لطالما ارتبطت السلطة والقوة في الحضارات القديمة بملوك رجال خلّد التاريخ ذكراهم، إلاّ أنّ هذا لا يعني غياب العنصر النسوي، بل هناك من الملكات اللواتي أسست إمبراطوريات حكمت أنصاف القارات، وليس التاريخ فقط من خلّدهن بل حتى الأدب والشعر والفن والثقافات الشعبية والدينيّة، ولعّل الملكة الفارسيّة سميراميس Sammuramat/Sémiramisتعّد أبرزهن وأكثرهن شهرة وتأثيراً في التاريخ الإنساني، فلا غرابة أن يتناول حكايتها المؤرخون الإغريق والرومان باعتبارها مؤسسة الإمبراطورية البابلية، والمسؤولة الأولى عن قيادة الجيش الفارسي والزحف به شرقاً إلى أدغال الهند، وغرباً إلى أهرامات مصر ومعابدها، المشرفة على تشييد أسوار بابل ومعالمها وتماثيلها وحتى حدائقها المعلقة التي تعّد من أعاجيب العالم السبع، ولا استغراباً أن يذكرها الإيطالي دانتي في الجزء الأول من الكوميديا الإلهية وبالتحديد من أصحاب الجحيم وهو الذي صنّف كل البشر الذين غيّروا مجرى التاريخ بين جنات الفردوس ودهاليز جهنّم أو بينهما في حالة انتظار، وليس من العجيب أن ترسمها أنامل أشهر الرسامين في العالم، من لويس كولاري ولوحته الشهيرة “سميراميس صائدة الأسود” المعروضة في متحف مونبوليي بفرنسا، إلى إيدغارت دوقلاس ولوحته “سميراميس مؤسسة بابل” (سنة 1861) المعروضة بمتحف باريس، وفي معهد مدريد للفنون ترقد لوحة خوسي كازادو وهي رسم لسميراميس في الجحيم كما صوّرها دانتي (رسمها في القرن 19)، وعادي جدا أن يكتب عنها الأديب العالمي فولتار في التراجيديا، وأن يُبدع روسيني سنة 1823 في أوبيرا تناولتها بل وحملت اسمها .
لقد اكتشف علماء الآثار أربع قطع أثرية تثبت بلا ريب وجود حقيقي لهذه الإمبراطورة في بلاد الرافدين، نقش يحمل اسمها وبعض أعمالها على تمثالين لإله المعرفة نابو في مدينة نمرود القديمة (العراق حالياً)، لوحة تذكرها كملكة وتمّ اكتشافها في آثار مدينة كزكبالي (تركيا حالياً)، ولوحة أخرى تؤرخ سيرتها وجدها علماء الأركيولوجيا في منطقة آشاور بالعراق … وهكذا يمكن القول أن في الحقيقة هذه السيدة عاشت بين القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين، تزوجت من الملك شمشي الخامس، كما أنها والدة الملك أداد نيراري الثالث … ليست هي من أقامت حضارة بابل ولا أسوارها ولا حدائقها ولا معابدها، بل تشييد هذه المعالم حدث عبر مرور الأجيال وتوالي الملوك .
لا بّد من العودة إلى الميثولوجيا الإغريقية التي برفعها الملكة سميراميس من الأرض إلى السماء قد ساهمت في خلق ثقافة شعبيّة دينيّة أسطورية تركت بصمتها في كل الحضارات، ولعّل المؤرخ هيرودوت هو أوّل من كتب عنها في العالم اليوناني، إلاّ أنّ ديودوروس الصقليّ (عاش عصر يوليوس قيصر وأغسطس الروماني) هو من أخذ بقصة سميراميس إلى الأسطورة في كتابه bibliotheke الذي تناول فيه أحداث وأساطير خلق العالم، حيث في وصفه الخيالي للمكلة، اعتمد على نص مفقود كتبه الطبيب اليوناني كتيسيان (عاش في القرن الرابع قبل الميلاد وكان طبيباً في البلاط الفارسي) … وحسب القصة اليونانية، فإن سميراميس وُلدت في عسقلان وهي ثمرة العلاقة بين الإلهة السورية ديرسيتو (تقابلها الإلهة عشتروت الفينيقية وعشتار البابلية) وشاب سوري، وقد شعرت الإلهة بالعار فتخلّت عن الطفلة وقام أحد الرعاة بتبنيها وتسميّتها سميرامت (سميراميس باليونانية) … نضجت