الحِجاج بين العاطفة والإدراك
ملخص
يتطلب الإقناع استهداف المخاطِب للعقل والوجدان، أي ينبغي أن يُضمِّنَ خطابَه استدلالات وحجج عقلية، مصحوبة بمؤثرات وجدانية تستهدف الجانب العاطفي للمتلقي، فالأولى تتعلق بمهارات المُخاطِب وقدراته البلاغية (الإيتوس)، في حين تخصُّ الثانية أهواءَ المتلقي وانفعالاته (الباتوس). والحجاج لا يكون فعالا إلا بالمعرفة العميقة لطبائع المخاطَب الثابتة، أي ما ينزع إليه نزوعًا طبيعيا.
كلمات مفتاحية: الحجاج، العاطفة، الإدراك.
تقديم
تقتضي القدرة على الحجاج استحضار استدلالات وحجج عقلية، مصحوبة بمؤثرات وجدانية تستهدف الجانب العاطفي للمتلقي، ذلك أنَّ الحجج لا تقصد ،بالضرورة، إلى البرهنة على صدق قضية ما، ولكنها تقصد إلى كسب استمالة المتلقي، وذلك بمعرفة أبعاده النفسية والسيكولوجية والثقافية والإيديولوجية، لأنَّ ما قد يبدو حجة جيدة في نظر شخص ما، يمكن أن يبدو عديم القيمة في نظر شخص آخر. لهذا ينبغي للخطاب الحجاجي أن يتلاءم مع المستمع الذي يقصد إلى إقناعه، إذ إنه لا يمكن أن يتطور إلا انطلاقا مما يقبله هذا الأخير. والمخاطِب الذي لا يراعي هذه القاعدة الجوهرية يكون خطابه مصادرة على المطلوب.
ففي حال محاكمة مجرم، مثلا، لا يكفي دِفاعُ الضحية إثبات التهمة في حقه بالأدلة والشهود، بل لا بد من إثارة عواطف تتعلق بإثارة السّخط عليه، كما لابد له من إثارة العطف والرأفة على الضحية التي يترافع عنها. وهي إثارة لا تتيسر إلا بالمعرفة الكاملة بحال المتلقي وميولاته. ومن بين الانفعالات التي أكد أرسطو على ضرورة إثارتها في المتلقي: الغضب والحب والخوف والكراهية والخجل والصداقة والإحسان والشفقة والرأفة والحسد والسخط والغيرة، وغيرها من الانفعلات المصحوبة بألم أو بلذة.
وهذا ما نسعى مقاربته من خلال مقالنا الموسوم بــ “الحجاج بين العاطفة والإدراك”. مبرزين طبيعة الحجج المعتمدة في الإقناع والمستهدفة لما هو عقلي وما هو عاطفي، إلى جانب مراحل صناعة الخطاب الحجاجي المتمثلة في كل من الإيجاد والترتيب والأسلوب.
المحور الأول: العاطفة والإدراك
يقول بليز باسكال Blaise Pascale: “لا يخفى على أحد أن هناك مدخلين تتسرب من خلالهما الآراء إلى النفس، وهما قوتاها الرئيستان: الإدراك والإرادة. والطبيعي منهما أكثر هو الإدراك، لأنه لا ينبغي أن نقبل سوى الحقائق المُبرهَن عليها. لكن المعتاد أكثر، رغم كونه ضد الطبيعة، هو الإرادة، لأن كل الناس ينساقون دائما للاعتقاد، لا بواسطة الدليل، وإنما بواسطة الرضى”([1]).
تُحدد هذه القولة المدخلين اللذين يُتوصل من خلالهما إلى إقناع الإنسان برأي معين، إنهما العقل والوجدان. وإذا كان باسكال يحسم الأمر لصالح الوجدان، فإن أرسطو يتشبت بهما معًا، ويعتبرهما مكملين لبعضهما، فالإنسان عقل ووجدان، وهما غير قابلين للانفصال، لذا فالإقناع لن يتحقق إلا إذا خاطبهما معا.
