النشوء الإشكالي للفلسفة الديكارتيَّة
*يونس نحيب
عادةً ما يُنعَت الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1650-1596) بكونه أبَ الفلسفة الحديثة وعرّابها الأول، حتى صار هو مقترنًا بها وهي مقترنةً به. ويرجع ذلك أساسًا إلى اعتبارين:
الاعتبار الأول يتجلى في كون كتاب “مقال في المنهج” يمثل نقطة انطلاق هذه الحقبة الذهبية من تاريخ الفلسفة. أما الاعتبار الثاني فيتمثل في كون الديكارتية تشكل أول نسق فلسفي حديث متكامل الأركان.
إلا أن المسألة التي لا ينبغي إغفالها أثناء التطرق لفلسفة ديكارت هي أنها لم تأتِ من فراغ، ولم تكن مجرد ترف فكري يُسلي به صاحبها نفسه، بل هي نتاج لمجموعة من الشروط النظرية التي قادت إلى ظهورها وتشكلها. نفس الشيء ينطبق على جميع الأنساق الفلسفية التي لا تظهر من عدم، ولا تسقط علينا من السماء اعتباطًا، بل تنبثق من رحم إشكالات نظرية طُرِحَت على البساط ولم تجد طريقها إلى الحل. فيتدخل الفيلسوف محاولًا حل الأزمة حتى يستمر النسق ويتسع.
لذلك، فإن الغاية التي نروم بلوغها ها هنا تتجلى في تسليط الضوء على الكيفية التي نشأت بها الفلسفة الديكارتية، وذلك عبر الوقوف على الأسس النظرية التي قادت إلى ظهورها؛ هذه الأسس المتجلية في مجموع الإشكالات التي انبثقت من قلب نشاط نظري بعينه، وكان لها التأثير الأهم في تكوّن فلسفة ديكارت وتبلورها.
ففي الوقت الذي نجد فيه جلَّ مؤرخي الفلسفة، وحتى طلابها، يربطون هذا الظهور إما بالاعتماد على مبدأ القطيعة والقفز على العصر الوسيط، أو استنادًا إلى الظروف العملية المتمثلة في العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وحتى السيكولوجية بما هي شروط محددة لظهور هذا النسق، سنسلك من جهتنا سكةً مغايرة، وذلك بالاعتماد على المقاربة التي لا تُقيم وزنًا للظروف العملية، وتُرجِع نشوء الأفكار والنظريات وتطورها إلى أسباب نظرية خالصة. إنها المقاربة الداخلية لتاريخ الأفكار.
وبناءً على هذه المقاربة، سنفسر ظهور الديكارتية بأسباب نظرية لا علاقة لها بالسيكولوجيات أو صراع السلطات والطبقات. إن الفلسفة فكر نظري، ومادامت كذلك، سيكون من المرفوض، في تقديرنا، تفسيرها بالعملي؛ فهذا تناقض في الحدود.
وفي عرضنا لأسباب ظهور فلسفة فيلسوف الكوجيطو، سنستند إلى المبدأ الإبستيمولوجي الذي ينص على أنه: “وراء كل ثورة فلسفية توجد نظرية علميةكبيرة“[1]. ما يعني أن الفلسفة تضطلع بمهمة تأهيل المفاهيم وإعادة سبكها كي تواكب المستجدات العملية الجديدة التي غيّرت الأطر الفكرية السائدة لدى النظار.
من هنا ينبثق لنا مبدأ إبستيمولوجي ثانٍ سنهتدي به، مفاده أن العلاقة بين الفلسفة والعلم علاقة جدلية؛ هذا التفاعل الجدلي، الذي لا سيادة فيه لحقل معرفي على الآخر، يتمظهر في كون رجل العلم قد يطرح أو يحل إشكالات فلسفية من قلب نشاطه وممارسته العملية، كما هو الحال بالنسبة لكوبرنيكوس، مثلما الفيلسوف، هو الآخر، قد يضع على البساط إشكالات علمية أو حلولًا لإشكالات طُرِحَت من قلب نظرية علمية[2]، كما هو شأن ديكارت.