الفتاة وصارت فاتنة في الجمال، وقع في غرامها حاكم سوريا أونس، تزوجها وأخذها معه إلى نينوى، ثم ارتحل مع جيشه إلى آسيا الوسطى لغزو بعض المدن وقد رافقته وساعدته في إعداد الخطط الحربية … ولما سمع بسيرتها ملك آشور (نينوس)، أمر أونيس بتطليقها والزواج من إحدى بناته، رفض هذا الأخير، وأمام الضغوطات والتهديدات انتحر، لتنتهي سميراميس زوجة لنينوس وبالتالي ملكة آشور … وبعد بضعة سنوات من زواجهما، مات الملك نينوس لتقوم سميراميس الهيمنة على الحكم بحكم أنها الوصيّة على طفلها الصغير (يوجد هنا توافق مع الاكتشافات الأثرية التي أكدت استيلاء الملكة على السلطة بعد وفاة زوجها ونظراً لصغر سن طفلها الوريث الشرعي للملك) … وهنا ادعى مؤلفون يونانيون ورومانيون أنها رغبت في منافسة شهرة زوجها الملك، فقامت ببناء مدينة جديدة على ضفاف نهر الفرات (بابل)، كما سهرت على تشييد أسوارها ومعابدها وحدائقها، كما قامت بحملات عسكرية في فارس وليبيا وحتى الهند (تعرضت للإصابة) … وبمرورها على مصر، زارت معبد آمون الذي أوحى لها بنبوءة خطيرة (سيقوم ابنها نيناس بقتلها من أجل الحكم)، وبعد إصابتها في الهند وشعورها بالضعف والتهديد من ابنها، اختارت التنازل للسلطة له وعدم الدخول في صراع معه … ورغم ذلك هناك من جعل قصتها تنتهي باغتيالها من طرف ولدها (المؤرخ الروماني جاستن من القرن الثالث الميلادي)، ومن قال بانتحارها (رمت نفسها في المحرقة) مثل المؤرخ الروماني هيجينوس (القرن الأول قبل الميلاد) …
لقد ساهمت أسطورة سميراميس بنسختها اليونانية في تبلور فكرة أنصاف الآلهة، والمقصود بها كائنات ناتجة عن العلاقة بين السماويّ والأرضيّ (الإله والبشر)، وهي شخصيات ذات قوى عظيمة تقترب من قوى الآلهة، كما تتميّز بالخلود، من أشهرها هيرقليس اليوناني وهرقل الروماني … وإن كان هذا من المعتقدات الوثنية، فإنها أيضا أثرت في الفكر الهرمسي اليوناني الذي انتهى إلى الإيمان بوجود العقل الأكبر الفعّال أوّلا ثم كلمته الخلاقة ممكنة التجسّد ثانيا …
والراجح أنّ أسطورة سميراميس بصبغتها التوراتية أكثر تأثيراّ من نظيرتها اليونانية نظراً لزوال الأديان الوثنيّة وانتشار اليهوديّة والمسيحيّة، يقول الكتاب المقدس وبالتحديد العهد القديم أن النبي نوح بعد الطوفان كان نائماً عارياً، فلمّا رآه ابنه كنعان ضحك عليه وأخبر شقيقيه سام ويافت، وعكسه تماماً فقد قاما بتغطية والدهما وستره (قام نوح بلعن كنعان وكل ذريته من بعده) … فيما بعد تزوّج كنعان من سميراميس، وقد أنجبت ولداً اسمه النمرود، قام هذا النمرود بقتل أبيه وتزوّج من أمه، وقد صار من أعظم ملوك الفرس وبنى عدة مدن منها نينوى وبابل، وهو من أمر ببناء صرح عظيم يصل عنان السماء متحدياً الله تعالى (برج بابل) إلاّ أنّ الله منعه (جعل ألسن العمال مختلفة فلم يتمكنوا من التفاهم والاتفاق وإتمام البناء) … بسبب كفره وطغيانه وعدائه لله تعالى والمؤمنين، قام عمّه صام بقتله، إلاّ أن والدته/زوجته سميراميس كذّبت خبر موته وقالت أنّه حيّ في السماء لأنه إله الشمس … بعد مدة زمنيّة حملت سميراميس وزعمت أن الجنين في بطنها من النمرود إله الشمس، وُلد مولودها الذي اسمه تموز يوم 25 ديسمبر، وهو اليوم المقدس في معابد إله الشمس عند المصريّين (الإله راع) واليونانّيين (الإله هيليوس) والرومانّيين (إله ميثرا) والبابليّين … تستمر الأسطورة وتقول أن تموز مات أثناء الصيد بعدما هاجمه حيوان مفترس وعلّق جثته على شجرة، ولم تجد سميراميس من حيلة سوى إنكار موته، وزعت أنه وُلد من جديد في تجسّد إلهي على شجرة التنوب sapin ، حزن الناس على موته 40 يوما، ثم جرى في عادتهم في كل سنة جديدة من يوم 25 ديسمبر المجيء إلى بيوتهم بشجرة التنوب مع تزيينها بالذهب والفضة وتوزيع الهدايا احتفالاً وكرمز لبعثة تموز من الموت (سفر أرميا/10) …
