التمهيد إلى ميتافيزيقا إسلاميَّة بَعديَّة
مدخل
ليس القول على استئناف الميتافيزيقا وتجديد آفاقها، ضربًا من رغائبَ لا طائل منها. فلو لم يكن من داعٍ يستحثُّ على الاستئناف لبَطُل المدَّعى. ثمة إذاً وجوبٌ وضرورة للإستئناف. والبداهة المنطقيَّة تبيِّن أنَّ كلَّ مستأنفٍ مسبوقٌ بتوقُّف ما أو إيقاف ذي علّة: قد يكون ذلك لوهنٍ قد اعتراه، أو لِميَلٍ عن الصوابِ وَجَبَ تقويمه، أو لاعتلالٍ تكوينيٍّ أوقَفَه عن النموِّ والديمومة.
وما كان لنا أن نصوغ عنوان هذه الأملية بعبارة “التمهيد إلى علم المبدأ..” إلَّا لبسط مسافة ضروريَّة مع ما يُراد استئنافُه. فالعبور من “الماقبل الموقوف” إلى “الما بعد المستأنف” يقتضي تسويغًا معرفيًّا لمفهوم لم تكتمل أركانه بعد، ويؤملُ أن يتَّخذ مكانًا لائقاً في منفسحات التفكير. وعليه، فإنَّ دلالة “التمهيد إلى” تومئ إلى سفرٍ فكريٍّ يُفترض مكابدةُ وعثائهِ لكي نفلح بـ “المابعد”، أو أن نتقرَّب إليه على أدنى تقدير. ولأنَّ الميتافيزيقا المستأنَفة التي نسعى لتسييلها، ترنو إلى مجاوزة “الماقبل” الميتافيزيقيِّ، فهي محمولةٌ على ملء فراغ أنطو- إبستمولوجيٍّ طال أمدُ نسيانه في تاريخ الفلسفة. أمَّا المسافة التي أنشأناها كتمهيدٍ للمابعد فقد اختزنت معاني الختام والبَدءِ معًا، أي: ختامَ ميتافيزيقا استنفدت أغراضَها، وبَدءَ أخرى تريد القيام بمهمَّة إحيائيَّة لعلم الوجود. ولكي نبيِّن أكثر، اعتمدنا الفرضيَّة التالية: تنطوي الميتافيزيقا على معضلة فهمٍ لاسمِها ونعتِها وهوّيَّتِها. ولمَّا نظر إليها الأوَّلون ولحق بهم الآخرون، قاربوها كعلمٍ يستفسرُ ما يمكثُ وراء الطبيعة لكي يتعرَّفوا على المبدأ والأصل. لكنَّ الذي رَسَخَ في واقع الأمر، أنَّ ملحمة الاستفسار والمساءلة ستدور على غير هدىً مدار الطبيعة. ثمَّ طفقت تفسِّر العالم وفق معياريَّات العقل الفيزيائيِّ ومقولاته، ثمَّ لتأتي الحصيلة المنطقيَّة أنَّ الميتافيزيقا بصيغتها الشائعة أخفقت في الإجابة
– بحث مقدَّم إلى المؤتمر الرابع والثلاثين الذي تقيمه الجمعية الفلسفية المصرية ودار الإفتاء المصرية تحت عنوان: الفلسفةالإسلامية / حاضرها ومستقبلها حول العالم – القاهرة 7-8- ديسمبر- 2024.
عن مبتدأ الأمر، ولم تجاوز مسلَّماتها الصلبة. حتى لقد بدا أنَّ كلَّ ما اقترفته الفلسفة الأولى سحابة تاريخها المديد، أنَّها غفلت عن كُنهِ الوجود، ثمَّ سكنت إلى فتنة السؤال عن ظواهره، ولم تنفلت من سحره قطّ.
من أجل ذلك، لم تكن دعوة الميتافيزيقا البَعديَّة إلى إعادة تسييل العلم بالشيء في ذاته “النومين”، إلّا لإنشاء قولٍ فلسفيٍّ مُفارقٍ يؤسِّسُ لنظريَّة معرفة تنظِّر إلى هذا الشيء بوصفه ظهورًا واقعيًّا قابلًا للفهم. الغاية من ذلك، هي التمهيد لأفقٍ معرفيٍّ جديدٍ يستجلي المخبوء في علم الوجود، وينفتح على مسارٍ مُفارق يستظهر ما يختزنه الشيء في ذاته من وعود ميتافيزيقيَّة.
حسب الميتافيزيقا البَعديَّة[1]، ينبِّه علم النومين (النومينولوجيا) إلى وجوب تصويب خللٍ تكوينيٍّ في الاسم الأنطولوجيِّ للميتافيزيقا. فإذا كانت كلمة الما بعد (ميتا) دالَّةً على ما هو تالٍ للطبيعة أو ما فوقها، فذلك معناه أنَّ عالَم ما بعد الطبيعة هو امتدادٌ للطبيعة وموصولٌ بها بعروةٍ وثقى، ما يعني أنَّ كلَّ ما بعد الطبيعة هو واقعٌ حقيقيٌّ بمرتبةٍ وجوديَّةٍ مُفارقة، وإن تعدَّدت ظهوراته كمًّا وكيفًا. مثل هذا الخلل في الاسم الأنطولوجيِّ للميتافيزيقا سوف يؤدّي إلى صدعٍ في فقه المبدأ المؤسِّس والاستفهام عن حقيقته. وهذا ما سيكشف عن أمرٍ بديهيٍّ سها عنه القول الفلسفيُّ الإغريقيُّ ولواحقُه. فإذا كانت مهمَّة الميتافيزيقا البحث في الوجود بما هو موجود، فإنَّ مبتدأها ومنتهاها تمثَّلا بحصر معرفتها بالموجود في ظهوره العيانيِّ، وعدم الاكتراث بما هو عليه في خفائه وكُمُونه.
