كثيرة هي اللحظات التي يشعر فيها المرء بأن الحرية كمفهوم يظهر أي يتجلى ويتشفف لنا، لكنه لا ينتبه إلى ما لا يظهر من الحرية من عوائق وحواجز وعراقيل وصعوبات يصطدم بها، مما تجعله غارقا في وهم الظهور والتجسد.
هناك دائماً ما يعرقل حرية الأفراد، بمعنى أن هناك دائماً ما لا يظهر لنا ويفرض علينا في نفس الوقت، فعندما أقول هذه أسرتي، لا بأس أن تحد من حريتي فهذا دليل على توهيم الأنا وإرغامه على تقبل ما تفرضه علي الأسرة من قيود، وقد تتحول القيود لتمتد إلى المجتمع، فعندما أقول هذا ما يفرضه علي المجتمع، أو هذا مجتمعي الذي أنتمي إليه، وكل ما يفرضه علي مقبول، أنذاك أكون خاضعا مباشراً لما لا يظهر من الحرية.
وقد يصل الأمر إلى المساس بحرية التعبير والتفكير والتصريح بالرأي الخاص بي في قضية عمومية، نجد أيضاً ما لا يظهر من موانع وعراقيل تحد من حريتي في الرأي، فتنتهي حريتي الظاهرة حينما أضجر أو أثور على أرائي وأفكاري، ولا أملك، في الأخير، إلا أن أعلن أن كل أرائي ومعتقداتي خاطئة ولا تتوافق والرأي العام والسائد، ما يعني أنني أنفي ما يظهر من حريتي لصالح ما لا يظهر منها أو ينفيها !!!
كل ما لا يظهر من الحرية هو كل ما أتقبله بصدر رحب، وبشكل بديهي وغير قابل للنقاش. فتبدو حريتي الظاهرة حرية محدودة ومسطرة من قبل، أي أنني سأفعل ما يريده المجتمع والأسرة مني فعله، أي ما يريده الآخر مني، لا ما أريد أنا فعله.
لعل هذا ما نقصده بالحرية الظاهرة، أي وكأنها حرية مظهرية، نتظاهر أننا أحرار، لكننا في الحقيقة عبيد من الدرجة الأولى، تعبد وتتبع رغبات وأهواء الآخرين التي لا تشبع.
يتصور المرء أن كل أفعاله وتصرفاته واختياراته حرة ومسؤولة، إلا أنه في الحقيقة، أو ما لا يظهر من حريته، مجرد عبد مقيد بأغلال أو هناك جدار خفي يحد من حريته، إنه يوجد داخل الصندوق ويفكر من داخله ويتوهم أنه حر من داخله !!!
غير أن وهم الإنسان بحريته الظاهرة، والذي قد يسكنه منذ نعومة أظافره وطفولته المبكرة، قد يحدث في بعض الأحيان وأن يصطدم دائماً بمطالب أسرته التي تكون بمثابة أوامر تفرض عليه، وبالتالي تصبح إطاعتها أمرا لا مفر منه يلازمه طيلة حياته ويحد من نشاطه السوي، كما قد يلاحظ في بعض الأحيان أن هذه الأوامر الأسرية تحولت بقدرة قادر إلى شروط تحد من استقلاله الذاتي.
نعترف في الواقع بأن مطلب الحرية، أو مطلب فعل ما يريد المرء أن يفعله، مطلب شبه مستحيل داخل الأسرة والمجتمع اللذان لا يظهران ما يفعلانه من قيود دائماً تجاه الأفراد.
وفي خضم وعي المرء بهذه الصدمات أو اللكمات والصفعات المؤلمة التي يتلقاها من الأسرة والمجتمع، سيجد نفسه، أنه ومنذ البداية هناك ثنائية السيد والعبد الهيجيلية تشرح لنا وضعية الفرد في هذا الوجود، إما أن تكون سيداً وتتحرر من مظاهر الحرية وما لا يظهر منها، رغم إستحالة حدوث هذا، لأن السيد بدوره خاضع للإشراط الطبيعي، وإما أن تكون عبداً يتوهم حرية ظاهرة، ويخفى عنه ما لا يظهر من الحرية، وبالتالي يفتقد حتى لحرية ممارسة التأمل النظري، الذي يشير عند اليونان إلى الفلسفة.
الفلسفة لدى اليونان كانت تعني ممارسة نوع من التأمل النظري الحر الذاتي حول الوجود والعالم والأشياء والمجتمع والدولة …إلخ، لكن اعترف العديد من الفلاسفة بوجود نوع من الضرورات الداخلية من غرائز وشهوات ونزوات وأفعال وأفكار ولذات ونزعات ورغبات تتحكم في كل إنسان لم يستطع التخلص منها.
