إرهاصات التعليم في زمن الذكاء الاصطناعيّ: تأمُّلات خاطفة في مستقبل التعليم؟
” الأمهاتُ هنَّ فقط القادراتُ على التفكير في المستقبل لأنّهنَّ ينجبنه من خلال أطفالهنّ”
مكسيم غوركي في روايته الشهيرة (الأمّ)
1- مقدّمة:
شهد المجتمعات الإنسانيّة اليوم كما في الأمس تغيّرات عميقة مذهلة شاملة تفوق حدود كلّ تصوّر وتأمّل، وتقطع الطريق على كلّ خيال ومخيال. وهذا التغيير الجذريّ يغطّي مختلف جوانب الحياة والوجود الإنسانيّ: في مجال الاقتصاد والصحّة والتعليم والإعلام والعلوم. ولا ضير في القول إنّ الإنسانيّة تشهد تحوّلات طفريّة تؤدّي إلى تغيير شامل في جوهر الإنسانيّة والإنسان. وفي دورة هذا التحوّل الأسطوريّ العنيف يفقد الإنسان قدرته على الاستبصار في صيرورة التطوّر والمصير. وقد لا يعرف أكثر أهل العلم خبرة إلى أين هي الإنسانيّة ذاهبة في خضمّ ثورات تكنولوجيّة رقميّة تحسب حركتها بالدقائق والثواني واللحظات الخاطفة تحت مطارق الذكاء الاصطناعيّ والطفرات الذكيّة في كلّ حقل علميّ وميدان تكنولوجيّ. ففي كلّ يوم تطالعنا عجائب التغيّر وغرائب التطوّر وأساطير التحوّل الثوريّ في كلّ ميادين الحياة والوجود، وهو الأمر الّذي يضع الإنسان في متاهات وجوديّة يفقد فيها القدرة على الاستبصار في عالم دمّره التعقيد الذكيّ في مختلف الميادين والمجالات .
وفي خضمّ هذه التغيّرات الأسطوريّة تشهد الأنظمة التعليميّة تحدّيات وجوديّة صادمة قد تدمّر كلّ المنظومات التعليميّة الّتي عرفناها في تاريخ الإنسانيّة. فالذكاء الاصطناعيّ والعقول الإلكترونيّة تستحوذ على التعلّيم، وتستولي على عقول الأطفال والناشئة، وتدفعهم خارج طبيعتهم الإنسانيّة الّتي عرفنها على مدى التاريخ والأزمان. وفي مواجهة هذا التحدّي الأسطوريّ للتربية والتعليم يجب على المجتمعات الإنسانيّة أن تواجه أقدارها التربويّة، وأن تبحث عن أفضل السبل الممكنة في خلق نوع جديد من التوازن الخلّاق في مجال التربية والتعليم والتنشئة الاجتماعيّة. فالثورات الصناعيّة الذكيّة المتواترة يوميّاً ترمي ثقلها في المجال التربويّ والتعليميّ بداية؛ إذ تكتسح هذا المجال الّذي يتعلّق ببنية العقل والتشكيلات الذهنيّة للناشئة، فتعمل على تغييرها وتحطيم كلّ الممارسات التربويّة والتعليميّة التقليديّة الّتي سادت عبر تاريخ الإنسانيّة. ويتطلّب هذا الظرف التاريخيّ الّذي يهيمن فيه نمط جبّار من الذكاء الاصطناعيّ التفكير في مستقبل التعليم، وفي آفاقه التربويّة والإنسانيّة. وعلينا في هذه المرحلة أن نطرح تساؤلات عن مصير التربية وصيرورة التعليم في عالم لا يتوقّف أبداً على الإبداع الطفريّ في مجال الذكاء الاصطناعيّ الّذي يحطّم قدرة الإنسان على التفكير التقليدي، ويجعله عاجزاً عن التأمّل في الصيرورة والمصير الّذي تأخذنا إليه هذه الطفرات الذكيّة في مختلف مجالات الحياة والوجود([1]).