ولما كان الإقناع يدور في مجال الشبيه بالحقيقة، إذ لا مجال للضرورة والإلزام، فإن الحجج المخاطِبة فيه للقعل تبقى ضعيفة وغير كافية لتبني رأي أو الدفع إلى فعل، فهي تبقى مفتقرة إلى دعم وتقوية، وتحتاج إلى أن تتم استمالة الجانب الثاني من النفس الإنسانية. وهنا تتدخل وسائل الإقناع العاطفية أو الذاتية التي تتضافر مع الحجج العقلية لصنع الإرادة؛ إرادة تبني رأي أو إرادة القيام بفعل. يقول أرسطو بهذا الصدد: “ليس من الضروري فقط أن ننظر كيف نجعل الخطبة نفسها برهانية ومقنعة، بل ومن الضروري أيضا أن يظهر الخطيب نفسه أنه على خلق معين، وأن يعرف كيف يضع القاضي في حالة نفسية معينة، لأن هناك ميزة كبيرة فيما يتعلق بالإقناع، خصوصا في الخطابة البرهانية، ثم في المقام الثاني بعدها في الخطابة المشاجَرية (القضائية)- في أن يبدو الخطيب مالكا لبعض الخصال المعينة، وأن يظن السامعون أنه متهيءٌ على نحو ما تجاههم، وأيضا أن يكونوا هم متهيئين نحوه على نحو معين. وفي الخطابة المشاورية يكون من الأفيد للخطيب أن يبدو ذا خلق معين، وفي الخطابة القضائية (المشاجَرية) أن يكون السامع مهيأ على نحو معين، ذلك لأن الآراء تتنوع وفقا لكون الناس يحبون أو يكرهون، غَضوبين أو حكماء، والأشياء تبدو مختلفة تماما، أو مختلفة في الدرجة، لأنه حين يكون المرء راضيا عن شخص يحكم عليه، فهو إما أن يظن أنَّ المتهم لم يرتكب أي جرم، أو أن جرمه تافه، لكن إن كان يكرهه، يكون الأمر بالعكس. كذلك إذا اشتهى الإنسان شيئا وكان قوي الأمل في الحصول عليه، فإنه إذا كان ما يحدث سارًّا فإنه يظن أنه لا بد سيحدث وسيكون حسنا، لكن إذا كان الإنسان خاليا من الانفعال ومن الأمل، فإن الأمر يكون بالعكس تماما”([2]).
من شروط نجاح الخطاب، إذن، أن يستهدف المخاطِبُ في خطابه العقلَ والوجدانَ. أي ينبغي أن يُضمِّنَه استدلالات وحجج عقلية، مصحوبة بمؤثرات وجدانية تستهدف الجانب العاطفي للمتلقي، فالأولى تتعلق بمهارات المُخاطِب وقدراته البلاغية (الإيتوس)، في حين تخصُّ الثانية أهواءَ المتلقي وانفعالاته (الباتوس). يقول شارل بينوا Ch. Benoit: “بعد قائمة الحجج التي تُقنع العقل، تأتي قائمة الوسائل التي تُؤثر في القلب”([3]). أي أن الحجج المخاطِبة للعقل، على أهميتها، تبقى مُفتقرة إلى استمالة الجانب العاطفي. وفي استهداف ما هو عقلي مع ما هو عاطفي يتحقق الإقناع.
كما يشترط أرسطو في الخطيب أن يتحلى بخصال ثلاث وهي: اللُّب (السداد) والفضيلة والبرّ (حب الخير). وهي خصال ضرورية لما لها من أهمية في كسب ثقة المتلقي وتهييئه لقبول كلام الخطيب واحترام آرائه. يقول أرسطو: “فإنهم إذا فقدوا (أي الخطباء) اللبّ كانت ظنونهم فاسدة وآراؤهم غير سديدة، وإذا كانت آراؤهم صحيحة فإنّ شرارتهم تحملهم على ألا يقولوا ما يعتقدون، أو إذا كانوا ذوي لب وخير، فإنه قد يعوزهم البر (حب الخير)، ومن هنا فقد يحدث ألا يُسدوا خير النصائح، رغم أنهم يعرفونها. وهذه الخصال هي كل الخصال الضرورية، حتى إنّ الخطيب الذي يبدو أنه يملك هذه الخصال الثلاث سيقنع سامعيه لا محالة”([4]).
