التنويريفكر وفلسفة

مفهوم الصفح؛ جذوره الثيولوجيَّة وامتداداته السياسيَّة في فلسفة حنة آرندت

الملخص:

يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على مفهوم الصفح وتطبيقاته السياسية في فلسفة حنة آرندت، وذلك باعتباره كرما أخلاقيا يترفع على الجزر الجنائي والانتقامي، ويسمو على منطق العدالة الآن نفسه، ويستهدف العلاقة المعقدة التي تربط الظالم والمظلوم دون أي تدخل خارجي، وإذا كان البعد الجزري هو المسيطر على منطق العدالة، فإن الصفح يستهدف ما هو أسمى من ذلك، العالقة الإنسانية التي تربط بين الجلاد والضحية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يخترق الصفح استراتيجيات وهيئات المصالحة، وذلك على اعتبار أنها تهدف إلى طي صفحة الماضي لكن على حساب إلغاء ذاكرة الضحية، يصعب على الإنسان نسيان ما لا ينسى، وجبر ما لا يقبل الجبر، وتعويض ما لا يقبل التعويض فهي أفعال تتجاوز استطاعة الانسان على الاستيعاب والتقبل، لهذا يبقى السبيل الوحيد لتجاوز هذه الأزمة متضمن في الصفح.

The summary:

This article aims to highlight the concept of forgiveness and its political applications in Hannah Arendt’s philosophy, viewing it as a moral grace that transcends punitive and vengeful measures, and rises above the logic of justice itself. Forgiveness targets the complex relationship between the oppressor and the oppressed without any external intervention. While retributive justice dominates the logic of justice, forgiveness seeks something higher: the human connection between the perpetrator and the victim. On the other hand, forgiveness also intersects with reconciliation strategies and bodies, as they aim to close the chapter on the past, often at the expense of erasing the victim’s memory. It is difficult for individuals to forget what cannot be forgotten, to remedy what cannot be remedied, or to compensate for what cannot be compensated, as these actions surpass human capacity for understanding and acceptance. Therefore, the only way to overcome this crisis is encapsulated in forgiveness.

الكلمات المفاتيح:

الصفح، الضحية، الجلاد، الأخلاق، السياسة، الانتقام، حنة آرندت.


مقدمة:

تُعرف اللحظات والأحداث والمشاريع الكبرى بتتويجاتها ونتائجها، وإذا أُسقطت هذه القاعدة على الحداثة، وافترضنا أن القرن العشرين، هو اللحظة التي بدأت فيها هذه الثمار والنتائج تتوضح، فإن هذا سيفيد النظر إلى الحداثة انطلاقا من انعكاسات هذه الفترة، باعتبارها “حداثة القرن العشرين كان بحق عصر في نظر الفيلسوفة حنة آرندت، على أساس أن مأزومة” الحروب والفواجع؛ إذا ما تم احتساب صور الفضاعة وأشكال التقتيل وأنواع والإبادات ومشاهد التعنيف والتعذيب التي لازمته. وهي عموما أشكال العنف التي يتم تصنيفها ضمن خانة “جرائم ضد الانسانية.” وهذا التبني العلمي والعملي لأطروحة العنف قد وضع الدعاوي التي طرحتها الأنوار في مأزق؛ فما العنف إلا عجز عن تحكيم العقل الذي كان هو الشعار الأساسي الذي استندت عليه الفلسفة الحديثة.