إن الاعتماد على هذين المبدأين يدل على عدم الاكتفاء بتاريخ الفلسفة لوحده منفصلًا عن تاريخ الصنائع النظرية الأخرى. فتاريخ الفلسفة لا يكفي نفسه، وكي نجد منطقه، من الضروري علينا التعاطي مع تاريخ العلوم. نفس الشيء بالنسبة لهذا الأخير؛ فمعقوليته لن تظهر إلا في حالة وصله بتاريخ الفلسفة.[3] والمطلوب، في حالة موضوعنا، فتح النافذة على تاريخ العلوم، الذي تطور وتقدم بمعية تاريخ الفلسفة، في جدلية مستمرة يطبعها التأثير والتأثر والحوار المستمر، لتنكشف لنا حتمية تاريخ الأفكار ونظامه، وتوضع الإشكالات في سياقها الأصلي والحقيقي.
يعتبر التطرق لأسباب ظهور فلسفة ديكارت ضربًا لعصفورين بحجرة واحدة، إذ سنعرف ابتداءً كيفية تكونها بعيدًا عن كل ما لا يحمل مقومات النظر، كما مر بنا الذكر، ومن ثَمَّ سنقف على أسباب ظهور الفكر الحديث برمته. ما دامت الديكارتية تشكل نقطة انطلاقه وفاتحته ومدشنته، وكل التيارات الفلسفية اللاحقة، سواء أَختلفت مع الديكارتية أو وافقتها، فإنها تظل نقطة أرخميدية لا مفر لما جاء بعدها منها. بل إن ممارسة فعل التفلسف بدونها سيكون ضربًا من ضروب المستحيل؛ فكل الأنساق الفلسفية التي توافدت على ساحة العصر الحديث تدور في فلك مركزه الديكارتية، مثلما تدور الأرض حول مركز هو الشمس.
فما المسار النظري الذي قاد إلى ظهور فلسفة ديكارت؟ من أي علم من العلوم وُلدت تلك الإشكالات التي كانت سببًا مباشرًا في ظهور الديكارتية؟ وماذا ترتب عن حل ديكارت لتلك الإشكالات؟
إذا كانت الفلسفة الديكارتية تمثل نقطة انطلاق العصر الحديث، فإن النظرية الفلكية الكوبرنيكية، نسبة إلى صاحبها نيكولا كوبرنيكوس (1543-1473)، تشكل إحدى الجذور النظرية التي قادت إلى ظهور هذا العصر، وذلك بتغييرها لنظام العالم عبر نقل مركزه من الأرض إلى الشمس، وتصيير الأولى متحركة بعد أن كانت ثابتة.
إلا أن عملية تحريك الأرض وإزالتها من المركز ما كان لها أن تمر مرور الكرام آنذاك بردًا وسلامًا على الفلاسفة والعلماء، بل إنها فتحت “باب جهنم” عليهم بتهديدها لكل من الإنسان والعالم، عن طريق كشفها عن عالم شاسع لا يتناسب مع الإنسان الذي طُرِدَ معها من مركزه، وأضحى حاله في هذا العالم الجديد كقطرة ماء وسط محيط.
لقد صوّر الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال (1662-1623) وضعية الإنسان في هذا العالم الشاسع باعتباره قصبًا هشًا وأضعف موجود في الطبيعة، إذ يقول: “الإنسان ليس إلا قصبًا، أضعف ما في الطبيعة… ليس من الضروري أن يتسلح الكون بأسره لسحقه؛ فبخارٌ أو قطرة ماء كافية لقتله.”[4]
إن قول باسكال هذا يوضح هشاشة الإنسان وضعفه أمام قوة العالم والطبيعة، مما يضفي طابعًا من التواضع على مكانته في الكون، الذي كان في مركزه ولم يعد فيه.