- بصدد مشروعية الميتافيزيقا وحدودها
في البَدء، والميتافيزيقا موضع جدلٍ حول مشروعيَّتها بين كونها عقلًا وعلمًا، أو محضَ وهمٍ يتراءى في الأذهان. لم يجهر أرسطو ببيانٍ يفيد بأنَّها معرفة لا عقلانيَّة، لكنَّ نظامه الفلسفيَّ سيمتلئ بهذا الحكم حين صرَّح بأنَّ أحدًا لايعرف طبيعة ما لا يوجد، وأنَّ وجود أيِّ شيء كواقع هو مسألة برهان؛ ثمَّ ليقدِّم التجربة على الاستدلال، ولا يرتضي من الاستدلال إلَّا ما يوافق الوقائع المرئيَّة. ومع أنَّه كان مؤمنًا بأنَّ أعظم قوى العقل مستمَدَّة من شيء يقع وراء التجربة والاستيعاب العقلانيِّ، وأنَّ هذا الشيء هو فاعلٌ وأبديٌّ وسماويٌّ وخالدٌ.. سيعود القهقرى من بعد قوله هذا إلى دعوى امتناع العقل عن إدراك ما لا دليل عليه. الَّلاحقون من حَفَدتِهِ، سيحتذون بما ذهب إليه حذو التَّبعِ عن ظهر قلب. صدَّروا من الأحكام ما يقيم الميتافيزيقا مقام معرفة سديميَّة لا تُقال لاستحالة إثباتها أو نفيها. ثمَّ ابتنوا حجَّتهم على معادلة مؤدَّاها: أنَّ الطريق الذي يقودُ المرءَ من قارَّة المعرفة العقلانيَّة إلى جزيرة الحدس معدومٌ ولا عقلانيٌّ، وأنَّ ما يقودُه من بلد المعرفة التجريبيَّة إلى بلد المعرفة الصوريَّة موجودٌ وعقلانيٌّ.. ثمَّ خلصوا إلى الاعتقاد باستحالة تسمية الحدس والإيمان الدينيِّ بـ “المعرفة” العقلانيَّة. المُحدَثون ممَّن ينتسبون إلى سلالة الإغريق جادلوا في إمكان عقلنة الميتافيزيقا أو لا إمكانها عقلًا وعلمًا. لكنَّهم سيرجعون من بعد عناء إلى الأخذ بما أخذ به الأسلاف: إنَّ الميتافيزيقا لا تُقاس لكونها غير متحيَّزة. ولمَّا كان كلُّ متحيِّز يُعرفُ عقلًا بحدود ماهيَّته وهوّيَّته، فإنَّ كلَّ ما لا يتحيَّز لا يُعقل ولا يُعرف ولا يُقال؛ وبالتالي فهو غير عقلانيّ. والنتيجة المنطقيَّة لدى هؤلاء: الميتافيزيقا غير عقلانيَّة.
ابتناءً على ما سلف، بدا أنَّ من أظهر السِّمات التي يجوز استخلاصها من اختبارات الفلسفة، قولُها أنَّ العقل قاصرٌ عن مجاوَزة دنيا المقولات العشر وأحكامها.. وأنَّ المعرفة البشريَّة لا يتيسَّر لها إدراك ما هو مخبوء وراء عالم الحسّ. والنتيجة المترتِّبة على هذا المدَّعى، هي الإعراض عن فقه الماوراء، والعزوف عن فهم كُنه الجوهر في ذاته، فضلًا عن استعصاء معرفة السرِّ الأنطولوجيِّ المنطوي فيه لغزُ إيجادِ الموجِدِ لعالَم الموجودات.
نكمل:
لمَّا أوجبت الضرورة على الفلسفة الأولى بما هي ميتافيزيقا قبْليَّة أن تبحث عن كائن يعي ويعتني بالسؤال عن ماهيَّة الموجود البَدئيِّ، وما يحويه من تكثُّر وتجدُّد وسِعة، لم تجد لهذه المنزلة غير الإنسان. بهذا يصحُّ القول أنَّ من جميل ما للفلسفة على الإنسان، أنَّها أومأت إليه أن يسأل بلا هوادة عمَّا يجهل.. وأنَّ من جميل الإنسان على الفلسفة تنصيبَها مليكة على عرش العقل. ولفرط دهشتها بما هي عليه من الانسحار بالسؤال، غَفلَت الفلسفةُ عمَّا وصفها به القدماء بأنَّها “عشق الحكمة” وحثٌّ على بلوغ كمالاتها، إلَّا لبثت دون المعشوق وغايته العظمى. حتى لقد غَلَبت عليها الظنون فأخلدت إلى أرض السؤال وأقامت فيه طويلًا. وإذ أذعن الفلاسفة إلى “دابَّة الذهن”، وأسلموا أمرهم إلى سلطانه، أسدلوا في وجه كلِّ سائل حجابًا حالَ دون الوصول إلى اليقين ونعمائه. أمَّا حاصل هذه الوضعيَّة فهي استنزال الكائن الإنسانيِّ إلى دنياه الواطئة، وزحزحته جذريًّا من كونه مركزًا للكون إلى صاغر لقوانينه، ومصادرة قدرته على تحصيل معرفة حقيقيَّة بالوجود ومبدإه الأول. على هذا النحو، صار الاغتراب الأنطولوجيُّ متضافرًا مع الاغتراب الكوزمولوجيِّ والمعرفيّ. والمفارقة هنا أن أصبح الوجود غير معروف، أو لغزًا يتخطَّى تمكُّن العلم منه، فيما أحيلت الميتافيزيقا إلى ضربٍ من مزاعم حول تخمينات لا رخصة فيها.
المبيَّن أنَّ الفلسفة الأولى طفقت تفارق معضلتها التكوينيَّة وهي تتغيَّا الاستفهام عن مبادئ الوجود وحقيقته. لهذا راحت تستغرق في بحر خضمٍّ تتلاطم فيه أسئلة الممكنات وأعراضها. حتى أنَّ الفلسفة الحديثة – وهي في ذروة دهشتها بذاتها – لم تَبرح هذه المعضلة الموروثة. وليس هذا إلَّا لأنَّ مبدأَهَا المنبسطَ على “التغايُر الَّلامتكافئ” بين “النومِين” (الجوهر في ذاته) و”الفينومِين” (الشيء كما يظهر في العلن)، ظلَّ ملازمًا لها كما هو الحال في نشأتها الأولى.
2-عن ميتافيزيقا الحداثة ومعاثرها
في حقبة الحداثة التي أرسى ديكارت عمارتها الميتافيزيقيَّة بنسختها القبْليَّة المستأنَفة، سيظهر مسار متجدِّد من الولاء المطلق للعقل الإغريقيِّ المسكون بطبائع الكون المرئيِّ. فالبرنامج الديكارتيُّ القائم على التحليل الميكانيكيِّ سيرى أنَّ الطريقة الفضلى لفهم الإنسان هي النظر إليه كما لو كان آلة، تمامًا كما هو الحال مع فهم الكون بمجمله. كما رأى أنَّ سلوك الإنسان وعمل العقل ليسا سوى اثنين من الأفعال المنعكسة القائمة على مبدأي التحريض والاستجابة. وعلى هذا النحو، فإنَّ الأطروحة الرئيسة أو المقدِّمة الكبرى الواسعة الانتشار التي ترى أنَّ جميع تعقيدات الوجود البشريِّ ونظيره الكونيِّ، من شأنها أن تتفسَّر، آخر المطاف، من مسلَّمات مبادئ العلوم الطبيعيَّة. واستتباعًا لهذا التنظير، سيكون من أهمِّ الحقائق في تاريخ الفلسفة الحديثة، هي عمليَّة التحويل الكبرى التي ستجعل العلم (الرياضيَّ والفيزيائيَّ) بديلًا للميتافيزيقا. الأثر الحاسم كان مع إسحق نيوتن حيث انطلق التنوير من ثقة غير مسبوقة بالعقل البشريِّ. وقد أفضى نجاح العلم في تفسير العالم الطبيعيِّ إلى التأثير في جهود الفلسفة على مستويين:
أ– رؤية أساس المعرفة الإنسانيَّة في عقل الإنسان وتشابكه مع العالم المادّيّ.
