التنويريمنوعات

النشر ثقافة فاسدة وقيم مفقودة

لا زلت أتذكّر جيّداً ذاك الإفصاح المؤلم، لإحدى الكاتبات السوريات، في حوار عميق ومحزن حول النشر والناشرين والمبيعات بحرقة وأسى: «لقد مرّ على عقد كتابي مع دار نشر عربية مهتمّة بالنشر والترجمة والطباعة والتوزيع سنة ونصف، وفي العقد بند يقول: (يحقّ للمؤلّف أن يطالب بجرد عن كتابه مرّتين سنوياً، وستلتزم الدار من مكانة أخلاقية ومهنية بالردّ والجواب بعد أسبوع من المطالبة)، وخلال تلك المدّة طالبتهم أكثر من عشر مرّات عبر رسائل الواتساب والإيميل الرسمي، بتقرير عن مبيعات روايتي، وفي كلّ مرّة يتحجّج ناشرها بأمور وهميّة وغير مقنعة، أخجل من الإفصاح عنها لأحد، حتى كبُرتِ القضية بيني وبينهم، فتدخّل كاتب صديق في حكايتي، وتواصل بدوره معهم، فأخبره – أيّ الناشر – أنهم طبعوا الرواية إشفاقاً عليّ، وأن روايتي لم تلقَ أيّ اهتمام من القرّاء، ولم تكن تستحقّ النشر، وأنت تعلم بصفتك قارئاً ومدير مكتبة، أن الرواية موجودة الآن ورقيّاً في مكتبتك بطبعتها الرابعة، ومع ناشر آخر».

أتساءل دائماً، وفي كلّ قصّة مشابهة لقصّة هذه الكاتبة، التي كانت ضحية لدُور نشر فَقَدَتِ القيم والمصداقية وخالفت قواعد النشر: لم الثقة والأمانة غائبة بين الناشر والمؤلّف؟ ولماذا يهتم الناشر بالمؤلف ومخطوطه في المراحل الأولى من صناعة الكتاب، وكأنه ملاك نزل من السماء، أو فيلسوف جاء بفلسفة لم يأتِ بها أحد من فلاسفة التاريخ، فيطوف حوله، متودّداً طامعاً طامحاً بكرمه وأخلاقه، ليصبح بعدها – ذاك المؤلّف – كلباً متسوّلاً عند أول مطالبة له من إدارة الدار بتقديم تقرير عن مبيعات كتابه، فتتهرّب الدار وتبرّر وتؤلّف ألف سبب وقصّة ورواية، ليردّ عليه بعد أن يفقد المؤلّف أعصابه وكرامته، ويصيب بخيبة أمل كبيرة بقوله: «أنت تعلم أن سوق الشعر ضعيف، ولا أحد يقرأه في هذه الأيام»، أو «مجموعتك القصصية تفتقر إلى السرد والحبكة الشيقة والفكرة»، أو «روايتك ليست بوليسية، ولا بخيالية»؟ لماذا يصبح ذاك المؤلّف، الذي سَهر الليالي، وهو يقرأ ويكتب ويبحث متشرّداً تائهاً أمام أبواب الدردشات والصفحات، ينتظر من الدار صورة لمشاركة كتابه في معرض محلّي أو دولي، لاعناً الكتابة والقراءة والحياة برمّتها، فتأتيه بعد طول انتظار رسالة مفادها: «عفواً أستاذ، نعتذر منكم؛ لقد نسينا إحضار كتابك إلى المعرض»، أو «الصورة المرسلة غير واضحة»، أو «المخطوط موجود في صورة فيها مئات المخطوطات»؟

أتساءل: لم الأدوار تتبدّل وتتغيّر بين الناشر والمؤلّف؟ ففي بداية نشر كلّ مخطوط يصبح الكثير من الناشرين كلاباً أليفةً هادئةً، تبحث عن عظمَة هنا وهناك، وبعد مطالبة المؤلّف لأول جرد منهم، يتحوّلون إلى كلاب مسعورة، تعضّ كلّ حرف وكلمة، وتقضمها بشراهة؟

أتساءل: لماذا دُور النشر لا تلتزم باتفاقياتها مع المؤلّفين، وتتنصّل وتتخلّى عن التزاماتها الأخلاقية والعلمية والمهنية؟ لماذا تتّبع سياسات الاحتكار في بعض بنودها المتعلّقة بمدّة العقد؟

يقول فرانز كافكا: «إنني أكتب بطريقة مختلفة عمّا أتكلّم، وأتكلّم بطريقة مختلفة عمّا أفكّر، وأفكّر بطريقة مختلفة عمّا يجب أن أفكّر، وهذا كلّه يقود إلى قلب الظلمات يوميّاً». وهنا السؤال: أين الناشر من كلام كافكا؟ ولماذا تفكّكه الأخلاقي والإنساني وطموحاته المادية يُدخل المؤلّف في صراع مرهق مع وجوده ونتاجه الإبداعي؟ لماذا يهدف إلى استقطاب المؤلّفين القدماء، على حساب المؤلّفين الجدد؟ أين المساواة واستحقاق المكانة الفكرية والإبداعية؟ ومَن المسوؤل عن كلّ ذلك: الناشر، أم المؤلّف، أو معايير اتّحادات النشر الدولية؟

الأصعب من كلّ ما ذكرته، هو وجود مؤلّفين ضحايا، الذين دخلوا عالم النشر؛ دفاعاً عن المؤلّفين ونصرة لمعاناتهم، وادّعاءً منهم بتصحيح مسار البوصلة، فأصبحوا ناشرين شرسين، يقفزون بين أموال المؤلّفين وشهرتهم ومكانتهم وعلاقاتهم.

