لا شك في أن بلاد العالم العربي تتمتع بـ”تضاريس” متنوعة مكونة من فسيفساء الأفكار والأيديولوجيات والهويات، وهي وإن بدت متناقضة، إلا أن هناك كثيرا من القواسم المشتركة التي تجمع بينها.
وإذ يُعتبر فهم تأثير الأيديولوجيات والرؤى المختلفة أمرا ضروريا لمواجهة التحديات الحالية في الدول العربية، فإن الماضي الاستعماري والنفوذ الاستعماري المتأخر يؤثر على الخريطة والانقسامات الأيديولوجية الإقليمية الحديثة، حسبما يقول ضيف هذا الحوار الدكتور الصادق الفقيه، ويدور الحوار حول رؤاه بشأن كيفية التغلب على الانقسامات القائمة، وأهمية تعزيز الوحدة والتعاون بين الدول العربية، بالإضافة إلى التحديات التي تواجه الفكر العربي المعاصر.
وعمل المفكر والدبلوماسي السوداني الصادق الفقيه سفيرا لبلاده في إثيوبيا والأردن وفلسطين ومندوبا للسودان لدى الاتحاد الأفريقي ولدى اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، والأمين العام السابق هو عضو مجلس الأمناء والأمين العام لمنتدى الفكر العربي، الذي تأثر بتجارب مجتمعه التاريخية والسياسية، مما أتاح له فرصة استكشاف قضايا الهوية والانتماء والصراعات الأيديولوجية، فإلى المقابلة:
*بعد عام على طوفان الأقصى، كانت هناك معارك أخرى أبرزها المواجهة الإعلامية بين الروايتين الإسرائيلية والفلسطينية، ما الذي جعل السردية الفلسطينية المحاصرة على أرض الواقع وفي المنصات الرقمية تجد تعاطفا شعبيا لدى فئات متنوعة من المجتمع الغربي؟
يتميز الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ بداياته بصدام روايتين: الإسرائيلية الغربية، القائمة على الإيمان بحقهم اللاهوتي والتاريخي في إقامة دولة يهودية في فلسطين، والفلسطينية، التي تؤكد أنهم أصحاب حق أصيل تم تجريدهم من ممتلكاتهم من قبل الغرباء الذين يتصرفون بعدوانية في انتهاك للقانون الدولي. ومن خلال القوة وإقناع الرعاة الغربيين الرئيسيين، شقّت الرواية الأولى طريقها.
إن الفشل في إدراك قيمة الرواية الفلسطينية المنافسة، ووضعها في سياقها، يُشكل مناخ الغرب الثقافي والفكري. وفهم هذا الجانب مهم بشكل خاص للمواطنين ذوي الذهن الصافي من غير العرب والمسلمين. وباعتبار أن هناك أشخاصا لا تربطهم صلات مباشرة بالنزاع، فمن المرجح أن يتصرفوا وفق فهمهم وتقديرهم لأي الروايتين أرجح، ربما لأنهم أيضا قد تبنوا السردية الإسرائيلية لصداها الخاص، فمن المرجح أن يحلوا محل المنظور الغربي دون تفكير.
إذا كان السرد التفسيري التاريخي الإسرائيلي الغربي ليس معيبا فحسب، بل غير دقيق إلى حد كبير، فلا عجب أن تتلقى إسرائيل الكثير من الاهتمام السلبي في الآونة الأخيرة، خاصة بعد طوفان الأقصى وردة فعلها الجنونية. فقد كان يتم تحويل الظلم إلى عدالة، والعكس صحيح، فصورة الشابات الفلسطينيات اللواتي يرشقن الجنود الإسرائيليين بالحجارة لا يقاومن هدم المنازل، أو يخشين الموت بعد أن يرين أهلهن الكبار يتعرضون لإطلاق النار والقتل، بل يوصفن بأنهن إرهابيات مغسولات الدماغ.
ومن ثم، فإن سبب تلقي الرواية الإسرائيلية الغربية ونشرها في كثير من الأحيان كان يعتمد على التجهيل، ولا يركز كثيرا على كيف ولماذا تجد الرواية الفلسطينية موطئ قدم لها.
أحد الأسباب هو أن الرواية الفلسطينية قد انخرطت في مشهد الفعل الدامي لعدوان الاحتلال، لأن الفهم الأفضل لكيفية إبرازها قد وجد له حججا إضافية، ووصلت إلى الكثير من الناس في الغرب. وينخرط الكثيرون في الغرب ويشاركون، من خلال التحليل النقدي أو التطوع أو التبرعات للأعمال الخيرية، في محاولة لتخفيف معاناة الفلسطينيين.
وإذا تعامل أحدهم مع شخص آخر، في أي مكان، وبأي شكل من الأشكال، فإنه يتحدث لغته الثقافية بشكل أساس. والانخراط يستلزم الجلوس، وربما أيضا مجرد التحدث مع شخص آخر.
ومن أجل الحفاظ على علاقات المشاركة هذه، يحتاج الفلسطينيون إلى فهم بعضهم بعضا أولا، ومن ثم النفاذ إلى عقول غيرهم. ومن خلال الكتابة والمناقشة والوصول إلى المشاركة، يجب أن يحاولوا مناقشة كيف ولماذا يجب فهم القضية الفلسطينية بدلا من شرحها.
وكيف يمكن نقد هذه الرواية الإسرائيلية الغربية؟
إن اقتراح أي تحليل للرواية الإسرائيلية الغربية الحالية بشكل نقدي موضوعي قد يجد الإنسان صعوبة بالغة في تبنيها، فيما تجترح الرواية الفلسطينية حججها من خلال ضعف غيرها في إثبات الحق.
وبشكل أكثر تحديدا، عند تحليل ما يسمى بمفهوم “الرنين السردي” لتحديد المعتقدات والقيم، التي يروج لها هذا التحليل لانتقاء الرواية الإسرائيلية الغربية من خلال التركيز على منعطفات حاسمة بشكل خاص في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تعزز منطقهم. بالإضافة إلى ذلك، نأمل أن يركز الفلسطينيون والعرب بعمق على كيفية كتابة سرديتهم للمجتمع الغربي، التي تميل إلى التأثير على تلك المجتمعات نفسها، وفحصها ومراجعتها باستمرار.
والغرض من ذلك ليس تقديم قراءة متعاطفة مع المنظور الفلسطيني حول هذا الصراع، أو الإيحاء بأن المنظور الإسرائيلي الغربي غير أمين، وإنما تأسيس فهم عميق للرهانات الخاصة لأولئك المتضررين على كل جانب من هذه المأساة التي يُشكلها الاحتلال.
لقد ثبت أن الرواية الإسرائيلية الغربية تتكون عموما من ثلاثة مكونات على الأقل: مكوّن “نحن”، ومكون “هم”، والمكون “المشترك”. يتحدث عنصر “نحن” عن من نحن؛ حلفاء في النضال من أجل تحرير الحضارة الإنسانية من خطر الحكم البربري؛ ما يشير إلى الثقافة والقيم، وخاصة الديمقراطية التي تميز “المجتمع الغربي” وتؤكد ضمنيا تفوقه؛ ويتحدث عنصر “هم” عن من هم، “هم” أي البرابرة، أو الإرهابيين الذين ينكرون الثقافة وحقوق الإنسان؛ ويتحدث المكون “المشترك” عن “شر” “هم” الذين لا يمنع قانونهم الأخلاقي استهداف النساء والأطفال أو السياح الغربيين الأبرياء والصحفيين والدبلوماسيين.