يوضح محمد الولي ما جاء في نص أرسطو بقوله: “وبعبارة أخرى فإن الخطيب لا يمكن أن ينصح إذا لم يكن حصيف الرأي أو سديده، إذ بماذا يمكن أن ينصح المختلُّ أو المغفل؟ وفي حال كون الإنسان حصيفا فلا يمكن أن يَنصحَ إذا لم يكن فاضلا، فالأشرار لا ينصحون ولا يلتفت إلى نصائحهم، ولا يمكن أن ينصح إذا لم يكن حليمًا، إذ إنَّ الكراهية قد تمنعه من إسداء النصح. هذه الملامح الثلاثة المكثفة هي أساس الإقناع المستند إلى الجوانب الأخلاقية للخطيب أي الإيتوس”([5]).
المحور الثاني: مراحل إنتاج الخطاب الحجاجي
تقوم صناعة الخطاب الحجاجي على ثلاث مراحل أساسية وهي: الإيجاد، والأسلوب، والترتيب. يقول أرسطو: “ثلاثة أمور تحتاج إلى اهتمام خاص فيما يتعلق بالقول: (1) الأول: هو مصادرة الأدلة، (2) والثاني: الأسلوب، (3) والثالث: ترتيب أجزاء القول”([6]).
- الإيجاد
تمثل مرحلة الإيجاد أو إعداد وسائل الإقناع العقلية أو العاطفية الخطوة الأولى في إعداد الخطاب، وهي مرحلة أساسية في البلاغة الحجاجية، لأن الحجج تُمثِّل النواة المفهومية للحجاج. وقد صَنَّف أرسطو الحجج إلى صناعية وغير صناعية.
أما الحجج غير الصناعية فهي الجاهزة التي لا تكون بحيلة منا، أي لا دور للمخاطِب فيها، وتتمثل في الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة والعقود والشهود والقوانين والاعترافات والقَسَم. وأما الصناعية فهي غير الجاهزة التي تكون من ابتكار المخاطِب، وقد جعلها أرسطو ثلاثة أصناف: الإيتوس ويتم التركيز فيه على المظهر الخلقي للمخاطِب وكذا الوسائل الإقناعية أثناء إلقاء الخطاب، والباتوس أو ميول المتلقي ونوازعه، واللوغوس وهي الحجج المستندة إلى الخطاب نفسه.
إلى جانب الللوغوس يلعب عاملاَ (الإيتوس والباتوس) دورًا مهمّا في الخطاب الشفوي يفوق الدور الذي يلعبانه في الخطاب الكتابي الذي يقلِّص من دورهما بالتركيز على المقومات النصية والمنطقية المرتبطة بالموضوع، وهي عوامل القياس الإضماري والشاهد والمواضع المشتركة والدلائل اليقينية. وقد عبر عن ذلك أرسطو بقوله: “إنّ العبارة المكتوبة- مقارنة بالخطاب الشفوي- تتمتع بقدر أكبر من الدّقة، في حين أن عبارة النقاشات تميل أكثر إلى الفعل أو أسلوب التقديم المسرحي (أي التأثير). إن هذه تنقسم إلى نوعين: هناك العبارة التي تُبرز الطبائع (أي طبائع الخطيب بإبراز عناصر الثقة الإيتوسية) وتلك التي تُبرز الأهواء (أي أهواء المستمع الباتوسية)” ([7]).
تبقى مرحلة الإيجاد مرحلة هامة، يجمع فيها المخاطِب المعطيات المتوفرة حول الموضوع وينتقي من خلالها سبل الإقناع، ويراعي فيها طبيعة متلقي الخطاب. وكل مُخاطِب لا يُراعي هذه القاعدة سيكون خطابه مصادرة على المطلوب.
