“إدغار موران”مُنظّر ناقد لفكر مركَّب راصِد

توطئة:
لطالما كان الإنسان؛ ذلك المجهول بتعبير الطبيب والعالم الفرنسي الكسيس كاريل، مخلوقًا ذا عوالمَ خفية وحيوانًا مُلتبسًا ومتشابك التفاصيل. سواء من خلال تركيبه الجسمي المُبهم، أو نظامه الفكري المعضَّل؛ فإذا كان كُل ما ينتجه الإنسان من فلسفة أشبه بشجرة مُتراكبة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا، وفروعها العلوم الأخرى كما أعدها رونيه ديكارت، فإن مُنتج هذه الفلسفة هو الآخر لا يخلو من تركيب وتعقيد، على اعتبار أن المرء أعقد بكثير من أفكاره كما يقول أحد البنائيين يُدعى بول فليري. ولعل ذلك ما يجعل من المجتمع الإنساني برُمته وحدة خاضعة للتركيب؛ فهو من ناحية مجتمع مُوحد يجسد ذُروة الحيوانية الناطقة وسنام التكامل والحوار، ومن ناحية أخرى مجتمع مُكوّن من تركيبات صغرى تتمثل في تبدلات الأنظمة التي ينتجها الإنسان في كل المجالات الكونية والإنسانية سواء الثقافية منها واللغوية بل والدينية التربوية. هذه المنظومة التركيبية التي شكلت ماهية المجتمع الإنساني جعلت من الإنسان كائنَ التناقضات الكبرى؛ والتي تتمثل في عظمته وبؤسه في الآن ذاته ” كما نجد عند باسكال في كتابه الخواطر” أو في كونه دائمُ السعي للمعنى حول وجوده وذلك مقابل عبثية ولامعقولية هذا الوجود “على حد تعبير البير كامو”؛ بيد أن هذا النسيج من التناقضات هو ما يجعل من الانسان مخلوقٌ متشابك وعسيرُ الفهْم كما عبّر عن ذلك مونتيني في المقالات.إنها منظومة تعقيدية أضْحت تخلق عالم مكوّن من مجموعات هائلة من المركبات الدينامية والتشييدية المعقدة واللايقينية الصدفوية والمتحولة، خاصة بعد الاكتشافات الأساسية لفيزياء الكوانطا وفيزياء الأنظمة المختلة والفلسفات والابستيمولوجيات والعلوم النسقية عموما.{[1]}
والحقيقة، أنه منذ التأسيس الأول لمفهوم الثبات على ركيزة مبدأ الهوية مع بارمينيدس، ولمفهوم التغير والحركة وفق مبدأ التعدد مع هيرقليطس، مروراً على ارسطو واقليدس خلال العصر الهلنستي؛ أين تجلت بوادر الفكر المنطقي في شكله النهائي كبنية نسقية صورية، وصولاً الى الإرهاصات الأولى للمنهج التحليلي مع ديكارت وظهور الفيزياء الحديثة مع نيوتن. أصبح الإنسان ” ذلك الكائن المركب والمعقد” الذي كان يُعرف عبر التاريخ البشري المديد؛ بالحيوان العاقل والعارف، والكائن الحر، والمفكر الأخلاقي، والصانع، والميتافيزيقي المتدين، والاقتصادي، البيولوجي والاجتماعي؛ مجرد مفهوم وهوية تتقاذفه الأنساق المعرفية، حتي ضاعت انسانيته بين فهوم وشروحات متعددة ومتباينة، وعندئذ اصبح هذا الإنسان ذلك الذي كان موجودا متراكبا، مجرد كائنا هلاميا؛ يثم تفسيره بشكل ذاتي، ووفق رؤى تنتجها الرغبة الخاصة والنزعة الفردية، وتسيّره الإيديولوجيا والفهم الضيق المستند على نظرة دوغمائية محددة.{[2] }
هذه الرؤية الاختزالية الى كينونة الانسان وهويته، مهدت إلى تبنى منظومة تبسيطية يُسيّرها حسب ادغار موران عقلٌ أعمى؛ والذي هيمن حسبه انطولوجيا ومنطقيا وابستمولوجيا طيلت العقود التي سلكتها الحقول الفلسفية والعلمية والمنهجية كرونولوجياً، إنه عقلٌ مؤسس على كيانات مغلقة مثل الماهية والهوية والسببية والذات والموضوع {[3]}، مما أدى به خاصة في مطلع العصور الحديثة الى تبني منهجية اختزالية كمية يحركها هَوس بلوغ اليقين المطلق، والذي لا يتأتَى إلا من خلال جعل كل الأفكار واضحة وبسيطة ” كما نجد في اللبنات الاولى للمنهج الديكارتي”، ولعل ضمن هذا السياق جاء قول ليبنز بأنه ” لا يوجد في العالم سوى الوحدات العنصرية وهي وحدة بسيطة غير منقسمة ويوجد منها عدد لا نهائي ” {[4]}؛ حيثُ نفي سمة التركيب والتشابك عن الوحدات التي تشكل العالم، واعتبارها مقابل ذلك وحدات واضحة بسيطة لا لُبس فيها، إنها مكونات وعناصر مُشكلة لبنية هذا الكون ومُساعدة على فهمه فهما يقينيا في الأن ذاته. مما أسفر بذلك تجرؤاً بالغا على الطبيعة وذلك من خلال محاولة ضبطها بل وتسخيرها لصالح الإنسان، لكن هذا التجرُؤ على الطبيعة من قِبل الفلاسفة والعلماء أدى حسب ميشيل سِير الى انقلاب الطبيعة على الإنسان وتدهورها في شكل كوارث طبيعية ” كالزلازل والفيضانات ” وهو ما يُبْدي فشل الإنسان في مواجهة قوى الطبيعة. ان هذا العجز الإنساني امام انفلات الطبيعة أدى الى تشكيل ما يسمى ب “مجتمع المخاطرة RISK SOCIETY أو المجازفة ” وهي نظرية ثم بلورتها من قِبل كلٌ من العالم الاجتماعي الألماني اولِرش بيك والأمريكي انتوني غدْنز؛ والتي تشير الى أَن البيئة أو قوانين الطبيعة لم تعد قادرة على تصويب نتائج أفعال الانسان وتدخلاته {[5]}، ليتحول الإنسان إبان ذلك على حد قول ميشيل سير من وضع المنتصر القوي الى وضع الضحية، ومن كونه كائنا عاقلا ” Homo sapiens ” الى وضع يصبح فيه انسانا مخبولاً “Homo demens” قادرا على ارتكاب الحماقات”séstupidit “؛ وليس ادعاءه امتلاك الطبيعة وبلوغ اليقين المطلق وفق مبدأ الوضوح والتبسيط الا أحد تلك الحماقات، فالتظاهر والدعوى الى بلوغ اليقين المطلق حسب فيلسوفنا إدغار موران ليس إلا ضرْب من الجنون.
من هذا المُنطلق يدعُوا إدغار موران في مشروعه الفكري ” المُمَنهج” باعتباره وريث ماركس وهيغل كما يحب أن ينعت نفسه؛ الى تجاوز كل منظومة اختزالية تُوّلد العماء المعرفي، ذلك أنه حسب(موران) تقوم هذه المنظومة على اختزال العالم داخل بنيات متعالية وعذرية وشمولية تقدم كبداهات طبيعية او دينية، او كشرعيات تاريخية او حتي حداثية، وهو ما يفضي الى تشويه العالم، ومن ثم عولمة هذا التشويه{[6]}.انها منظومة تحيل العلم الى مَسخ؛ وتدّعي انها سابحة في محيط يغمره اليقين والبسيط، في حين أنه محيط يشُوبه الغموض وعدم الاستقرار، لدى علينا (وفق إدغار) أن نتعلم السير في ظلماء اللايقين {[7]}؛ حيث الإقرار بوعورة الطريق وصعوبته. وبالتالي الدعوة بشكل صريح الى استبدال براديغم التبسيط والاختزال الذي كان مسيطراً على العلم الكلاسيكي بحيث أن ” العلم الكلاسيكي يتأسس على فكرة ان الظواهر يمكن ان تنحل بالانطلاق من مبدأ البساطة وقوانين عامة” {[8]}، الى التوجه نحو تبني انموذج معرفي يتسم بالتعقيد والتركيب، وعليه التماس بداية جديدة للفكر الإنساني، بعيداً عن كل منظومة تقليديةٌ في قراءتها للعالم، وللتاريخ والاجتماع؛ وذلك أن العالم حسب ادغار موران مركب هائل من الالغاز res”éles myst” والعقد، والتي حسبه يستحيل علينا أن نقاربها بمقاربة تبسيطية يقينية، على اعتبار أن البسيط هو المُبسَّط دائما كما نجد عند غاستون باشلار.
ادغار موران ناقداً للنزعة التبسيطية الأحادية:
لقد شهد العقل العلمي والفلسفي طيلت العصور السالفة زخماً وثراءً فكريا بالغ الأهمية، خاصة خلال فترة الحداثة(Modernité)، أين شهدت الأنساق الفكرية جملة من التحولات والتقلبات ” كالثورة الكوبرنيكية والبيكونية..” التي أدت الى تشكيل نظرة يوتُوبية للعالم ومكوناته، إذ منذ المحاولات الأولى للفلاسفة في تحرير قدرات العقل في التأمُل والبحث والاكتشاف من قيود السلطة الكنسِية، والانسان الحداثي يرُوم الى تجاوز هذه الأسطورة ” الكنيسة” التي سادت طيلة الفترة القروسطية، مبتكراً لنفسه أساطير تتماشى مع العقل الحداثي، فالحداثة حسب إدغار موران تتجلي في ثلاثة أساطير على غرار أسطورة الحداثة نفسها؛ وهي كلٌ من أسطورة السعادة التي تشكل بديلا للخلاص والوعيد الكنسي، فالسعادة فكرة جديدة على اروبا كما يقول جان جوست. ثم أسطورة التقدم التي تعد ضرورة تاريخية باتت تفرض نفسها خاصة مع كوندورسي، وأخيراً أسطورة التحكم في الكون التي قال بيها كلٌ من ديكارت وبوفون وماركس {[9]}. انها ثلة من الأساطير أضحت تجزء العالم الى جزيئات منفصلة بعضها البعض، لتنظر الى العالم ذلك الكلُ نظرة أحادية تجزيئية، مما أدى الى اعلان عن قيام مناهج جديدة وأنساق معرفية حديثة، تجمع بينها مقولة التبسيط التي تحولت الى منظومة تسيِّر عقول الأزمنة الحديثة، ليُطبِّع العقل الغربي الحديث على هذا النحو بطبائع البساطة والفصل والوضوح لمدة ثلاثة قرون ” 17 و18، 19 “، وصولاً الى تأسيس ما يعرف بالأبستمولوجيا الوضعية التبسيطية، والتي تبلورة وفق براديغم الفصل بين العلوم والموضوعات والمعارف، ليتَسنى لها دراسة كلُ واحدة منها على حدى، وهو ما أدى الى شيوع فكرة استقلال العلوم بعضها عن بعض، والاغراق في التخصص ، وتفتيت المعرفة وتشظيتها إلى جزيئات متناثرة هنا وهناك، حيث لا يجمع بينها خيط ناظم، لتصبح المعارف عبارة عن حقولٍ منغلقة على نفسها.
إذ أن هذا التجزيء المستمر للمعرفة والذي بلغ ذروته منذ منتصف القرن 16، انتج لنا علماء أمِيين كما كان يصفهم مهدى المنجرة، بحيث كان يعتمد العلم معهم على منطلقات الفكر الأرسطي والإيمان بالتفسير السببي، والاعتقاد بمبدأ التعميم والحتمية ومبدأ القابلية للانفصال. وهي منطلقات عجزت عن مسايرة التطور العلمي المذهل الذي عرفه القرن العشرين وتفسيره وفهمه {[10]}، خاصة أن في مطلع هذا القرن بدأت التبعات السلبية لتلك المنظومة التجزيئية في الظهور لتأخذ شكل أزمات معرفية ومنهجية اصابت الأسس العلمية، مما أعد البحث عن ما هو مركب يُخلِص العقل العلمي من ذلك العجز ومن تلك الازمات أمرٌ طارئ؛ وهو ما لا يتأتى إلا من خلال توحيد المباحث العلمية والفلسفية في أفق مشروع واحد هو أفق التعقيد،، حيث الايمان بتجميع المتعدد وتوحيده، وبالتالي تفجير المباحث وضمها داخل أفق مركب جديد.
على هذا النحو يتضح جلياً أن مقولة التبسيط والاختزال شكلت أهم مرتكزات وأبرز الاعمدة التي قام وفقها العقل العلمي الحديث، فإذا كان تاريخ العلم حسب باشلار هو تاريخ أخطاء العلم، فتاريخ هذا الأخير حسب موران هو تاريخ الاختزال والتبسيط ، حيث يقرُّ في سياق قراءته للعقل الفلسفي والإبستمولوجي والعلمي والمنهجي المعاصر بهيمنة منظومة التبسيط أنطولوجيا ومنطقيا وإبستمولوجيا وأنثروبواجتماعيا وسياسيا {[11]}، وهي منظومة حسبه فشلت في استيعاب ازمات العلم المعاصر،، وفي هذا الصدد يقول “إدغار موران“: “هذا العلم افتضحت اليوم الحدود التي يتّحد بها بحكم أن تلك المبادئ لم تعد تسمح باستيعاب التعقيد”، فالإبستمولوجيا التبسيطية وفق ذلك عاجزة عن تمثل التعقيد واشكاله، لأنها تسلك الطريق وفق أدوات منهجية مغلقة ومنتهية الحدود والسياقات وبالتالي فهي تمارس بهذا الشكل قواعد المنطق الأحادي، والذي يعتقد بوجود جوهر واحد أو مبدأ واحد يُرجع اليه في تفسير كل شيء في هذا الكون.
وفي الواقع، إن نقد موران لهذا النسق والهيكل التبسيطي نابع من ثلاث مرجعّيات أساسية، أولها، كون هذه الالية تقوم علي مبدأ الاختزال، هذا الأخير الذي يسيِر وفق قاعدة أن الكل هو مجرد مجموع اجزاءه، مما يجعله مهملا للعلاقات والتفاعلات المعقدة التي تنشأ بين الأجزاء، وهو ما حاول موران تبيانه على امتداد مختلف كتاباته، إذ حسبه الاختزال ليس الا وهم وحيلة من حِيل العقل التقليدي اللاهث وراء اختزال الكون في مقولات بسيطة، في حين أن هذا البيت الذي نسكنه عالم مُحكم التركيب تتعايش فيه جل الاضداد الممكنة. ومن ثم ثانيا ، كونها تقوم على مبدأ الفصل بين الظواهر، ودراستها بمعزل عن بعضها البعض، مما يغفل عن الترابط والتكامل بينها. ولعل كل هذا يتبعه اخيراً الإغفال عن التعقيد، والذي مردُه التعامل مع ظواهر الكون بمقاربة تبسيطية مفرطة، وبالتالي تجاهل وانتفاء سمة التعقيد عن الكون والواقع، بل وتشويه هذا الواقع وإنتاج عمى معرفي حوله بدل توضيحه وتفسيره.
على هذا النهج إذن يتبدى أن النقد الموراني لمبدأ التبسيط ومنه لمظومة الاختزال نابع عن قصور هذه المنظومة في استيعاب تعقد الكون، بل تبنيها لمنهج يقوم على اعتماد مقولات واقصاء أخرى مغايرة لها ، لتشكل أداة رأى فيها موران العجز والضعف عن فهم التعقيد والتشابك الذي يستدعي الانفتاح على عوالم منهجية ومعرفية مختلفة بدل التمركز حول عوالم محدودة ومغلقة على نفسها. ومنه فإن هذه المنظومة التبسيطية حسب الرؤية المورانية ليست الا سردية كبرى كغيرها من السرديات التي فقدت مصداقيتها وقدرتها على تفسير الواقع المعقد والمتشظي.
الفكر المركب: عدسة جديدة لفهم عالمٍ معقد:
إن مما لا شك فيه أن مهمة كلُ نسقٍ فلسفي تبدأ اول الوهلة خلال إنتاج الأفكار انطلاقا من المقاربة النقدية لتصل إلى مرحلة البناء والتشييد، ولعل ذلك ما يتبدى مع فيلسوفنا ادغار موران. إذ انطلق هذا الأخير من واقع نقدي تمحيصي لجل الأنساق العلمية؛ من خلال تبيانه الطابع التبسيطي والاختزالي الذي يلّف بهذه الأنساق، ليتجاوز بعد ذلك كونُه ناقدا محللاً الى دخوله مرحلة التنظير لفكر مركب ” la pensée complexe”[12] يتسم بالشمولية والتعقيد، رغم أنه في الحقيقة هذه الصيغة في التفكير والنظر ليست غريبة عن الفكر الفلسفي، على الأقل،منذ بزوغه على شكل نسقي خلال الحظة اليونانية مع أفلاطون، حيث عُرفت الفلسفة باعتبارها تفكيرا شموليا ونسقيا وحيث لم يكن الفيلسوف ينصاع وراء وهم التخصص ولا يركن إلى معرفة محددة كما تبدى مع فلاسفة الحداثة، بل ينهلُ من كل المعارف في أفق إيجاد أو بناء تصور وفكر شمولي للعالم وللوجود.ليكون تطلع إدغار وفق ذلك تكوين رؤية كلية إزاء هذا الوجود، ذلك أن العالم والواقع حسب النظرة المورانية نظام مليء بالغشاوات والعتمات والغموض، وهو ما يفضي ضرورة الاستنجاد بما هو معقد ومركب يخلّصنا من ظلمات هذا الواقع، حيثُ توضيحه وتنظيمه والكشف عن القوانين التي تحكمه، وبالتالي فالتعقيد حسبه هاهنا تعبير عن حيرتنا وارتباكنا وعجزنا عن تحديد أشياء العالم المبهمة بشكل بسيط وواضح مرتب. {[13]}
ولا ينفك موران تذكيرنا بأن المركب الذي يرُومه هو العودة الى الوضع الذي يكون فيه العالم فيلسوفا وسياسيا وطبيبا وفلكيا واقتصاديا، انتروبولوجيا ومنطقيا عقلانيا في الأن ذاته، حيث الطموح الى إعادة نسج العلاقات بين كل المعارف والعلوم في أفق تشكيل معرفة شمولية متعددة الابعاد، لأن من بديهيات هذا التركيب استحالة وجود علم قائم ومكثف بذاته. إذ يقول في هذا السياق:” تطلعت دائماً إلى فكر متعدد الأبعاد، شعرت دوماً أن حقائق عميقة ينافس بعضها البعض كانت بالنسبة لي متكاملة من دون أن تتوقف عن أن تكون متصارعة”.، إذ بهذا الشكل يتطلب الفكر وفق موران النظر الى الظاهرة العلمية من زوايا متعددة ودمج المعارف المختلفة لتشكيل نظرة تركيبية إزاء أشياء العالم المعقدة، ومقابل ذلك، عدم الاكتفاء برؤية واحدة للأشياء حيث بناء تصور نقدي شامل للأمور.
وهو الشيء الذي يجعل من هذا الفكر غاية في الأهمية، لكونه ينبني أساسا على خاصية الحوار والتواصل ليس فقط بين الأفكار العلمية بعضها البعض، بل حتى بين ما هو عقلاني وأسطوري،منطقي وتناظري وبين العقلاني والتجريبي، وبين الواضح والضبابي، وبين الشك واليقين، وبين النية والفعل، وبين الغايات والوسائل، أي بدل التباعد والتنافر والفصل، يجمِّع الفكر المركب بين روابط التواصل والحوار بين مختلف انماط الفكر المتضاربة والمتناقضة، كالأنماط العلمية والغير علمية أو ما يدخل في اطار العامية. وهو في الحقيقة ما دعت اليه الأبستمولوجيا المعاصرة، خاصة في جيلها الثاني، إذ نجد مثالا بول فيرابند في كتابه “وداعا أيها العقل ” يدعوا الى وضع يكون فيه العلمي والعامي ” أو الأسطوري” واقعين متعايشين داخل قالب وعالم واحد، لا أن نعتبرهم عالمين منفصلين كما ادعت الإبستمولوجية الباشلارية سلفا.
والواضح لدى المُطّلع على نصوص وكتابات “إدغار موران” أن الفكري الذي يتطلع اليه ينبني أساسا على تخليص الأنساق العلمية من التراجيديا التي تعرض لها العقل العلمي خلال العصور السالفة، والمتمثلة اساسا في ما عاشاه الفكر العلمي الحديث من اضغاط أحلام وأوهام في الوصول الى الحقيقة النهائية وتأويلها النهائي، وهو وهم يجعلنا نغلق الأبواب والأفاق أمام كل تجديد وتأويل محتمل، حيث يقول ” تراجيديا كل نص ‘ككل قراءة‘ هو ذلك التوتر بين سمة عدم الانتهاء وضرورة وضع النقطة النهائية، هذه التراجيديا هي أيضا خاصية المعرفة الحديثة “{[14]}، ليقدِم بذلك نقدا لادغا للعلوم التقليدية “الحديثة” التي كانت حسبه تٌقدم نتائج قطعية يقينية، وما اليقين عند فيلسوفنا الا حلمٌ لطالما تطلع العلماء الى استنطاقه وبلوغه، في حين أن الفكر المركب الذي يدعوا اليه ينبني أساسا على معرفة لامُكتملة و”يحيا بتوتر دائم بين التطلّع إلى معرفة غير مجزّأة وغير مقطّعة وغير مختزلة، وبين الاعتراف بنقصان وعدم اكتمال كل معرفة ”.{[15]}
لكن رغم هذه الدعوة الواضحة التي أبان عليها موران في تشكيل فكر يتجاوز كل تبسيط واختزال إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة تجاوز التبسيط بشكل كلي، بل هي دعوة الى إدماج كل ما يصنع الاستقرار والبيان والتميز والإتقان في العلم، وذلك في إطار تبديد موران للأوهام التي تحولُ الأنظار عن مشكلة الفكر المركب، إذ حسبه ما يعيق الرؤية المركبة هو انتشار تلة من الأوهام التي تشكل عوائق إبستمولوجية تحول دون انتشارها، والتي اختصرها في وهمين؛ الأول يتمثل في الاعتقاد بأن التعقيد يقود حقا الى القضاء على البساطة؛ فصحيح أن التعقيد يظهر حينما يعجز الفكر المبسط عن بناء رؤية شمولية إزاء العالم، لكن ذلك لا يعني القضاء عن التبسيط بشكل نهائي، بل هو الأخر يُشكل ضرورة لفهم أشياء العالم المعقدة وتشكيل معرفة واضحة ومدقَقة. أما الوهم الثاني، فهو الخلط بين التعقيد والاكتمال، فالفكر المركب كما وضحنا سلفا لا يؤمن بما هو يقيني بل دائم السعي الى تشكيل معرفة متعددة الابعاد، بيد انه يعرف على هذا الشكل استحالة بلوغ معرفة كاملة، فإحدى مسلمات التعقيد هي استحالة وجود علم بكل شيء، انها تتضمن الاعتراف بمبدأ اللايقين واللاإكتمال. {[16]}
الفكر المركب وتحديات العصر:
لقد شكل عصرنا الراهن ملتقى أزمات شتى، خاصة تلك التي بات يفرضها الواقع التكنولوجي الاصطناعي، إذ اصبح الذكاء الاصطناعي في الواقع المعاصر بمثابة مرشد يرتب لنا حياتنا ويبسطها، ومن ثم يعلمنا كيف نعيش عيشتنا يوما بعد يوم. انه اضحى يوفر تقنيات مختلفة تسّهل القيام بالمهام الصعبة وتقلل من التوتر والارتياب الذي كان يبديه الانسان حول وجوده وعالمه. ان انسان القرن الواحد والعشرون لم يعد يندهش ويحِير إزاء ما كان يُدهش الانسان الكلاسيكي، فالثورة الرقمية جعلت كل شيء مبسطاً ومختزلا، حتى بات اليقين والاطمئنان حول البيت الذي نسكنه يلجنا من كل مكان. لقد اصبح الانسان اسير التقنية كما وصفه ماكس هوركايمر حتي بثنا نتحدث عن انسان جديد، إنسان دو بعد واحد بتعبير ماركيوز، لا يفكر ولا يندهش، انه يأمل ان يعيش في عالم بسيط فقط، وإن كان ذلك بوهمٍ وتخيل، وهو العالم الذي أصبحت تخلقه التكنولوجيات المختلفة التي باتت توفر للإنسان كل ما هو بسيط وواضح يسير. لكن ما لبث الانسان المعاصر يستلقى في حضن هذا العالم الذي ظن فيه اليقين والتبسيط، حتى فوجئ بأزمات طبيعية وبيئية وصحية تعكس هشاشة علاقتنا بهذا الوجود. لقد شكلت أضرار هيروشيما وناغازاكي ومن ثَم جائحة كوفيد19 مثالا، صرخة مدوية ايقظت العالم من سباته، وأجبرت الانسان على إعادة النظر في رؤيته للعالم الذي يسكنه، حيث وجد الانسان نفسه أمام مرأة تعكس حقيقته، عارية من كل زيف وخداع، لقد اكتشف أن قوته الظاهرة ليست إلا وهم وأن التقدم التكنولوجي الذي كان يتغنى به لا يضمن له الأمان واليقين تجاه عالمه.
في ظل هذه الأزمات التي لحقت بالوجود البشري طيلت العقود الأخيرة، والتي ابانت عن تعقد العالم البشري، اصبح الانسان مستشكَلاً على الانسان كما كان يقول التوحيدي. إن انسان القرن العشرين الذي كان يعيش على أوهام الاستقرار واليقين على وشك الانقراض، إذ لم يبقى له من ملاذ، سوى بعض الإيديولوجيات التي قيل بصددها انها دخلت مرحلة الاحتضار، لكن بالمقابل ولّدت تلك النكبات والأزمات انسانا جديدا يعي تشابك وتعقُد البيت الذي يسكنه، فلم يعُد غافلا ومستلقيا في أوهامه، بل بات يستحضر تراكب وتعقيد أشياء عالمه، مما اضحى يتطلب تجديد الرؤية الإنسانية للعالم، من رؤية تبسيطية اختزالية تؤمن باليقين المطلق والاستقرار الدائم، الى رؤية تركيبية تعقيدية، تقِر بتشابك الانسان وكونُه، وبالتالي الايمان بالاضطراب واللايقين بدل الاطمئنان والأمان.
في هذا الإطار إذن، أصبح تجديد النظرة الإنسانية للعالم ضرورة ملحة، وذلك في أفق تبني نظرة تعقيدية للإنسان ووجوده، حيث التمكُن من استيعاب أزمات هذا الانسان؛ وهو الشيء الذي لطالما نادى به الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، إذ يقول حول مشروعه “المنهج” الذي جاء في ستة كتب نظَّر من خلالها للفكر المعقد؛ ” ينطلق هذا الكتاب من أزمة قرن واليها يعود”، فالفكر المركب على حدّ هذا القول، بمثابة انعكاس للعصر وأزماته، إنه منارة ترشدنا نحو فهم أعمق وأشمل للعالم وأزماته الجارية. ذلك أن العالم الراهن وإن يعيش ما يعيشه من أزمات إلا أنه لم يعد مجرد مجموعة من الحقائق المنفصلة، بل هو شبكة متشابكة من العلاقات والتفاعلات، حيث يتداخل السياسي بالاقتصادي، والعلمي بالتكنولوجي، والاجتماعي بالبيئي، متجاوزين بذلك كل الحدود التقليدية بين التخصصات. وبالتالي فالفكر المركب ليس إلا الدعوة الى تبني تفكير شمولي يستوعب تداخل كل هذه التخصصات، كيفية تفاعلها ونظرتها للعالم.
خاتمة:
يلزم الإشارة في الأخير أنه يصعب الحديث بشكل جامع مانع كما يقول المناطقة عن فكر شَيخ “عمراً ومعرفياً” علماء الاجتماع ادغار موران وذلك لأن الرجل يعتبر فيلسوف عصره ورائد لأعمال كثيفة وغزيرة ومتنوعة حول فكر معاصر لا يكف عن استشكال هذا العالم ومشاكله بجرأة بليغة ولا يكف عن مساءلته والغوص فيه. كما يعود إليه الفضل الكبير في الدعوة الدائمة للتحرر من الأوهام المضللة والمقولات الجاهزة “catégories”. أكثر من ذلك فهو ليس مجرد فيلسوف يدعوا لفكر مركب، بل هو مبدع ومبتكر لمفاهيم جديدة ولفكر هو الاخر يتسم بالتركيب، فالذي يقرأ له يستطيع أن يلاحظ الغزارة المفاهيمية والوفرة النظرية الموجودة في قلْب التركيب المعقد.على الرغم من الّمحة اليائسة والنفحة التشاؤمية التي أدلت عليه مواقفه الأخيرة إزاء الأوضاع التي آلت إليها الحضارة الغربية بشكل خاص وما يتجه إليه العالم اليوم من تفاهة وبؤسٍ بشكل عام، حيث تحديره من سقوط العالم في الهاوية بينما نحن نيام ونظن اننا مستيقظون، وهو ما نلمسه من خلال كتابيه: إلى أين يسير العالم؟ وهل نسير إلى الهاوية؟ إضافة إلى منشوراته الأخيرة حول أهمية الحب كقوى داخلية ضد الموت وعبثية ولامعقولية هذا الكون.
المراجع والهوامش:
- : الفكر والمستقبل، ادغار موران، دار توبقال للنشر والتوزيع، ص 6.
- : إبستمولوجيا التركيب وفلسفة التربية عند إدغار موران / صورية لقاط زيتوني، دار الأيام للنشر والتوزيع، ط1، 2015، عمان، ص27
- : الفكر والمستقبل، مرجع سابق، ص 5
- : أبحاث جديدة في الفهم الإنساني، ليبنز، دار الثقافة القاهرة.
- :مناظرة /هل افضل أيام البشر قادمة؟، ص 19
- : الفكر والمستقبل، مرجع سابق، ص 7.
- : Edgar Morin.: Eduquer pour l ère planétaire. op. cit. p48
- : سعيد عبدالفتاح:نقد العقل الحداثي عند ادغار موران ص 48.
- : هل نسير الى الهاوية؟، ادغار موران، ص 25.
- : من ابستيمولوجيا التركيب الى ابستيمولوجيا التركيب. ذ،حسن الخطيبي مجلة فكر الثقافية.
- : الفكر والمستقبل، مرجع سابق، ص 5.
- : الفكر والمستقبل، مرجع سابق، ص 9.
- : Edgar Morin. Paul Mota. Emilio-Roger Ciurana: Eduquer pour l ère planétaire, édition Balland,2003,p: 50
- : إدغار موران، الفكر والمستقبل مدخل إلى الفكر المركب، تر: أحمد القصوار ومنير الحجوجي، ط1، دار توبقال للنشر، المغرب، 2004م
- : الفكر والمستقبل، مرجع سابق، ص 10.
[1]: الفكر والمستقبل، ادغار موران، دار توبقال للنشر والتوزيع، ص 6.
[2]: إبستمولوجيا التركيب وفلسفة التربية عند إدغار موران / صورية لقاط زيتوني، دار الأيام للنشر والتوزيع، ط1، 2015، عمان، ص27
[3]: الفكر والمستقبل، مرجع سابق، ص 5
[4]: أبحاث جديدة في الفهم الإنساني، ليبنز، دار الثقافة القاهرة.
[5]: مناظرة /هل افضل أيام البشر قادمة؟، ص 19
[6]: الفكر والمستقبل، مرجع سابق، ص 7.
[7]: Edgar Morin.: Eduquer pour l ère planétaire. op. cit. p48
[8]: سعيد عبدالفتاح:نقد العقل الحداثي عند ادغار موران ص 48.
[9]: هل نسير الى الهاوية؟، ادغار موران، ص 25.
[10]: من ابستيمولوجيا التركيب الى ابستيمولوجيا التركيب. ذ،حسن الخطيبي مجلة فكر الثقافية.
[11]: الفكر والمستقبل، مرجع سابق، ص 5.
[12]: يُسمى أيضا الفكر المعقد، رغم أن البعض من الباحثين أمثال يوسف تيبس يرفضون نعته بالفكر المركب، لأن حسبهم كلمة “complexe” تترجم الى ” التعقيد أو المعقد” والأمر في النهاية ليس إلا مسألة ترجمة..
[13]: الفكر والمستقبل، مرجع سابق، ص 9.
[14]: Edgar Morin. Paul Mota. Emilio-Roger Ciurana: Eduquer pour l ère planétaire, édition Balland,2003,p: 50
[15]: إدغار موران، الفكر والمستقبل مدخل إلى الفكر المركب، تر: أحمد القصوار ومنير الحجوجي، ط1، دار توبقال للنشر، المغرب، 2004م
[16]: الفكر والمستقبل، مرجع سابق، ص 10.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.