التعليم والتخطيط التقليديّ:
كان التخطيط للمستقبل ممكناً وواضحاً في الماضي القريب أو البعيد، وكان أهل الخبرة أكثر قدرة على وضع برامجهم واستراتيجيّاتهم في عوالم كان التغيير فيها يحسب بالعقد الزمنيّة (كلّ عشر سنوات أو عشرين عاماً أو ثلاثين عاماً) وهذا ما عهدناه في الخطط الّتي نراها في الخليج وفي العالم. مثل الخطّة الّتي تحدّثنا عن بلدان الخليج في رؤية مملكة البحرين (2030)؛ ورؤية الكويت والسعوديّة الّتي كانت تمتدّ لثلاثة عقود وبعضها كان يحتسب لاستراتيجيّات مئويّة مثل خطّة الإمارات المئويّة (مئويّة الإمارات (2071 هذه الاستراتيجيّات العقديّة فقدت زمنها في ظلّ التغيّرات الطفريّة الّتي نشهدها اليوم، إذ لا يمكن اليوم أن نضع خططاً ثابتة لفترات زمنيّة طويلة، فالتغيّر التكنولوجيّ الذكيّ يشكّل اليوم قوّة هائلة يصدم مختلف مجالات الحياة الإنسانية ويغيرها، وتتجلى قوته الصدمية في الأنظمة التربويّة بوصفها أنظمة عقليّة ذهنيّة ثوريّة؛ أي بمعنى أنها تعدّ العقول والأدمغة الجديدة لدى الأطفال والناشئة. ففي كلّ يوم يطالعنا ابتكارات تكنولوجيّة ذكيّة فارقة تؤدّي إلى التغيير المذهل في بنية العقول والذهنيّات وتشكيل الأدمغة. إذ لم يعد المعلّم كما كان في الماضي معلّماً بمواصفاته التقليديّة، فالذكاء الاصطناعيّ اخترق ذهنيّة المتعلّم، فأصبح كائناً إلكترونيا يتفاعل وجوديّاً مع الذكاء الاصطناعيّ والثورة الرقميّة. وهذا التغيّر الثوريّ الطفريّ كلّه لم يعد يترك مجالاً للمخطّطين والمبرمجين والمصلحين في مجال التربية خيارات وضع استراتيجيّات بعيدة المدى أو حتّى قصيرة المدى؛ لأنّ كلّ شيء يتغيّر ويتبدّل، إذ يكفي اليوم ظهور برنامج رقميّ صغير كي يغيّر كلّ المعادلات التربويّة والمبادرات التعليميّة الّتي يضعها الخبراء والمفكّرون التربويون في مواجهة المستقبل. ولا غرو في القول بأنّ المخطّطين التربويّين يعانون حالة من الارتباك والفوضى والشعور بعدميّة مبادراتهم وعدم قدرتهم على وضع استراتيجيّات ثابتة لفترات زمنيّة طويلة كما كان في الماضي؛ لأنّ أيّة استراتيجيّة قد تسقط في مدار اللحظات الّتي تخرج فيها إلى الوجود. ومن هنا يجب علينا أن نضع نظاماً آخر من التصوّرات الآنيّة الّتي ترتبط بخطط قصيرة المدى أو بخطط تعتمد على مبدأ المبادهة ومصاحبة التغيّر الآنيّ الرقميّ الذكيّ المستمرّ في مجال التربية والتعليم كما هو الحال في مجال الحياة ([2]).
وما يزيد الأمر تعقيداً في هذه المرحلة التاريخيّة الحاسمة التدافع الأيديولوجيّ الّذي بدأ يصدم الحياة التربويّة الّذي يجعلنا غير قادرين حقيقة على توجيه المسار التربويّ نحو غاياته الحقيقيّة. فنحن نعيش في زمن الليبراليّة الجديدة الّتي يفقد فيها الإنسان مكانته وكرامته وحرّيّته وهو الزمن الّذي فقدت فيه الأيديولوجيّات كلها قدرتها على الصمود في مواجهة التحدّيات الّتي تفرضها الرأسماليّة المتوحّشة الّتي تفرض نفسها في ميادين التعليم والتربية والثقافة والإعلام. ويضاف إلى ذلك التعقيد الّذي يصاحب مختلف مظاهر الحياة إلى الدرجة الّتي يصعب فيها المرء أن يقبض على الحقيقيّة الّتي تأخذ وجوهاً شتّى بأقنعة مزيّفة. فنحن نعيش في زمن ما بعد الحداثة وهو زمن مهول بتقلّباته وصيروراته وطفراته الموجعة. ولذا فإنّه علينا في مواجهة هذه التحدّيات كلّها أن ننظر اليوم إلى التربية والتعليم من خلال نوافذ متعدّدة وسيناريوهات متنوّعة ورؤى مختلفة، وهذا يعني أنّه علينا أن ننظر في المجتمع والثقافة والطبيعة وأنفسنا عبر عدسات أيديولوجيّة متنوّعة ومختلف ومتغيّرة أيضا. نحن منخرطون في خطاب معقّد يتناول تعقيدات ما يطلق عليه “المجتمعات ما بعد الحداثة” ([3]).