ب- توجيه اهتمام الفلسفة إلى نوع من تحليل العقل المؤهَّل لتحقيق مثل هذا النجاح المعرفيّ.
من المبين أن نقول إنَّ ديكارت لم يكن ليهتدي إلى “الكوجيتو” لولا أن غَلَبته شَقْوَةُ فَقْدِ الوجود، ثمَّ سعى ليعثر عليه عن طريق “الأنا” المكتفية بذاتها. الخَيارُ سيكون شاقًّا، بل ويحتاج من المكابدات أقصاها. وَقَعَ الرجلُ في معثرةِ الجمعِ المستحيلِ بين نقيضين غير قابلين للتواؤم في هندسات العقل الأدنى: الإيقان بالألوهيَّة الذي لزومُهُ التّسليم والإيمان.. والبرهان بالفكر الذي مقتضاه السؤالُ، والسّببيَّةُ، والعلَّة المُفضيةُ إلى كشف المعلول والتعرُّف عليه. لم يجد ديكارت ما ينفذُ به إلى مجاوزةِ هذه المَعْثَرة الممتدّةِ جذورُها إلى الميراثين الفلسفَييَّنْ اليونانيِّ والرومانيِّ، إلَّا أن يلوذَ بـ “الأنا” لكي ينجز مبتغاه. وهكذا قرَّر الرُّجوع إلى نقطة البداية؛ ليبيِّن لنا أنَّ الشّيء الوحيد الذي كان واثقًا منه، أنَّه هو نفسه كائن يشكُّ، وجوهرٌ يفكِّر. وبسببٍ من سطوة النَّزعة الدنيويَّة هذه على مجمل حداثة الغرب لم يخرج سوى “الندرة” من المفكِّرين الذين تنبَّهوا إلى معاثر الكوجيتو وأثره الكبير على تشكُّلات وعي الغرب لذاته وللوجود. وفي هذا المورد نشير إلى ثلاثة معاثر كبرى:
أوَّلًا: إنَّ “مبدأ الأنا أفكر” يؤدّي إلى قلب العلاقة التأسيسيَّة للوعي الميتافيزيقيِّ بجناحيه المتناهي والَّلامتناهي. والتساؤل البَدَهيُّ هنا على الوجه التالي: “كيف يمكن المرء أن يعرف الله بتفكير لا إلهيٍّ، أو بتفكير لا إلهَ فيه، أو بتفكير مدعوم إلهيًّا، مع أنَّ نفس وجود الله أو لا وجوده يُحدَّد فقط من خلال معادلة مختلَّة الأركان قوامها: “اللَّه موجود هو مجرَّد نتيجة للأنا موجود”.
ثانيًا: الـ “أنا موجود” (ergo sum) التي تلي “الأنا أفكِّر” (co gito) هي – في منطق ديكارت – تعبير عن كيان يريد إظهار نفسه بالتفكير والكينونة، بمعزل عن الله. وبسببٍ من كونه عاجزًا عن فعل هذا، يمنع تجلّي نفسه وتجلّي الله. فالموجود المتناهي – الإنسان – ومن خلال تأسيس يقينه الوجوديِّ والمعرفيِّ في “الأنا الواعي”، يحاول إظهار ذاته كموجودٍ مطلقٍ، ويجعل نفسه إلهًا مؤسِّسًا لذاته”.
ثالثًا: يشكِّل الكوجيتو الديكارتيُّ، بالأساس، انعطافةً أبستمولوجيَّةً نحو الأنا، الأمر الذي استلْزَمَ انعطافةً أنطولوجيَّةً تليها انعطافةٌ أبستمولوجيَّة. وفي أيَّة حال، ستؤدّي الأَنَويَّةُ الأبستمولوجيَّةُ والأنانةُ الأنطولوجيَّةُ لـ”الأنا أفكِّر أنا موجود” إلى ولادة أنانيَّة فلسفيَّة تخلد إلى المرئيِّ، وتقطع على نحو جائر مع الماوراء.
من بعد ديكارت، أراد كانط أن يستظهر الميتافيزيقا على هيئة لا قِبَلَ لها بها في سيرتها الممتدَّة من اليونان إلى مبتدأ الحداثة. هو يعترف بأنَّها أكثر الحدوس الإنسانيَّة قوَّة لكنَّها لم تُكتب بعد. شعر وهو يمضي في المخاطرة كأنَّما امتلك عقلًا حرًّا، بعدما ظنَّ أنَّه تحرَّر تمامًا من رياضيَّات ديكارت. راح يرنو إلى الإمساك بناصية الميتافيزيقا ليدفعها نحو منقلب آخر، إلَّا أنَّه حين انصرف إلى مبتغاه لم يكن يتخيَّل أنَّ “الكوجيتو الديكارتيُّ” رَكَزَ في قرارة نفسه ولن يفارقها أبدًا.
منظومة كانط المسكونة بسلطان الكوجيتو ومعاثره، سوف تُستدرج إلى تناقضٍ بيِّن في أركانها. نتساءل: كيف يمكن أن يستخدم العقل كوسيلة للبرهنة على أنَّ هذا العقل لا يستطيع أن يصل إلى المعرفة الفعليَّة بالأشياء كما هي واقعًا؟ ثمَّ كيف يمكن أن يعلن أنَّ المرء لا يستطيع تحصيل المعرفة بالشيء في ذاته، وفي الوقت نفسه يستمرُّ في وصف العقل كشيء في ذاته. واضح أنَّ حجج كانط على الجملة لا أساس لها ما لم تكن قادرة على وصف العقل كما هو حقيقة. فإذا كنَّا لا نعرف إلَّا ظواهر الأمور، كيف يمكننا أن نعرف العقل بذاته؟ وإذا كنَّا لا نعرف إلَّا الظاهر فقط، فهل ثمَّة معنى، في التحليل النهائيِّ، لقولنا إنَّنا نعرف شيئًا ما؟ وأمَّا سبب هذه التناقضات فهي أنَّ الفلسفة الإنتقاديَّة الحديثة استثنت معرفة اللَّه والدين النظريَّ من حقل المعرفة التي يمكن الحصول عليها فقط عن طريق العقل القياسيّ.
بسبب هيوم وشكوكيَّته، سيهتزُّ إيمان كانط بشرعيَّة المعرفة الميتافيزيقيَّة. من بعد ذلك سيميلُ نحو منفسح آخر من التفكير الفلسفيِّ ليحكم على الميتافيزيقا بالموت. لقد اضطرَّ لمواجهة اليأس من التعرُّف على “سرِّ الشيء في ذاته”، إلى أن يبتني أسُس المعرفة الميتافيزيقيَّة بوساطة العلم. ثمَّ استبدل التعريفات المجرَّدة بالملاحظة التجريبيَّة، حتى لقد خُيِّل للذين تابعوه كأنَّه يغادر الفلسفة الأولى ومقولاتها ليستقرَّ تمامًا في محراب الفيزياء. وليس كلامه عن أنَّ “المنهج الصحيح للميتافيزيقا هو المنهج نفسه الذي قدَّمه نيوتن في العلوم الطبيعيَّة”، سوى شهادة بيِّنة على افتتانه بالفيزياء وجعلها ميزانًا لميتافيزيقاه النقديَّة. ولمَّا قال إنَّ كلَّ ما هو موجود، هو في مكان ما وزمان ما (irgendwannirgendwo und)، لم يكن يتوقَّع أن يؤدّي موقفه هذا إلى التخلّي عن الميتافيزيقابوصفها تعرُّفًا على ذات الموجود وسرِّهوأنَّه سيخلّي السَّاح للفيزياء كحقيقة واقعيَّة يدركها الفكر.
كذلك توسَّل كانط مرجعيَّتَي هيوم ونيوتن لتسويغ “رغبته” في تحويل الميتافيزيقا إلى علم يقدر على متاخمة المشكلات الحقيقيَّة للعالم الحديث. كان يرى أنَّ إلغاء الميتافيزيقا تمامًا سيكون مستحيلًا، وأنَّ أكثر ما يمكن فعله هو إزالة بعض الأنواع غير الصالحة منها، وفتح الباب أمام ما يسمّيه بالعقيدة العلميَّة الجديدة، وهي العقيدة التي سيضعها تحت عنوان “الإمكان الميتافيزيقيّ” في العالم الطبيعيِّ، والتي تقوم على التمييز المنهجيِّ بين عالَمين غير متكافئين: عالم الألوهيَّة وعالم الطبيعة.
أمَّا مقتضى الإمكان الميتافيزيقيِّ الكانطيِّ في صيرورة الميتافيزيقا علمًا متاخمًا للعلوم الإنسانيَّة وسيَّالًا في ثناياها، فهو النزوع نحو العقل الأدنى ومقتضياته الأنطولوجيَّة والمعرفيَّة والمنطقيَّة. لقد أكمل كانط رحلة الإغريق من خلال سعيه لإنشائها على نصاب جديد عبر تحويلها إلى موقف ينزلها من علياء التجريد إلى الانهمام بالعالم. لكنْ، بدل الاكتفاء بالتمييز والإبقاء على خيط تتكامل فيه العمليَّة الإدراكيَّة للموجود بذاته والموجود بغيره، راح يفصل بين العالَمين ليبتدئ زمنًا مستحدَثًا تحوَّلت معه الميتافيزيقا إلى فيزياء أرضيَّة محضة.
3-أيُّ ميتافيزيقا تُراد، ونحن في مورد الكلام على استئنافها؟
إذا كان مسعى الفلسفة الأولى العلم بالوجود بما هو موجود بوساطة العقل القياسيِّ، فسيتعذَّر عليها إدراك حقيقة الوجود ومبدأ تجلّيه ومكمن ظهوره. عند هذا المفصل ينفسحُ فضاءُ التمايز والمفارَقة بين الفلسفة بما هي ميتافيزيقا قبْليَّة مشغولة بـ “ظاهر الوجود”، والميتافيزيقا الطامحة إلى العلم بالوجود بذاته، وبالتالي العلم بإيجاد الموجدِ للموجود، وهو ما نسمّيه بـ”علم المبدأ”. وما من ريب، أنَّ فضيلة الفلسفة الأولى بما هي “ميتافيزيقا قبْليَّة”، متعيّنة في مسعاها الدؤوب بالسؤال عن الحقيقة الغائبة وإن لم تأتِ عليها ببيان. هذه الفضيلة لا ينبغي لها أن تتوقَّف عند حدّ، ما يعني أنَّ ماهيَّة السؤال – بما هو سؤال – أمرٌ ضروريٌّ للتعرُّف على الغائب، لكنَّه ضروريٌّ حدَّ الوجوب في منهج الميتافيزيقا البَعديَّة ومبانيها النظريَّة ونظريَّتها المعرفيَّة. وخلافًا لما جرت عليه الميتافيزيقا القبْليَّة من ركون إلى الاستفهام عن البادي والمحسوس، وتطوافها الَّلامتناهي في دنياه، تخطو الميتافيزيقا البَعديَّة باتجاه العبور إلى الضفَّة الثانية لنهر الوجود من أجل التعرُّف على الماوراء، واستكشاف ما يستتر وراء ظهوراته وبدّوَاتِ أعيانه. وهذا ما لن يكون له حظٌّ في مشروعيَّة التنظير بمساءلة مفارِقة عن حقيقة الوجود. نعني بهذا، السؤال الذي تقوم ماهيَّته على العناية بالوجود والموجود والواجدِ في آن. لذلك نصير تلقاء استفهام “فوق ميتافيزيقيٍّ” يجاوز ما ذهبت اليه الدّربة الإغريقيَّة في تعريف الفلسفة “بكونها عبارة عن أسئلة، الأصل فيها دهشة الإنسان بالظواهر التي تحيط به”. أمَّا استفهام الميتافيزيقا البَعديَّة بما هو استجواب متعلِّقٌ بالمبدأ المؤسِّس للوجود فإنَّه خلاف هذا. هو استفهامٌ خاصيَّته الإحاطة والشمول، يستفهم العارض والفاني كما يتبصَّر الباقي والخالد والَّلامتناه،. معتنٍ بالوحدة في عين الكثرة، وبالكثرة في عين الوحدة، ما يعني أنَّه سؤالٌ مؤسِّسٌ ويؤسَّسُ عليه. ولأنَّه كذلك، فسيظهر في مسعاه لتأسيس نظريَّة معرفة “ما بعديَّة” على شأن آخر أكثر شمولًا وإحاطة. فإلى كونه سليل الدهشة الطبيعيَّة في ظاهرها واستتارها، لجهة استفهامه عن ظهورات الأشياء في الواقع، فإنَّه يسأل عمَّا يحتجب وراء هذه الظهورات والمبدأ الذي صدرت منه، ناهيك بالمُبدئ القائم على كلِّ ما يوجد، والمعتني به في الآن نفسه.