 وقد وصلت بعض المجتمعات التي عرفت أشكالا متنوعة من الصراعات والحروب خلال القرن العشرين  لصيغ انتقالية يستطيعون من خلالها المصالحة مع الماضي وتحقيق العدالة للضحايا، واتخذت هذه الصيغ الانتقالية شكل هيئات مدنية ورسمية تحاول الانتقال من مرحلة العنف إلى والمصالحة، لكن هذه الهيئات أغفلت الجانب الأخلاقي المتعلق بعالقة الضحية بالجلاد، وهذا الجانب يقدم نفسه في مفهوم الصفح، وهو غير مرتبط بهيئات المصالحة وإنما لديه علاقة بالكرم والسمو الأخلاقيين، وعلى هذا الأساس قمنا بالتمييز بين الصفح الأخلاقي والغفران الديني، أي ما هو في استطاعة البشر، وما هو من اختصاص الآلهة. وحده الإله من يحق له أن يغفر ويستر ذنوب وخطايا البشر. وهذا الطابع الإلهي لمفهوم الصفح يجعله صعب التحقق إنسانيا، وعلى هذا الأساس وما يمكن أن نطرحه كأفق إشكالي هو: هل تستطيع الضحية تجاوز ضيق رغبتها في الانتقام إلى رحابة الصفح والتسامح؟ وكيف يكون الصفح سبيلا لتصحيح أخطاء الماضي ودربا الاستعادة ثقة الإنسان الحديث في العيش المشترك حسب حنة آرندت؟

أولا : في الأصول الثيولوجية لمفهوم الصفح

تعود أصول الصفح إلى الدين، إذ يوجد في الديانة اليهودية ثلاث مستويات من الصفح، هناك الصفح البشري، الصفح الملائكي والصفح الإلهي، ويمكن أن نذكر في الصفح البشري مثال صفح يوسف عن إخوته بعد أن ناشده أبوه من خلال وصية أرسلها له أما بخصوص الصفح الملائكي، يمكن أن نذكر مثال المالك الذي أرسله الرب مع موسى لكي يحرس شعب بني إسرائيل في طريقهم للأرض الموعودة[1].

والصفح الإلهي فهو الأكثر حضورا في العهد القديم بالمقارنة مع الصفح البشري والصفح لملائكي، فقد بين الكتاب المقدس في محطات عديدة أن الصفح الصادر من الرب مباشرة له أكثر من شكل ، فهو تجاوز مطلق وإلغاء للعقاب، أو هو إسقاط جزئي للعقاب، فهو تجاوز مطلق أو تأجيل أو صفح مع عقاب جزئي، إذ يتخلى الرب على فكرة العقاب بعد الشروع فيه، وقد بدا الرب في العهد القديم خصوصا فيما يتعلق بأمور الصفح، إله يفضل العقاب على الصفح، فهذا الأخير يتحقق بعد الشروع في العقاب وقد يكون الصفح تأجيلا للعقاب، وقد يضطر الرب لتقديم الصفح كي لا يشكك الإنسان في قدراته.

على هذا الأساس لا يمكن مقاربة مفهوم الصفح دون الحديث عن الخطيئة الاصلية، واختلفت الأديان في صياغة فكرة الخطيئة، ولكنها تتفق في كون أن الخطيئة هي ما يشكل العلاقة بين الإنسان والإله، حيث إن ارتكاب الخطيئة هو نوع من الإساءة للإله، وهي ناتجة عن الدين الذي يحس به الجيل الحالي تجاه الجيل السابق، وتتم بعدم اقتناع الجيل الحالي بما يقدمه من قرابين وطقوس للإله، الشيء الذي يولد لديه باستمرار الإحساس بالتقصير والخطأ، وبالتالي تم تفسير الشر بكونه نتيجة الاجحاف في حق الإله، عدم تقديم الطاعة والعصيان ينتج عنه الابتلاء بالشر. وللتكفير عن الخطيئة والذنب يلجأ المؤمن للتوبة وطلب الغفران والصفح من الاله.

