أنثروبولوجيَّة الأنثى في المسيحيّة
منذ أن بدأ تصّور الألوهية في الأديان القديمة ينتقل من الماترياكية (الآلهة الأم هي الأقوى والمسيطرة) إلى الباترياكية تدريجياً وما صاحبه من تراجع في عقيدة التعدد إلى عقيدة التوحيد، ومن المعرفة الحسيّة للإله إلى التجريد والتنزيه، حتى جاء العصر الوسيط أين أكمل هذا الانتقال دورته بظهور أديان التوحيد، سواء السماويّة في الشرق الأوسط أو الآسيوية في الشرق الأقصى، تغيّرت أيضاً وبالتلازم مكانة ومنزلة المرأة في هذه المجتمعات واتجهت نحو الاحتقار والدونية نتيجة أدبيات دينيّة جعلتها درجة ثانية مقارنة بالرجل، كما اعتبرتها أصل الشرّ والخطيئة والغواية والفتنة، وما خلقها الله سوى متعة جسديّة للرجل، أو لابتلاء عباده الصالحين كما جاء في كثير من كتب رجال الدين.
لقد عرفت الأنثى ذروة الانحطاط والتحقير من النظام الكهنوتي الذكوري عند الشعب العبراني بعد اكتمال الفكر الديني اليهودي، والراجح أن السبب المباشر يعود إلى قصة آدم وحواء حسب سفر التكوين، حيث لم يكتف كهنة المعبد من تحميل حواء خطيئة الأكل من الشجرة المحرّمة والطرد من الجنّة إلى الأرض، بل بسبب فعلتها صار الرجل سيداً عليها إلى الأبد، جاء في التوراة: ” وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا. وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك (16) وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا: لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك (17)”[1]، وهكذا ترسّخ عند اليهود فكرة تحميل حواء مسؤوليّة الطرد من الجنّة (رغم أنّ المسؤوليّة مشتركة بين الزوجين)، واعتبروها سبباً للعنة الربّ، ورجساً من الشيطان، بل وجعلوا هذه الخطيئة الملعونة أبديّة تنتقل بالوراثة إلى كل بنات حواء (هأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي)[2]، فساد الاعتقاد عند الرجال اليهود أنّ المرأة ملعونة إلهياً، ولهذا لا يصدقون بوجود امرأة صالحة كما جاء في استفهام إنكاري في التوراة : ” امرأة فاضلة من يجدها ؟ لأن ثمنها يفوق اللآلئ (10) بها يثق قلب زوجها فلا يحتاج إلى غنيمة (11) تصنع له خيرا لا شرا كل أيام حياتها (12)”[3]، ولا تكون شريكة لهم ولا تساويهم في الحقوق بل أدنى منهم مرتبة، وما وجودها إلاّ لإمتاع الرجل وخدمته وإنجاب الأولاد، ولهذا وحسب التوراة كان يحق للرجل اليهودي التخلّص من ابنته ببيعها كجارية لأنّها تعّد جزءاً من ممتلكاته يتصرف فيها كما يشاء ( “وإذا باع رجل ابنته امة لا تخرج كما يخرج العبيد (8) إن قبحت في عيني سيدها الذي خطبها لنفسه يدعها تفك.وليس له سلطان أن يبيعها لقوم أجانب لغدره بها (9) وإن خطبها لابنه فبحسب حق البنات يفعل لها (10) إن اتخذ لنفسه أخرى لا ينقص طعامها وكسوتها ومعاشرتها (11) وإن لم يفعل لها هذه الثلاث تخرج مجانا بلا ثمن (12)”[4] )، ومن هنا يمكن فهم لماذا تمّ اعتبار الزنا جريمة وخيانة عظمى في الشريعة اليهودية وحدّها القتل بالرجم، السبب ببساطة أنّ الزاني اعتدى على ملكيّة رجل آخر والزانية تصرفت في جسدها من دون إذن سيدها (“لاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ، لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ عَبْدَهُ، وَلاَ أَمَتَهُ، وَلاَ ثَوْرَهُ، وَلاَ حِمَارَهُ، وَلاَ شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ (17)”[5])، وإلاّ فالمراقب للنص التوراتي لا يرى فيه أي حرج في تعلّق المرأة بالفاحشة إن كانت لخدمة مصالح الرجل، أو شكلاً من أشكال العقوبة الربانية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما جاء في سفر أستير وكيف صار اليهود يقدسّون هذه المرأة منذ أن تمكّنت بعهرها مع الملك من إقناعه بتدمير مملكة “أحشو”، بل وخصصوا يوم عيد لذكراها يسمى “عيد الفوريم”، وسفر التكوين الذي صوّر أبرام (إبراهيم) بشخص يتكسّب من وراء زوجته بالإدعاء أنها أخته، وحتى إسحاق فعل مثله (“وكانَ في الأرضِ جوعٌ غيرُ الجوعِ الأوَّلِ الذي كانَ في أيّامِ إبراهيمَ، فذهبَ إسحَقُ إلى أبيمالِكَ، مَلِكِ الفلِسطيِّينَ في جرارَ..(6) فأقامَ إسحَقُ في جرارَ (7) وسألَهُ أهلُ جرارَ عَنِ اَمرأتِهِ فقالَ: هيَ أُختي، لأنَّهُ خافَ أنْ يقولَ هيَ اَمرأتي، لِئلاَ يَقْتُلوهُ بسببِها وكانَت جميلةَ المَنظَرِ (8) ولمَّا مضَى على إقامتِهِ هُناكَ وقتٌ طويلٌ حدَثَ أنَّ أبيمالِكَ، مَلِكَ الفلِسطيِّينَ أَطَلَ مِنْ نافذةٍ لَه ونظرَ فرأى إسحَقَ يُداعِبُ رِفقةَ اَمرأتَهُ (9) فدَعاهُ وقالَ لَه: «إذًا هيَ اَمرأتُكَ، فلماذا قلتَ إنَّها أُختُكَ ؟» فقالَ إسحَقُ: «لأنِّي ظَننتُ أنَّني رُبَّما أهلِكُ بسببِها» (10) فقالَ أبيمالِكُ: «ماذا فعَلتَ بِنا ؟ لولا قليلٌ لضاجعَ أحدُ أبناءِ شعبِنا اَمرأتَكَ فنُذنبَ» (11) وأوصى أبيمالِكُ جميعَ الشَّعبِ قالَ: «مَنْ مسَ هذا الرَّجلَ أو اَمرأتَهُ فموتًا يموتُ» (12) وزرعَ إسحَقُ في تِلكَ الأرضِ، فحصدَ في تِلكَ السَّنةِ مئةَ ضِعفٍ، وباركَهُ الرّبُّ (13) فعظُمَت مكانتُهُ وتزايدَت إلى أنْ صارَ رَجلاً عظيمًا جدُا (14) وكانَت لَه ماشيةُ غنَمِ وماشيةُ بقَرٍ وعبيدٌ كثيرونَ، فحسَدَهُ الفلِسطيّونَ …”[6])، ومن أمثلة استخدام إله التوراة الفاحشة لعقاب الأنبياء ما جاء في سفر صموائيل الثاني: ” لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه؟ قد قتلت أوريا الحثي بالسيف، وأخذت امرأته لك امرأة، وإياه قتلت بسيف بني عمون (9) والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد، لأنك احتقرتني وأخذت امرأة أوريا الحثي لتكون لك امرأة (10) هكذا قال الرب: هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك، وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك، فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس (11) لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس”[7]، فأي ظلم وإشاعة للعهر والرذيلة أعظم من هذا ( ممارسة الفاحشة على نساء بريئات وسط النهار وأمام الجميع كعقوبة على خطأ وقع فيه زوجهن داوود) … ومن دون إطالة للمقال، يمكن القول أن المرأة وضعها الفكر الديني اليهودي في منزلة أقّل من منزلة الرجل وتابعة له، وصارت هذه الفكرة مقدسة نظراً للإيمان بأنّ هذه هي مشيئة الله، ولهذا تدعو المرأة اليهودية في صلاتها “أحمدك يا رب لأنك خلقتني كما تريد”، بينما يدعو الرجل اليهودي في صلاته “أحمدك يا رب لأنك لم تخلقني امرأة”، ونظراً لتلاقح الثقافات بين شعوب المنطقة، فقد انتقلت فكرة دناسة المرأة وقلّة مكانتها أمام الرجل إلى بقيّة الأقوام كالعرب والكنعان وغيرهم.
أحسب أن أوّل مسمار دُقّ في هذا النسق الديني العنيف ضد المرأة بدأ مع الإرهاصات الأولى للديانة المسيحيّة[8]، حيث جاء في المرويات الإنجيلية أنّ يواكيم اعتزل الناس أربعين يوماً من الصيام والصلاة في جبل الجليل لدعاء الله أن يرزقه ولداً بعدما اعتقد أن العقم أصابه لذنب اقترفه، فظهر له جبريل وأعلمه أنّ الربّ سمع غفرانه ومنحه ابنة، لم يتقبّل يواكيم في البداية لأنّه عبراني يهودي، فعدم الإنجاب أفضل عنده من إنجاب بنت، ولكن الملاك أخبره بأنها ستحقق نبوءة أشعياء، كما أبلغه بوجوب تقديمه نذر يتمثل في جعل البنت خادمة لبيت الرب حين بلوغها … فهذه القصة وما تحمله من قداسة، بلا شك ستجعل فكرة عدم الرغبة في إنجاب أنثى تتزلزل في تلك البيئة، كيف لا ورئيس الملائكة جبريل هو من بشّر بولادتها بل واعتبرها وسيلة لتحقيق وعد الربّ.
ازداد اضطهاد الرومان لليهود، كما تضاعف طغيان هيرودوس لشعبه، وفي خضم القساوة التي يعانيها الشعب العبراني، بدأ بعض رجال الدين يتحدثون عن اقتراب ميلاد المخلص، الموعود الرباني، المسيح المنتظر الذي سينقذ شعب الله المختار من هذا الظلم، ومن هنا بدأ التساؤل عن المرأة التي ستحمل هذه البشرى في رحمها، ما جعل في المجتمع ظهور نوع من الاحترام لكل امرأة من طرف الرجال وخاصة المؤمنين بهذه النبوءة، وهذا أيضا بداية التغيّر في النظرة الذكورية للأنثى.
أوفى يواكيم بوعده وأوصل ابنته التي أسماها مريم إلى المعبد الكبير بأورشليم، وقد تمّ استقبالها بصدر رحب على غير عادة الفريسيّيين (يرفضون دخول الإناث للمعبد)، والسبب انتظارهم ولادة المسيح ورغبتهم أن يكون من نسل إحدى بنات المعبد (كنّ تحت إشراف حنّة الملقبة بالنبيّة)، أما كبير الكهنة فكان إيل شداي، وهذه نقطة تغيّر جذرية مسّت النظام الديني اليهودي (السماح للبنات بالإقامة في المعبد وتعلم الدين وتعليمه بعدما كانت مهنة خاصة بالذكور).
جاءت ولادة المسيح من دون أب، ولأوّل مرة في التاريخ العبري تكون عائلة الأم وكذلك خطيبها والكثير من رجال الدين وخاصة من الطائفة الأبيونية (النذارى باللغة العربية / النصارى باللغة السريانية) من المدافعين عنها، والمصدقين ببراءتها وطهارتها رغم ما تعرضوا له من شتم ووصم بالعار، وهذه قفزة كبيرة في مجال الدفاع عن المرأة اليهودية التي كانت تُرجم من والدها وخطيبها لمجرد الشك فيها.