- الترتيب
تحدث أرسطو عن الترتيب وقسَّمَهُ –وفق الغرض المستهدف، وتماشيا مع ما يتطلبه كل جنس من أجناس الخطابة- إلى أربعة أقسام: الاستهلال والعرض والدليل والخاتمة. وقد عبر عن ذلك بقوله: “وقصارانا السماح بـ: الاستهلال والعرض والدليل والخاتمة”([8]). وهو التقسيم الذي يصلح لكل أجناس الخطابة حسب أرسطو، منتقدًا بذلك تقسيمات سابقيه. ومُوضِّحًا الهدف من كل قسم، فبيَّنَ أنَّ الهدف من الاستهلال أو الافتتاح كسب المُخاطَب أو إثارة غضبه أو شدِّ انتباهه، في حين يُفصَّلُ في العرض ما تم اختصاره في الاستهلال. أما فيما يخص الحجاج فقد اعتبره أرسطو النواة المركزية لكل خطاب، ويتألّف من حجج مُفَنِّدَة وأخرى مُدعِّمة حسب ما يقتضيه السياق. أي أنَّ الحجة ينبغي أن تُستعمل في اللحظة التي يمكن أن تكون فيها أشدّ فعالية. أما الخاتمة فالغرض منها هو استمالة المخاطَب وإثارة انفعالاته وإنعاش ذاكرته.
يبقى الترتيب، بأقسامه الأربعة، عند أرسطو خطاطة عامة تتلوَّن بحسب أجناس الخطاب والغرض المستهدف منه، مما يدل على أنَّ الخطابة لا تتقيد بنظام أو ترتيب مُسبق، لأن الترتيب يختلف باختلاف أحوال المخاطَب لحظة تلقيه للخطاب. ويوضح ذلك بيرلمان بقوله: “بقدر ما يكون هدف الخطاب هو إقناع مخاطَب ما فإنَّ ترتيب الحجج يُكَيَّفُ بحسب هذه الغاية، ولكن بما أنَّ ما يُقنع مُستمعًا ما لا يُقنع مُستمعًا آخر، فإنَّ هذا المجهود الذي يصرف لأجل التكييف لهو دائم التجدد”([9]).
يقول سيسرون بخصوص الترتيب: “نحن نعرف أننا حينما نريد أنْ نُشيِّد بناء ما، لا نؤلِّف بين المواد على سبيل الصدفة وبدون نظام، وبدون احترام قواعد المعمار، وإنما نفعل ذلك بالاهتداء بالقواعد. وبهذا نُكسب هذا البناء التنسيق الذي يساهم في نفس الآن في جماله، وفي متانته وفي راحة أولئك الذين يريدون أن يسكنوا فيه. كذلك الأمر بالنسبة إلى الخَطابة فالنظام يُقصي الفوضى من الخطابة، ويُعمم فيها الوضوح ويُكسبها الرقَّة واللطافة ويزيدها قوة”([10]).
يؤكد سيسرون على أهمية الترتيب في التخاطب، معتبرًا إياه بُنيانًا يحتاج إلى مواد وقاعدة وتنظيم لا يستقيم بدونها. أي أنَّ الحجج لوحدها غير كافية في الإقناع في غياب الترتيب والتنظيم والتقديم والتأخير والزيادة والنقصان، حسب ما يقتضيه المقام والسياق.
