيعة، يتسلط الساحر فيها عن أولئك الذين لا يعرفون نقاط ضعف الطبيعة، ويستعملون ممارسات وشعائر تعبدية؛ مثل الرقص و الموسيقى والصياح والممارسات الجنسية [33].
ففي الدين البيعي أو الدين المباشر؛ حيث لا وجود لاختلاف بين اللفظين عند هيجل، يقول (( إن الديانة المباشرة هي ما أصبحت تسمى في الأزمنة الحديثة الديانة الطبيعية، وهي تتطابق مع ديانة الطبيعة طالما أن الفكر يبرز في هذه الديانة الطبيعية )) [34]، إذ لا وجود لفرق بينهم؛ إنهم ينصبان في نفس المعنى، لكن ما هو متداول والذي يسعى هيجل إلى أن يوضحه، كي يُفهم اسم ( الديانة الطبيعية ) بالطريقة الصحيحة التي يريد هيجل تناولها، كان لابد من الإشارة إلى سبب التسمية في اللحظة الحالية؛ فقد يُفهم منها أنها تقابل معنى ينأى إلى أنه يمكن التعرف على الإله عن طريق العقل وحده: ” وما أصبح يفهم حديثا بتعبير ( ديانة الطبيعة ) هو ما أصبح الإنسان قادرا على اكتشاف ومعرفة ( الإله ) بقدراته دون عون، عن طريق النور الطبعي لعقله “[35]، وهكذا سوف يعيد هيجل من جديد ليعطي معنى لفظ الطبيعي، حتى يتأتى له استعمال المفهوم في المعنى الذي يراد به، يقول هيجل: (( لكن العقل الطبيعي هو تعبير خاطئ، لأن المفهوم من ( الطبيعي ) هو الطبيعي على أنه الحسي ( المباشر). )) [36]، وهذا يعني أن هيجل قد أفرغ لفظ ( الطبيعي ) من معناه المغلوط، وجعله يحمل كلالة إيمبيريقية خالصة، تتأسس عن الحس المباشر، وليس عن العقل المجرد والمستقل كما يفهم في بعض الأحيان، وهكذا قد أصبح الدين الطبيعي هو ” دين الحس المباشر الذي تمحى معه حرية الفرد. لأنه دين خارج الفكرة…”[37] .
يصف هيجل حالة الوحدة الطبيعية بعدما قد عين مضمونها الذي يليق بها؛ بأنها حالة الهمجية وحالة العاطفة الانفعالية وحالة التوحش[38]، أي حالة البربرية التي فيها يكون الإنسان للطبيعة وفي الطبيعة، وهكذا سيرنو هيجل إلى ما أشار إليه هوبس T. Hobbes سابقا في كتاب ( اللفياثان ) ( Léviathan ) ” أن الإنسان شرير بالطبيعة “؛ أي أن الشر متجدر في الطبيعة الإنسانية وفي التلقائية الموحدة، وهذه الفكرة ” العادية ” لا يمكن التقاطها والكشف عنها إلا من خلال خاصية ( الفكر )، فمذام أنه – الإنسان – في الطبيعة فإنه غارق في الفردانية الذاتية الشريرة الأنانية، وتبقى الحرية الحقة هي الخروج من هذه الفردانية الذاتية، إلى فردانية روحية تتطلع إلى وعي الإدراك الروحي، إذ ما يميز الإنسان عن الحيوان؛ هو قدرة الإنسان على مداركة نفسه بأنه روح وليس مجرد جسد فقط، و هذا الجانب الشعوري هو الأساس في الدين نفسه.
ديانة الفردية الروحية:
يقول هيجل عن هذه اللحظة: ” هنا يبدأ الوجود المستقل الروحي للذات “[39]، حيث يصبح الوجود في نفي للطبيعة وبداية التطلع إلى الروح الجوهرية الماثلة من وراء ستار الذات، ومن هنا تحصل تلك القوة الموجودة بين الروح الإنسانية وفكرة ( الله ) ، يتطلع الإنسان في هذه اللحظة إلى معرفة جوهره الروحي بنفسه، ذلك الجوهر الذي يعشق الكمال ويسعى إليه، وتيقنه أن لا حرية إلا به، يأمن بأن المطلق سليل الكمال، والسعي ورائه سمته فض النزوات الذاتية التي هي مغمورة بالتوهجات الطبيعية الانفعالية؛ وهذا هو ما يجسد الوعي الذاتي. يعطي هيجل تشبيها قد يبرز به واقع هذا التطلع من الذاتية الفردية إلى الذاتية الروحية، فالأمر مثل الطفل الصغير وهو يكبر؛ حيث في المرحلة الأولى يكون في ارتباط رغبته بالطبيعة المباشرة الحسية، من بعد ذلك يصل إلى فترة المراهقة التي فيها يريد أن يكون حر؛ أي يبدأ امتلاك فكرة أن وجود الحرية و” الاستقلالية ” أمر ممكن، إلا أن يصل إلى الاستقلال[40] .
فإذا كان في اللحظة الأولى ( الديانة الطبيعية ) قد وجدت الروح داخل الطبيعية، وبذلك غاب عنها الوعي، فإن في اللحظة الثانية ( الديانة الفردية الروحية ) يتطلع الإنسان من الطبيعي الحسي إلى الروحي، وعليه سوف يحاول هيجل أن يصنف الأديان التي تدخل في هذه اللحظة إلى ثلاث: دين الجلال، ودين الجمال، ودين الغائية.
- دين الجلال: وهو الذي يتجوهر حول قدرة مطلقة أو حكمة جلالية، هذا النوع هو ما يوجد في اليهودية، حيث فيها يسوغ الله بماهيات تجليلية، كالعدل والخير، وهذان الميزتان الإلاهيتان قد تتجلى في الإنسان، فيصبح شعب الله المختار، هكذا قد تحدث أشياء تبرز مدى تجلي الله فيها ( المعجزات )، إد قد يقوم الدين في هذه اللحظة على ثنائية الحلال والحرام، والقانون الجنائي الذي سارعت اليهودية بخلق نمط قانون يتماشى والوجود الاجتماعي العام، وقد يتأطر ضمن تضاربات دينية كالخير والشر والعقاب والخطيئة، أما جانبها الشعائري يقوم على الرهبنة والخوف وتقديم القرابين والأضاحي وبعض الأذكار.
- دين الجمال: يقول عنه حسن حنفي ” هو دين الضرورة الكونية التي عبر عنها الشعراء في مقابل الحرية الفردية التي عبر عنها الفلاسفة اليونان “[41]، وذلك اتباع لتلك التفرقة التي أقامها كانط بين الجمال والجلال، إذ يتمثل هذا النوع الثاني من الديانة الفردية الروحية عند اليونان؛ الذين يجعلون من الحرية الفردية حقيقة مطلقة، فالضرورة هي الله والله هو الضرورة، والفكرة هي الصورة الإنسانية للضرورة، كون أن الله عند اليونان يأخذ صورة “الإنسان العياني “. ففي الأساطير اليونانية يجرى تقابل بين الطبيعي والروحي، بل أن الأول في خضوع تام للثاني، وأن آلهة اليونان لها ضرورة وجود فردية لا تشترك فيما بينها، فزوس كبير الآلهة إله القوانين والسلطة، وكما قد تجد لكل غاية إله، وعليه تبقى الروحية منبثة في الضرورة الجمالية للكوسموس، إذ الفكرة تبقى مجرد مثال وليست عنصرا في الفكر، وكذلك تتميز بسمة تغليب الجانب الروحي عن الجانب الطبيعي، أما العبادة فهي تقوم على السمو والرفعة والاستعلاء الروحي، فتتم المصالحة الحقيقية على ( العدالة )، كي تكون العدالة لها القدرة على إلغاء الضرورة، فهذا التقابل هو ما قد نجده عند أصحاب التراجيديات التي توجد عند الشعراء اليونانيين، والتي تدعو إلى التطهير الروحي الجمالي، يعلق جان بيير فرنان بالقول:
(( ما يجعل من قوة ما إلها، هو كون سلطانها ذا “مفعولات” كثيرة، تبدو لنا في غاية التباين والتنافر، لكن اليوناني كان يجمع بينهما؛ لأنه كان يرى فيها التعبير عن القوة نفسها التي تمارس نفوذها وتأثيرها على مجالات مختلفة جدا. فإذا كانت الصاعقة والجبال هي( لزوس ( Zeus )( ، فلأن الإله يتجلى في مجمل الكون من خلال كل ما يحمله علامة علو سام وتفوق . [42]((
- دين الغائية: تقوم الديانة الغائية والتي تميز الرومانيين عن غيرهم، في النهل من الديانات والأساطير التي سبقتها ( الشرقية اليونانية )، وهكذا فإنها تحمل طابعا خاصا، هو الطابع السياسي ” البراغماتي ” النفعي، الذي ينظر فيه على أن الإيمان بالدولة كعنصر فعال للعبادة، فتصبح الغاية هي الدولة ، لذا قد تجد لدى الرومان تعدد الآلهة وذلك بتعدد المنفعة؛ فالنار تعبد كونها تحمل غاية نفعية للفرد إذ يستخدمها لخبز بها، وهكذا فإن كل ما هو مفيد ونافع فهو مقدس، فليس من الغريب أن تعبد الدولة؛ كونها تمثل القوة الجوهرية للإمبراطورية الرومانية.