يفترض المقام “المابعديُّ” الذي تتَّخذه الميتافيزيقا دربةً لها، التأسيس لمعرفة بَعديَّة تمنح العقل تمدُّدًا يجاوز فيه قيوده المحكومة بفيزياء المفاهيم ودنيويَّة المقولات العشر. والعقل الممتدُّ الذي ترنو إليه هو العقل الناشط في ترقِّيه من أجل أن يجاوز أطواره المألوفة. لو استقرأنا ما تذهب إليه الميتافيزيقا البَعديَّة في حقلها الحدسيِّ والعرفانيِّ سنجد تأصيلًا غير مسبوق في التمييز بين العقل المستغرق في عالمه الطبيعيِّ، والعقل الممتدِّ إلى ما بعد ذاته بغية الوصول إلى ما بعد الكون المرئيِّ حيث الحقيقة المتعالية. في ميتافيزيقا محيي الدين ابن عربي مثلًا، ينبسط نشاط العقل على صورتين: صورة فاعلة، يكون فيها العقل مرادفًا للـ “فكر”، أي للقياس والممارسات الاستدلاليَّة والحدِّيَّة بصفة عامَّة، وصورة منفعلة، يتَّخذ فيها العقل معنى المكان، أي مكان قبول المعارف الآتية إليه إمَّا من الله، أو من الفكر، أو من القلب. ثمَّ يوجِّه ابن عربي نقده لصورة العقل بمعناه الفكريِّ، ويرصد اقترافه لثلاثة عيوب أساسيَّة هي: عيب التقليد، وعيب التقييد، وعيب الحياد والموضوعيَّة.
– العيب الأوَّل: عيب تقليده ما سبقه من عقول في الاستدلال، سواء على الطبيعة أم على ما بعد الطبيعة. وما ذاك إلَّا لافتقاره بما هو “عقل أدنى” إلى ما لدى ممَّا هو أعلى منه. لهذا الداعي رأى الشيخ الأكبر “أنَّ العقل ما عنده شيء من حيث نفسه، وأنَّ الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول”.
– العيب الثاني: عيب الحصر والتقييد بالحدِّ والبرهان. لذا سيظهر عيب التقييد بكيفيَّة سافرة وغير مقبولة عندما يتطاول العقل على الذات الإلهيَّة التي هي، بالتعريف، غير قابلة للحدِّ والتقييد، ولو كان تقييد إطلاق.
– العيب الثالث: يتمثَّل في ادِّعاء العقل القدرة على الوصول إلى معرفة موضوعيَّة ومحايدة. دليل هذا أنَّ المبادئ الأولى التي يستند إليها في عمليَّاته المعرفيَّة، كمبدأ الذاتيَّة، وعدم التناقض، والثالث المرفوع، والسببيَّة، إلخ، لن تكون في مأمن من الخطأ والضلال.
في العقل “الما بعديِّ” المنبني على جامعيَّة الوجود، تتلاحم الآفاق لتؤلِّف معًا أفقًا واحدًا. في هذا الأفق، يتبدَّد كلُّ سؤال لا يستجيب لتلاحم الآفاق وتجانسها، وتحت ظلِّه ينتعش الهمُّ الأقصى لمعرفة الأشياء، وبإقباله يُفتح للفاهم باب التعرُّف على مراتب صاعدة من مجهولات الوجود وحكمة الإيجاد. فالعقل في امتداده الخلَّاق، عقلٌ محفوظٌ بالتوحيد. وحين يتولَّى التوحيد حفظه من رجعة القهقرى، يتوجَّه نحو الأحَدَيّة المنزَّهة من كلِّ شراكة، ويعيها بالإنصات المتدبِّر. وبفضل هذا الوعي يفارق العقل تناهيه ومحدوديَّته ليدخل دورة الانتماء الأصيل إلى المبدأ الأعلى. ولمَّا كان العقل مسلّمة الإيمان، صحَّ أن يكون الإيمان تحقّْقَ العقل في ذروة امتداده إلى ما فوق ذاته. وعند هذا المقام يصير الكلام مستحيلًا عن تناقض بين جوهريَّة الإيمان وجوهريَّة العقل. والصواب: أنَّ كلًّا منهما يقع في قلب نظيره. فالاختبار الامتداديُّ للعقل يقوده إلى ما ليس في الحسبان، إذ ينجذب العقل في وضعيَّته الجديدة باتجاه أفق يجاوز فيه كلَّ ما يحجبه عن الاستبصار. وهكذا، فإنَّ الوظيفة الأساس للعقل الممتدِّ، هي قبول الحقائق وتأييدها بعد تنزُّلِها عليه من عالم القدس. ولعمليَّة القبول دور بالغ الأهميَّة في المعرفة العقليَّة، وهو ينسجم في الأصل مع دقَّة العقل ووظيفته الوجوديَّة، والتي هي التقييد والضَّبط من وجهة نظر العارف. يقول ابن عربي في هذا الموضع: “إنَّ ممَّا هو عقل، حدُّه أن يعقل ويضبط ما حصل عنده، فقد يَهَبُه الحقُّ المعرفةَ به فيعقلها، لأنَّه عقلٌ لا من طريق الفكر، فإنَّ المعرفة التي يهبها الحقَّ تعالى لمن يشاء من عباده لا يستقلُّ العقل بإدراكها ولكن يقبلها، وعليه، فلا يقوم عليها دليل ولا برهان لأنَّها وراء طور مدارك العقل.