إن النشر وصناعته قضية إنسانيّة وأخلاقيّة، ولا بدّ للأكاديميات والمؤسّسات الخاصّة والجهات الحكومية المختصّة، الوقوف على التحدّيات والعقبات الخطيرة التي تواجهها، في ظلّ دخول ناشرين تجّار هذا الفضاء الجميل، واستغلال الناشر والمؤلّف على حدّ سواء، من قبل قراصنة هُواة، يسرقون ويتصيّدون ملفّات الكتب وبصيغها المتعدّدة؛ فالنشر وإلى جانب التعليم يبنيان ذات الإنسان، ويغذّيانه بالمعرفة والثقافة، إذ أن جميع الأديان السماوية والحضارات القديمة شجّعت على التعلّم. إضافة إلى أنه ركن آخر في بناء روح الإنسان، المعطوبة من الحروب والصراعات والأوبئة، التي لا تنتهي.

إن غياب التخصّصية في عالم النشر ومهنيتها ومسؤوليتها وقيمها الأخلاقية والثقافية، أدّى إلى ضياع الرؤى الصالحة في متاهات واستعلاءات الطالحين، أدّى إلى بناء مشهد شكلي ثقافياً وانعدام الوعي مجتمعياً وإيجاد كتاب بعيد عن الجدّية والالتزام، وبالتالي التحوّل الخطير من القفز عن رسائل النشر القديمة إلى مهنة قائمة على البيع والشراء والمقايضة المحضة.

أنا لا أنكر وجود علاقة مباشرة ومترابطة ومشتركة بين الناشر وقضية التسويق والترويج؛ فالناشر قد تكلّف متطلّبات صناعة الكتاب وإخراجه، وهنا لا بدّ له من بيعه والاستفادة المادية منه، ولكن ليس على حساب المؤلّف المبدع والمخطوط الناجح، فالكثير من دُور النشر تقتنص فرصة كلّ مخطوط مُرسل إليهم أو تقع أيديهم عليه، وتطبعه وتصدره دون دراسة أصول الكتاب، من قراءته عبر لجان مختصّة وتحريره لغوياً وفنّياً والوقوف على المحتوى فكرياً ورمزياً وإبداعياً، فالكتاب صار بضاعة، مثله مثل التفّاح والموز والخيار والباميا، ولا بدّ للناشر أن يبيع بضاعته، بكلّ الوسائل والسبل المتاحة، دون أن ننسى في هذه الحالة، تحوّل مؤلّفين كبار وشباب إلى مزارعين وصناعيين، وخوض الكتابة وفق حاجة الناشر ومتطلّبات السوق، ونشر الكتب (روايات، مجموعات قصصية، تنمية البشرية) بعشرات الأجزاء, ليلغوا وينسفوا بذلك قضايا الناس والمجتمع والوطن المصيرية، ويطعنوا الذات المتألّمة والعاطفة المتفسّخة، فيلد بذلك جيل مشوّه فكرياً وأخلاقياً ونفسياً.

إن الناشر الذي يقرأ المخطوط بعناية فائقة، ويتوقّف على كلّ شاردة وواردة فيه، بالتنسيق والمتابعة مع المؤلّف ومسؤولي الدار، بدءاً من عنوان المخطوط، ومروراً بالمحتوى اللغوي والفنّي، وانتهاءً بالتنسيق الداخلي وتصميم الغلاف، هو ناشر حقيقي وناجح، وليس ببائع أو تاجر ورق فاسد فاقد للقيم وأخلاقيات المهنة؛ فهو ينشر الأدب والعلم والمعرفة، ويغذّي المشهد الثقافي بالمخطوطات والمعلومة الجديدة الهادفة والمتطوّرة، وبالتالي خلق بيئة اجتماعية سليمة تساهم في ولادة جيل مبدع ومحكم.

قد نستغرب في كثير من الأحيان كيف أن هناك دُور نشر تصرّ وتقاتل على أن الناشر ليس بائعاً ولا تاجراً؛ مؤكّدين أنه ينشر الثقافة والعلم والمعرفة والفكر والإبداع، ويغذّي الناس والمجتمع بالكتب القيّمة والمعلومات الجديدة والمعارف المتطوّرة، وأن مهمّة هذا الناشر هو وصول الرسالة المنشودة من الدرجة الأولى، ومن ثم هو يفكّر بالعائدات المادّية، لكن الواقع والحقيقة يقولان عكس ذلك بشكل مطلق، فهناك ملايين من دُور ومؤسّسات النشر، والنتيجة الشرق الأوسط برمّته – من الخليج إلى المحيط – غارق في الحروب وإراقة الدماء وتدمير الإنسان…


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

إدريس سالم

شاعر وكاتب كرديّ – سوريّ، مقيم في تركيا. مواليد (19 آذار، 1986م). وُلد بقرية «بُورَاز»، التابعة لمدينة «كوباني» الكرديّة السوريّة.

اترك رد