فالرواية الإسرائيلية هي الرواية الغربية، أو العكس، يرددون مقولات بعضهم بعضا، ويتردد صداها داخل مجتمعاتهم. إنهم يعكسون رؤية بعضهم ويبلغون بعضهم بعضا بها باستمرار. وفي العديد من البلدان الغربية، وخاصة في إسرائيل والولايات المتحدة، فإن السردية الإسرائيلية الغربية جوهرية في تشكيلها للثقافة السياسية، والسياسة في الغرب تتنفس هذه الرواية.
وهذه السردية موجودة في وسائل الإعلام، وعلى جدران الإعلانات، وفي الخطب السياسية، وتغذيها وتحميها مراكز الفكر و”صناع الرأي”، الذين هم في خدمة المحافظين الجدد والقدامى والليبراليين واليساريين، الذين، بعد 11 سبتمبر مباشرة، حددوا السردية برمزين متعارضين.
الأول كان ابن لادن، المسؤول عن تلك المجزرة، على الأقل بشكل غير مباشر.
والرمز الثاني كان عرفات، رغم قبوله بمبدأ السلام.
وغالبا ما يتم التقليل من شأن جانب الفصل العنصري في سياسة الاحتلال الصهيوني في الأراضي الفلسطينية، أو تجاهله في المجتمع الغربي، فصار كثير من الناس لديهم تحيز مؤيد لإسرائيل ويجب أن يعترضوا على معاداة السامية وتقريع العرب، والضحية الأبدية هي إسرائيل، والمشتبه بهم الأبديون هم الفلسطينيون.
لذلك، يقوم مفهوم الآخر على الانقسام ويشل حركة الآخر في هذه المعارضة، إنه يحوله إلى منافس على الأرض، أو، الأسوأ من ذلك، خصم دائم.
ما أهم عيوب الرواية الإسرائيلية الغربية، التي يجب كشفها وتعريتها للدفاع عن القضية الفلسطينية واختراق الرأي العام الدولي؟
تتكون الرواية الإسرائيلية الغربية، كما أسلفنا، من عدة مكونات رئيسة، وبشكل عام، تشترك في مطالبة تاريخية بالأرض باعتبارهم أحفاد القبائل الأصلية التي غزت القوى الاستعمارية الأجنبية وطنها على مر القرون.
أولا، وقبل كل شيء، تركز هذه الرواية الإسرائيلية الغربية على عناصر الدفاع عن النفس والحق في الوجود. وغالبا ما تستهدف هذه السردية مشاعر المجتمع الغربي من خلال تقديم نقاطها بطريقة محددة للغاية؛ لكسب الدعم العاطفي لحجتها. وتميز الكثيرون في المجتمعين الإسرائيلي والغربي بصدمات مركزية المجتمعات اليهودية. كما تم دمج ذكريات الصراعات العنيفة مع الدول العربية المحيطة، وحالة الصراع المستمرة التي يجب أن يعيشها جميع المواطنين الإسرائيليين في السردية، واستخدامها بشكل معتاد ودائم.
وثانيا، وفي كثير من الأحيان، يتم نقل هذه العناصر التاريخية والعاطفية من السرد إلى المجتمع الغربي من خلال وسائل فنية مثيرة للجدل، مثل الأفلام والكتب والموسيقى، التي تهدف على وجه التحديد إلى توضيح نقطة حول وجود الشعب اليهودي داخل دولة إسرائيل.
وفي هذا المقام، فإن دعم الدولة اليهودية هو بمثابة تأكيد للأخلاق الغربية الشاملة، التي تتجاوز الحدود وتجعل الأشخاص ذوي الشهرة والسلطان يؤمنون بالعدالة الجوهرية للقضية.
وبسبب هذا الاعتقاد، فإن العديد من الجماعات والمنظمات والأفراد المهمين والحكومات تجد نفسها أكثر من راغبة في الدفاع عما يعتقدون أنه صحيح بشأن دولة إسرائيل والموافقة عليه. من خلال هذه الرواية، يمكن للمرء أن يستنتج بسهولة أن دولة إسرائيل موجودة باستمرار في بيئة معادية، وتقاتل من أجل حقها الجماعي في الحياة والدفاع. وهذه الحجج هي بلا شك عاطفية، وهي دعوى رنانة لموضع الرأي العام في المجتمع الغربي.
فالرواية الإسرائيلية الغربية متسقة ومقنعة وتصادمية في إيصالها، والرواية مدعومة بشكل أساس بالتدفق المستمر للصدمة، التي مرت بها إسرائيل، وكفاحها المستمر من أجل البقاء، وعدم رغبتها في التخلي عن الحرية.
بيد أنه، ورغم كل ذلك، يتبدّى أحد العيوب الرئيسة في الرواية التاريخية والمعاصرة الإسرائيلية الغربية السائدة، وهو أنها غير دقيقة، وغير حقيقية، ولا يقتصر الأمر على أن الحقائق غالبا ما تكون منحرفة، أو محذوفة تماما، بل إن الأحداث لا توضع في سياق تاريخي صحيح. ومن ثم، لا يمكن فهمها بشكل صحيح.
والأهم من ذلك، يتم تجاهل معاناة الفلسطينيين ومقاومتهم لها، أو تفسيرها على أنها نتيجة مباشرة للحقد الفلسطيني ومعاداة السامية والثقافة الغربية. ومن هذه الأخطاء الأخرى أن اليهود كانوا يحاولون بناء إسرائيل الحديثة، أو عاشوا فيها منذ ثلاثة آلاف عام، ولا يضاهيه سوى الاعتقاد الضمني أو الصريح بأن فلسطين كانت دولة لفترة متساوية من الزمن، معرضة للخطر من قبل يهود العصر الحديث الذين يحاولون اقتطاع دولة من الأرض اليهودية القديمة.
في السياق التاريخي للصراع، هناك عدد من الإكراهات والإغفالات، هل لنا الإشارة إلى بعضها؟
على الرغم من أن الادعاءات منذ تأسيس الدولة اليهودية، فإن سجلات الأحداث التاريخية أشارت في الغالب إلى المليشيات الصهيونية والهجمات، التي كانت تستهدف المدنيين والمجتمعات المحلية وعمليات الطرد والمجازر، والتي كان ضحيتها الفلسطينيين، وما “دير ياسين” إلا نموذج تكرر كثيرا. لذلك، فإن وصف الأحداث بأنها نزاع مسلح بين طرفين متساويين هو تحريف للحقائق التاريخية الحية.
وتغفل الرواية الغربية إلى حد كبير الحركة الجماهيرية للفلسطينيين قبل قيام الدولة، أو فهم مدتها، إبان الاستعمار البريطاني. في ذلك الوقت، أصبح ثلث السكان لاجئين في سياق من الخيانة والاحتلال مليء بمزيد من المذابح والطرد.
وفي الواقع، يتم الاعتراف بالحقائق المتنازع عليها، التي يقوم عليها ما سبق، ولكن يتم إخبار الجمهور بأن الروايات التي قد تستنتج هذه الحقائق هي تأطير مؤسسي لـ”الدعاية”.
ويُشير الوعي بذلك إلى عدم كفايتها والحاجة إلى فهم إسرائيل بوصفها حركة عسكرية تقوم على التوسع، بغض النظر عن سكانها المدنيين، أي عملية التزام استعمارية بريطانية.
والإغفالات، إذن، تديم سوء الفهم في السعي إلى إدراك شامل للقضية، ومن ثم فإنها تتجاهل الحقائق وتستخف بها ولا تعترف بها؛ ما يؤدي بالأفراد حصريا أن ينتقلوا من الروايات إلى تجربة الحاضر على أنها تقيد منظور الظلم، المصمم عبر الزمن بالاقتران مع البناء التراكمي للدعاية. وفي الواقع، يتم إعاقة إعمالهم للحقوق من خلال السردية الصهيونية، ولكن ليس أقل من ذلك الحق في عيش حياة عدمية في المقام الأول.