4-ماهية الميتايزيقا البَعدية وهويتها
تتعيَّن مهمّة الميتافيزيقا البَعديَّة إذًا، بتنشئة نظامٍ للمعرفة يفارق حدود الكثرة ومحدوديَّتها من دون أن ينفكَّ عنها انفكاكَ النقيض عن النقيض. ولأنَّ نظامها المعرفيَّ مبنيٌّ على بداهة التوحيد فإنَّها بحكم طبيعتها المابعديَّة، لا تعود ترى إلى الكون كمخلوق متناثر مآلُه التيهُ والعدم، ولا كوجود تتشابه مراتبُه، أو تتساوى عوالمُه إلى الحدِّ الذي يحلُّ فيه الخالق بالمخلوق. لقد رمت إلى مجاوزة ثنائيَّة الوجود والموجود، لتستظهر القيوميَّة الإلهيَّة على المخلوقات جميعًا. ثمَّ أقامت دربتها على جدليَّة الوصل والفصل بين الإنسان والكون والله. فلم تجد في عملها هذا وصلًا كاملًا ولا فصلًا كاملًا، وهو ما لا يطيقه إلَّا فكرٌ تحرَّر من حصريَّات الميتافيزيقا الأرضيَّة المبنيَّة على مبدأ التناقض. لذا راحت الميتافيزيقا البَعديَّة تبحث عن منطقة من المفارقات يستوي فيها النظر إلى مثلَّث الإنسان -الكون- الله على نصاب التوحيد. لذا ستأخذ بمبدأ الزوجيَّة كسبيل إلى حلِّ المعضلة الأصليَّة لسؤال الوجود. وهذا المبدأ هو ما سبق ونعتناه بـ”المثنَّى”[2] ولنا أن نلفت إلى أنَّ المهمَّة الأنطولوجيَّة العظمى لهذا “المثنَّى” هي توحيد العوالم على كثرتها وتنوُّعها. فالمثنَّى كينونة واحدة ولو تركَّب على التعدُّد والاختلاف، وهذا ما يكسبه صفة جوهرانيَّة تجعله كائنًا منقطع النظير. إنَّه يفارق الوحدة وهو منها، كذلك يفارق الكثرة وهو لمَّا يزل في محرابها، فلا شبيه له في الكثرة وهو كثير، ولا نظير له في الواحديَّة وهو واحد. هنالك التحام وثيق في”كينونة المثنَّى”، فلا يستطيع أيٌّ من عناصره أن ينفكَّ عن نظيره انفكاكًا تامًّا، بل هو يتميَّز عنه في صورته وحسب، حيث أنَّ ماهيَّته واحدة ووظيفته متعدِّدة. المثنَّى كموجود بَدئيٍّ هو أحد أبرز مفاصل نظريَّة المعرفة في الميتافيزيقا البَعديَّة. لهذا كان لها أن تعتني بواجد الوجود بما هو الوجود الوحيد الذي لا ضدَّ له، بسبب تعاليه على الثنويَّة. أمَّا المفارقة فهي تتأتَّى من إقبال الواجد على موجوداته بالاعتناء والتعليم من قبل أن توجد وهي في علمه، ومن بعد أن وجدت بالكلمة الأولى (كُن). وهي في اعتلائها وظهورها في الواقع. وعند هذه النقطة بالذات يُطرح السؤالُ عن سرِّ صدور الكثير عن الواحد الذي يظلُّ ماثلًا في عالم الإنسان، ويقضُّ هدأة العقول، وتتحيَّر فيه القلوب والأبصار.
ولتعلُّقها بالحكمة البالغة، تتَّخذ الميتافيزقا البَعديَّة سَيْريَّة مفارقة لتأصيل العلاقة المتبادلة بين الواجب والممكن. من أجل ذلك تقترح فكرة “الإيحاء الوجوديّ” لتشكِّل نافذة تنظير وتدبُّر وتفعيل لمفهوم الجعل الإلهيّ. أي إيجاد الوجود بالإيحاء والإلماح بلا لفظٍ أو لغو. ولمَّا كان الكون إلماحتَه الأولى، كان الكون أول الأعداد في الأعيان، ولا عدد قبله، وأول الأسماء في الموجودات ولا إسم لمخلوق قبله.
الآخذون بمفارقات الميتافيزيقا البَعديَّة يبتغون الكشف عن نظامها المعرفيِّ من خلال اجتماع الأضداد وانسجامها في فضاء التوحيد. فهي تحاول استجلاء سيرِيَّتها التوحيديَّة من خلال الوصل الخلَّاق بين الغيب والواقع. أي بين ذات الحقِّ وإرادته في إيجاد مخلوقاته. ولذا يتبدَّى لنا الكون المشهودُ والمرئيُّ كتجلٍّ لفعل القول الإلهيِّ (كُن). أمَّا تسويغ هذا “الديالكتيك التواصليِّ” بين الغيب والواقع، فمردُّه إلى ما يسمّيه العرفاء بـ”حكمة الخلق”، وهي حكمة تقوم على أنَّ القدرة الكلِّيَّة المطلَقة متعلِّقة حكمًا بما هو ممكن الوقوع، لا بما هو مُحال الوقوع. ولأنَّ المُحال ممتنع الوجود، فقد جعل الخالق نظام الخلق مبنيًّا على السببيَّة كقانون لا تبديل فيه ولا تغيير. لهذا يتَّفق العقلاء على أنَّ قانون السببيَّة هو حكم إلهيٌّ يعود إلى الغاية من الخلق، كذلك هو عائد ليس لعجز الله عن مجاوزة السببيَّة، بل لامتناع ذلك في قوانين الخِلقة الإلهيَّة. والله بعلمه الكلِّيِّ وحكمته البالغة أوجد هذا العالم على هذه الصورة التكوينيَّة. وكما سبق وقيل في المأثور، “إنَّ وضع الأرض داخل البيضة مُحال الوقوع لأنَّه خلاف نظام الأسباب والمسبِّبات”…
5-تلازم العقل والوحي في الميتافيزيقا البَعدية
تحيل الميتافيزيقا البَعديَّة كلَّ باب من أبواب المعرفة إلى مصدرها الوحيانيّ. هذه الإحالة تقوم على مسلَّمة مفادها أنَّ الميول الوحيانيَّة لدى الإنسان هي ميول فطريَّة، وعليه، لا يمكن معرفة المبدأ، ولا التعرُّف على المُبدئ بما يتخالف والفطرة الإنسانيَّة في شيء. وليس من ريبٍ أنَّ ما يسمَّى البديهيَّات – أي الأوَّليَّات والمشاهدات والتجريبيَّات والحدسيَّات والمتواترات – كلَّها تُبنى على القياس، في حين أنَّ الفطريَّات هي قضايا قياساتها معها. ومع الالتفات إلى أنَّ الحدسيَّات والتجريبيَّات تستبطن قياسًا مخفيًّا فيها، فإنَّ اليقين في المتواترات راجعٌ إلى حدٍّ أوسطَ وقياس. وبناءً على هذا، تُعدُّ جميع هذه القضايا من البديهيَّات، ويمكن اعتبارها أساسًا لمعرفة سائر القضايا، إلَّا أنَّ مجموعتين منها لا تستندان إلى دليل آخر؛ عنينا بذلك الأوَّليَّات والمشاهدات[3].
بحسب ما تفترضه الميتافيزيقا البَعديَّة في سياق بلورتها لنظريَّة معرفة تتوخَّى إثبات كونها علمًا، يمكن الاستفادة من “الشهود” في مشتغلات الفلسفة، لأنَّ المشاهدات أو المحسوسات داخلة في أنواع البديهيَّات، وهذه بدورها تشمل المحسوس بالحسِّ الظاهر والمحسوس بالحسِّ الباطن، أو ما يُعرف بالعلم الوجدانيِّ، كعِلم الإنسان بنفسه وبأحواله الباطنيَّة. من أجل ذلك، يمضي علماء الإلهيَّات إلى أنَّ الشهود لا ينحصر بالحسيِّ، بل يشتمل على “الشهود العقليِّ” وفوقه “الشهود القلبيّ”. هنا تجب الإشارة إلى ثلاثة أنواع من الشهود هي: الحسّيُّ، والعقليُّ، والقلبيّ. وبقبول هذه الثلاثيَّة ينفتح الباب أمام دخول الشهود إلى عالم الفلسفة، وبيان حجِّيَّته وقيمته المعرفيَّة. في السياق، يذهب العرفان النظريُّ إلى ما يسمُّونه بالحجِّيَّة الذاتيَّة للشهود. فالشهود هو العلم الحضوريُّ ذاته، وفي العلم الحضوريِّ يكون المعلوم حاضرًا عند العالم، وكلُّ شيء بحسبه. أمَّا في الشهود الحسّيِّ فلا يتمُّ حضور كُنه الشيء والعلم به. ومعيار الشهود والعلم الحضوريِّ هو الارتباط المباشر، فلإثبات وجود النفس والذات مثلًا، ليس ثمَّة حاجة إلى دليل آخر؛ فإنَّ كلَّ شخص حاضر لنفسه ويشهد نفسه. وعلى هذا، فبيان حجِّيَّة الشهود يتمُّ على أساس الارتباط الحضوريِّ والمباشر. وما ذاك إلَّا لأنَّ الموجود العاقل المُدرِك إذا حصل له ارتباطٌ حضوريٌّ مع شيء ما – وفي أيِّ مجال كان – سيُدرِك ذاك الشيء الذي حصل له معه ارتباطٌ حضوريّ، ويعتمد إدراكه لذلك الشيء حضوريًّا على مقدار قوَّة ذلك الارتباط. فالمفهوم والاستدلال لا يُعتبران واسطة في العلم الشهوديِّ، بسبب أنَّ العلم الحصوليَّ محكومٌ بالانفصال والانفكاك بين المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض. أمَّا في العلم الحضوريِّ فالأمر خلاف ذلك، حيث إنَّ واقعيَّة المعلوم تكون حاضرة لدى العالِم؛ ولذا فليس لأحدٍ الشكُّ في شكِّه هو نفسه[4].
كذلك،تتواصل حجّيَّة الشهود في الميتافيزيقا البَعديَّة من خلال العروة الوثقى الرابطة بين النظر العقليِّ والأثر السلوكيّ. فهما معًا يؤلِّفان وحدة بين نوعين من الشهود: الشهود العقليِّ والشهود القلبيّ. بخصوص النظر والأثر كإمكان فلسفيٍّ فإنَّ كلًّا منهما ينتمي إلى سلالة العلم والعمل.. ففي حين يشتمل منطق النظر على الكيفيَّات التي ينشط فيها العقل المتَّصل بالغيب سعيًا للتعرُّف على الحقِّ المُبدئِ للخلق.. يكون منطق الأثر على رباط وثيق بنظيره، وهو أقرب إلى الرباط المنطقيِّ بين المقدِّمات والنتائج. معنى هذا أنَّ الأثر المترتِّب على الكشف الواقع وراء طور العقل، يدخل دخولًا بيِّنًا في نظريَّة المعرفة المؤسِّسة للميتافيزيقا البَعديَّة. ما يعني أن ليس ثمَّة انقطاعٌ في هذه المنظومة بين النظر والأثر، وإنْ كان لكلٍّ منهما منهَجُه المخصوص وتمظهُراته المختلفة. أمَّا العناية الإلهيَّة في منظور الميتافيزيقا البَعديَّة فهي حاضرة في المنطِقَين معًا؛ وتعمل على نحوَيْن متوازيين يوصلان إلى غاية واحدة:
أ- العناية الإلهيَّة المتعالية المباشرة التي تعرب عن نفسها في أعمال تاريخيَّة خاصَّة وفريدة، عبر الأنبياء والرُّسل والأولياء، الذين خصَّهم الله بعطاءات وقدرات وأفعال فوق طبيعيَّة لا تمنح لسواهم من البشر.
ب- العناية الإلهيَّة الباطنيَّة أو الكامنة في التاريخ، وهي التي تعمل وفق قوانين موحّدة، وتستخدم وسائل طبيعيَّة، وبوساطة البشر أنفسهم.
وفقًا لما مرَّ، لا يكتفي النظام المعرفيُّ المفترض للميتافيزيقا البَعديَّة ببيان القواعد العقليَّة والأسُس النظريَّة للمكاشفات القلبيَّة والمشاهدات الباطنيَّة، بل يعتني بدور آخر بالغ الأهميَّة، هو تقرير هذه المكاشفات وإخراجها من كمونها في عالم الباطن إلى عالم الظهور، ومن مكمون الغيب إلى الواقع المشهود. من الباحثين في العرفان النظريِّ من عدَّ العلاقة بين العقل والقلب كالعلاقة بين العين والنفس. فكما أنَّه لولا العين لحرم الإنسان الرؤية والإبصار، كذلك لولا العقل لحرم القلب من حكمة الاستبصار. فالعقل الذي يتمتَّع بقابليَّة الاستدلال، يتمتَّع بقابليَّة المشاهدة والكشف، ولولاه لما كان بمقدور القلب أن يشاهد أو أن يتحقَّق له الكشف. وإذا ما عُدَّ العقل عين القلب، فلا بدَّ من أن يُعدَّ عملُه -أي العقل- نوعًا من المشاهدة. فإذا تنوَّر العقل بنور القدس واتحد العقل بالقلب، وحصلت البصيرة في القلب، وصار العقل يرى بواسطة القلب، عندها تتفجَّر المعرفة الَّلدنيَّة من الله، وتُفاض المعارف والحقائق الإلهيَّة على قلب السالك، فيشاهدها عيانًا بواسطة قلبه وعقله معًا لجهة الاتحاد والوحدة الحاصلة بينهما، ولكنْ كلٌّ بحسب سعته ومرتبته الوجوديَّة؛ لأنَّ المعرفة العقليَّة مهما ترقَّت في مراتب الكشف، تبقَ محدودة إذا ما قيست بحدود المعرفة القلبيَّة وسعتها، والمقامالأسمى الذي يمكن أن تصل إليه. أمَّا بلوغ المعرفة القلبيَّة مقامات الكشف، فإنَّما هي صيرورة متدرِّجة حينًا ودفعيَّة حينًا آخر، الأمر الذي تكشف عنه التجارب والمعايشات الروحيَّة والمعنويَّة، وهو ما يُعرف عند العرفاء بالإلهام، أي الَّلحظة التي يتلقَّى فيها العارف فيوضات معارفه من لدُن الروح القدس في ما يتعلَّق بتدبير دنياه وآخرته.