كما ستشكل النظرية الفلكية الجديدة مصدر خطر على علاقة الإنسان بالإله، وذلك بتهديدها القوي لمبدأ العناية الإلهية الذي ينص على أن غاية الخلق هي الإنسان. فإذا بالإله يخلق عوالم شاسعة لا تتلاءم وحجم الإنسان، بل إن هذا الأخير لم يكن يعلم حتى بوجودها، فكيف نقول إنها سُخِّرت له؟
كانت هذه مجموعة الإشكالات الفلسفية التي طرحتها النظرية الفلكية الكوبرنيكية على الساحة، والتي ستكون فلسفة ديكارت حلًّا لها. بل ولولا ظهور هذه النظرية الجديدة لما كان هناك أي داعٍ منطقيٍّ أو نظريٍّ لظهور الديكارتية ولا العصر الحديث برمته.
لكن، ومع ذلك، حتى نفهم هذه الإشكالات وشدة وقعها آنذاك على النظار، حري بنا أن نقوم بسفر تاريخي لمعرفة بعض الثوابت التي قام عليها الفكر من لحظة أرسطو إلى أواخر العصر الوسيط.
غني عن البيان أن التقليد الفلسفي والعلمي الذي هيمن خلال الفترة الآنفة الذكر كان مجموع الأفكار العلمية والميتافيزيقية والمنطقية التي وضعها أرسطو في مؤلفاته، وعمل كل من الشرق الإسلامي والغرب المسيحي على تنقيحها وترميمها و”تجاوزها”. يرجع ذلك أساسًا إلى حصول التناغم والانسجام بين فيزياء وميتافيزيقا أرسطو التي شكلت لنا نظرة متكاملة الأركان حول العالم وأشيائه.
فالمعلم الأول قد وضعنا أمام عالمين متمايزين: عالم ما فوق القمر، الذي يتصف بالثبات، حيث يوجد المحرك الأول والأثير والحركات الكاملة، وعالم ما تحت القمر، حيث توجد حركة الكون والفساد والعناصر الأربعة من ماء ونار وهواء وتراب؛ إنه عالم التغير.
من خلال هذا التقسيم التفاضلي للعالم، نستنتج أن هناك وجهات ذات امتيازات أفضل من وجهات أخرى. وإذن، فمن الطبيعي والمحتم أن تؤثر الوجهات التي تحمل هذه الامتيازات في الوجهات التي تفتقر إليها. بمعنى آخر، فإن عالم ما فوق القمر يؤثر في عالم ما تحت القمر، والأخير يظل دائمًا خاضعًا للأول.
أما بخصوص مركزية الأرض، فقد أقر المعلم الأول بأن الحركة تنتقل من كوكب إلى آخر، وكلما انتقلت نقصت. يظل الأمر على هذا النحو حتى نصل إلى كوكب الأرض، الذي هو آخر كوكب. ولأنه كذلك، كان من المحتم أن يضعه أرسطو في المركز ويقر بثباته.
الإنسان، وسط هذه المنظومة النظرية، لم يكن يشكل أدنى مشكلة لدى بناتها، ولا أدل على ذلك من أنه كان يُعرف بمثل ما تُعرف به أشياء العالم، أي بالمادة والصورة. وكما هو معلوم، فإن كل ما هو مُعرَّف فهو داخل مجال المعقولية، ومن ثَمَّ لا نتساءل بصدده.
خلال العصر الوسيط، ظهر فلكي يدعى بطليموس (180-100)، وتبنى نظام مركزية الأرض واضعًا له مبادئه الفلكية بأدق تفاصيلها، الشيء الذي لم يقم به المعلم الأول على أتم وجه. حتى أصبح نظامه هو النظام المتبنى من طرف العلماء، دون أن يعني ذلك إقصاءً لأرسطو. ومن ناحية أخرى، رضيت الكنيسة عن أرسطو وأقرت بجل أفكاره، عنوانًا لنجاح عملية تبيئة أرسطو في الغرب اللاتيني. ما يعني أن جهود كل من القديس أوغسطينوس وتوما الأكويني تكللت بالنجاح، إذ على نظام مركزية الأرض سيُشيد مبدأ العناية الإلهية، الذي ينص على أن الله وضع الأرض في المركز وجعل فيها الإنسان تكريمًا له باعتباره أرقى المخلوقات، وأن كل ما هو في هذا الكون مُسخَّر لصالحه. إن غاية الخلق هي الإنسان.