إن إضفاء الشرعية على هذه الروايات الصهيونية مع استبعاد الآخرين -والتوسع اجتماعيا إلى سرد “غربي”- يرسل الحلفاء المحتملين إلى “المادة المظلمة” للملصقات وعلامات الاحتجاج: لا ترى ولا تسمع، ولا تندمج في جسد الكتلة المقاومة. وفي غيابها يكتسب الآخرون الوزن والواقع والأصالة.
وتحت الروايات “الغربية”، التي تحاول التعتيم على التاريخ باعتباره إشكاليا، وليس عرضيا، فإن إعادة تقديم الصراع على أنه منافسة حول من عانى أكثر، ومن يمكن للمرء أن يشعر بالأسف تجاهه، هو، الذي يصبح توترا وجوديا. إنه النفي المطلق لوكالة الضحية والممثل، الذي يؤلم حقا، مع عدم وجود إسكات للفضاء أثناء إنتاجه، لأن الإسكات إكراه يجعل المرء يغرق.
إن المساحة الممنوحة للمقاومة المقهورة هي الفرصة الوحيدة لاختراق هذا القفص الصفري، ومواجهة الصمت، ومخاطبة الجماهير العربية الأكبر بأنها هي الأخرى مقهورة. وهكذا، فقط مع وجود تاريخ أكثر اكتمالا كأساس سردي متاح، أي تاريخ فلسطين العربية، لا الغربية، يمكن لأي حدث أن يدل عليه. فقط من خلال إعادة صياغة السرد يمكن للأحداث الفردية أن تأخذ قوة رمزية إيجابية، بدلا من السلبية. فقط من خلال السرد يمكن أن يحدث التاريخ ولا يتكرر كمهزلة، فقط من خلال فلسطين.
هل من تأثير لوسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية على طبيعة الروايتين؟
هذا في تقديري هو سؤال اللحظة، لأننا كثيرا ما نجادل هذه الأيام بأن السياق الإعلامي وديناميات نقد سرد القصص يمكن رؤيتها في القدرة التحويلية للمنصات الرقمية.
فقد عملت منصات التواصل الاجتماعي بوصفها فضاءات ديمقراطية للفلسطينيين والمؤيدين والحلفاء لإدارة الروايات العامة من الأسفل، أي من على مستوى الرأي العام، باستخدام رواية القصص المرئية وشبه الصوتية في المقام الأول.
وتسمح هذه المنصات الرقمية للأشخاص المهمشين بتوثيق واقعهم ومشاركته على الفور، ومكافحة المذكرات البطيئة والمتراكمة التي ينتجها الأقوياء.
وعلى هذا النحو، هناك تعددية في السرد لا تنفي أهمية وسائل الإعلام الرئيسة الكبيرة، ولكنها توسع مجموعة متنوعة من القصص المستمرة في المحادثات الرقمية اليومية.
وعلى الرغم من أن بعض وجهات النظر الفلسطينية تدخل في مناقشات رقمية يومية مشتركة مع اليهود الإسرائيليين، فإن الكثير من هذا العمل اكتسب صدى في العواصم الغربية.
وهناك، استخدم العديد من الفلسطينيين التكنولوجيا بشكل إستراتيجي لإيجاد حلفاء لدعم مقاومتهم، لأن التضامن في نهاية المطاف يتبع خطى الوعي.
لقد سمحت التكنولوجيا للفلسطينيين بمشاركة قصصهم، فضلا عن بناء الروايات بشكل إستراتيجي والانخراط في ممارسات استبدال أو إسكات الروايات الأخرى. وقد نجح سرد القصص الرقمية والمرئية الجيدة في إشراك الجماهير، واستيعاب المزيد من وقت البث، وتلقي المزيد من الاهتمام المستمر.
ومن الأمثلة على هذا المحتوى البث المباشر، حيث يروي الفلسطينيون غاراتهم المستمرة، ويروون قصصهم بكلماتهم الخاصة، وصور الحياة في غزة، والرسوم البيانية، التي تحرك البيانات حول عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في غزة.
مع نشر المعلومات والتعبئة الجماهيرية، يمكن أن يساعد سرد القصص المرئي هذا في تغيير استثمارات الناس العاطفية والعقلانية، ومن ثم، لا تساعد التكنولوجيا في توثيق المحتوى ومشاركته على الفور فحسب، بل تأخذ أيضا دور المشاركة في توليد “حرب سرد عامة” موازية للمقاومة من أجل فلسطين.
وعلينا أن نتذكر أنه برز متغير آخر، وهو صعود خطاب حقوق الإنسان والاهتمام العالمي بالعدالة الاجتماعية والتقاطع والهويات داخل المجتمعات الغربية واخترق وعيها بقوة.
وقد نجحت المنظمات العاملة مع الرواية الفلسطينية في تأسيسها كنموذج مصغر لهذه التيارات الأوسع للخطاب. إن القيم والموضوعات واللغات السائدة الآن داخل المؤسسات والثقافات الغربية، والتي يُعبَّر عنها بكلمات وعبارات مثل: “الأقليات” و”الجندر” و”النسوية” و”حياة السود مهمة” و”اللاجئين” و”المهاجرين” و”البيئة” وغيرها، هي أيضا الموضوعات الأساسية للرواية الفلسطينية.
علاوة على ذلك، تقوم المنظمات والحركات الشعبية، التي كانت مجزأة في السابق، بتوحيد جهودها ودمج أفكارها لخلق أوجه تآزر جديدة، وتسليط الضوء على الرواية الفلسطينية لتعزيز قوة أي نضال معين من أجل المرأة وحقوق الأقليات والبيئة.
ومن ناحية أخرى، توجه الحركات الشعبية والنشاط الاجتماعي باستمرار وسائل الإعلام المحلية والعالمية للإبلاغ عن الرواية الفلسطينية ومناقشتها بطريقة نقدية للغاية، ومن ثم جذب انتباه وطني وعالمي كبير إلى السردية الفلسطينية.
وتسافر المنظمات والصحفيون المستقلون بشكل متكرر إلى الأرض الفلسطينية المحتلة، ويغطون روايات الفلسطينيين المحليين، ويبلغون عن أحداث الاستخدام المفرط للقوة وعمليات القتل الممنهج على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية.
ويحدث هذا كلما تحول الاهتمام الوطني والدولي إلى النشاط الاجتماعي وقضايا مجموعة معينة من المجتمع المدني. وتم تسهيل الآلية الكامنة وراء ذلك من خلال نمو الوسائط البديلة والنصية ولقطات الفيديو. وتضع هذه اللقطات والروايات المنظور الفلسطيني في قلب النقاش العام المعاصر.
وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي، تثير هذه اللقطات وتلك الروايات ردود فعل فورية، وغالبا ما تنتشر بسرعة بعد تحميلها على منصات مختلفة.
لاحظنا أيضا أنه بينما يستعمل الاحتلال الإسرائيلي وحتى السياسيون الغربيون خطابا دينيا، كبايدن وترامب مثلا، تنأى الخطابات الرسمية العربية والإسلامية عن استعمال هذا الخطاب، ماذا يعني ذلك في البعد الحضاري؟
عادة لا يكون الخطاب الديني في السياقات السياسية محاولة مباشرة لإثبات أو تفسير إيمان الأفراد أو الجماعات، خاصة أن دولة مثل إسرائيل قد ادعت باستمرار أنها ديمقراطية ليبرالية علمانية.
بدلا من ذلك، فإن استخدام الخطابات الدينية في الساحات السياسية أو الدراسات الأكاديمية يمكن أن يخفي أحيانا حقيقة أن القضية الأساسية هي شيء آخر: السلطة، أو المال، أو المصالح، أو توازن القوى الدولية، أو تنظيم الحكم.