التعليم ورهان الحياة الكريمة:
فالعالم اليوم، ينشطر إلى عالمين مختلفين جوهريّاً تنمويّاً ووجوديّاً، يتمثل العالم الأوّل في المجتمعات الغربيّة عموماً يتميّز بالرفاه والتنمية والحياة الحرّة الكريمة. أمّا العالم الثاني فيشكل عالم البؤس والشقاء والقنوط، فهناك ملايين الأمّهات اللّواتي تساورهم الشكوك في الغد إذ قد لا يستطعن التأكّد ممّا إذا كان “الغد” سيتيح لهنّ إطعام أطفالهنّ، وبعض الأسر لا تجد لها مأوى، ومستويات التعليم منخفضة ومتوسّطات العمر متدنّية؛ ولا يكاد لمفهوم حقوق الإنسان أن يكون له وجود في هذا العالم فالنساء والرجال والأطفال يتعرّضون للموت والقتل والذبح والتشريد (السودان ليبيا سوريا العراق). ويمكن القول بوجود هناك حدود واضحة بين العالمين، لكنّها ليست اقتصاديّة أو قارّية بالدرجة الأولى. لا يمكن حصرها بالشعارات التقليديّة مثل “العالم الثالث” أو “الشمال مقابل الجنوب” أو “الدول النامية مقابل الدول المتقدّمة”. بل تتحدّد بقدرة البشر على العيش بكرامة أو عدمها.
حاليّاً، هناك الكثير من النقاش والكتابة حول أوضاع الفقراء في العالم. وقد نظّم البنك الدوليّ مناقشات عديدة حول مسألة الفقر والفقراء، وأصدر كتيّبات مثيرة للاهتمام حول أوضاعهم. وفي المستوى التربويّة انخرط المفكّرون في مناقشات حامية حول الأولويّات الّتي ينبغي أن تعتمد في تطوير الأنظمة التعليميّة. ولكن غالباً ما يقع الجميع في خطأ شائع يتمثّل في التركيز المفرط على تزويد الطلّاب بالمعرفة الملائمة وقوائم المهارات والأدوات والكفاءات الّتي يجب غرسها، ولكن في هذه المناقشات والتشخيصات والتوصيفات قلّما يشار إلى الدور الحاسم لظروف المعيشة لكلّ فرد مثل: توفير المأوى، والغذاء، والصحّة، والأمان الكافي، والوصول إلى التعليم الأساسيّ، وهي جملة الظروف الّتي تحرم الأطفال والناشئة من العيش الحرّ الكريم وتجعلهم غير قادرين أبداً على تحمّل مسؤوليّة تشكيل مستقبلهم أو حتّى التفكير في ملامحه؛ لأنّهم منهمكون إلى حدّ الثمالة في تأمين لقمة العيش، وفي مواجهة المرض والفقر والفاقة والجوع. وهذا يعني في النهاية أنّ تمكين البشر، إنّ قدرتنا على تحسين ظروف المعيشة في مجتمعاتنا، بدءاً من أضعف الفئات، ستكون العامل الحاسم للتربية والتعليم في العقود القادمة. لتحقيق هذا الهدف، يمثّل التعليم عاملاً مهمّاً، لكنّه ليس الأهمّ. الواقع يشير إلى أنّ المجتمعات هي الّتي تغيّر التعليم أكثر ممّا يغيّر التعليم المجتمعات. فعلى سبيل المثال فإن حماية المجتمع من الجريمة يمكن أن تتمّ من خلال خفض صناعة الأسلحة وإخضاعها للرقابة (لاستخدام شرعيّ فقط كقوّات الشرطة)، وعندها ستكون مجتمعاتنا ستكون بالتأكيد أكثر أماناً بغضّ النظر عن الكفاءات والتربويّة الاجتماعيّة والمدنيّة المكتسبة فرديّاً. وعندما نقلّل من عرض الأسلحة والمسدّسات في المشاهد والبرامج التلفزيونيّة، ستقلّ الحاجة إلى التعليم الخاصّ بالوقاية من الجريمة. وهذا يعني أنّ جميع أفعالنا وقراراتنا بشأن القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة تؤثّر في المستقبل. فالسياسات التنمويّة المستدامة والرؤيويّة يمكن أن تحدث فرقاً حقيقيّاً بين حياة بلا أمل وحياة تسعى نحو مستقبل كريم. فقط المجتمعات الّتي تعيش في سلام اجتماعيّ ستبقى في القرن الحادي والعشرين، وستكون تلك الّتي تضمن حدّاً أدنى من الرفاهية للجميع، وتعزّز التوزيع العادل للثروة، وتصون حقوق الإنسان، وتحارب العنف في كلّ مكان، وعلى جميع المستويات، وتضمن تطبيق القوانين.