كما هناك العديد من الفلاسفة من أكدوا وجود الضرورات الخارجية، والمقصود هنا قوانين الطبيعة التي لا يمكن التخلص منها البتة، لكن في المقابل، يستطيع أي شخص التحرر من إكراهات الرغبات والنزوات والميولات والممارسات والدوافع والأفعال والانفعالات واللذات الجنسية، لكن شريطة العيش وفق نمط أو نظام منسجم مع الطبيعة ويتوافق معها، لهذا جاءت العدالة الأفلاطونية عدالة تنسجم وفق نظام العقل والطبيعة، أي أن تكون منسجم والوظيفة التي هبتها الطبيعة إياك.
وهكذا عنت الحرية ما لا يظهر من إنسجام وتكامل وتداخل مع نظام الطبيعة، فالحرية توجد داخل الإنسان لا خارجه، أي لا تظهر للآخرين، ما يعني أن الحرية تعني الإيمان بالإنسجام والتناظم وفق نظام الكون والعالم، إننا نشعر بالحرية من خلال الخضوع لنظام الطبيعة الكامن داخلنا، هناك قوة توجد داخل كل واحد فينا تجعلنا أحراراً من كل شيء يقيدنا في هذا العالم.
وقد تحول التفكير في ما يظهر من الحرية، في ثقافتنا إلى الإقرار بغياب هاته الحرية الظاهرة لأن الله خلقنا من أجل الطاعة والعبادة، بمعنى أننا خُلِقْنا من أجل عبادة الله عز وجل دون أي نقاش، وبالتالي فكل أفعالنا وسلوكاتنا وأعمالنا هي جبرية لصالح الله، لكن يتضح لنا أن هناك ما لا يظهر من الحرية إنطلاقا من الشرع (القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة)، هذان الأخيران مرة تجدهما يقدمان آيات وأحاديث تقول بالعبادة والطاعة والتوحيد لله عز وجل، وتارة أخرى تجدهما يُقِرَّانِ معاً بحرية عبادة الله، دليل ذلك كما ذكر في القرآن الكريم، في سورة الكهف، الآية 29، ” وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) “، وما قد نقف عنده في هذه الآية، هو قوله “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، هذه الآية دليل على حرية عبادة الله عز وجل والإيمان به، إما أن تؤمن وإما أن تكفر، وجزاء الكافر والظالم النار، وليس هذا هو موضوعنا الآن، لأن ما يهمنا أن الفرد يمتلك إرادة فعل ما يريد أو ما يشاء، بمعنى يستطيع أن يفعل ويريد خيراً أو يستطيع أن يفعل أو يريد شراً، ولكن يجب الإنتباه والتيقظ لمسألة في غاية الأهمية وهو أن الفرد محكوم ومشروط بقوانين الطبيعة، وأنه لا حول له ولا قوة أمام هذه الشروط الطبيعية.
هذا ما جعلنا نرفض فكرة الحرية الظاهرة، من أجل تأكيد ما لا يظهر من الحرية، ونقصد هنا الحتميات الطبيعية والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والسيكولوجية التي تعبر عن شرطية الوجود الإنساني، ذلك أن الإنسان يوجد في هذا العالم وجوداً بالمعية، أو وجوداً مع الآخرين، فالغير شرط إنساني، لا وجود لإنسان يوجد وحده في هذا العالم ولا يمكن أن يوجد، كما لا يمكن لأي إنسان تغيير مصير حياته لوحده دون الاستناد إلى الآخرين، بل حتى عندما يبحث الفرد عن معنى أو فائدة لحياته، يبحث عنها بمعية الآخرين، للغير وجود ذهني في كياني الوجودي، لا يمكن نفيه البتة.
تنتفي الإشراطات الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية والقانونية والدينية والسيكولوجية والثقافية والتاريخية بحضور حرية الإرادة أو إرادة الحرية التي تندرج ضمن ما لا يظهر من الحرية، لأنها إرادة توجد داخل كل فرد يسعى إلى التحرر الذاتي والاستقلالية والمسؤولية والإبداع الحر.
لكن هذا لا يعني أن هناك علاقات بين الإرادة والرغبات والنزعات والغرائز والشهوات والأفعال والانفعالات والنزوات والميولات، بل بالعكس تماما، الإرادة هنا توجد خارج دائرة الرغبات، رغم أنه لا يمكن نفي البعد الغرائزي في الإنسان، ذلك أن هذا الأخير كائن رغبة وإنفعالات بالدرجة الأولى حسب باروخ إسبينوزا، فلا يمكننا قمع هذه الرغبات المتأصلة في الكيان الإنساني، كما لا يمكن إقصاء كل ما هو مادي، غريزي في الإنسان، يجب علينا أن نحافظ على كنه الإنسان من خلال مقاومة وازعاج كل حرية ظاهرة أو كل حرية لا تحترم ما لا يظهر من إرادة حرة تطلب الحياة وتدافع عن كل ما هو غريزي في الكيان الإنساني.