وهكذا فإن هذه المرحلة؛ مرحلة الديانة الفردية الروحية تنأى الروح فيها إلى التحدد والتعين فتبدأ بالقضاء على صورتها المجردة؛ أي عدميتها، كون في هذه المرحلة ينأى الإنسان إلى الخروج من سلطة الطبيعة والتجسيد الحسي إلى التمثل الروحي الفردي، وعليه كانت ديانة الفردية الروحية أكثر عيانا من اللحظة الطبيعية.
الدين المطلق:
يمثل الدين المطلق ” نهاية تطور الأديان كلها “[43]، فقد يرى هيجل أن المسيحية هي التي تشكل هذه اللحظة المطلقة؛ وذلك كون فيها تتكشف الروح بشكل كلي، ويصل الإدراك الكلي للوعي إلى مداه، في صورة المسيح الذي هو كلمة، والكلمة هي صورة الوجود التكشفي الذي يتضمن كل الوجود في الكلمة الألمانية Offenbarung التي تعني وحيا أو كشفا[44] في آن واحد، وهكذا تعد المسيحية لحظة الوحي الخالص والامتناهي من كل ما هو حسي وطبيعي مباشر، بلغة المنهج الدياليكتيكي تسمى ( مركب الأطروح ) أو جامعة التناقض، إذ يقوم جوهر الدين المطلق عند هيجل على فكرة التثليث: ( مملكة الأب، مملكة الابن، مملكة الروح ).
- مملكة الأب: رمزه ( الوحي )، إذ وحدة الله تقوم على سمة الجمع بين الفكر والواقع في وحدة واحدة كما هو الأمر في الدليل الانطولوجي على وجود الله، فالله إذن هو الفكرة وهو الذي يشكل الواقعة المطلقة أو المثال المطلق.
- مملكة الابن: هو الذي يعبر عن عالم الخطيئة وفيه تتجسد صورة الإنسان في الواقع المادي، بذلك تنكشف الحرية الروحية التي يتغلب فيها الخير عن الشر.
- مملكة الروح: والذي يتجسد في الكنيسة – الكنيسة في مضنون هيجل تعني الأمة أو الجماعة – حيث يوجد التماسك والعينية المطلقة، بين الروح الكلية ( الله ) والروح الجزئية ( الإنسان ) مشكلا اللحظة المطلقة، وهكذا فالعبادة في المسيحية تقوم على إحياء الروح وتخطي ضرورة الطبيعة الحسية.
وهكذا فإن هذه اللحظة الثالثة تمثل أن الإله أو الروح المطلق يكشف عن نفسه في التثليث المسيحي، إذ الله في المسيحية يمثل الروح العيني، وهو قبل الخلق كان كلية، وبعد ذلك انشق منه جزء ( الإنسان ) وصارت بوادر الاغتراب حتى إن حدت الوعي والإدراك الروحي، فبدأ التطلع إلى التخلص من الجانب الذاتي الفردي، والتوجه إلى وحدة التماسك الكلي من جديد.
في هذا المنحى يترافع الدكتور حسن حنفي عن هيجل، في كونه تخلى عن المعقولية الفلسفية في لحظة الدين المطلق، الذي بدى فيه هيجل أنه يبرر الوجود المسيحي ويستخدم لغة لاهوتية تتطابق أحيانا مع ما يوجد في الكتب المقدسة ( الإنجيل الرابع: إنجيل يوحنا ) المعروف بالمسيح الكوني، وهي الكلمة التي جعلها هيجل في: التصور .Begriff
المراجع والمصادر المعتمدة
المصادر:
- غروندان. جان. فلسفة الدين. ترجمة عبد الله المتوكل. مؤمنون بلا حدود للدراسة والأبحاث. الطبعة الأولى .2017.
- هيجل. فردريش. محاضرات في فلسفة الدين. ترجمة وتقديم وتعليق مجاهد عبد المنعم مجاهد. مكتبة دار الكلمة LOGOS. الطبعة الأولى 2001_2003؛ اعتمد على : 1) مدخل إلى فلسفة الدين. 2) فلسفة الدين. 3) العبادة وديانة الطبيعة.
المراجع:
- بيتر سينجر. هيجل. ترجمة محمد ابراهيم السيد. دار العلم والمعرفة. الطبعة الأولى .2018
- حسن حنفي. في الفكر الغربي المعاصر. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. الطبعة الرابعة 1990.
- جفري باررندر: المعتقدات الدينية لدى الشعوب ، ترجمة : د. إمام عبد الفتاح إمام،· سلسلة عالم المعرفة بالكويت ( 173)، الكويت، 1993م.
- إمام عبد الفتاح إمام. المنهج الجدلي عند هيجل؛ دراسة في منطق هيجل. عن دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع. الطبعة الثالثة .
- هيجل. جدلية الدين والتنوير (( من دروس فلسفة الدين لهيجل )). ترجمة وتعليق أبي يعرب المرزوقي. عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة مشروع كلمة. الطبعة الأولى .2014
- يفوت سالم. مقال حول: في مفهوم الجادبية: نيوتن ضد ديكارت. مجلة المناظرة. العدد الأول 1989. ص 64.
- مونيس بخرة. فينومينولوجيا الدين: قراءة في التأويل الدياليكتيكي للوعي الديني عند هيجل. عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسة والأبحاث.
باللغة الأجنبية:
Vernant. J.-P. ;Mythe et religion en Gréce ancienne.Le seuil.(1) 1990.
[1] – طالب باحث – كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية-القنيطرة، أستاذ مادة الفلسفة بالثانوي التأهيلي
[2] غروندان جان. فلسفة الدين. ترجمة وتعليق عبد الله المتوكل. عن مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الطبعة الأولى 2017م. ص 137
[3] اختار هيجل لغته الخاصة في بلورة تصوراته الفلسفية، ولعل ما يجعل فلسفته يعتريها الغموض هي تلك الصعوبة التي اتخذها في بلورة مفاهيم تجريدية ليست بالسهلة، مثل المطلق، الوعي الشقي، الوعي السعيد، الفكرة الخالدة، اللحظة العينية، الدياليكتيك…
– انظر مؤلف: المنهج الجدلي عند هيجل دراسة لمنطق هيجل. د. إمام عبد الفتاح إمام. الطبعة الثالثة 2007، الصادر عن دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع بيروت. ص387…
[4] فردريك هيجل. محاضرات في فلسفة الدين. ترجمة وتقديم وتعليق مجاهد عبد المنعم مجاهد. مكتبة دار الكلمة LOGOS. الطبعة الأولى 2001_2003؛ وهي ست كتب متفرقة بحسب المحاضرات، هناك 1) مدخل إلى فلسفة الدين. 2) فلسفة الدين. 3) العبادة وديانة الطبيعة 4) ديانة الطبيعة وديانة الحرية. 5) الديانة الروحية. 6) ديانة الجمال والدين المطلق.
[5] مونيس بخضرة. فينومينولوجيا الدين: قراءة في التأويل الدياليكتيكي للوعي الديني عند هيجل. عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسة والأبحاث. ص 2
[6] هيجل. جدلية الدين والتنوير (( من دروس فلسفة الدين لهيجل )). ترجمة وتعليق أبي يعرب المرزوقي. عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة مشروع كلمة. الطبعة الأولة سنة 2014. ص 141.
[7] بيتر سينجر. هيجل. ترجمة محمد ابراهيم السيد. دار العلم والمعرفة. 2018. ص
[8] غروندان جان. فلسفة الدين. ( الصدر السابق ). ص 138.
[9] هي ما يطلق عنها هيجل بحالة الطبيعة أو اللحظة الطبيعية؛ والتي يكون فيها الإنسان ذات لا كروح وتسود فيه الأنانية.
[10] د. حنفي حسن. في الفكر الغربي المعاصر. الطبعة الرابعة 1990. عن المؤسسة الجامعية للدراسة والنشر والتوزيع. ص 145.
[11] هيجل. مدخل إلى فلسفة الدين (1). ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد. الطبعة الأولى 2001. عن مكتبة دار الكلمة LOGOS..