ويستخدم السياسيون وغير السياسيين في أي مجتمع السرد الروحي والديني لعدد من الأسباب، مثل الدفاع عن سياسات الحكومة، أو أولئك الذين يعارضونها، ولتبرير الاحتلال الأجنبي، أو الاستحواذ الاستعماري، أو التحرر الاستعماري، ولتبرير “الإرهاب”، وأولئك الذين يتعاطفون مع المقاومة الوطنية، ورفض المقاومة الوطنية ووصفها بـ”الإرهاب”، ولأسباب أخرى.
لذلك، فإن استخدام الأفكار الدينية والنصوص الكتابية والتعبئة السياسية ودعم المشكلات في استكشاف الخطاب الديني كثيرة ومتنوعة ومعقدة وشاقة.
وبطبيعة الحال، سعت العديد من البلدان والأنظمة السياسية إلى استمالة دور الدين في المجتمع واحتوائه والتعايش معه، ويختلف النهج اعتمادا على السياقات المحلية والزمنية المحددة.
وقد تتدخل الدول في أوروبا والغرب في الميدان بهدف تضخيم دور الدين بصفته وسيلة لتعزيز سلطة الله في الأرض. وفي الوطن العربي، سعى القادة العرب أيضا إلى تقليص دور الشريعة الدينية واحتوائه.
وفي إسرائيل، تحاول حكومات مختلفة تشديد الرقابة على الدين. وتحاول إسرائيل أيضا اختراق ومساعدة القادة والمنظمات في المنطقة، التي يمكن أن تساعد في رفع نفوذ النظام الإسلامي، مع نجاح وفشل متفاوتين.
ولكن التطورات، حتى خلال العقدين، أو العقود الثلاثة الماضية، خاصة مع الإخوان المسلمين والأحزاب الإسلامية في دول عربية، وشعبية المليشيات؛ تشير إلى أن تحقيق الأمن والهدوء من خلال فصل الدين عن السياسة مهمة معقدة وصعبة للغاية.
والمجال الثاني للتحقيق، إذا أردنا فهما صحيحا لهذه المسألة، يقتضي دراسة الخطاب الديني المستخدم في الصراع العربي الإسرائيلي من قبل الإسرائيليين وصناع القرار الأميركيين والأوروبيين. فهو لا يتعامل مع المبررات الدينية أو العقائدية في حد ذاتها، بل مع الاستخدام الإستراتيجي للخطاب الديني لشرح وإضفاء الشرعية على الإجراءات السياسية والعسكرية لجمهور داخلي وخارجي.
وينبغي أن يفحص هذا التحقيق البحثي كيف استخدم صانعو القرار الغربيون والقادة الإسرائيليون الصور والمراجع الدينية من أجل تصوير الإجراءات في الشرق الأوسط بشكل عام وفي إسرائيل/فلسطين بشكل خاص. وبالمثل، فإن هذا صحيح تماما عند دراسة استخدام الدين في هذا الصراع من قبل الجهات الفاعلة السياسية الأميركية والأوروبية لنقل الرسائل أو الآمال أو المتطلبات إلى الجمهور الإقليمي.
وهنا، فإن المحددات الرئيسة للسرديات الوطنية هي المكونات السياسية والأيديولوجية للهويات الوطنية. ويُشير السرد الأيديولوجي إلى السرديات التي لا تكون الإشارة الرئيسية فيها من التقاليد اليهودية أو الإسلامية، بل من النصوص التأسيسية المعاصرة لإحدى الحركات الوطنية أو كليهما، مثل إعلان استقلال إسرائيل أو النصوص التأسيسية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ففي اللغات الغربية، حل الدين محل الخطاب الحضاري؛ ما مهد الطريق لإعادة التعريف، وبدلا من اليهودي مقابل المسيحي، كان الغرب مقابل الإسلام. ومن المؤكد أن هذه المواقف لا تنكر المكون الديني لهوية كل شعب، ولكنها، كما ذكرنا، ليست عنصرية مركزية.
وفي إطار هذه النماذج، ينظر إلى استخدام العناصر الدينية على أنه خطير سياسيا، بقدر ما يمكن أن يفسد إمكانية فصل العناصر السياسية عن العناصر الدينية. وحجتنا هي أنه قد تكون السياسة الصحيحة هي خلط هذه الروايات، ولكن إنشاء حدود حول القضايا الدينية مهم بحيث يمكن أن تخلق مسارا منفصلا، أو سلما هرميا في المناقشات، بدلا من إبقائه منفصلا، لأنه قد يؤدي إلى صراع طائفي.
والروايات السياسية الأيديولوجية موجهة نحو روح العصر، وتتطلع دائما إلى المستقبل والسلام والعلاقات المحتملة، بينما تركز الروايات الثقافية الدينية على “الأصالة” ونظرة متعمقة على الماضي. وتركز الروايات السياسية الأيديولوجية على حل القضايا المعاصرة، بينما تركز الروايات الدينية على الأحداث الماضية.
والروايات السياسية أكثر تفاؤلا بشأن احتمال التخلي عن المعتقدات الدينية والثقافية، لا سيما من خلال تحديد العناصر العلمانية داخل المجموعة الخصم، كما أنهم أكثر حداثة في تعريف أنفسهم بما بعد الحداثة. واستنادا إلى العناصر الموضوعية للروايات الوطنية المقدمة، فإن السلام بينهما ممكن.
لماذا، برأيكم، ينبغي تجنب الخطاب الديني عربيا وإسلاميا؟
إن مجرد تجنب الخطاب الديني الصريح يكشف مدى أهميته، وليس العكس. ففي أكثر الأحيان، يتم تجنب الخطاب الديني لأنه قد يزعزع الاستقرار السياسي، ومن ثم قد ينفر الدوائر الانتخابية المحلية أو الوطنية أو الإقليمية، وفي مثل هذه الحالات، يتجنب الحكام والبيروقراطيون مثل هذه الرسائل.
وفي بعض الأحيان، قد تتجنب الأحزاب الدينية السياسية أيضا الإشارات الدينية الصريحة، كما أن هذا التجنب لا يشير إلى عدم وجود التزام ديني حقيقي من جانب هذه الجهات الفاعلة.
ومع ذلك، من منظور الحوكمة، قد ينتج عن هذا التجنب قرارات سياسية “أقل أصالة”، كما هو الحال من خلال عدسات التصورات الدينية، التي تتصورها مجموعات معينة لنفسها. ومما يزيد من تفاقم الانقسام بين أنماط الحكم الدينية السياسية والعلمانية حقيقة أنه في حين أن الدولة القومية ملتزمة سياسيا بمجموعة من المعايير العلمانية، فإن السكان الفعليين في معظم الدول العربية يحتفظون بأجندة أخلاقية أكثر دينية.
وفي مثل هذه الحالات، قد يبدو أن السرد الديني البحت يعرقل الأحزاب السياسية خارج المجتمع. ومن ناحية أخرى، قد تؤدي السردية العلمانية البحتة أو السائدة إلى تخلي الأحزاب ذات القاعدة الدينية عن خصائصها المميزة؛ ما يجعلها غير ذات صلة.
التحدي في معظم السياقات العربية والإسلامية هو “الهوية المنقسمة” للمؤمنين، أي مظلة دينية سياسية ستكون متنوعة للغاية، لا يوجد صوت ديني واحد. تقع المكونات الدينية للهويات الشخصية في أحد طرفي طيفها، حتى عندما تكون الرموز الدينية أقل وضوحا، بينما في الطرف الآخر تكون مخفية تحت السلوك العلماني الذي تقتضيه الحسابات السياسية.
يجب على كل من الجهات الفاعلة السياسية العلمانية والدينية عند انخراطها في الحياة السياسية أن تستخدم شيئا من اللغة العلمانية إذا أرادت التواصل بفعالية وأن تكون ذات صلة سياسية بمجتمع أوسع أكثر دراية بالخطاب العلماني.
