يرى الدكتور قادة جليد أن الكاتب (أي كاتب) لابد أن ينتبه إلى ثلاثة أسئلة أساسية قبل المغامرة الإبداعية وهي: ماذا يكتب، ولمن يكتب، وما هي الطريقة التي يكتب بها؟ وتبقى الأجوبة على هذه الأسئلة مختلفة من كاتب إلى آخر باختلاف التجربة والانتماء الإيديولوجي والوضع الطبقي والاجتماعي، ولكنها ضروريَّة في نظري حتى يكون الكاتب على وعي عندما يكون بصدد الكتابة، لأنَّ الكاتب عندما ينتهي عن كتابة النص يصبح هذا النص ملكا للقارئ وهنا تكمن المشكلة، مقدما الروائي السوري حنا مينا كأنموذج دون أن يستثني بعض الروائيين الجزائريين أمثال مالك حداد والطاهر وطار ومولود فرعون وعبد الحميد بن هدوقة ومحمد ديب، فقد كان القارئ يرى في رواياتهم صورة الإنسان الجزائري المناضل.
والدكتور قادة جليد دكتور أستاذ محاضر في قسم الفلسفة بجامعة وهران وجامعة غليزان ( متقاعد) وهو باحث أكاديمي، له عدة إصدارات منها العلية في التاريخ عند ابن خلدون وهيغل، دار القدس العربي 2013، سؤال العقل والتاريخ في الجزائر عن دار القدس العربي 2016 ، نظرية قراءة التراث عند محمد عابد الجابري ( المنهج والرؤية) عن دار خيال طبعة 2022 وغيرها، له مشاركات عديدة في ملتقيات وطنية ودولية قدم فيها محاضرات منها فراءة في المرجعية الثقافية عند هشام شرابي وهي ندوة تناولت فكر هذا الرجل، نحو فلسفة جديدة للتاريخ العربي عند حسن حنفي، وهو عضو الجمعية الجزائري للدراسات الفلسفية، وعضو الجمعية الفلسفية المصرية، عضو مخبر الأبعاد القيمية للتحولات الفكرية والسياسية بالجزائر ومدير وحدة بحث تحليل الأزمات، وشغل منصب نائب رئيس المجلس الشعبي الوطني في عهدات سابقة.
فمن وجهة نظره هو فإن الكُتَّابَ لهم كل الحرية في اختيار المدرسة الأدبية التي يتبعونها سواء على الطريقة الرومانتكية أو الرمزية أو الاشتراكية الواقعية أو المدرسة الإسلامية وغيرها من المذاهب والمدارس، ولكن الشرط الأساسي في نجاح العمل الإبداعي هو قدرة الكاتب على تصوير الواقع بطريقته الخاصة، فيدفع القارئ إلي التفاعل والتجاوب معه، أي لابد علي الكاتب أن يعبر عن خبز الواقع وشحمه ولحمه ودمه وعن الظرف التاريخي الذي ينتمي إليه، الملاحظة التي قدمها الباحث الأكاديمي الدكتور قادة جليد وهو أستاذ قسم الفلسفة بجامعة وهران (متقاعد ) وهو يقدم الرواية الجزائرية كأنموذج، يعتقد أن الكثير من الكُتَّابِ يفسرون ظاهرة العزوف عن القراءة بأن الرواية الجديدة لازالت في وطننا العربي لم تنتج قارئا جديدا، ولكن الحقيقة هي أن القارئ عندما يتصفح الرواية يشعر أنها غريبة عنه لا تتحدث عن همومه ولا عن مشاكله ولا عن واقعه وأحيانا تستفز قيمه الدينية والحضارية، ويستدل الدكتور قادة جليد رؤيته للكتابة الروائية بحوار دار بين روائيين جزائريين يتهم بأن الرواية الجزائرية منكفئة على نفسها مستغرقة في تيمة الهوية وهي بالتالي من هذه الناحية غارقة في المحلية لم تجد لها طريقا إلى العالمية ولعله بذلك يشير إلى الجيل الأول من الرواد، ومن جهة أخرى يفتخر ويعتد بنفسه باعتباره كاتب عالمي لأنه يكتب عن الإنسان في هافانا والصين وأمريكا وكل دول العالم، لذلك فهو يعتقد انه قد تحرر من المحلية ودخل أبواب العالمية رغم أن رواياته ليس لها صدى في الجزائر إلا في بعض الدوائر الفرانكفونية الضيقة من باب التعاطف الإيديولوجي ليس إلا، وربما تبعه روائيون جزائريون آخرون مع تحفظه ذكر الأسماء .