في هذا المقام علينا أن نميز بين الصفح الأخلاقي والغفران الديني، أي ما هو في استطاعة البشر، وما هو من اختصاص الآلهة. وحده الاله من يحق له أن يغفر ذنوب وآثام وخطايا البشر المخطئين، وهو لا يفعل ذلك إلا من أجل أنه يوجد بالنسبة إليهم على فرضية أنهم مخلوقات وأنه خالق. ولكن ما إن نخرج من فكرة الغفران العمودية، وندخل في العلاقات الإنسانية الأفقية الشاسعة، أكانت وثنية أو علمانية، حتى ندخل في ثقافة الصفح وآداب العفو الأفقية، والتي لا تتم إلا بين البشر المتساوين داخل الفضاء العمومي. ويعد أول من قدم صياغة لدور الصفح في الشؤون البشرية هو المسيح الناصري حسب آرندت، هو الذي اكتشف الدور الذي يؤديه الصفح في المجال الانساني[2]. وتنبهنا آرندت إلى هذه الفكرة وتحاول الكشف عن الطابع الانساني للصفح الذي أشار إليه يسوع الناصري باعتباره الناقل لمفهوم الصفح من نطاق الاحتكار الكهنوتي إلى المجال البشري. وذلك على اعتبار أن الحرية غير ممكنة في المجال البشري من دون علاقة أخلاقية مع ما فعلوه من قبل، وسبب التأكيد على واجب العفو نابع من فكرة أن الإنسان لا يعرف ما يفعل، مصدر السؤال عن معنى الصفح وعن ضرورته هو الألم البشري، وليس أي شيء آخر، فإن ما يسبق العفو هو دائما ثقافة الانتقام، وهذا الأخير قديم قدم التاريخ، وهو انفعال حزين نجح في الاستقرار في القلب الانساني وحوله إلى منبت للكراهية.

لا يعني هذا أن الانتقام هو نفسه خطيئة أو إساءة للإنسانية، بل إنه طريقة غير مناسبة لمساعدة الانسانية على الخروج من الاساءة؛ فالانتقام رد فعل غير منتج ولا يخلص لا الفاعل ولا المتفاعل من ثقل الماضي. أما الصفح فهو رد الفعل الوحيد الذي لا يكتفي بأن يكون رد فعل بل ينجز بشكل غير منتظر، وغير مشروط بالفعل الذي أثاره، وبالتالي يحرر من نتائجه كال من الفرد الذي يصفح والفرد الذي يعفى عنه[3].

قد يبدو من الوهلة الأولى أن من يصفح هو شخص تخلى عن نفسه أو عن حقه في الانتقام، ومن ثم أنه قد قبل بالإساءة مثل أي حيوان خائف أو جبان أو مهزوم، لكن الأمر لا يتعلق بالقبول بالإساءة، بل لأننا عرضة للإساءة بشكل عام، فالصفح قبول بهشاشة الكيان الانساني، ومن ثم بالطبيعة البشرية، هذا بالإضافة إلى أن الانتقام لا يحقق العدالة المنشودة، لذا يظل الانتقام رغبة في عدالة مستحيلة، وربما لذلك تبدو كل رغبة في تحقيق العدالة، رغم وجاهتها، انفعالا انتقاميا حزينا. لكن ثقافة الصفح تشير إلى شيء آخر، فهو يشترك مع العقاب في كونه يبحث عن الحل للمشكل، ولا تجد آرندت أفضل دليل على ثقافة الصفح من عاطفة الحب: فقد اعتبرت المسيحية أن المحب فقط يمكن أن يصفح لأنه هو فقط الذي يحمل تقديرا للمحبوب، إلى درجة أنه يكون دائما قادرا على الصفح عنه مهما كان ما فعله، فإنه ينبغي أن يبقى العفو خارج اعتباراتنا تماما هذا الحب يتطابق مع الاحترام كما وضعه كانط، فهو تقدير للشخص من خلال المسافة التي يضعها العالم بيننا، وهذا التقدير مستقل عن الخصال التي يمكن أن نعجب بها أو عن الانجازات التي يمكن أن تقدر على حق التقدير[4].

لن نبدأ أبدا في بلورة مفهوم مناسب للصفح وممارسته في أفق معاركنا الحالية إلا إذا نجحنا أولا في الصفح عن أنفسنا، وذلك يعني نجاحنا في القبول بأنفسنا الجديدة في هشاشتها الحديثة وعرضيتها التاريخية وطرافتها التافهة. لا يمكن أن نفهم مسألة الصفح على الآخر من دون أن ننجح أولا في التصالح مع ذواتنا الجديدة، والقبول بها كشكل مشروع من الانتماء الأصيل لأنفسنا وكقاعدة محمودة للإجابة عن السؤال من نحن؟ ومن لا يقبل بنفسه كما هو، في صيرورته البريئة، لن يمكنه أبدا أن يصفح عن غيره، لأن الصفح عن هذا الغير هو في سره صفح عن الجماعة الأخلاقية التي ننتمي لها، وبالتالي صفح عن طبقة ما من طبقات أنفسنا.