وفي السياق العربي، من الناحيتين التقديرية والتاريخية، كانت هناك حالات تعارضت فيها إضافة سرد ديني مع الهدف المباشر. وعندما رغب الوزراء في الظهور بمظهر أكثر “اعتدالا” فيما يتعلق بتأثير المرأة في الأماكن العامة، تجنبوا الخطاب الديني الصريح، وكانت الرسالة هي نفسها، لكنها كانت مؤطرة بمصطلحات “علمانية” أو عائلية.
وكلما ميز المجتمع نفسه بطرق مختلفة جوهريا من المعنى، أدى رفض التعامل مع الروايات الدينية إلى تمهيد الطريق لتدفق الخطابات السياسية، وخلق صحراء سردية قد ينجرف فوقها مناخ قاسٍ، فيما الخطابات العدائية الراغبة في مواجهة الخطابات المعادية تتجنب التضاريس نفسها. وبالمعنى السلبي، قد لا يكون هناك مساحة كبيرة لسرد مشترك.
وهذا من شأنه أن يشكل انقساما بعيد المدى بين النماذج الأيديولوجية المتضاربة. وفي هذا العالم، كانت المجتمعات قد ابتعدت عن الرؤية التي تجعل الحضارات تتنافس، ومن ثم ليس من السهل أن ترى خصومك الدينيين مثقلين بالمثل بـ”الإلهية”.
في الساحة الفكرية، لاحظنا أن اختلاف الأيديولوجيا كان عامل تشرذم وحرب بين القوى المدنية والسياسية في السودان وسوريا والعراق واليمن وتونس وغيرها، هل يمكن العيش من دون أيديولوجيا أو مرجعية في عالم القرن الحادي والعشرين؟
لنعد إلى الإعلام ثانية، إذ إن أي مراقب لوسائل الإعلام المحلية والإقليمية والمناقشات الاجتماعية والسياسية في الوطن العربي سيدرك التفاعل المعقد بين صور الوحدة وتصور وتجربة الصراع والاستقطاب.
وهناك مجموعة متنوعة من الانقسامات الأيديولوجية، بل والأبعاد الحضارية، تشكل هذا التنوع. وتشكل التجارب التاريخية بعدا مهما، ويؤثر الماضي الاستعماري والنفوذ الاستعماري المتأخر على الخريطة والانقسامات الأيديولوجية الإقليمية الحديثة.
كما تنظر الدول الأخرى إلى البعد الحضاري على أنه عامل مهم لتطوير ارتباطها واختلافها مع مختلف القوى والجماعات في الوطن العربي. ويمكن أن يكون فهم الانقسامات الأيديولوجية على المستوى الإقليمي ذا أهمية للاستقرار السياسي الكلي للمنطقة، فضلا عن الأمن الجزئي للدول والمجتمعات الحديثة.
ففي حين أنه تعبير عما يمكن أن أسميه بـ”الاستشراق” المحقق ذاتيا في شأن قراءة الاختلافات الأيديولوجية الإقليمية، لا سيما في الشرق الأوسط والعالم العربي، من منظور حضاري تبسيطي واختزالي؛ فإن هذا النطاق والنهج يمكن أن يوفرا للجهات الفاعلة واللاعبين الحساسين للهوية شرعية لاستحداث أنماط متناغمة ومحملة بالصراعات، حتى لو لم يتم تحديد تلك الأنماط من قبل ميراث الحضارات.
ومن ثم، لا غنى عن إظهار نطاق هذه المنظورات الأيديولوجية في المنطقة، ومناقشة إمكانية السير في الطريق إلى الأمام للحوار بين “مفاهيم الوجود” هذه، وغيرها مما تعتمل به الساحة الفكرية العربية.
ولا شك أن الوطن العربي يتمتع بـ”تضاريس” متنوعة بشكل مذهل من الأيديولوجيات والهويات، وإن بدت متناقضة، إلا أن هناك الكثير من القواسم المشتركة التي تجمع بينها. وكل شبر من دول الجامعة العربية الاثنتين والعشرين يحتوي على تعدد كبير من المعتقدات والرؤى.
وفي الوقت نفسه، هناك بعض الخطوط الحمراء المهمة المشتركة بين جميع أو غالبية الشعوب العربية ودولها، وهي معارضة الاستعمار من الشرق والغرب، والترويج لقضايا إخوانهم الأضعف في مناطق أخرى من العالم، ووصم الدول العدوانية دون قيد أو شرط، ومعارضة المؤامرات التي يعتبرونها مفتعلة من قبل أعدائهم للقضاء نهائيا على أسلوب حياتهم، وإهمال في الوقت نفسه لإرادتهم وحريتهم في العيش الكريم والسماح لهم بالعيش وفق قناعاتهم.
إن التصور الدقيق لهذه المناظر الطبيعية المختلفة والمنهجيات والمفارقات، التي يمكن تطبيقها على الحالة العربية، يمكن أن يسهم في تعزيز التفاهم الإنساني وتوسيع القاعدة الشعبية للتعايش السلمي وحوار القيم، خاصة في البلدان التي تستضيف أعدادا كبيرة من المهاجرين من الوطن العربي.
ومع ذلك، فإن هذا النهج مهم لتقييم مستقبل بعض المجتمعات والدول العربية من حيث رأس المال الاجتماعي والتضامن الإنساني الذي تتوقف عليه إمكانياتها في التنمية والتقدم.
وبأكثر من طريقة، فإن فهم النزاعات الحالية والأزمات الأيديولوجية، التي توفر أرضية مناسبة للتفسيرات المتضاربة للأهداف الدولية من قبل مختلف الدول والمجتمعات العربية، مهمة صعبة.
علاوة على ذلك، ترتبط حالة الفوضى الأيديولوجية هذه بالخلافات الحالية حول مشروع الإقليمية الاقتصادية في الإطار الجغرافي للعالم العربي والخطوط العريضة لميثاق جامعة الدول العربية ولجانها.
هذه الاختلافات الأيديولوجية والاجتماعية والسياسية، التي تظهر نتيجة واحدة من بين مجموعة واسعة من البدائل الأخرى، متجذرة إلى حد ما في الأحداث والتطورات التاريخية داخل الأمة، ويجب أخذها في الاعتبار.
وعلى نطاق أوسع، فإن هذا لا يقلل بالضرورة من أهمية العمل على الاختلافات السياسية والأيديولوجية الحالية. وبدلا من ذلك، فإنه يثير مسألة التركيز على جانب واحد لم يحظ باهتمام كبير نسبيا في المفاهيم المعاصرة، بما فيها اجتهادات الفكر العربي.
لنذهب إلى سؤال عام: هل يمكن اجتياز الاختلافات الأيديولوجية في الوطن العربي، خاصة بالنظر إلى مسألة الوحدة والصراع والأبعاد الحضارية؟
إن الأيديولوجيات، للتذكير فقط، هي أنماط عالمية من الفكر التمثيلي، تقع في الوقت المناسب، والتي -بغض النظر عن تقديرنا الإيجابي أو السلبي- تؤثر على فهمنا للواقع الاجتماعي.
إنها تساعد في تشكيل السلوك الاجتماعي والسياسي من خلال بث مجموعة من المعتقدات الوصفية المتعلقة بالواقع وكيفية عمله، بالإضافة إلى مجموعة من المعتقدات المعيارية حول ما إذا كان يجب أن يكون العالم بالطريقة التي يحدث بها أم لا.
وهذا يعكس معالجات فلسفية واجتماعية أوسع للأيديولوجيات كأطر اجتماعية توجه وجهات النظر والسلوكيات الفردية والجماعية للعالم. إذن، فالأيديولوجيات هي معتقدات تستخدم للشرح والتصرف فيما يتعلق بالعالم. والمعتقدات، بهذا الفهم، تعمل من خلال الاقتناع بحقيقتها.