هكذا، فإن الإنسان يعيش في انسجام وتناغم مع عالمه، إذ منه يستمد قيمته مادام في مركزه، ومادام كل شيء موجود مُسخَّر له، كما لديه نظرية متكاملة حول العالم تفسره له وتكشف عن خباياه. إلا أن الإنسان لم ينعم بهذا التوازن والاستقرار طويلًا، إذ سرعان ما ظهر مستجد جديد بعثر كل الأوراق. فما هو هذا المستجد يا ترى؟
في سنة 1543، ظهر كتاب نيكولاس كوبرنيكوس “في الدوران السنوي للأجرام السماوية”، الذي سيقلب نظام العالم، إذ ما كان مركزيًا أضحى معه ثانويًا، وما كان مميزًا أضحى لا شيء. سنكتشف أن هذه الأرض التي اعتقدنا لسنوات في ثباتها هي، في الحقيقة، على عكس ذلك؛ متحركة تدور حول مركز هو الشمس.
إن هذا التحرك، كما أشرنا، كانت له تداعيات إبستيمولوجية خطيرة هددت الإله والعالم والإنسان. إلا أن العبرة لم تكن في الكوبيرنيكية ذاتها، فهي وإن حركت الأرض فقد احتفظت بكل مقومات الفلك القديم، وظلت تنظر إلى الإنسان في صورة العالم الأرسطي البطلمي. إن العبرة والخطورة ستأتي فيما عزّز الكوبيرنيكية لاحقًا.
في سنة 1572، ظهر أول تعزيز سيقوي الكوبيرنيكية ويزيد مصداقيتها. هذا التعزيز هو واقعة ظهور النجم الجديد. ظهر هذا النجم والناس آنذاك قسمان: كوبيرنيكيون على قلتهم، وسكولائيون على كثرتهم. السكولائيون كانوا يمنون النفس أن يتحرك النجم؛ لأن تحركه دليل على كونه مذنبًا. وفي هذا الإطار، فإن لأرسطو قولًا ونظرًا في المذنبات باعتبارها ظواهر جوية وليست سماوية. لكن بعد مرور سنة وستة أشهر انطفأ النجم.
انطفاء النجم دليل على أن حركة الكون والفساد لا توجد فقط في عالم ما تحت القمر، كما اعتقد أرسطو، وإنما أيضًا في عالم ما فوق القمر. ما يعني انهيار ذلك التقسيم التفاضلي للعالم. ومنذ تلك اللحظة، لحظة انطفاء النجم، لم يعد هناك مكان أفضل من مكان آخر.
التعزيز الثاني الذي سيقوي الكوبرنيكية حصل سنة 1609 مع العالم الإيطالي جاليليو جاليلي. سنة 1609، سيوجه منظاره للسماء ليكتشف أن ذلك القمر، الذي تغنى بجماله الشعراء، لا يعدو أن يكون إلا أحجارًا وأودية، ما يعزز فكرة تجانس المكان ويجعل فكرة التقسيم التفاضلي الكوسمولوجي تنهار. سيكتشف أيضًا جاليليو أن للمشتري أربعة أقمار. فكيف سيعزز هذا الاكتشاف الكوبرنيكية؟
اعتقد علماء العصر الوسيط أن الأرض ثابتة؛ لأنها إذا كانت متحركة لتاهت عن قمرها. مع جاليليو سنة 1609، لا أحد يجادل في كون المشتري يتحرك، لكن ما كان خافيًا على النظار أن لهذا الكوكب أربعة أقمار، فكيف لم يته عنها يومًا؟
ثالث تعزيز سيقوي الكوبرنيكية وقع أيضًا مع جاليليو جاليلي، حينما دحض حجة البرج التي كانت تدعم مركزية الأرض.