[12] المصدر نفسه. ص 25.
[13] المصدر نفسه. ص 26.
[14] المصدر نفسه. ص 140.
[15] حسن حنفي. (نفس العمل الذي تمت له الإشارة سابقا ). ص 145.
[16] يقارن كولاكفسكي بين فلسفة الدين في العالم الأنجلوسكسوني وفي العالم القاري، ويعتبر أنه ما يعد في العالم الأنجلوساكوني فلسفة دين، هو الشيء الذي يرمز إليه بالاهوت الطبيعي في القديم.
[17] المسجد في الإسلام.
[18] يفوت سالم. مقال حول: في مفهوم الجادبية: نيوتن ضد ديكارت. مجلة المناظرة. العدد الأول 1989. ص 64.
[19] حسن حنفي. نفس الكتاب. ص163.
[20] هيجل. فلسفة الدين. ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد. دار الكلمة LOGOS. 2001.ص29.
[21] المصدر نفسه ص 12.
[22] المصدر نفسه ص 13.
[23] المصدر نفسه، جزء ( فلسفة الدين ). ص 18.
[24] المصدرنفسه. ص 19.
[25] حنفي حسن. في الفكر الغربي المعاصر. نفس المؤلف التي تمت الإشارة إليه سابقا. ص 170.
[26] هيجل. الجزء الثاني( العبادة وديانات الطبيعة ). ترجمة وتعليق مجاهد عبد المنعم مجاهد. دار الكلمة LOGOS. 2002. فصل الدين المحدد. ص69.
[27] المصدر نفسه. ص 69.
[28] المصدر نفسه. ص 70.
[29] المانوية من العقائد الثانوية أي تقوم على معتقد أن العالم مركب من أصلين قديمين أحدهما النور والآخر الظلمة، وكان النور هو العنصر الهام للمخلوق الأسمى وقد نصب الإله عرشه في مملكة النور، ولكن لأنه كان نقيا غير أهل للصراع مع الشر فقد استدعى «أم الحياة» التي استدعت بدورها «الإنسان القديم» وهذا الثالوث هو تمثيل «للأب والأم والابن»، ثم إن هذا الإنسان والذي سمي أيضا «الابن الحنون» اعتبر مخلصا لأنه انتصر على قوى الظلام بجلده وجرأته، ومع ذلك استلزم وجوده وجود سمة أخرى له وهي سمة المعاناة، لأن مخلص الإنسان الأول لم يحقق انتصاره إلا بعد هزيمة ظاهرية. و يعد موضوع آلام الإنسان الأول وتخليصه الموضوع الرئيسي في الميثولوجيا المانوية، فالإنسان الأول هو المخلص وهو نفسه بحاجة للافتداء.
[30] هيجل. الجزء الثاني( العبادة وديانات الطبيعة ). ترجمة وتعليق مجاهد عبد المنعم مجاهد. دار الكلمة LOGOS. 2002. ص105.
[31] المصدر نفسه. ص109.
[32] المصدر نفسه. ص 111.
[33] المصدر نفسه. ص 133.
[34] هيجل. العبادة وديانة الطبيعة ( نفسه ). ص 69.
[35] المصدر نفسه. ص69.
[36] المصدر نفسه. 69.
[37] حسن حنفي. في الفكر الغربي المعاصر. ( تمت الإشارة إليه سابقا ). ص 171.
[38] هيجل. العبادة وديانة الطبيعية. ( تمت الإشارة ). ص 90.
[39] المصدر نفسه. ص 79.
[40] المصدر نفسه. ص82.
[41] في الفكر الغربي المعاصر. حسن حنفي. ص175.
[42] Ce qui fait d’une Puissance une divinité, c’est qu’elle rassemble sous son autorité une pluralité d’« effets », pour nous complètement disparates, mais que le Grec apparente parce qu’il y voit l’expression d’un même pouvoir s’exerçant dans les domaines les plus divers. Si la foudre ou les hauteurs sont de Zeus, c’est que le dieu se manifeste dans l’ensemble de l’univers par tout ce qui porte la marque d’une éminente supériorité, d’une suprémat )).
Vernant. J.-P. ;Mythe et religion en Gréce ancienne. Le seuil.(1) 1990. P.13.
[43] حنفي حسن. في الفكر الغربي المعاصر. ص176.
[44] المرجع نفسه ص 176.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.