عند هذه المنزلة تترقَّى معرفيَّة الميتافيزيقا البَعديَّة، لتنظر إلى الفطرة كمعرفة بدئيَّة أصيلة لتظهير الشهود كمعرفة عقلانيَّة. والمراد من هذا أنَّ الوحي كعلم لامتناهٍ مبنيٌّ على الفطرة بما هي الغرسة الإلهيَّة البدئيَّة لعلم التوحُّد. وهنا نلاحظ ثلاث مميِّزات للأمور الفطريَّة:
-الأمور الفطريَّة لكلِّ نوع من أنواع الموجودات مشتركة في الموجودات كلِّها، وإن اختلفت كيفيَّة وجودها في الأفراد ضعفًا وقوة.
-لا يمكن لفطرة موجودٍ ما أن يكون لها اقتضاءٌ معيَّن في مرحلة زمنيَّة، بينما لها اقتضاءٌ آخر في زمنيَّة أخرى.
-الأمور الفطريَّة بما هي فطريَّة، وتقتضيها خلقة الموجود، لا تحتاج في وجودها إلى التعليم والتعلّم، وإن احتاجت إلى التربية والتعليم في تقويتها وتنميتها، أو في توجيهها وهدايتها.
وَفق واحديَّة العقليِّ /الشهوديِّ تستوي معرفيَّات الميتافيزيقا البَعديَّة على خطٍ واحد ٍ بين المعرفة الوحيانيَّة في أفقها الغيبيِّ والمعرفة العقليَّة في أفقها الطبيعانيّ”. وإذا اتّفق أنَّ هذه الأخيرة، أي “المعرفة العقليَّة” تتعامل مع الاستدلال والمفاهيم والتصوُّرات والألفاظ، تقوم المعرفة الوحيانيَّة على الكشف والشهود وعلم الفطرة. ومن هنا ندرك أنَّه لا يوجد خلافٌ جوهريٌّ بين هذين الَّلونين من المعرفة وإنَّما يقع كلُّ واحد منهما في مقابل الآخر. وعلى هذا الأساس تصبح “الفلسفة”- وهي العلم الذي يدرس بالاستدلال العقليِّ – مرتبة أوَّليَّة في معارف الميتافيزيقا البَعديَّة، ذلك أنَّ مهمَّة الفلسفة معرفة الحقائق، والأداة التي تستخدمها لهذا الغرض وتثبت بها مسائلها هي “العقل” و”المفاهيم الذهنيَّة”. وعليه، من المُحال أن نتوقَّع منها الإقرار بالكشف والشهود.
استخلاص
تتغيَّا الميتافيزيقا البَعديَّة متاخمة المقصد الأعلى لعلم الوجود وتسييل حكمة الإيجاد بوصفها علمًا عقليًّا مفارقًا. أمَّا غايتها ممَّا ستمضي إليه فعلى وجهين: أوَّلهما، إثبات نسبة المعارف والعلوم الحكميَّة إلى فضاء الميتافيزيقا، ثانيهما، تمييز ما هي عليه الحكمة الإلهيَّة البالغة، ممَّا هي عليه “الميتافيزيقا القبْليَّة” أي الفلسفة الأولىفي نظرتها إلى حقائق الوجود. وهذان الوجهان يحيلان إلى قضيَّة تتَّصل بالإختلاف المنهجيِّ بين ما به صارت الحكمة علمًا، يرقى إلى استشعار كُنهِ الوجود، وما به صارت مباحث الفلسفة الأولى ميتافيزيقا قَبْليَّة قَصَرت غايتها على فهم الوجود في حقله الفينومينولوجيّ.
ماهيَّة الميتافيزيقا البَعديَّة وهويَّتها تتعيَّنان إذًا، في اختبارها لمنظومة معرفة توحيديَّة ترمي إلى مجاوزة ثنائيَّة الوجود والموجود، لتستظهر قيوميَّة الموِجد على الموجود واعتنائه به. ولهذه الغاية أقامت دُربتها المعرفيَّة على جدليَّة الوصل والفصل بين الحقِّ والخَلْق؛ حيث لا فصل على تمامه، ولا وصل على تمامه. ذاك أنَّ الحقَّ الذي أوجد الموجود الأول بالإيحاء الأمريِّ، منزَّهٌ من حيث ذاته عن كلِّ وصلٍ ووصفٍ وتقييد. أمَّا الأمر الإيحائيُّ، أو إيجاد الوجود بالأمر والخلق، ففهمُه في الميتافيزيقا البَعديَّة يسري وفق سيريَّة جوهريَّة تنتظم عن طريقها صلات الغيب بالواقع، والواقع بالغيب. هي حركة وحيانيَّة تشتمل على سُنَن التطوُّر الطبيعيِّ وقانون السببيَّة، وكذلك على العناية الإلهيَّة كحقيقة سارية في الوجود؛ ذلك بأنَّ المسرى الإمتداديَّ المحفوظ بالعناية الإلهيَّة لا ينشط في الميتافيزيقا البَعديَّة على سياق آليٍّ من النقطة ألف إلى النقطة ياء، إنما هو فعاليَّة سارية في مكمون الحركة التاريخيَّة، وتحوُّلاتها التي تتأبَّى الانقطاع والفراغ.
منتهى القول.. أنَّنا بإزاء مقترح أملاه اعتلالٌ أنطولوجيٌّ بلغ ذروته في تاريخ الإنسان الحديث. وما مسعانا إلى الميتافيزيقا البَعديَّة إلَّا استجابة لنداء خافت يقضُّ عالم التفلسف باستفهامات كبرى تغشَّاها النسيان.
1-أنظر دراستنا تحت عنوان “التمهيد إلى ميتافيزيقا بعديَّة”، في محور العدد الرَّابع من فصليَّة”علم المبدأ”، شتاء 2023.
2-أنظر الفصل الثالث من كتاب “تأمُّلات في فلسفة الفلسفة الإسلاميَّة – مباحث في نظريَّة المعرفة والمنهج العرفاني” للفيلسوف الإسلامي المعاصر يد الله يزدن بناه- معهد المعارف الحمية – بيروت – 2020.
3-
* * *
[1] – أنظر دراستنا تحت عنوان “التمهيد إلى ميتافيزيقا بعديَّة”، في محور العدد الرَّابع من فصليَّة”علم المبدأ”، شتاء 2023.
[2] – محمود حيدر- ميتافيزيقا المثنى- دربة العرفاء إلى توحيد الله وتوحيد العالم – فصليةعلم المبدأ – العدد الرابع – شتاء 2023.
[3] – أنظر الفصل الثالث من كتاب “تأمُّلات في فلسفة الفلسفة الإسلاميَّة – مباحث في نظريَّة المعرفة والمنهج العرفاني” للفيلسوف الإسلامي المعاصر يد الله يزدن بناه- معهد المعارف الحمية – بيروت – 2020.
[4] – المصدر نفسه- ص 149.
___________
*د. محمود حيدر/ مفكِّر وأستاذ في الفلسفة والإلهيَّات – لبنان.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.