تتلخص هذه الحجة في كونها تقول إنه إذا كانت الأرض تدور حول محورها أو حول نفسها، فإن كل جسم يوجد على سطحها سيتحرك. وهكذا، فإذا افترضت أن أحمد أسقط كرة من قمة برج، فإن هذه الكرة لن تسقط عند قدم البرج، بل ستسقط بعيدًا عنه؛ لأن البرج يتحرك عن موضعه ما دامت الأرض تدور. إلا أن ما نلاحظه هو أن الكرة تسقط فعلًا عند قدم البرج، ما جعل النظرية الفلكية الكوبرنيكية تبدو كلامًا فارغًا وحمقًا. لكن جاليليو جاليلي سيطلع بمهمة دحض هذه الحجة بحجة أخرى تعرف بحجة السفينة، والتي تنص على أنه إذا أسقط أحمد كرة من عمود سفينة تتحرك في حركة مستقيمية منتظمة، فلم تسقط الكرة خلف الباخرة، كما هو الحال في النظرية الأرسطية، بل ستسقط عند قدم عمود الباخرة، رغم كون الباخرة تتحرك؛ لأن الكرة في حد ذاتها عاطلة، والسفينة هي التي طبعتها بحركتها، والجاذبية هي التي تدفعها.[5]
تم تعزيز الكوبرنيكية وبدأت خطورتها تتزايد يومًا بعد يوم على الإنسان. لقد وصف برتراند راسل الحالة الإنسانية والعالم في هذه النظرية قائلًا: “من المؤكد أنَّ علم الفلك الكوبرنيكي لا يثبت أننا أقل أهمية مما نفترض طبيعيًا، لكن تنحية كوكبنا عن موقعه المركزي توحي للخيال بتنحية مشابهة لسكانه. طالما كان يُعتقد أن الشمس والقمر والكواكب والنجوم الثابتة تدور مرة واحدة يوميًا حول الأرض، كان من السهل افتراض أنها موجودة من أجل مصلحتنا، وأننا نتمتع بأهمية خاصة في عيون الخالق. لكن عندما أقنع كوبرنيكوس وخلفاؤه العالم بأننا نحن من ندور، بينما النجوم لا تعير أرضنا أي اهتمام؛ وعندما تبين أن كوكبنا صغير مقارنة بالعديد من الكواكب، وأن هذه الكواكب صغيرة مقارنة بالشمس؛ وعندما كشف الحساب الفلكي والمنظار التلسكوبي عن عظمة النظام الشمسي، ومجرتنا، وأخيرًا الكون الذي يحتوي على عدد لا يحصى من المجرات، أصبح من الصعب بشكل متزايد الإيمان بأنَّ هذا المكان البعيد والصغير يمكن أن يكون ذا أهمية كافية ليحتضن الإنسان، إذا كان للإنسان تلك الأهمية الكونية التي كانت تعينه عليه اللاهوت التقليدي. كانت بعض اعتبارات المقاييس تشير إلى أننا ربما لم نكن هدف الكون، بل كان من المحتمل أن الكون نفسه لا يحمل أي هدف. “[6]
هكذا نلاحظ أن الأزمة تزداد حدّة وشدّة بمرور الأيام، حتى أصبحت تدخلات حل هذه الإشكالات مسألة ضرورية لا مفر منها.
حسب ما وردنا من تاريخ الفكر النظري، فإن أول من اطلع بمهمة حل هذه الإشكالات كان هو العالم كبلر. وكان ذلك تدخلًا فلسفيًا من رجل علم.
في حله الإشكال، انطلق كبلر من مبدأ هو نفس المبدأ الذي عمل به ديكارت لاحقًا. هذا المبدأ يتلخص في تغيير أساس علاقة الإنسان بالعالم من الامتداد إلى عنصر آخر. إن البحث عن معيار آخر، بدلًا من الامتداد كأساس لهذه العلاقة، ينبع من كبر العالم وشساعته على نحو مهول، جعل الإنسان يبدو كالنملة أمام الفيل، ما يعني أنه لا مجال لمقارنة الإنسان كامتداد بالعالم؛ لأن هذا الأخير سيسحقه.