لما سيطّر الفرس على كل المنطقة، نشروا عقيدة الثالوث المقدس الخاصة بهم (تموز، النمرود، سميراميس) في الشعوب المجاورة بما في ذلك اليونان ولم تتغيّر سوى الأسماء (زيوس، أفروديت، إيروس)، وفي مصر (أوزيريس، إيزيس، حورس)، وعند الرومان (فينوس، أدونيس، كوبيد) …
ولا يزال أثر هذه الملكة وأسطورتها يعيشه كل العالم، وبالتحديد منذ القرن الرابع ميلادي حين قرّر قسطنطين البيزنطي جعل الديانة المسيحيّة دين الدولة، ولا حلّ لإرضاء الرومان وفكرهم الوثني سوى بتغيير أسماء الأساطير الوثنية بأسماء مسيحيّة … وما عيد الكريسماس في كل 25 ديسمبر وشخصية الأب نويل Noel والشجرة وتوزيع الهدايا سوى تكرار لاحتفالات وطقوس الوثنيين في عبادتهم للإله تموز (للهروب من هذه الحقيقة، تدعي الكنيسة أن أصل عيد الكريسماس يعود إلى القديس سانتا كلوز ولكنها لا تستطيع تفسير سبب استخدام الشجرة والهدايا، ولماذا أصلا يوم الانقلاب الشتوي بالضبط ولماذا تقديس يوم الشمس أي الاحد/ sunday).
قد يقول قائل إن قصة النمرود مذكورة أيضاً في الإسلام، فهو الخصم الذي حاجّجه النبي إبراهيم، وهنا وجب التنبيه أنّ النمرود غير مذكور إطلاقاً في القرآن الكريم (صمت القرآن عن ذكر خصم إبراهيم)، وبما أنّ أهل التفسير لطالما اعتمدوا على الإسرائيليات لتفسير وفهم القصص القرآني، قالوا أنّ النمرود هو الذي جادله إبراهيم، ثم انتقلت هذه الفكرة التوراتية إلى التواتر في كتب التراث الإسلامي، ثم صارت من المسلّمات واللامفكر فيه … وحتى لو نفترض جدلاً أنّ خصم إبراهيم هو النمرود، فمخطئ من يرى في الحجّة الإبراهيميّة مصادرة على المطلوب، إذ بمقاربة سيميائية للقصة، فإنّ طلب إبراهيم من النمرود بأن يُخرج الشمس من جهة الغرب منطقي جداً بما أنّ النمرود هو إله الشمس (كما فصلنا في الفقرات السابقة) …
في الأخير، ورغم ما نعيشه في عالمنا المعاصر من هيمنة للعلوم المادية التجريبية، والعلوم الرياضية والرقميّة، واعتبار أساطير الأولين مجرد خرافات عفا عليها الزمن، إلاّ أنّ هذه الأخيرة لا تزال ذلك الجسر الرابط بين الماضي السحيق والحاضر، حاملاً هوية الشعوب وثقافاتها، فهي تعيش معنا سوى أدركنا حقيقتها أو لم ندركها، سواء شعرنا بسحرها أو تتواجد في اللاشعورنا … فهل يعلم سكان البرازيل أنّ صورة المرأة على أوراقهم النقدية ما هي سوى سميراميس، وهل يعلم سكان نيويورك أن الفرنسي بارتولدي استلهم فكرة نحت تمثال امرأة قويّة (تمثال الحريّة) من سميراميس، وكذلك استلهام نحت تمثال امرأة تحمل ميزان العدالة، إضافة إلى صورة المرأة كواجهة لواحدة من أشهر شركات الإنتاج السينمائي عالميا (شركة كولومبيا بيكتشرز) … أما في مجتمعاتنا، فلعّل الآلاف من النسوة والبنات يحملّن اسم هذه الملكة الأسطورة من دون علمهّن (سميرة وتُنطلق سميرا / حذف اللاحقة اليونانية).
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.