وعلى هذا الأساس ستكون القرارات الّتي يتعيّن على مواطني المستقبل اتّخاذها أكثر تعقيداً وغموضاً من تلك الّتي تتّخذ اليوم، وغالباً ما ستكون عواقبها غير قابلة للتغيير. سيتعيّن على صانعي القرار على جميع المستويات: المجتمع، المنطقة، الدولة، القارّة، والعالم – التخطيط لمستويات متصاعدة من الترابط والتداخل بين هذه المستويات وداخل كلّ مستوى.
وفي الوقت الراهن، تفقد المنظّمات والمؤسّسات التقليديّة الّتي كانت تمثّل مراكز صنع الرأي السياسيّ – مثل الكنائس، الأحزاب السياسيّة، النقابات والجمعيّات – تأثيرها تدريجيّاً. وتنشأ أنماط تنظيميّة جديدة داخل المجتمع المدنيّ، مثل المنظّمات غير الحكوميّة الوطنيّة والدوليّة، الّتي تزيد تأثيرها في السياسة العامّة. ومع ذلك، فإنّ الاستعداد الإعلاميّ للسياسة قد يعاني خطر الانقسامات والاستقطابات. ومع تزايد توفّر المعلومات عبر العديد من الشبكات الممكنة، تطرح تساؤلات حول كيفيّة دمج تلك المعلومات في التفكير السياسيّ للمواطنين؟ ومن المهمّ أنّ هذا الدمج يشكّل فرصة نادرة لاتّخاذ قرارات سياسيّة فعّالة في نظام لامركزيّ يتيح قدراً من الاستقلاليّة، حيث تتطوّر الديناميكيّات الأساسيّة لاتّخاذ القرارات من الأسفل إلى الأعلى بدلاً من الاتّجاه العكسيّ.
ربّما تكون أهمّ درس يمكننا استخلاصه من تجارب القرن العشرين هو أنّ المسؤوليّة السياسيّة من خلال العمليّات الديمقراطيّة لها الأولويّة القصوى في الحياة الاجتماعيّة. فالديمقراطيّة ليست مجرّد هدف للتعليم، بل هي مبدأ يجب أن يقوم عليه التنظيم الاجتماعيّ والاقتصاديّ. والديمقراطيّة توجد فقط حين تمارس فعليّاً.
التعليم والثورة الجينيّة:
كيف يمكن للتعليم أن يواجه تحدّيات الهندسة الوراثيّة والثورة الجينيّة؟ في الوقت الحاليّ، يتوقّع جيلنا أن يعيش، في المتوسّط، حوالي ثمانين عاماً (مع الأسف، هذا ليس حال الجميع في أنحاء العالم). إنّ العواقب الهائلة للاستغلال الكامل للجينوم البشريّ لزيادة متوسّط العمر المتوقّع لم تفهم بعد بشكل كامل، ربّما لأنّ هذه الإمكانيّات تبدو بعيدة جدّاً عن واقعنا الحاليّ. تتراوح هذه الإمكانيّات بين الوقاية من الأمراض من خلال التلاعب الجينيّ إلى علاجات تستند إلى تقنيّات جينيّة تهدف إلى التحكّم في الشيخوخة نفسها.