والمعتقدات الأيديولوجية هي جزء من مجموعات هيكلية من المعتقدات التي تعكس الهوية. ويتمثل الدور الحاسم للأيديولوجيا في تصفية الحقائق وتفسير التجربة.
إن تفسير الأحداث والتجارب التاريخية مشروط بالأيديولوجيا التي تشكل منظور المراقب. وبالاعتماد على وجهات النظر هذه، يمكن تسليط الضوء على التقاطع بين الهويات الاجتماعية وأنظمة المعتقدات والأيديولوجيات؛ ما يشير إلى أنه كلما كانت هوياتنا أكثر وضوحا، كان من الأفضل أن نشير إلى موقعنا الدقيق في البحث عن أنظمة المعتقدات.
وإذا كان لا بد من إشارة إلى موضوع الوحدة بين العرب والمسلمين، فعلينا أن نتذكر أن هناك حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن الاختلافات الأيديولوجية العميقة قد قسمت المجتمع في الوطن العربي، كما قسمت المجتمعات على مستوى العالم الإسلامي.
ومع ذلك، فإن مسألة ما إذا كان الوطن العربي يمكن أن يصبح موحدا واحتواء خلافاته، أو ما إذا كان يتبدد ويتفكك في ظل الاختلافات الأيديولوجية والطائفية والقبلية والقومية العابرة للحدود؛ هي قضية أكثر تعقيدا من سؤال وحدته مع العالم الإسلامي.
فالوحدة ممكنة من حيث المبدأ، لكن التجربة، مع الأسف، تُظهر خلاف ذلك. وإذا تناولنا آفاق الوحدة، بما في ذلك بعض التجارب والتحديات والعقبات التاريخية، فعلينا كذلك تناول الأبعاد الحضارية المشتركة، كما علينا تناول الوصفات المختلفة للتعايش والحوار، بما في ذلك رواج اللاقومية المعاصرة والوحدة العربية، والولاء للأمة، والمجتمع المدني، والإنسانية الإسلامية، والعالمية الجديدة.
ويبدو أن احتمالات تحقيق الوحدة في الوطن العربي تعوقها عوامل عديدة متعددة الأوجه ومتعددة البؤر.
وهناك ثلاث أيديولوجيات محتملة تلهم الوحدة، الأولى هي القومية العربية القديمة. وفي حين لا تزال تروج لها مجموعة مختارة من المتشددين والمؤمنين الحقيقيين، بمن فيهم قادة أنظمة عربية وغيرهم، فقد انهارت الكثير من أحلام الوحدة العربية بشكل عام.
أما بالنظر لمفهوم التضامن الإسلامي، ينبغي علينا إعادة التأكيد على أهمية البعد الحضاري تماشيا مع التوجه العام لمفهوم تحالف الحضارات. ومع ذلك، فإن البحث عن مفهوم أيديولوجي للتضامن قد لا يكون مرضيا بما فيه الكفاية.
والواقع أن مفهوم التضامن الإسلامي، الذي كان نابضا بالحياة ومؤثرا في ذروة صعود الإسلام السياسي في السبعينيات والثمانينيات، وحتى بُعيد ثورات الربيع العربي؛ قد ظل يتلاشى تدريجيا في حقبة ما بعد 11/9 بسبب هيمنة سلطان الحرب الكونية على الإرهاب، وخاصة ضد أصناف الحركات التي استوحت خطابها من الإسلام السياسي.
كيف يمكن التعامل مع اختلاف المرجعيات الغربية وصراع الأيديولوجيات العربية في ظل حاجة العرب والمسلمين للوحدة خدمة لمصالحهم الداخلية والخارجية؟
إن كل ما نسعى إليه في هذا الفحص الرؤيوي لمسألة الصراع والأيديولوجيا يقودنا إلى هدف واحد، هو تحقيق فهم أفضل للمواضيع التي تطرقنا إليها في سابق حديثنا، والتي لم تقتصر على التشكيك في المستويات التاريخية والمعاصرة للاختلافات الأيديولوجية فقط، بل أكدت على وجود القواسم المشتركة أيضا عندما ننظر لموضوع الوحدة العربية.
وعلاوة على ذلك، ينبغي علينا دائما ألا نشير إلى الأحداث التاريخية فحسب، بل ينبغي أن نذكر المرجعيات المعاصرة لإثبات أن هذه الاختلافات لا تزال موجودة على المستوى الحالي، رغم أن كل تطلعات الوحدة تعكس أن تلك الاختلافات طفيفة.
لهذا، فإن مقارنة المرجعيات السياسية والأيديولوجية الغربية والعربية هي ممارسة مثيرة للاهتمام. إن الاختلافات بين المنطقتين غنية للغاية بالفعل، وتخلق تناقضات بقدر ما تخلق أوجه تشابه مشروطة بالروايات التاريخية والسياقات الثقافية والديناميات الاجتماعية والسياسية الدقيقة التي لها بالطبع مصفوفات سببية مختلفة.
فالنصوص التأسيسية للعالم الغربي تتبع وتحدد نظام القيم القائم على الحريات الفردية، وحيث يحد حكم القانون من سلطة الدولة، ويؤسس الحقوق والحريات المدنية والسياسية؛ ترسم النصوص التأسيسية للعالم العربي هوية تجاه الإسلام غذت تاريخيا معارضة تسييس سلطة الدولة.
ولحسن الحظ، ندرك أن مهمة من يحاول إعادة التفكير في النظام الفلسفي للعالم العربي بما يتجاوز ما قيل في عالم الأيديولوجيا هي مهمة مضللة حتى قبل أن تبدأ، فلا يزال النظام عبارة عن مجموعة من الأفكار والآراء حول المستقبل، التي قد يتم التحقق منها أو لا يتم التحقق منها في هذا المستقبل.
لقد كان العالم الغربي قادرا على إنتاج الأفكار الكلاسيكية والقانون الطبيعي والعقلانية والفردية والليبرالية الاقتصادية، مع إيلاء اهتمام أقل للقيم الاجتماعية الأساسية والأسرة، إلى جانب مجموعة من الحركات الأخرى ضد الكلاسيكية والعقلانية، مع وضد العقل، أو ضد الطبيعة والثقافة.
إن الاختلاف، الذي استمدته العلوم الاجتماعية من هذه التعددية في الأيديولوجيات الاقتصادية والسياسية، هو نفسه المقترح بين فلسفة الأغلبية وأيديولوجية الأقلية.
ومن ثم فإن المرجعيات الأيديولوجية الغربية والعربية تشترك في أربعة أبعاد على الأقل: الحركة التاريخية، والزعيم الاجتماعي، والفروق الدقيقة، والانقسامات.
ففي العالم الغربي، يعود الأمر إلى اليونان، على وجه الدقة، إلى الشبكات المتشابكة من الأساطير والقانون الطبيعي واللاهوت وقيمة الحياة والإنسان والمفكرين الإصلاحيين والمعارضات الكلاسيكية، والعقلانية لليبرالية، والفاشية، والوضعية.
والاختلافات في القانون الطبيعي والكلاسيكي والعقلاني هي المراجع الدائمة، التي لها معارضة كبيرة في الفكر الاجتماعي والسياسي الأميركي، حيث الفردية والمساواة هي المراجع الحقيقية.
وفي الوطن العربي، تدور الحركات الفكرية حول تحويل النص الديني إلى إطار قانوني، والمعارضة السياسية، والانشقاق عن النظام القائم. ومعارضة عدائية وودية من العلماء والمراجع، على الرغم من المقاربات في الفتوى والاجتهاد السياسي.
ومن المهم على وجه التحديد كشف هذا المجال المشوش من التعارض مع الماضي العربي الإسلامي من خلال تمييز حقوق المدارس الفكرية المختلفة، ليس فقط للكشف عن المصفوفة السياسية والاجتماعية وتصنيفها في نهج أول، ولكن أيضا لفهم سياقها التاريخي.
إذن، كيف تؤثر الاختلافات الأيديولوجية على الوحدة الإقليمية؟
أولا، لا بد من فهم طبيعة الاختلافات بين القوى أو الحركات السياسية القائمة على الأيديولوجيات في جميع أنحاء الوطن العربي، وفهم الانعكاسات الإقليمية والحضارية لهذه الاختلافات على الحوار.
ومن ثم فهم عواقب هذه المواجهات وتحديد أولئك الذين يميلون إلى تعزيز وازدهار هذه الأيديولوجيات المثيرة للانقسام، ومن بعد تحديد العواقب الاجتماعية والسياسية العملية والصراعات الناجمة عن هذه الأيديولوجيات، والتوصية بالتدابير التي يمكن اتخاذها من أجل الحد من هذه الاختلافات والصراعات الأيديولوجية.
وثانيا، علينا من بعد حساب النتائج المتوقعة، التي يجب أن تستند التوصيات المُنتِجَة لها إلى الحكم العلمي على المجالات السابقة، أي التاريخ وتحليل الصراع والمواقف السياسية المناسبة للعالم العربي.
وينبغي أن تؤدي النتائج المتوقعة إلى مبادئ توجيهية عملية تعزز الحوار والتفاهم المتبادل. ولا ننسى أهمية المساهمة في تعميق الحوار بين الحضارات، ومخاطبة أولئك الذين يتعاملون مع الوطن العربي وما يسمى بالحرب العالمية للأيديولوجيات أو صِدام الحضارات.
هل يمكن العيش بدون أيديولوجيا في القرن الحادي والعشرين؟
إن الملاحظة الأولى، التي يجب إجراؤها حول التغييرات الجذرية في النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على مدى العقدين أو العقود الثلاثة الماضية في الوطن العربي، هي الغياب شبه الكامل لخطاب الأيديولوجيا، إذ لا توجد أيديولوجيا مهيمنة وشاملة لتوجيه التغيير وتوليد ديناميكيات مجتمع أو اقتصاد أو هيكل سياسي متنامٍ.
إن مراقب المجتمع العربي الحديث، عند زيارته لواقعه المجزأ والمبتلى بالصراعات والغامض، سيفتقد الإحداثيات التي عادة ما تتناولها أيديولوجيا جامعة من شأن وجودها أن يملأ فجوات سوء التفسير بتوجيهات واضحة تؤكد على القيم والمعتقدات الثقافية ورؤى النظام ومفاهيم تنظيم المجتمع وأهداف الأفراد والمجتمع ورؤى المستقبل، أو ما يمكن أن نسميه مبادئ تنظيم المجتمع وأفكاره لتعبئة الناس والموارد وتنظيم الإنتاج والاستهلاك.
ومن شأن هذه الأيديولوجيا أن توفر إطارا للنظم المرجعية، باختصار، مفهوم الهوية المجتمعية الذي يصور من “نحن” وفي أي نوع من المجتمع نعيش. ففي القرن الماضي، كانت هذه الأيديولوجيا في الأساس هي الأيديولوجيا القومية، ونازعتها المجال العام الحركات الإسلامية واليسارية، وشبه من التيارات الليبرالية.
لقد اختفت الأيديولوجيا كهوية وتعبئة ومولد للبنية الاجتماعية والسياسية في الوطن العربي، مثلما اختفت في الغرب منذ ستينيات القرن الماضي عندما نشر دانيال بل كتابه الموسوم بـ”نهاية الأيديولوجيا”.
هذا الغياب يقطع شوطا طويلا في تقييد المجتمع والسياسة، لأنه من دون معتقدات وقناعات مشتركة فإن معظم الهويات المنقولة تذوب، ولأن الأيديولوجيات المختلفة تكسر الأحياء والعائلات والمجتمعات والأمم ككل.
وهذا النقص مربك بشكل خاص عندما يكون غياب أيديولوجيا مدنية شاملة موجودا في بيئات تكثر فيها النزاعات الدينية والسياسية والفلسفية؛ ما يجعل فجوات الهوية تتجمد في الصراعات العنيفة على السلطة والسيطرة. وتتوقف الثقافة الإستراتيجية عن الارتباط بالهوية الاجتماعية؛ ما ينتج عنه واقع “كل السياسة” و”لا مجتمع”.
وفي صميم كل هذا الغموض العملي تكمن القضية المجردة المتمثلة في وجود أو عدم وجود أيديولوجيا شاملة، في حين أن قوة الدين، بسبب عدم وجود بديل أيديولوجي أفضل، لم تكن قادرة على العمل بصفتها معرفا وحيدا للبعض؛ ما جعل القول بـ”صدام الحضارات” الدولي يبدو في الظاهر واقعيا، رغم غياب الأسباب الموضوعية.
ما هو تأثير الاختلافات الأيديولوجية على الحوار والصراع الحضاري؟
لطالما كانت مهمة الدراسة التحليلية للأيديولوجيات محورية في تسليط الضوء على أبعاد وأطر متميزة فيما يتعلق بدراسة وتصور واقع الوطن العربي بشكل عام، وأيديولوجيات المسلمين بشكل خاص.
ويشهد الوطن العربي بمرور الوقت تطور العديد من الأيديولوجيات والتوجهات، مثل: الفرعونية، والدولة، أو أيديولوجيا المكانة، والقومية بأنواعها وأبعادها المختلفة، والليبرالية، والعروبة، والوطنية، والوحدة الإسلامية، والحركات السياسية الإسلامية.
ينقسم المثقفون حول هذه القضية إلى اتجاهين، هما: التحليل الطبقي داخل الخطوط الاشتراكية، وكذلك التحليلات القومية والإنسانية التي كانت تقوم بها القوى الثورية، مثل الشيوعيين والاشتراكيين وبعض الليبراليين.
عندما يكتسب أي نوع من الأيديولوجيا قدرا كبيرا من الشرعية، فإنه، بالطبع، سيتم استخدامه لتعزيز أو إضفاء الشرعية على المؤسسات الاجتماعية والأنظمة السياسية. لفهم قيمة كل من هذه الأيديولوجيات، من الحكمة تشخيص كل واحدة قدر الإمكان حتى نتمكن من رؤية أطر فكر الآخر، والعكس صحيح. ومن ثم يمكن اعتبار الخطوط العريضة المذكورة أعلاه مبادئ أيديولوجية.
بعبارات أكثر تحديدا، ما التحديات مع مثل هذه الاختلافات ذات الطبيعية الأيديولوجية؟ ما أبرز الفرص؟
إن تحقيق الوحدة عندما تكون هناك أيديولوجيات مختلفة أمر معقد، ومن ثم يمكن للجماعات المتطرفة والمسالمة أن تعتنق أيديولوجيا وترفض أي حوار آخر، وهذا يمكن أن يؤجج العنف والفوضى.
والشكل الثاني للتحدي مع الأيديولوجيات المتعايشة هو عندما تلتزم الثقافات بأيديولوجيا واحدة وترفض أي حوار مع الآخرين. وتفرض بعض الثقافات أيديولوجيات على الآخرين ولا يمكنها تحمل التعددية، وهذا يمثل تحديا مختلفا. ومع ذلك، يمكننا أيضا أن ننظر إلى الأيديولوجيات المختلفة على أنها فرصة للحوار الثري والعمل المشترك مع العديد من النماذج الناجحة.
في الواقع، غالبا ما تخشى الأيديولوجيات المختلفة، كممارسات، الصراع الأهلي، ويمكنها أن تنظر إلى دعم السلم الأهلي كمعتقد أساس لأيديولوجيتها، وتجاهل الأيديولوجيات ليس هو الحل.
إن تمكين ثقافة الحوار التي تقوم على قبول التعددية في الخطاب الأيديولوجي قد يسهل تحويل التحديات الأيديولوجية إلى مصدر للثراء والفرص. لذلك، فإن النظام التعليمي الجيد هو وحده القادر على توفير الموارد البشرية القادرة على التعامل مع التحديات والفرص الأيديولوجية من خلال اعتماد عملية حوار عبر الأيديولوجيات.
ويعزز هذا الحوار طرق التفكير التعاونية بدلا من المواجهة؛ ما يؤدي إلى الاكتشاف المشترك لحلول مبتكرة للتحديات الحقيقية التي تخدم المجتمعات.
من الذي يعزز أو يحافظ على هذه الاختلافات الأيديولوجية؟
من السهل الإقرار بأن هناك اختلافات أيديولوجية بين الغرب والوطن العربي، إلى جانب الاختلافات في التنمية. ولا تقتصر هذه الاختلافات على العصر الحالي، بل تمتد إلى العلاقات الأوروبية العربية.
بعض هذه الاختلافات تنبثق من السيناريو الحالي للغرب ولم تحدث بالنسبة للشرق، ومن ثم فإن فهم طبيعة الاختلاف يبقى غير مكتمل ما لم يتم وضع أطر أيديولوجية “شرقية” و”غربية” مقابلة.
لكن هذا لا يعني أن المواقف الأوروبية والأميركية تجاه الشرق الأوسط كانت بالضرورة هي نفسها، كما أن التقارب بين هذه الأطر ليس فوريا وجوهريا إلى الحد الذي يجعلها أكثر توافقا بين بعضها بعضا بنفس السهولة، نظرا لحالات الطوارئ المختلفة.
ومن المثير للاهتمام أن الاختلاف يتكشف بشكل أكثر حدة كلما غامر المرء خارج المجال السياسي إلى العوالم الثقافية والأخلاقية والروحية، حيث تعتبر وجهة نظر الشرق موطنا ليبراليا لدرجة كبيرة من العالمية. والقليل مما ينحرف عن القاعدة كما هو مفترض قد سيطر على عقول المؤرخين الغربيين وعلماء الأخلاق بقدر ما سيطرت هذه الانقسامات والتناقضات.
ومع ذلك، بالنسبة لكل من السكان الأصليين والعلماء الغربيين الذين لديهم شعور بالمنظور التاريخي، لا يزال الكثير من منطق الخطاب يمثل تشويها قبيحا للحقيقة.
فمثلا، ولكي تفهم الولايات المتحدة والدول العربية بعضها بعضا، يحتاج الجانبان أولا وقبل كل شيء إلى الاعتراف بالاختلافات الأيديولوجية، والأهداف المتقاطعة، و”الكراهية المتبادلة”، التي تفرق بينهما.
ويجب على كلا جانبي الانقسام أن يسعيا إلى الكشف عن جذور ضيق الأفق إن أمكن، ثم محاولة الشفاء من الشكوك، أو على الأقل تهدئتها بمجرد تحديدها. وينبغي أيضا بذل الجهود لتيسير التعايش السلمي بين الأيديولوجيات المتنافرة.
ومع ذلك، ينبغي للمرء أن يكون حذرا بما فيه الكفاية حتى لا يسمح للتوافقات الأيديولوجية بالتطور إلى درجة الخلط مع بعض قرائن التشابه بين الهويات الحضارية التي تؤكد هيمنتها على الآخرين، بل التركيز على كيفية استمرار العالم الحر، الذي يضم العرب وغير العرب على حد سواء، في “التعاون والتعايش”. فالأيديولوجيات ليست مجرد رؤى داخلية مجردة، وإنما تتقدم إلى الواجهة مع كل سلوك يتحرك للعمل.
ليس بعيدا عن الأيديولوجيا وعلاقات الغرب والشرق، نشهد أن هناك تنافسا شديدا بين القوى الكبرى (أميركا والصين وروسيا وغيرها) على أفريقيا، هل هذا التنافس فرصة أفريقيا للتحرر من الاستعمار؟
إن أي نظرة للديناميات الحالية للمنافسة الدولية في أفريقيا تؤكد أن خطوط المنافسة في الوقت الحالي معقدة، حيث تشارك الولايات المتحدة الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا، والقوى الصاعدة مثل تركيا والهند وإيران وإسرائيل؛ بطرق مختلفة.
والغرض من هذه المشاركة المكثفة والمستمرة لهذه الجهات الفاعلة الخارجية هو جعل أفريقيا آمنة للعلاقات الاقتصادية، مثل الاستثمار والمشاركة، وغير آمنة ومستقرة لتنمية أهلها.
وذلك أن هذا التنافس الهائل يحدث من تأهيل حقيقي للبنية التحتية، الذي ينبغي أن يؤخذ في سياق عام تلتزم فيه الحكومات الأفريقية إلى حد كبير بالإصلاحات، التي تهدف إلى جعل الاقتصادات الأفريقية قادرة على المنافسة مع بعضها بعضا، ومع جوارها الإقليمي، وخاصة العربي.
فقد كان الوصول إلى الموارد البشرية أو المادية، والوصول إلى الأسواق، وطريقة مزج درجة من الإكراه مع الإغواء؛ هو القاعدة في العلاقات الدولية بالنسبة لمعظم القوى الكبرى. وبالنسبة لمختلف القوى الخارجية، فإن أفريقيا هي المكان المناسب للقيام بذلك.
وفي هذا السياق، لا يمكن القول بأن بلدا ما يتبع سياسة منفصلة عن المصالح، وغالبا ما يتعين الاختيار حول أي بلد يكون أكثر توافقا مع صناع السياسات في السلطة. وستحتاج القوى التقدمية المحلية على جميع المستويات بعد ذلك إلى التقدير والتصرف بطرق خيالية وإستراتيجية خلال هذه الأوقات من التنافس الدولي لضمان قدرتها على تعزيز مصالحها بشكل أفضل.
ومن المقدر أن العلاقات وعواقب المشاركة المستمرة من قبل هذه القوى الثلاث في أفريقيا لا تزال موضع نقاش، وعلى هذا النحو فإن القوى المختلفة لا تدعي التجانس. وما يبدو أن الشعوب الأفريقية ككل قد تركته بشكل أساس هو التنقل في تدافع وحشي وغير مبدئي للغاية بين القوى العالمية والإقليمية المختلفة بينما تعمل على تعزيز مصالحها الخاصة، غالبا ضد ما بدا أن غالبية الحكومات تدعمه منذ فترة طويلة.
وكان التحدي واضحا بشكل جيد، أي أنه في سياق التقاء هذه المصالح الاقتصادية المتعددة في الكونغو مثلا، ويمكن لهذه الشركات أن تتوافق مع الكونغوليين الذين قد يزدادون ثراء خرافيا من تلك المعادن، وستعطى مشكلة الاستغلال والإعدام خارج نطاق القانون، التي بنت بعض رأس المال، حقها من النظر والمعالجة.
إن الإيحاء بأن كل شيء على ما يرام في العلاقات بين أفريقيا ومختلف البلدان الناشئة التي تساعدها يجب أن يعتبر منافيا للعقل، لأسباب ليس أقلها الانشغال ببائعي الأسلحة المتنافسين لتجهيز آليات العنف في القارة.
وما يوضحه ذلك هو أن الضغوط من الخارج يمكن أن تؤدي على ما يبدو إلى إضعاف التعاون مع الهيئات الإقليمية الأفريقية وحجب ظلاله، أو تعزيز هذه الهيئات وبناء القدرة على الصمود المحلي، حيثما أمكن ذلك.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.