- الأسلوب
أكد أرسطو على أن المخاطِب لا يكفيه أن يعرف ما يجب أن يقوله، بل عليه أيضا أن يعرف كيف يقوله حتى يتسنى له جعل الكلام ذا طابع معين. وقد وضح ذلك بقوله: “أما الأسلوب فمن أهم مزاياه ما يمكن أن يسمى باسم الوضوح. ويتبين ذلك من أنَّ الكلام إذا لم يجعل المعنى واضحًا، فإنه لا يؤدي وظيفته الخاصة، كذلك ينبغي ألا يكون وضيعًا، ولا فوق الموضوع، بل مناسبا له، فإنَّ الأسلوب الشعري ربما لم يكن وضيعا، ولكنه ليس مناسبًا للنثر. والأسماء والأفعال المناسبة هي التي تجعل الأسلوب واضحًا. أما الأخرى التي تكلمنا عنها في فن الشعر فإنها تسمو بالأسلوب وتزينه، ذلك أنَّ البعد عما هو معتاد من شأنه أن يجعله أرفعَ قدرًا. وفي هذا المجال، يشعر الناس نحو الأسلوب بما يشعرون به نحو الغرباء والمواطنين. ولهذا ينبغي أن نضفي على لغتنا طابع الغرابة لأنَّ الناس تُعجب بما هو بعيد، وما يُثير الإعجاب يسر ويُمتع. وفي الشعر كثير من الأمور تفضي إلى هذا، وفيه يكون ذلك مناسبا، لأن الموضوعات والأشخاص الذين يتناولهم الشعر خارجة عن المألوف. لكن أمثال هذه الطرق لا تكون في النثر مناسبة إلا في أحوال قليلة، لأن الموضوع أقلّ سموًّا، وحتى في الشعر، إذا استعملت اللغة الأنيقة على لسان عبد أو صبيّ، أو في موضوعات تافهة جدًّا، فإنها لا تكون مناسبة… والأسماء والأفعال لما كانت عناصر القول … ينبغي ألا نستعمل منها الأسماء الغريبة أو المركَّبة أو المبتدعة إلا ناذرًا وفي مواضعَ قليلة… والكلمات السليمة والمناسبة والمجازات هي وحدها التي تستخدم في أسلوب النثر”([11]).
ناقش أرسطو في هذا النص مزايا الأسلوب وخصائصه، واعتبر الوضوح أهمها، لأن الغموض يتنافى وتحقيق الإقناع، خصوصا في الخطاب النثري لأنه يمتاز بخصائص لغوية تختلف عن خصائص الخطاب الشعري. وهو الشيء الذي جعل أرسطو يميز في الخصائص اللغوية للخطابة بين نوعين: تتجلى الأولى في الصفات العرضية التي ينبغي تجاوزها فيها وهي: ألاّ يكون المعجم غريبًا أو حوشيا، كما ينبغي ألا يكون مُركَّبًا ومُبتدعًا (مصنوعا) لأنه يبتعد ابتعادا كبيرا عن اللغة المناسبة. وتتمظهر الخصائص الثانية في الصفات الأصيلة التي ينبغي توفرها فيها، وتتجلى في توظيف الكلمات السليمة والمناسبة البعيدة عن التعقيد والغرابة، إلى جانب المجازات شريطة توظيفها توظيفا مناسبا.
إلى جانب سلامة العبارة وجب مناسبتها للباث والمتلقي والموضوع، أو حجج الباث والمرجع والمتلقي. وهنا نقصد مناسبة الأسلوب للباث، ومناسبته للمرجع ومناسبته للمتلقي. وأيضا مناسبته لطبيعة الخطاب ونوعه (سياسي، اجتماعي، ديني…). عبَّر أرسطو عن مناسبة الأسلوب للموضوع بقوله: “ويكون الأسلوب مناسبا للموضوع إذا كانت الموضوعات الجليلة لا تعالج بخفة، ولا الموضوعات التافهة تعالج بجلال، وإذا لم تزين الكلمة العادية، وإلاَّ لبدا على ذلك مظهر الكوميديا كما في شعر قليفون، إذ كان يستعمل تعبيرات تذكر المرء: “صاحبة الجلالة التينة!” والأسلوب يعبر عن الانفعال، حين يتكلم المرء بغضب: عن إهانة لا مبرر لها، وبحنق وتحفظ: عن الأمور الحمقاء أو المدنسة، وبإعجاب: عن الأمور الحميدة، وبتواضع: عن الأمور الجديرة بالرحمة، وهكذا في سائر الأحوال. والأسلوب المناسب يجعل الواقعة تبدو قابلة للتصديق، إذ ينطلي على عقل السامع فيتصور أنّ المتكلم يقول الصدق، لأنه في مثل هذه الظروف تكون مشاعره مثل مشاعره، حتى إنه ليظن (حتى لو لم يكن الأمر كما يذكره المتكلم) أن الأشياء هي كما يتصورها، والسامع يتعاطف دائما مع من يتكلم بانفعال وحرارة حتى لو لم يقل شيئا في الواقع. وهذا هو السبب في أنَّ المتكلمين كثيرا ما يؤثرون في السامعين بمجرد الضوضاء”([12]).