يمكن للأجيال الجديدة في المجتمعات الأكثر تميّزاً أن تتوقّع قفزة نوعيّة في جودة الصحّة ومتوسّط العمر المتوقّع إلى ما يتجاوز 100 عام. بل إنّ بعض علماء الأحياء يتوقّعون أن تتراوح متوسّطات الأعمار بين 200 و300 عام للأجيال القادمة. هذا يعني أنّ الأشخاص الّذين يعتبرون “كبار السنّ” الآن قد يكونون قادرين، جسديّاً ونفسيّاً، على المشاركة الكاملة في الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّ ([4]). وعلاوة على ذلك، قد يصبح بإمكان الأفراد الوصول إلى محدّداتهم الجينيّة، ممّا يتيح لهم تغيير تركيبتهم الجينيّة الخاصّة عمداً، وكذلك تركيبة ذرّيّتهم. وهكذا قد تتغيّر الحالة البشريّة، بمعنى أنّ أسسها البيولوجيّة نفسها قد تصبح قابلة للتغيير. سيضيف هذا بعداً جديداً تماماً إلى عدم المساواة داخل الدول وعلى المستوى الدوليّ، حيث لن تكون الثروة والصحّة التقليديّة فقط تحت تأثير العوامل السياسيّة والاقتصاديّة، بل أيضاً الوصول إلى إطالة الحياة المرتبطة بالجينات([5]).
في هذا المجال الجديد تماماً، تصبح المعايير الأخلاقيّة والضوابط السياسيّة والقانونيّة أكثر أهمّيّة من أيّ وقت مضى. إلى جانب اهتمامنا الحاليّ بالمحافظة على البيئة الطبيعيّة، نحتاج إلى “إيكولوجيّا إنسانيّة” جديدة تكرّس للحفاظ على البشر. والسؤال الّذي لا يمكننا الإجابة عنه كيف يمكن للمفكّرين مواجهة هذا التحدّي الكبير، ولاسيّما مسألة صناعة أدمغة فطريّة قادرة على الإبداع اللامتناهي في مجال العلم والمعرفة عن طريق هندسة الجينات؟
انفصال الإنتاج والعمل ومكان العمل :
يتفكّك الإطار التقليديّ للتعليم الّذي كان يدمج العمل ضمن هيكل مؤسّسيّ ومستقرّ على الأقلّ خلال الفترات “الجيّدة”، مع مسارات مهنيّة متوقّعة. يحدث هذا التفكّك نتيجة لتقارب اتّجاهين ([6]):
1- الضغط الاقتصاديّ للابتكار، ممّا يتطلّب إعادة هيكلة دائمة للمؤسّسات. الشبكات متعدّدة الجنسيّات واللامركزيّة في الإنتاج والخدمات تسهّل على الشركات التكيّف مع الأسواق المتغيّرة.
2- تقدّم التكنولوجيا العالية (Hi-Tech)، الّذي يمكن الإنتاج والخدمات من التكيّف بمرونة أكبر. شبكات الاتّصالات الإلكترونيّة تسهّل تحويل العمل من المكتب التقليديّ إلى مواقع يختارها العاملون، مستقلّة عن مكان العمل الفعليّ.
3-من المرجّح أن يؤدّي هذا التطوّر إلى تنظيم جديد تماماً للعمل وظروف عمل جديدة في القرن الحادي والعشرين. ستتكوّن فرص العمل بشكل أكبر متزايد من عقود محدّدة الأجل أو مشاريع محدّدة تنجز بواسطة أفراد أو مجموعات.
4- ومع اختفاء المسارات المهنيّة التقليديّة، ستتزايد مخاطر انعدام الأمن للأفراد. قد يتمّ تخفيف هذه المخاطر إلى حدّ ما من خلال أنظمة الضمان الاجتماعيّ، ولكنّ القوى السوقيّة تفرض المزيد من إزالة القيود حتّى في دول الرفاه.
العمل غير المرتبط بالتوظيف:
الوظائف التقليديّة تختفي، وهناك تقديرات تقول إن 80% من الوظائف ستختفي في العقود القادمة. والسؤال كيف يمكن للتعليم أن يتكيّف مع هذا الواقع الجديد؟ والإجابة عن هذا السؤال يحتاج إلى قدرات تخييليّة هائلة في هذا الميدان، والإجابات ما تزال غامضة وباهتة وغير موثوقة حتى اليوم.
تشير العديد من العوامل من العقد الأخير من القرن العشرين إلى أنّ أنظمة الدعم الاجتماعيّ للمتقاعدين وذوي الإعاقة، وكذلك جزئيّاً للشباب، الّتي أُنْشِئَت بتكاليف ضخمة في الدول الأوروبّيّة خلال فترة سياسات “دولة الرفاه”، لن تكون قابلة للاستمرار بصيغتها الحالية في المستقبل. ولن تتمكّن الاقتصادات النقديّة بالكامل من تغطية جميع الخدمات الاجتماعيّة الضروريّة، وسيصبح من اللازم أن تتحمّل الأسر، الشركاء، الأحياء، المجتمعات المحلّيّة، والبلديّات جزءاً أكبر من عبء تطوير الشبكات الاجتماعيّة. وهذه الوضعيّة تبدو شديدة التعقيد في البلدان النامية الّتي تفتقر كلّيّاً إلى شروط الحياة والوجود.