يفهم من كلامه أن الروايات العربية باتت كلها متشابهة مهما اختلفت البيئة فالقراءة عمل فردي، ولكل فرد ميولاته، وبريد أن يبحث عن ذاته هو في الرواية لا عن ذات الأخر، حتي لو كانت القراءة جماعية، أي ان نطلب من مجموعة قراءة رواية ما، تظل القراءة فردية وكل قارئ يستخرج مما قرأه ما يشعر به هو، كما أن الأسئلة التي يطرحها كل قارئ عادة ما تكون مختلفة، فالكتابة هنا بين القارئ والكاتب وهي علاقة تبادل تختلف فيها وجهات النظر، لأن الرواية الموجهة للقراء العرب تختلف عن الكتابة الموجهة للقراء الغربيين، وحرية الكتابة والتعبير تفصل بين الجانبان، لأن الغرب يتمتع بأقصى حرية في الكتابة والتعبير عن واقع المجتمع الغربي لأنه يكسر كل الطابوهات عكس الكتابة الروائية العربية وبخاصة الرواية الجزائرية، لا ندري إن كان الدكتور قادة جليد يتحدث عن فلسفة الكتابة بصفة عامة، أم فلسفة الرواية ونقدها إن صح القول، لأن كتابة الرواية تختلف من روائي لأخر، فمنهم من يعتمد على الواقع ومنهم من يضفي عليها طابع الخيال، خاصة إن كانت الرواية تؤرخ لمجتمعات انقرضت ولم يبق منها سوى الأثر، كالرواية الدينية التي يكتبها البعض في قالب فلسفي، مثلما نقرأه عن ميلاد المسيح والأنبياء والرسل، وهذه الكتابات تترك القارئ اسيرا لها.
يقول الدكتور قادة جليد إن هؤلاء يتحدثون في رواياتهم عن شخوص وواقع وأفكار لا نجد لها أثرا في المجتمع الجزائري ومنهم من يتناول القضايا المقدسة للدين بنوع من الاستفزاز وإثارة ردود الأفعال من باب “خالف تعرف” لاستجداء عطف الغرب واحتضانه لهم ويصوّرون أنفسهم بأنهم أصحاب رأي وفكر جديد لتسلط عليهم الأضواء معتقدين بأنهم يقدمون صكوك الغفران والولاء ليتوجوا بالجوائز الأدبية ويحققون بالتالي الشهرة والعالمية، فالأدب في نظر قادة جليد هو مرآة الحياة، ولكن ليس الحياة في سكونها ورتابتها فالأدب ليس استنساخا للواقع كما هو ولكن الحياة وما تحمله من أمل وتدفق صادق للمشاعر والأحاسيس والانفعالات والتوقان الدائم نحو غد أفضل ومشرق بعيدا عن التقريرية أو التصوير الفوتوغرافي للواقع، إن الكاتب هو نتاج ظرفه التاريخي، فواقعه الاجتماعي يفرض عليه أسئلة يجيب عليها بطريقته الخاصة، فالقارئ -علي حد قوله هو- يجب أن يجد نفسه في الروايات التي يقرأها تعبر عن همومه وأحزانه وعن آماله وخيباته وتفكك عقده النفسية الدفينة التي لا يستطيع أن يعبر عنها آو يتحدث عنها وهكذا يكون التفاعل بين الكاتب والقارئ.
فتاريخ الأدب كما يضيف يشهد على ذلك فكل الكُتَّابُ العظماء وخاصة الذين نالوا جائزة نوبل كتبوا عن واقعهم وعن بيئتهم المحلية مثل تولستوي في الحرب والسلم ونجيب محفوظ في الثلاثية وغابريال غارسيا ماركيز في مائة عام من العزلة وغوركي في الأم ومن الروائيين العرب المتميزين الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال وايميل حبيبي في المتشائل وأخيرا وليس آخرا الروائي العربي السوري حنامينه الذي كتب رواية المصابيح الزرق والشراع والعاصفة وهي تصور الحياة الاجتماعية السورية في بعدها التراجيدي بعد الحرب العالمية الثانية، ثم كتب بعد ذلك الروايات الأخرى التي حققت نجاحا داخل الوطن العربي وخارجه مثل رواية المستنقع والشمس في يوم غائم وبقايا صور وغيرها، هذه الروايات حققت تفاعلا ونجاحا كبيرا في سوريا والوطن العربي وتقبلها القراء بحب وشغف لأنها تتكلم عنهم بطريقة أو بأخرى لم يجدوها غريبة عنهم لذلك احتضنوها ودافعوا عنها، بل وتقمصوا شخوصها بكل فخر واعتزاز، ولم يستثن الدكتور قادة جليد بعض الروائيين الجزائريين أمثال مالك حداد والطاهر وطار ومولود فرعون وعبد الحميد بن هدوقة ومحمد ديب، فقد كان القارئ يرى رواياتهم صورة الإنسان الجزائري المناضل، السؤال الذي يمكن طرحه على الدكتور قادة جليد هل الروائي بما يطرحه من أفكار هو فيلسوف ؟ والعكس؟ فألبير كامو مثلا هو فيلسوف وروائي في نفس الوقت، وقد نال بفكره جائزة نوبل للآداب العام 1957، فروايته الغريب التي تحتوي على أفكار ومواقف أثارها في سيزيف، صَوَّرَ فيها انعدام الوحدة بين الإنسان وحياته كما يرسم صورة العبث واللامبالاة والصمت وما إلي ذلك.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.