وقد ركز أرسطو على الدور الذي يلعبه الباتوس في الإقناع، إذ حلل مختلف الأهواء والانفعالات التي من شأنها، إن تمت معرفة كيفية استثمارها من قِبَل الخطيب، أن تحسم الأمر لصالحه. ويقصد بالانفعالات كل التغيرات التي تجعل الناس يغيرون رأيهم فيما يتعلق بأحكامهم، وتكون مصحوبة باللذة والألم، مثل الرحمة والغضب والخوف والاحتقار والحب والكراهية والخوف والاطمئنان والخجل والإحسان والشفقة والحسد… وقد تناول كل هوًى من ثلاثة مظاهر له: طبع الأشخاص الذين تنتابهم هذه الأهواء عادة أو مزاجهم، والأشياء أو الأشخاص الذين يكونون موضوعا لها، والظروف التي تستثيرها.
ولإبراز أهمية العبارة أو الأسلوب في التأثير في المتلقي نستحضر حكاية الرجل الأعمى المتسول الذي كان يوجد في مدينة نيويورك على قنطرة بروكلين (Brooklin) ([13])، حيث سأله أحدهم عن مُعدَّل ما يمنحه إياه المارَّة في اليوم. فردَّ الشقي أن المبلغ نادرا ما يصل إلى دولارين. أخذ الشخص المجهول اللوحة التي كان المتسول يحملها على صدره، حيث تمت الإشارة على عاهته، وقلبها وكتب بعض كلمات على وجهها الثاني. ثم أعادها إلى الأعمى، وقال: “هاك ما في الأمر. لقد قمتُ بكتابةِ عبارةٍ على لوحتك، سوف تزيد مداخيلك بشكل كبير. سأعود بعد شهر وستخبرني عن النتيجة”. وبعد مرور شهر سأل المتسول الرجل قائلا: كيف أشكرك يا سيدي؟ أنا أتلقى الآن عشرة دولارات، بل حتى خمسةَ عشَر دولارًا يوميًا. هذا مدهش. ما الجملة التي كتبت على لوحتي والتي تُكْسبني كلَّ هذه الصَّدقات؟ أجاب الرجلُ: الأمر بسيط جدا، كان مكتوب عليها: أعمى منذ الولادة، وقد استبدلت بها العبارة الآتية: “فَصْلُ الربيع قادم، وأنا لن أراه”.
وهنا تظهر أهمية العبارة في إثارة انفعال المتلقي وشفقته، إذ تضمَّنت العبارة الأولى إخبارًا يتساوى فيه الرجل الأعمى مع باقي العمي الذين لا يبصرون، أي أنه لم يأت بجديد، في حين لامَسَت العبارة الثانية الجانب العاطفي للمتلقي، وكأني بصاحب العبارة يَهدفُ إلى خلق مقارنة بين الرجل الضرير والمتلقي المُبصِر الذي يَمرُّ به. وبذلك يكون قد وضع المتلقي أمام هَوْل الخسارة التي لا تتمثل فقط في فقدان البصر، بل في الحرمان من مشاهدة أجمل ما في الحياة، والذي هو فصل الربيع.
خاتمة
نخلص إلى أنَّ الخطاب الحجاجي يقوم على الإقناع وإيجاد استدلالات وحجج عقلية، مصحوبة بمؤثرات وجدانية تستهدف الجانب العاطفي للمتلقي، وفق نظام محدد تضبطه مقاصد المخاطِب من المخاطَب. والوسائل التي يتحقق بها الإقناع عديدة ومتنوعة، يمكن تصنيفها إلى حجج غير صناعية جاهزة لا دور للمخاطِب فيها، وتتمثل في الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة والعقود والشهود والاعترافات والقَسَم والقوانين. وحجج صناعية غير جاهزة تكون من ابتكار المخاطِب؛ فمنها ما يتعلق بمهارات المخاطِب وقدراته البلاغية، فإذا كان مشهودا له بالسداد والفضيلة والبر، كان حظ خطابه من الإقناع أوفر وتأثيره في سامعيه أبعد غورا. ومنها ما يتعلق بأهواءَ المتلقي وانفعالاته، خصوصا حين يخرج المخاطِب بخطابه عن وجهته الفكرية الاستدلالية مستهدفا عاطفة المتلقي التي تنبسط عن أمور وتنقبض عن أخرى من غير روية وفكر. ومنها ما يتعلق باللغة ذاتها، أي ما يبنيه الخطاب من وجوه الاستدلال المتحقق بالاستدلال والاستقراء، وما يتضمنه من التصديقات.
________
قائمة المراجع
[1] العربية
- أرسطو، الخطابة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الرشيد للنشر، الجمهورية العراقية، 1980.
- بنو هاشم الحسين، بلاغة الحِجاج الأصول اليونانية، تقديم محمد العمري، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط: 1، 2014.
- الولي محمد، الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية، دار الأمان، الرباط، 2005.
الأجنبية
- Benoit. Charles, Essai Historique sur les premiers manuels d’invention oratoire jusqu’à Aristote, Jouber Libraire Editeur, Paris, 1846.
- Pascal. B, De l’art de persuader, in Pensées de Pascal, Charpentier Libraire- Editeur, Paris, 1854.
- Perlman. Ch, Lempire Rhétorique, Rhétorique et argumentation, Librairie Philosophique, Vrin, Paris, 1977.
- Tamine. (G.J), La rhétorique, Armand Colin, Paris, 2002.
[1] – Pascal. B, De l’art de persuader, in Pensées de Pascal, Charpentier Libraire- Editeur, Paris, 1854 , P. 521-522.
[2] – أرسطو، الخطابة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الرشيد للنشر، الجمهورية العراقية، 1980، ص:102-103.
[3] – Benoit. Charles, Essai Historique sur les premiers manuels d’invention oratoire jusqu’à Aristote, Jouber Libraire Editeur, Paris, 1846. P. 128.
[4] – أرسطو، الخطابة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص: 103.
[5] – محمد الولي، الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية، دار الأمان، الرباط، 2005، ص: 32-33.
[6] – أرسطو، الخطابة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص: 193. اختلف الشراح في ترجمة المرحلة الأولى التي سماها أرسطو(Eurésis) فقد استعمل عبد الرحمن بدوي عبارة “مُصادرة الأدلة”، وستعمل ابن سينا كلمة “التصديقات” (ابن سينا، الخطابة، ص: 197)، واستعمل ابن رشد عبارة “الإخبار عن جميع المعاني والأشياء التي يقع بها الإقناع” (ابن رشد، تلخيص الخطابة، ص: 248)، واستعمل محمد الولي كلمة “الإيجاد” (الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية، ص: 31).
[7] – عن: محمد الولي، الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية، ص: 36.
[8] – أرسطو، الخطابة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص:234.
[9] – Ch. Perlman, Lempire Rhétorique, Rhétorique et argumentation, Librairie Philosophique, Vrin, Paris, 1977, P. 163-164.
[10] – عن: محمد الولي، الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية، ص: 57.
[11] – أرسطو، الخطابة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص:196-197.
[12] – أرسطو، الخطابة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص:209-210.
[13] – وهي حكاية للناقد الأدبي الفرنسي روجي كايلوا (Roger Caillois) في كتابه فن الشعر (Art poétique). (Tamine. (G.J), La rhétorique, Armand Colin, Paris, 2002, P. 7)
_________
*محمد الديناري/أستاذ مادة اللغة العربية/ دكتوراه في البلاغة وتحليل الخطاب/ جامعة القاضي عياض مراكش/المغرب.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.