لكن يجب علينا هنا أن لا ننسى أيضاً البعد القانوني الذي طال تهميشنا له كل أجزاء المقال، هناك قوانين تؤطر ما يظهر من الحرية، تلعب هاته القوانين دور كبح جماح الرغبات والنزوات والميولات والشهوات، ما يجعل من الحرية حرية في حدود القانون السائد داخل المجتمع، فمثلاً ممنوع هنا في الدول العربية الإسلامية العلاقات الرضائية غير الشرعية أو خارج إطار الزواج بينما في الدول الغربية الأوروبية مسموح بها، بمعنى لا وجود لقانون يعاقب عنها هناك في أوروبا، ما يعني أن العلاقات المسموح بها هنا هي العلاقات الشرعية داخل إطار الزواج أو الأسرة، وهذه القوانين هي الوحيدة التي يمكنها أن تلعب دور كفيل الحرية، لكن في بعض الأحيان، رغم وجود هذا النوع من القوانين المقيدة للحرية، إلا أننا نلحظ ما لا يظهر من الحرية حاضراً وبقوة، ما يجعل من القوانين تضمر تناقضا ظاهريا عندما تطرح لنا ما لا يظهر منها، ما يعني أن الحرية تصبح مستحيلة في سياق وجود القانون، بل في بعض الأحيان، لا يحترم المواطنين القوانين، ويعملون جاهدا على مخالفة كل القوانين التي تحد من رغباتهم وشهواتهم.
ولعل هذا ما يفيد أن القوانين وضعت من أجل غاية واحدة هي: تقييد واستعباد الأفراد داخل المجتمع، لهذا وجب التنبيه أننا في حاجة إلى قوانين تلائم المستجدات المجتمعية وتتفق مع الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير السائدة داخل المجتمع، يجب أن تعبر هاته القوانين عن روح المجتمع لتتيح تحقيق النظام المرجو منها.
لكن ماذا نقصد في الواقع بالقول “الحرية حق” ؟ لا يعني هذا القول أن الحرية ضرورة مجتمعية بقدر ما يعني وجود نظام سياسي وقوانين إجتماعية تنظم هذه الحرية لتصبح حقا لكل الأفراد داخل النظام، خاصة وأن المجتمع هو مجال صراع الحريات لا مجال تعايش الحريات، فلا يمكن توهيم الأفراد بأن الحرية مسألة داخلية مكانها القلب أو ما يسميها الدين بالحرية الروحية التي بالنسبة لنا مجرد حرية وهمية، لا معنى لها، ولا يشعر بها الفرد الذي يؤمن بها، بل يجب على الحرية أن تشمل الواقع الفعلي الذي يعيش فيه مختلف أعضاء المجتمع.
لهذا قد نتفق مع هابرماس الذي طور مفهوم الفضاء العمومي ونقول أن مفهوم الحرية ليس مفهوما مجردا متعاليا عن الواقع، بل هو مفهوم لصيق بالمجال العمومي أو الفضاء العمومي الذي تنتفي فيه الخصوصية أو ما لا يظهر من الحرية.
وفي ختام مقالنا؛ نؤكد على أن ما يظهر من الحرية غير كافٍ بتاتا لتحقيق ما لا يظهر من الحرية من رهانات إجتماعية وثقافية واقتصادية وأخلاقية وسياسية، وبالتالي فكل هذه الأبعاد والتجليات تظل لصيقة ومتأصلة في مفهوم الحرية، خاصة المجال الأخلاقي والقيمي الذي لم نركز عليه جيداً، رغم أهميته الكبرى في تحديد روح الحرية، ذلك أن مراعاة الفرد للقيم الأخلاقية والقيمية الكونية يجعله يظفر بحرية تنسجم وروح العصر، ذلك أن الأخلاق والقيم الكونية المشتركة هي الأمل الموعود في تحقيق الحرية الحقيقية والفعلية لأنها تتوافق والحقوق الإنسانية المشتركة وتنسجم مع مفهوم المواطنة العالمية الذي يحترم الكرامة والمساواة الإنسانيين.
—————
محمد فرَّاح: حاصل على شهادة الإجازة في التربية تخصص التعليم الثانوي التأهيلي-الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط.