![](https://i0.wp.com/altanweeri.net/wp-content/uploads/2025/02/%D9%84bo.jpg?resize=780%2C470&ssl=1)
“ازرع بذور ثقافة صحيحة في الجيل الحالي..، تجن نهضة شاملة يحققها جيل الغد ويستمتع بها” هي جملة قالها العالم الكبير الدكتور قسطنطين رزيق، الذي رأى أن ثقافة أمة، أيّ أمّة..، هي الزاد الذي يستمد منه أبناء الأمة وقادتها وأعلامها، وهي القدرة على مجابهة الصعاب وبناء الغد، على أسس أفضل والسعي بهم نحو مجتمع العدالة والحرية والسلم والتقدم، والمثقف عادة ما يعتبر “الديمقراطية ” السقف الذي يستظل به إذا أراد أمنا وحماية، وهي الرئة التي يتنفس بها، والواقع أن المثقف هو قلب الأمّة النابض وعقلها المدبر، وإن تعرض القلب والعقل لعطب ما توقفت عجلة تقدم الأمة كلها.
منذ آلاف السنين والإنسان يبحث عن طريقة يغير بها نمط حياته، ويسعى لينتقل من الفردانية إلى العيش مع الجماعة، التي منها يحقق ذاته ويؤمن الظرف المناسب للتواصل في نمط الحياة الديمقراطية على اختلاف أشكالها ونظمها، فكل من كتب عن الثقافة والمثقف يكاد لا يخرج عن حدود التعريفات التي قرأوها هنا وهناك، ودأبوا على تقديمها للطلبة في الثانوية والجامعة أو في الملتقيات، فالبعض أرجعها إلى الزراعة culture، في المفهوم الفرنسي القديم، وهو استعمال مجازي للدلالة على ما يجري من ترقية الأفكار والآداب، والبعض الآخر قابلها بكلمة الحضارة، التي تعكس الهمجية والبربرية.
وإن كان بعض الباحثين اعتبروا أن الثقافة مرتبطة بالحضارة، حيث تشمل هذه الأخيرة كما قالوا الأمور المادية والوسائل المادية أيضا، فإن البعض الآخر فرق بين الحضارة والثقافة، كون الثانية خاصة بكل أمّة على حدة، وهذا مخطئ لأن الثقافة الغربية استطاعت على نشر جذورها في الأمة العربية، خاصة دول العالم الثالث، الذي عرفت شعوبه السيطرة الاستعمارية، وإن كانت هذه الشعوب نالت استقلالها العسكري، فإنها لم تنل استقلالها الفكري والسياسي والثقافي كذلك، والجزائر كنموذج ما تزال مستعمرة ثقافيا، فيما راح البعض بالقول أن الثقافة أكثر شمولا، لأنها تنحصر بالأمور “الذهنية”..
فمما لا شك فيه أن المشكلة في المجتمع أي مجتمع ( الجزائر نموذجا) هي مشكلة “ذهنيات”، وتغييرها يأتي مع الجيل الذي يكون قادرا على التغيير، ليس على طريق “الربيع العربي” مثلما يحدث الآن، من أجل التحرر، وإسقاط الأنظمة، وهنا يبادرنا سؤال وجيه، هل إسقاط النظام وإجبار الحاكم على الرحيل بطريقة أو بأخرى، يعني القضاء على الفساد أو نهايته؟، فتغيير الذهنيات لا يأتي بالنار والحديد، ولكن بالفكر، قليلون جدا من لهم فكر ” نيّر” ولكن هؤلاء غير مرغوب فيهم، وغالبا ما يكونون في الهامش، وتمارس عليهم شتى أساليب الإقصاء، وأساليب أخرى إما تنتهي بالاغتيال، أو تدفعهم إلى الانطوائية، وهذه بدورها تقود إلى الشعور باليأس ثم الإقبال على الانتحار، وكم من فيلسوف مات مشنوقا أو مسموما، ولنا أمثلة في الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، الذي خص للحديث عن الثقافة والحضارة وبناء الإنسان مجالا واسعا في كتبه ومؤلفاته، ونذكر أيضا الأديب السوري ندرة اليازجي الذي صور لوحة كانت عبارة عن فسيفساء لما سماه بـ: ” حضارة البؤس”، ركز فيها على قضايا الشباب، وكانت له أحاديث في الصداقة والزواج، وفلسفة الكذب وغير ذلك..
الاستقلال الثقافي عامل من عوامل تحضر المجتمع
الصراع بين الشرق والغرب، ومن له حق الملكية الفكرية، جعل البعض يطالبون بالاستقلال الثقافي، باعتبار أن الثقافة تعبير عن هوية المجتمع، غير أن الاصطدام وقع بين أصحاب هذا المطلب ودعاة الحداثة، وقد عرف بعض الكتاب المحدثين “الاستقلال الثقافي” بأنه لا يعني كراهية الثقافات الأجنبية ولا يتضمن قطع العلائق مع الثقافات الأخرى، إنما يعني تنظيم ثقافة البلاد وتوجيهها حسب ما تقتضيه مصالح الأمة، ذلك صحيح، غير انه غير مطبق في الواقع، لأن المسؤولين على قطاع الثقافة لم يسعوا إلى تحقيق الاستقلال الثقافي، وراحوا بالقول أنه لابد من أن ننفتح على الآخر ونطور ثقافتنا، وأن هذه الأخيرة بحاجة هي الأخرى إلى تلقيح اصطناعي من نوع خاص، لكي نمزج ما هو غربي مع ما هو شرقي، ويمكن أن نضرب مثالا لما دأبت عليه بعض الفرق الموسيقية في الجزائر وبخاصة في عاصمة الشرق قسنطينة، عندما أدخلت فن “الجاز” على فن المالوف”، رغم أن الاثنان يختلفان.
فكل ما يقدم يكاد أن يكون تحصيل حاصل لما أنتجه الآخر، وأصبح هذا الآخر مثل الجنّ يسكن جسده وذهنه المنغلق على أفكاره الأنانية حتى لا نقول “الخبيثة”، يضع “الأقنعة” حتى لا تنكشف حقيقته المزيفة، فهل يمكن القول أن “المثقف” في المجتمع العربي بصفة عامة والمثقف الجزائري بصفة خاصة هو ذلك الوعي الزائف، لقد سئل أحد الفلاسفة في حوار أجرته معه جريدة “لوموند” le monde حول ماهية “المثقف”، فكان رده : أنا لا أعرف من هو المثقف، أعرف أن هذا كاتب وذاك موسيقي، والآخر المهندس الذي يخطط، و الذي يعالج يقال له طبيب” وهكذا، أما المثقف فلم أتصادف معه”، ويفهم من ذلك أن القضية تتعلق بالاختصاص، وكلّ والمجال الذي يعمل فيه، لكن الواقع أن “المثقف” لابد عليه كما يقول قسطنطين رزيق أن “يعرف شيئا عن كل شيئ، ويعرف كل شيء عن شيء”..
فما أعظم ما يكابده المثقف وهو يعصر ما أنتجه المفكرون، يقول عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكُتّابِ وهو يحثهم على العناية بتراثهم ودينهم: ” فتنافسوا يا معشر الكتاب في صفوف الآداب وتفقهوا في الدين، وابدأوا بعلك كتاب الله والفرائض، ثم العربية فإنها حقائق ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط، وأرووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب وأحاديثهم وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم”، ولنستمع إلى ( أمادو هامباتي بل) الذي يقول: ” من مميزات المثقف الأساسية استعداداه لسماع الرأي الآخر واحترامه لرغبته في التوصل لتفاهم متبادل عن طريق الحوار وكراهيته للتعصب، وانفتاحه على الفهم العالمي، فهو يتمثل ثقافة مجتمعه ويستلهم أحلام قومه وآمالهم، وفي نفس الوقت يعمل على تجاوزها أو تغييرها إن أصابها خلل .
الصِّرَاع بين “المُتَفَرْنِسِينَ” و”المُعَرّبـِينَ” متجذر في التاريخ
الصراع لم يعد بين الشرق والغرب كما يعتقد البعض، وإنما هو صراع بين أبناء الوطن الواحد، المنقسمين ثقافيا إلى مُفَرِنِسٍ ومُعَرَّبٍ، مثلما يحدث في الجزائر، وأثبتت الدراسات في ميدان الثقافة مثلما جاء في كتاب بعنوان : آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة” لأحد الكتاب المشارقة أن ” الدول المستعمرة كثيرا ما تسعى لنشر ثقافتها في بعض البلاد، بغية تقوية نفوذها السياسي فيها، وقدم صاحب هذا الكتاب شواهد تاريخية عديدة، تؤكد أن النفوذ الثقافي كثيرا ما يكون مقدمة للنفوذ السياسي، كما أن السيطرة السياسية كثير ما تسعى لترسيخ أقدامها عن طريق تقوية السيطرة الثقافية، ولهذا رأى الباحثين في المجال أن الاستقلال الثقافي أصبح ضرورة ملحة من اجل التخلص من السيطرة الأجنبية، والسؤال يطرح نفسه بنفسه كيف يتخلص المجتمع الجزائري على سبيل المثال من السيطرة الأجنبية.
الصراع ما زال قائما إلى اليوم بين جماعة المتفرنسين والمعربين، تحاول الجماعة الأولى أن تلبس للثانية ثوب “الرجعية”، وتنعتها بالتزمت، والتعصب والتخلف، وتحاول دوما إلغائها من الوجود، وظل المثقف المُعَرّبُ في الصف الأخير، يحلم ويرسم أحلامه على الورق، في الكتب والصحف والمجلات، ويهربها نحو المواقع الإلكترونية، واليوم نجده يعلن ثورته عبر “الفايسبوك”، ووجد في هدا العالم الافتراضي المتنفس الكبير، ليعبر عن نجاحه كما يعبر عن فشله فيه أو يفعل ما لا يقدر على فعله أمام المسؤول، يركد وجوده ويقول للآخر : ” أنا هنا” لو باسم مستعار أو صورة رمزية.
المثقف والظاهرة الإسلامية وجها لوجه
محاربة الدين والرافضين لتطبيق تعالمه، حتى لا نقول “اللادينيين” ومحاربة المتلاعبين به، من تجار السياسة، جعلت المثقف في موقف في مفترق الطرق، ووجد نفسه في موقف حرج جدا، ووقع ما يسمى بالانشقاق الذاتي للمثقف، لأنه أصبح يعيش في تموجات ضبابية، أمام التعدد الإيديولوجي، وظهور دعوات جديدة لتكوين الدولة الإسلامية وطغيان الشعور القبلي والطائفي على الشعور الوطني، هذا الالتباس حسب المحللين قام من الصورة التي رسمها إيديولوجيو التاريخ الإسلامي للتاريخ العربي، حيث اعتبرت الإيديولوجيا الإسلامية ( الجماعات السلفية والوهابية على الخصوص) أن التاريخ بدأ معها وأن كل ما سبقه جاهلية، مثلما جاء في كتاب الدكتور سلامة كيلة بعنوان: العرب ومسألة الأمة، وكأنها تدعو إلى أسلوب العيش البطريكي القديم، وهي النظرة السائدة الآن، وهذه النظرة أدت إلى تجاوز أن هناك تاريخا واحدا وتطورا تاريخيا واحدا يخصان مجموعة من البشر، فالصراعات الطائفية ودعوات الوهابية لتأسيس رؤية سلفية، فسخت العلاقة بين المثقف ومجتمعه.
في كل هذا وذاك لا يمكن بناء الديمقراطية في مجتمع جاهل متخلف، أو مجتمع تسيره المادة وتسيطر عليه الأنظمة الفاسدة وتتحكم في قراراته ومصيره، مجتمع مثقفيه لا يعرفون من الثقافة سوى كتابة بعض الأشعار والقصص الصغيرة أو حتى الروايات، يتفلسفون في الصغيرة والكبيرة إلى درجة الفتوى، وهم يفتقرون إلى فكر يحرر مجتمعهم من نير المادة والعبودية، مثقفين هم مجرد ديكور يجلسون وراء مكاتبهم ويتركون كاتبتهم تدير وتسير، تأمر وتنهي وتقرر، وقد تجدهم لا يفقهون شيئا من أمور التسيير سوى حمل القلم للتوقيع على وثائق يجهلون محتواها، فلا هم أفادوا المجتمع بأفكارهم وتجاربهم والمجتمع، ولا استفادوا هم من تجارب ” الآخر” الذين يقتبسون إنجازاته ويمارسونها في حياتهم اليومية، وهم يملكون ما لا يملكه هذا “الآخر”، فمسخ نفسه وأصبح يعيش “الازدواجية” لأنه فقد كل المفاهيم والأفكار التي تعتبر نتاج الواقع، فبدلا من أن يبدع قلد وأغرق نفسه ومن حوله في التقليد.
علجية عيش الجزائر
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.