إن الصفح على الذات هو الذي يجعل ثقافة ما تتخلى عن أخلاق الكبرياء وتقبل أخيرا بثقافة الصفح، فطالما يحتفظ شعب ما بآخر داخلي أو خارجي يمارس عليه أفعال حمقاء يقتات منها كل انفعالاته الكئيبة، هو لن ينجح أبدا في اعتناق ثقافة الصفح والتحلي بها كأدب عمومي لمواطنيه، ولا يكون المواطن صفحا إلا إذا بدأ أوال بالفصل الاختياري بين خلق الكبرياء، الذي تحتاج إليه كل ممارسة دعوية، وأدب الصفح، الذي تقوم عليه كل حياة حرة.

ثانيا: في المسؤولية

 لما كان الإنسان فاعل للشر يتسبب عمدا في إحداث الأذى لتحقيق أهداف أنانية وشخصية، فإنه بذلك يكون مسؤولا عن نتائج أفعاله. وللمسؤولية حمولة أخلاقية من جهة وحمولة سياسية من جهة أخرى. وقد اهتمت آرندت بمفهوم المسؤولية على ضوء الشرط الإنساني الذي يقوم على الوعد وعلى تحمل مسؤولية العيش الجماعي[5]، وأنتجت من خلالها كتاب المسؤولية والحكم والذي يشكل -إلى حد ما-امتدادا لاهتماماتها بمحاكمات القرن، وعلى رأسها محاكمة أيخمان، وما تستدعيه هذه المحاكمات من نقاش حول المسؤولية وغياب ملكة الحكم في ظل غياب ملكة التفكير.

بدأ اهتمام آرندت بمشكلة الشر والصفح منذ كتابها أصول التوتاليتاريا، والمشاكل السياسية والأخلاقية التي طرحها صعود هذه الأنظمة التوتاليتارية لسدة الحكم، وكتاب  “أيخمان في القدس” فهو تغيير في مسار تصور حنة آرندت لمفهوم الصفح، والذي انتقلت فيه من دراسة الشر كأساس للأنظمة الشمولية إلى الشر باعتباره فعال عبثيا وتافها. وتحليل آرندت للشر باعتباره تافها وعبثيا كان تحليلا فينيومينولوجيا، انطلقت فيه من واقعة تاريخية ومن خلالها أسست تصورها لمفهوم الشر. فهل يمكن محاكمة أيخمان كمسؤول عن كل الجرائم النازية؟

في هذا السياق تطرح المسؤولية مشكلة من خلال بعدين : بعد فردي وبعد جماعي، وإذا  تم التركيز على البعد الفردي من خلال محاكمة أيخمان قانونيا، سيتم إغفال البعد الجماعي للمسؤولية، وذلك على اعتبار أن المسؤولية في النظام النازي لم تكن فردية بل كانت جماعية، والمسؤولية في النظام النازي كان الكل يملكها ولم تكن لشخص بعينه، فقد عمل النظام النازي على تعميم المسؤولية على عدد كبير من المسؤولين، وهذه إحدى خطط  الأنظمة الاستبدادية التي تقوم على تحرير المنفذين من المسؤولية ، وبهذه الطريقة يتم تجريد المنفذين من الضمير الذي يصاحبها، وبالتالي صارت أخالق المنفذين عبارة عن طاعة عمياء يغيب عنها كل وازع أخلاقي، وتهتم بإتقان العمل دون الأخذ بيعين الاعتبار الأضرار  الناتجة عن ذاك الفعل. وبهذا تكون البيروقراطيات أداة لنزع المهارات الأخلاقية[6].