ستتطلّب هذه التغيّرات تغييراً جذريّاً في نظرتنا إلى كلّ من قطاع التوظيف الممجّد وقطاع البطالة المهمّش. لكنّ هناك أسباباً إضافيّة لإعادة تقييم العمل غير المدرّ للدخل إلى جانب ضرورة تأمين شبكات اجتماعيّة موثوقة. مع استمرار التطوّر في الإنتاجيّة الاقتصاديّة، من المتوقّع أن تقلّ فرص العمل. ففي بعض الدول، لدينا بالفعل مفهوم أسبوع العمل لمدّة أربعة أيّام، والجداول الزمنيّة المرنة أو المتغيّرة لمعظم الموظّفين، ومستوى ثابت من البطالة. في الوقت نفسه، يشكّل الأشخاص الّذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً ثلث السكّان.
علينا أن ندرك أنّه سيكون لدينا المزيد من المتقاعدين الأكثر صحّة في المستقبل. ومن ثم، يجب إعادة النظر في مفاهيم مثل “وقت الفراغ”، “التقاعد”، أو المرحلة الّتي ينفصل فيها الفرد عن العمل التقليديّ، لأنّها تقلّل من الحاجة الإنسانيّة للأنشطة ذات المغزى. أعتقد أنّ ثقافة جديدة للعمل ستظهر في المستقبل، موازية لثقافة العمل الحاليّة، ولكنّها غير مرتبطة بها.
يتطلّب هذا النموذج المستقبليّ أن يقيم العمل غير المدرّ للدخل على قدم المساواة مع العمل المدرّ للدخل في القطاع الاقتصاديّ. في هذا السيناريو، لن يكون للعمل غير المدرّ للدخل علاقة تذكر بما يطلق عليه اليوم “الهوايات” في مجتمع الترفيه. على العكس، فإنّ الأنشطة الإبداعيّة والترفيهيّة، والخدمات الاجتماعيّة أو البيئيّة، ستكون معترفاً بها بالكامل من قبل المجتمع، ومنظّمة من خلال نظام مقايضة مباشر أو تعاونيّ.
التعليم في مجتمع الثورة المعرفيّة:
الأبعاد الثلاثة المتداخلة الّتي تناولتها سابقاً – إطالة العمر البشريّ، زيادة المرونة والتنقّل في سوق العمل، وارتفاع قيمة العمل غير المدرّ للدخل – لها تأثيرات دراماتيكيّة على فهمنا للتعليم والتعلّم:
لن يركّز الناس في المستقبل على مهنة واحدة أو تخصّص واحد، بل سيركّزون على اكتساب مهارات في عدّة مجالات تخصّصيّة يمكن استخدامها في التوظيف وكذلك في العمل غير المدرّ للدخل.
ما يفعله الناس خلال مراحل الحياة غير المرتبطة بالتوظيف سيحتاج إلى نفس مستوى الاحترافيّة كما في مراحل التوظيف. وستؤدّي زيادة المرونة والتنقّل في سوق العمل إلى المزيد من الفرص (والمخاطر) الّتي تتطلّب مستويات أعلى من الكفاءة في إدارة المهارات الشخصيّة.
سيتعيّن على الأفراد امتلاك مجموعة واسعة من المهارات المتخصّصة والقابلة للتطبيق، والقدرة على التكيّف مع سوق العمل عن طريق إضافة مؤهّلات جديدة. كما يجب أن ينظر إلى التغيّرات في الهويّة والأمان باعتبارها تحدّيات إيجابيّة بدلاً من تهديدات.
وسيميّز التقسيم الزمنيّ للحياة إلى مراحل مميّزة: التعليم والتدريب، والتوظيف، وما بعد التوظيف (أو التوظيف غير المدرّ للدخل) – سيصبح غير واضح على نحو كبير. وقد يتلاشى التمييز بين “التعليم المدرسيّ” و”تعليم الكبار”، ممّا يتطلّب نماذج جديدة تماماً. يمكن أن يشمل ذلك تقصير المرحلة الأولى من التعليم وإضافة مراحل ثانية وثالثة معتمدة بالكامل.