لقد أكد كبلر أن أساس علاقة الإنسان بالعالم لا تتحدد في الامتداد، وإنما في الأخلاق المسيحية، التي منها يستمد الإنسان قيمته ومعناه ومركزيته ومكانته. إذ يقول في رسالة لصديقه فون هوهنبورغ هرفارت، مؤرخة بـ 1698:
“إن العالم مهما كان عظيمًا وضخمًا، فإن حجمه يظل معقولًا بالنسبة للإله. وهكذا كان منذ بداية الخلق. وما وقع مع النظرية الفلكية يخصها حسب حجم الإنسان المادي، ولكنه يبقى بدون أثر على حجمه المعنوي والأخلاق العظيمة. وإلا كانت التماسيح والفيلة أقرب إلى قلب الإله من الإنسان، لأنها أضخم منه. فبفضل حبة الدواء الفكرية هذه وأخرى مشابهة قد نتمكن من هضم هذه اللقمة الكبيرة.”[7]
كانت هذه أولى محاولات التصدي للإشكالات الفلسفية التي طرحتها النظرية الفلكية الكوبرنيكية، ولكن ومع ذلك فهي لم تعدم الخطورة ما دامت لم تبلور الحل في نسق متكامل الأركان وقوي الأسس، الشيء الذي قام به ديكارت. فكيف تم ذلك؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال الذي سنعرض فيه الحلول التي قدمها فيلسوف فلسفة الكوجيطو لهذه الإشكالات، نتساءل أولاً عن علاقة الديكارتية بالكوبرنيكية وإلى أي حد يمكن القول إن الديكارتية مدينة لهذه الأخيرة في وجودها؟
لقد قلنا سابقاً إن التناغم كان حاصلاً بين فلك أرسطو وبطليموس وميتافيزيقا أرسطو، أما وقد انهار الفلك القديم مع الكوبرنيكية فقد عمّق التناقض بين الفلك الكوبرنيكي الجديد والميتافيزيقا الأرسطية القديمة ما يحتم قيام ميتافيزيقا جديدة، فكانت حلول ديكارت لهذه الإشكالات صورة لهذه الميتافيزيقا الحصرية. ناهيك عن كون ديكارت هو نفسه يجيبنا عن مدى وطاقة الصلة القائمة بين فلسفته والكوبرنيكية، إذ يقول في رسالته المؤرخة في أواخر نونبر 1633 إلى مرسين: “وأعترف أنه إذا كانت هذه الفكرة خاطئة، فإن جميع أسس فلسفتي ستكون خاطئة أيضًا، لأن ذلك يتثبت بوضوح من خلال تلك الأسس.“[8]
الفكرة هنا هي دوران الأرض. إن كلام صاحب الكوجيتو واضح لا غبار عليه، وما دام كذلك لا نرى داعياً لإضافة القول في هذا الباب.
الآن، ما الحلول التي قدمها ديكارت لإشكالية شساعة العالم ومركزيّة الإنسان؟ وما المصير الذي آل إليه مبدأ العناية الإلهية معه بعد أن وجهت له الكوبرنيكية الضربة القاضية؟
لا بأس أن نذكر بما قلناه آنفاً بخصوص المبدأ الذي اشتغل به كل منهما، المتمثل في نقل أساس علاقة الإنسان بالعالم من الامتداد إلى عنصر آخر هو الأخلاق عند بلاغ. أما عند ديكارت فلا الأخلاق ولا الامتداد يمكن اعتبارهما أساساً لعلاقة الإنسان بالعالم، بل إن حجر زاوية هذه العلاقة يتموقع عند ديكارت في الفكر عوض الامتداد، وفي النفس عوض الجسد، وفي الذات بدلاً من الموضوع[9]. لذلك حينما سأل ديكارت في التأملات الأول: “أي شيء أنا؟”، فقد أجاب أنه شيء يفكر “sum res cogitans“، على ألا تُفهم هنا عبارة “شيء” كمادة، بل وجود وجوهر.[10]
لقد ميز ديكارت الإنسان في البداية بالفكر حتى لا يسحقه العالم، وما دام هذا الأخير لا يعدو أن يكون سوى آلة صماء خالية من كل فكر وفعل، فإن الإنسان بفكره لن يعود فقط إلى مركزيته التي سلبت منه، بل غدا بإمكانه أن يسيطر على هذا العالم الذي كان مهدداً من طرفه بالسحق. ويكفي فهم قوانينه لتحقيق ذلك ما دام لا يفكر. لقد عبر باسكال لاحقاً عن تفوق الإنسان على العالم بالفكر قائلاً: “إذن، كل كرامتنا تكمن في الفكر. يجب أن ننهض من هنا، لا من المكان والزمان، اللذين لا يمكننا ملؤهما. لذا، يجب أن نعمل على التفكير بشكل صحيح: فهذا هو مبدأ الأخلاق.”[11]
وهكذا، فبتمييز الإنسان بما لا يحوزه العالم، أي بالفكر، أصبح بإمكاننا أن نسود على هذا العالم وأن نعود إلى المركز”. بهذه الطريقة تم التصدي لإشكالية مركزيّة الإنسان مع الديكارتية التي غدا معها الإنسان سيداً على العالم الشاسع.
أما بخصوص مبدأ العناية الإلهية الذي وضعنا الكيفية التي لفظ بها أنفاسه الأخيرة، نتساءل مرة أخرى: ما مصيره عند ديكارت؟
لقد أكد ديكارت أنه من الحمق الأخذ بمبدأ العناية الإلهية كحجة فيزيائية، إذ كيف يمكن أن يكون كل هذا العالم مسخراً لكائن صغير؟ لذلك سيقر بأن العقل لا يمكنه أن يعرف غايات الله نظراً لمحدودية قدراته، إذ لا يمكن لأي أحد كان أن يدعي نفاذه للمخطط الإلهي ومعرفة أهدافه، فهذا أمر مستحيل. تجدر الإشارة هنا أن ديكارت لا ينكر وجود غايات إلهية، لكنه يقر استحالة معرفتها بالعقل نظراً لمحدوديته.[12]
إن هذا النقد الذي وجهه لمبدأ العناية الإلهية القاضي باستحالة معرفة غاية الله يحمل نقمة ونعمة، بل إن نعمته تكمن في نقمته. إن النقمة تتمثل في اكتشاف محدودية العقل، أما النعمة الكامنة فيها، فتتمثل في إمكانية السيطرة على الطبيعة. فكيف تم ذلك؟
إذا كان بإمكاننا معرفة غايات الله ومخططاته، سيكون من المفروض على كل مؤمن أن يلتزم بها، وسيعتبر كل خارج عن هذا المخطط وهذه الغايات بمثابة كافر أو مارق[13]، سيلاقي جزاءه في الحياة الأخرى لتمرده على الإرادة الإلهية. مثلما تعاقب الأم ابنها عند تمرده على قرار أو أمر معين تعتقد أنه يصب في مصلحته. لكن ما دام الإنسان يجهل غايات الله ولا يعرفها بسبب محدودية عقله، فهو معفى من الالتزام بها ما دام غير عالم بها، ومن ثم بإمكانه أن يسلك ويتصرف كما يريد في هذا العالم. نعم، بإمكانه أن يسخره له ويسيطر عليه شرط تحقيق الفهم المحكم لقوانينه.
من هنا، انتهى دور العلة الغائية عند تفسير الطبيعة، وسيصبح مبدأ التفسير في الفيزياء هو اختزال أشياء العالم في المادة والحركة والمقدار[14]. إنها النزعة الآلية.
كانت هذه الحلول، بمختلف تداعياتها الإبستمولوجية، حجر زاوية فلسفة ديكارت، التي ما كان لها لتظهر لولا ظهور هكذا خلص نظراء العصر الحديث من الإشكالات الخطيرة التي طرحتها الكوبرنيكية على الفلسفة. أدى ذلك إلى انطلاق عصر جديد، هو العصر الحديث.
أساساً، على ما سبق طرحه، نخلص إلى أن فلسفة ديكارت بكل أجزائها وحواشيها تمثل حلاً للإشكالات الفلسفية التي طرحتها النظرية الفلكية على الفضاء. ونعتقد أنه لولا ظهور هذه النظرية لما كان هناك أي سبب نظري لظهور الديكارتية أو الفكرة الحديثة، لكن الواقع أن النظرية قد وقعت وفجرت حقبة جديدة قد بزغت.
لقد حاولنا أن نظل ملتصقين أشد الالتصاق بمبدأ المقاربة الذي اعتمدنا عليه، وهو المقاربة الداخلية لتاريخ العلوم. وكما هو واضح في هذا المثال، فقد نجح الفكر النظري في أن يفسر نفسه بنفسه دون حاجة إلى الخروج عن دائرة النظر وطرق العوامل العملية من سياسة واقتصاد ونزعات سيكولوجية. بل إننا نعتقد أن كل هذه العوامل العملية التي يعتمدها البعض لتفسير ظهور الأفكار هي في حد ذاتها تضرب بجذورها في النظر، إذ إن هذا الأخير يشكل أساساً لكل ما هو عملي. فلا يمكنني أن أخترع المجهر أو المنظار دون أن أكون على بينة من أمر بقوانين انكسار وانعكاس الضوء. ولا يمكنني أن أطبق الديمقراطية أو أن أنتهجها وأنا لا أعلم عنها نظرياً إلا الاسم. وهلم جر من الأمثلة التي تبين أن الفكر قادر على أن يفسر بنفسه دون حاجة إلى طرق الأبواب العملية.
- لائحة المصادر والمراجع:
المصادر والمراجع باللغة العربية:
- عبد المجيد باعكريم، في المنهج منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، دار الثقافة، المغرب 2024.
- محسن المحمدي، الحداثة ومركزية الرؤية العلمية ط2، إفريقيا الشرق، المغرب، 2024
المصادر والمراجع باللغة الفرنسية:
- Abdelmajid Baakrime, La relation perceptive selon Alhazen et ses retombées philosophiques, Quaestio, 13, 2013.
- Ferdinand Alquié, Descartes l’homme et l’œuvre, Ed de la table ronde, la petite vermillon.
- Pascal, Pensées, Le livre de poches classiques, édition de Philippe Sellier, présentations et notes par Gérard Ferreyrolles, Paris.
- Descartes, Œuvres philosophiques Tom premier, textes établis présentés et annotés par Ferdinand Alquié, Edition Garnier, Paris.
- Bertrand Russell, Science et religion, Trad par Philippe-Roger Mantoux, essais folio.
[1] Abdelmajid Baakrime, La relation perceptive selon Alhazen et ses retombées philosophiques, Quaestio, 13, 2013. P : 149.
[2] عبد المجيد باعكريم، في المنهج منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، دار الثقافة، المغرب، 2024، ص: 73.
[3] عبد المجيد باعكريم، في المنهج منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، ص: 48.
[4] Pascal, Pensées, Le livre de poches classiques, édition de Philippe Sellier, présentations et notes par Gérard Ferreyrolles, Paris, P : 171
[5] محسن المحمدي، الحداثة ومركزية الرؤية العلمية ط2، إفريقيا الشرق، المغرب، 2024، ص: 118-117.
[6] Bertrand Russell, Science et religion, Trad par Philippe-Roger Mantoux, essais folio, P : 19-20.
[7] عبد المجيد باعكريم، في المنهج منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، ص: 207.
[8] Descartes, Œuvres philosophiques Tom premier, textes établis présentés et annotés par Ferdinand Alquié, Edition Garnier, Paris, P : 487-488.
[9] عبد المجيد باعكريم، في المنهج منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، ص: 208.
[10] Ferdinand Alquié, Descartes l’homme et l’œuvre, Ed de la table ronde, la petite vermillon, P : 127
[11] Pascal, Pensée, P : 171.
[12] عبد المجيد باعكريم، في المنهج منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، ص: 215.
[13] عبد المجيد باعكريم، في المنهج منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، ص: 216.
[14] عبد المجيد باعكريم، في المنهج منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، ص: 216.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.