ما أحدثته قصة السيدة مريم من زعزعة لذلك الفكر الديني القاسي اتجاه المرأة نجد له استمراراً بعدما عاد السيد المسيح إلى المدن الفلسطينية، ومثال ذلك حين جاءه الكتبة (من أكثر الفرق اليهودية تشّددا) بإمرأة امسكوها متلبسة في قضية زنا، وطلبوا منه تطبيق حكم الشريعة فيها (يرجمها حتى الموت)، ولكنه رفض رجمها وقال لهم جملته الشهيرة “من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر”، فلم يستطع أي أحد رجمها، ثم فكّ قيدها ودعاها إلى الاستغفار والتوبة إلى الله وأطلق سراحها، وهذه المرة الأولى وبدرس ميداني أثبت المساواة بين الذكور والإناث حتى في الوقوع في المعاصي بما في ذلك رجال الدين، فبأي حقّ يقوم الذكر بمعاقبة الأنثى باسم الرب والشريعة وهو بشر مثلها يُخطىء ويُصيب … وكمثال آخر، موقف المسيح من مريم المجدلية، هذه المرأة التي اختارت أن تكون من تلاميذه وأنصاره ومن المهاجرين معه، وقد وافق ضارباً عرض الحائط التقاليد اليهودية التي تمنع سفر المرأة من دون محرم، وقد كانت من أشد المخلصين له، والكاتمة لسرّه والمقربين له إلى درجة عدم تقبّل بعض الحواريين وجودها معهم …
مواقف السيدة مريم وولدها المسيح في كسر ذلك النمط الثقافي اليهودي المتشدد ضد المرأة كثيرة ولا يمكن جمعها في مقال، ولكن قد يقول قائل أين أثر هذا عند المسيحيين ؟ لقد عانت المرأة في أوروبا المسيحية الظلم حتى صارت تتحمل مسؤولية الجفاف والأمراض والحروب ، طاردتها الكنيسة تحت شعار محاربة الساحرات، بل كانت تعقد المجالس والمؤتمرات لمناقشة هل للمرأة روحاً كالرجل، وهل تصنّف إنساناً … وهنا أُذكِّر بالمقدمة حين ذكرت إرهاصات المسيحية والتي تختلف بالمطلق مع الأنظمة البطريركية الكنسيّة حيث السيادة الذكورية (تمّ العمل بمقتضيات العهد القديم أي كتب اليهود)، ولكن وجب التنبيه أن عصر النهضة الذي معه بدأت المرأة تسترجع وجودها الإنساني قاده أدباء وفلاسفة ومفكرين أغلبهم مسيحيّين (بل منهم قساوسة)، وقد أحدثوا التغيير بعدما تخلصوا من أحكام وخرافات العهد القديم إما بنسخه بالعهد الجديد تارة (الأناجيل)، أو بتأويل نصوصه وفق مقتضيات العصر والعقلنة والعلم تارة أخرى، وبالتالي لم تجد المجامع المسكونية الأخيرة أي إشكال في منح الأنثى حقوقها كاملة وبالتساوي مع الذكور كالحق في قبول الزوج أو رفضه، الحق في الميراث، الحق في الدراسة والعمل …
في الأخير، يمكن القول إن مجتمعات الشرق الأوسط هي مجتمعات أبوية بامتياز وبالتالي لا غرابة أن تكون نشأة الأديان بها ذات نزعة ذكورية، إلاّ أن رجال الدين هم من يتحملون كامل المسؤولية (المرأة ضحية تعامل رجال الدين مع النصوص الدينية بسبب تفسيراتهم التي توافق نظرتهم الدونية لها)، ولعّل ما فعلته بعض التنظيمات المتشدّدة كداعش بالنساء بحجة تطبيق الشريعة لهو عودة بالفكر الإنساني إلى عصر التخلف والانحطاط، وبالتالي لابد للأديان من الاقتراب والاندماج السلس مع القضايا الاجتماعية الراهنة وليس التصادم معها.
[1] سفر التكوين: الإصحاح 03
سفر المزامير: الإصحاح 51/05[2]
[6] سفر التكوين: الإصحاح 26
[7] سفر صموائيل الثاني : الإصحاح 12
[8] لا أقصد بالديانة المسيحية شقها اللاهوتي (عقيدة الصلب والفداء والغفران والثالوث …) بل الجانب الثقافي والسلوكي للإنسان في تلك الفترة والبيئة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.