في محاولة لوصف هذا التغيير الجذريّ في الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ظهرت مصطلحات مثل “مجتمع ما بعد الصناعة”، “مجتمع المعلومات”، “مجتمع التعلّم”، ومؤخّراً “مجتمع المعرفة”. الفكرة الأساسيّة وراء هذه المصطلحات هي أنّ اكتساب وتطبيق المعرفة يشكّل قيمة مضافة.
في مجتمع المعرفة، يظلّ الفرد (المتعلّم) حاملاً للمعرفة، ولكنّه بمفرده لا يكون قادراً على إدارة وتطوير المعرفة المطلوبة. عندما تصبح المعرفة نقطة الارتكاز للتنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ستترسّخ فكرة أنّ إنتاج المعرفة يتطلّب جهداً جماعيّاً.
فالتعاون سيصبح العامل الحاسم في الإنتاج، وستصل المجتمعات الحديثة إلى مفترق طرق في القرن الحادي والعشرين: إمّا أن تتمكّن من تنظيم نفسها بحيث يشارك معظم أفرادها في تطوير واكتساب المعرفة، أو ستنقسم إلى مجموعتين: نخبة “مطّلعة” وجماهير مهمّشة، ممّا يهدّد التماسك الاجتماعيّ. لذا، فإنّ المجتمعات الّتي تطوّر وتستخدم التعلّم التعاونيّ والاجتماعيّ ستتمكّن من تأمين تقدّمها الاقتصاديّ والاجتماعيّ، في حين أنّ المجتمعات الّتي لا تفعل ذلك ستواجه الفشل.
التعليم والثورة الإلكترونيّة:
لقد أصبحت المعرفة مترابطة مع تكنولوجيا المعلومات بشكل لا ينفصل، وسيزداد هذا الترابط في المستقبل. يندمج علم النفس، وعلم الأعصاب، وعلوم الحاسوب بصورة أكبر([7]). وأصبحت الحواسيب قوّة معرفيّة معتمدة في العديد من مجالات التعلّم الإدراكيّ، بل وحتّى في بعض مجالات التعلّم “الذكيّ”. هذا التفاعل بين البشر والحواسيب، الّذي يتضمّن مستويات عالية من تعقيد إدخال البيانات ومعالجتها واسترجاعها، كان ينمو بوتيرة بطيئة نسبيّاً، لكنّه الآن يتقدّم بسرعة مذهلة، إذ تُطَوَّر أنظمة حاسوبيّة إدراكيّة متماسكة بالفعل. على سبيل المثال، في المجالات المتخصّصة للغاية، تتحكّم الحواسيب في جمع البيانات وحلّ المشكلات التشغيليّة، بينما يتحمّل البشر مسؤوليّة اتّخاذ القرارات بناء على المعايير.
يمكن تلخيص رأينا حول مجتمع المعرفة والتعلّم في عصر تكنولوجيا المعلومات بأربع أطروحات بسيطة: ([8]):
1-يعدّ اكتساب المعرفة واستخدامها العامل الحاسم في مجتمعنا المتغيّر والمبتكر والمتطوّر.
2- يجب أن تعتمد هذه المعرفة على التعاون بين الأفراد في مجموعات متنوّعة.
3- يجب أن يقوم ظهور مجتمع المعرفة على إنشاء وتنظيم مجتمع تعليميّ.
ينبغي أن تشمل جميع مستويات التعلّم دفعاً ضروريّاً نحو تحسين كفاءة التعلّم. ستجعل أشكال التعلّم الجديدة – الّتي غالباً ما تكون مصحوبة أو مدعومة بالحواسيب – هذا التحسين أكثر سهولة.
الخاتمة
لقد كان من تعاليم الفيلسوف الألمانيّ عمانويل كانط Kant أنّ تربية الأطفال –وفقاً للمفهوم الإنسانيّ- يجب أن تشتقّ ليس من مقتضيات أحوالهم الراهنة، ولكن من مسلتزمات الأحوال المستقبليّة المتطوّرة للجنس البشريّ” وبعبارة أخرى أراد كانط أن يقول: إنّ منهج التربية ترسمه حركة التاريخ العامّ، وليس تجارب الماضي البائسة.
فالإنسان في القرن الحادي والعشرين في البلدان المتقدّمة سيكون صحّيّاً ونشطاً لفترة أطول بكثير من حياته، يشارك خلالها في مجموعة متنوّعة من الأنشطة، بعضها بأجر وبعضها دون أجر. مع هذا التغيير، ستزداد قيمة “العمل” غير المرتبط بالتعويض الماليّ. وستستبدل السير الذاتيّة التقليديّة بملفّات شخصيّة متعدّدة المهن والكفاءات. غالباً لن تتطلّب الوظائف المدرّة للدخل مكان عمل ثابت أو عقوداً ثابتة. وستصل أهمّيّة التعلّم خلال مرحلة الطفولة والشباب، مقارنة بالتعلّم في مرحلة البلوغ، إلى مستوى من التوازن. لن ينظر إلى التدريب المهنيّ والتعليم على أنّهما مجرّد إعداد للحياة البالغة، بل جزء من عمليّة مستمرّة. وسيعيش هذا الجيل المستقبليّ في عالم أكثر ترابطاً عالميّاً من أيّ وقت مضى، عالم يجمع بين أشخاص من لغات وثقافات مختلفة. سيكون هذا العالم غارقاً في الرسائل والمعلومات الّتي تنقل عبر وسائل الإعلام، وفيه ستصبح التجربة الافتراضيّة بالكاد قابلة للتمييز عن التجربة المباشرة. كما سيزداد تعقيد المجتمع في القرن الحادي والعشرين. سيستمرّ النموّ في التكنولوجيا والمعرفة في التوسّع بشكل أسيّ، وكذلك المخاطر مثل التهديدات البيئيّة.
من ناحية أخرى سنكون قادرين بشكل أكبر على التلاعب بالطبيعة والحياة البشريّة؛ ومن ناحية أخرى، ستصبح التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للتكنولوجيا المتقدّمة أقلّ وضوحاً وأصعب تحكّماً. سيكون نموّ المعرفة الفرديّة والجماعيّة في مجتمع المعرفة ضروريّاً ليس فقط لتحقيق مزيد من الابتكار، ولكن أيضاً للتحكّم المسؤول في الدافع التكنولوجيّ الّذي تم تأسيسه([9]).
هذا ويعتمد تحقيق مستوى معيشيّ لائق أو مرتفع للجميع على استمرار الإنتاجيّة الاقتصاديّة. ومع ذلك، يبقى من غير المؤكّد ما إذا كان يمكن الحفاظ على النماذج الاجتماعيّة الحاليّة الّتي توفّر شبكات أمان اجتماعيّ للفئات الأقلّ حظّاً، ولهذا السبب، فإنّ مشاركة المواطنين في النقاشات السياسيّة واتّخاذ القرارات (من المدينة إلى التنظيمات فوق الوطنيّة) تعدّ عاملاً حاسماً في التنمية المستقبليّة. وأخيراً، نقول مع بيل غيتس إنّ الناس: ” يخشون دائماً التغيير خشيهم الكهرباء عندما اخترعت، خشيتهم من الفحم سابقاً، إنهم يخشون المحرّكات الّتي تعمل بالغاز، وسيكون هناك دائماً جهل، والجهل يؤدّي إلى الخوف، ولكن مع مرور الوقت سوف يقبّل الناس حكم السيليكون”.
مراجع المقالة وهوامشها :
([1] (– علي أسعد وطفة ، التعليم القائم على البرهان : ثورة تربّوية في فضاء الثّورة الصناعية الرابعة ، مركز نقد وتنوير ، 21 ديسمبر، 2020 . https://tanwair.com/archives/8928
([2]) – علي أسعد وطفة ، التعليم القائم على البرهان : ثورة تربّوية في فضاء الثّورة الصناعية الرابعة ، المرجع السابق .
([3])– Uri Peter Trier , Earning to live together future scenarios scenarios for education: A Window to the unknown , Prospects, vol. XXXI, no. 3, September 2001.
([4])– Uri Peter Trier , Earning to live together future scenarios scenarios for education. Ibid.
([5])– Uri Peter Trier , Earning to live together future scenarios scenarios for education. Ibid.
([6])– Uri Peter Trier , Earning to live together future scenarios scenarios for education. Ibid.
([7])– Frawl, W. 1997. Vygotsky and cognitive science, language and the unification of the social and computational mind. Boston, Harvard UP.
([8])– Uri Peter Trier , Earning to live together future scenarios scenarios for education. Ibid.
([9])– Uri Peter Trier , Earning to live together future scenarios scenarios for education. Ibid.
_________
*عليّ أسعد وطفة/ كلّيّة التربية -جامعة الكويت.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.