حين يتم تعميم المسؤولية تبقى الضحية في صراع وهمي مع مسؤولية جماعية، فالمسؤولية دائما ما تكون فردية، إنها شخصية وتتجه نحو أفعال وسلوكيات وليست مجرد نيات[7]. ولكي تتحقق المسؤولية الجماعية يجب أن تتوفر على مسألتين أساسيتين: تتمثل الأولى في أن يكون كل شخص داخل التنظيم مسؤولا عن الأفعال التي يتم ارتكابها، حتى وإن كان شخص واحد هو الذي أمر بالفعل والمسألة الثانية وهي أن التنظيم الذي ينتمي إليه منفذي الأوامر تقوم بحماية الأفراد داخل التنظيم، وتقول حنة آرندت في هذا السياق: يجب أن أكون مسؤولا عن فعل لم أقترفه، بيد أنني قد أكون مشاركا فيه بطريقة غير مباشرة، ثم يجب أن تكون الجماعة المسؤولة مسماة بحيث ترخي بظلالها على أحد الأعضاء الذين  اقترفوا أو شاركوا في الفعل أو على الأقل اقترف الفعل باسمها[8] .

على هذا الأساس، وحين تحضر المسؤولية الجماعية يغيب الذنب الفردي ويذوب في الجماعة، والتاريخ الإنساني يعج بأمثلة عن مجرمي الحرب الذين لم يحسوا بذنب ما ارتكبوه من جرائم، من بينهم أيخمان الذي قال بصريح العبارة: لم أكن أنا الشخص الذي ارتكب الجرائم، لم تكن لدي لا الإرادة ولا السلطة، ألن أرتكب ما ارتكبته، لم أكن سوى منفذ صغير للأوامر[9]. فقد كان أيخمان مقتنع أنه ليس هو المجرم الشرس كما تم تصويره في المحاكمة، وتأنيب الضمير الذي كان من الممكن أن يحس به، كان سيكون في حالة لم يقم بتنفيذ الأوامر[10]. في حالة أيخمان يبدو مفهوم المسؤولية فضفاضا وغير واضح، وفي المحاكمة كان يفتخر بكونه شخصا قام بتنفيذ أوامر رؤسائه دون أن يبدي أي قدرة على التحليل والتفكير، فهو من خلال هذا الفهم ليس شخصا معاديا للسامية، فإذا كانت لديه أطماع شخصية، ذا كان بالفعل يحمل شرا جذريا، كان بإمكانه القضاء على رئيسه واستلام الحكم.

على هذا الأساس وصفت آرندت حالة أيخمان بالآلة التي فقدت القدرة على الحكم، الشيء الذي جعله بدون وعي منه يسقط في الشر المبتذل، فصار أشبه بالبهلوان الذي فقد القدرة على تحكيم العقل والوعي بأفعاله على حد قولها. هذه الهالة التي وضعت على شخصية أيخمان تحمل قدرا من الأسطورة. كان لهذا التصور صداه في الفكر الفلسفي المعاصر، حيث اتجه ريكور في تصوره لمفهوم الشر إلى نزع الأسطرة عن مفهوم الشر، وهنا يجب أن نميز بين إزالة الأسطرة من جهة واستبعاد الأسطورة بصفة عامة من جهة أخرى، فإزالة الأسطرة تعني رفض الأسطورة بوصفها تفسيرا من أجل تحريرها بوصفها رمزا، وتنتمي هذه العملية إلى ما أسماه ريكور الحقا بهيرمينوطيقا الارتياب أو التدمير، أي ممارسة العنف على النصوص.[11]

في هذه الحالة يجب أن نميز بين أن يكون الشر جذريا وبين أن يكون الشر ناتجا عن قصور في التفكير. هذا ألنه ليس من الضروري أن يكون كل فعل شرير صادرا عن شخصية شريرة. تهدف آرندت إلى توضيح الخط الفاصل بين الفاعل والفعل، حيث أن الشر في بعض الأحيان يصدر عن شخصية طيبة وخيرة، الشيء الذي من شأنه أن يغير فهمنا للشخصية الشريرة. لهذا فالأمر يتطلب توسيع دائرة النظر لبلوغ فهم عميق لظاهرة الشر في علاقتها بالمسؤولية، وقد ذهبت آرندت في تفهمها لحالة أيخمان لحد اتهمها فيه البعض أنها  تدافع عنه [12]، ويعتبر لجوء حنة آرندت لعبارة إبتذال الشر في تفسيرها لحالة أيخمان من شأنه أن ينفي كل نية ذاتية الاقتراف الشر وجعل كل الناس ضحايا، علاوة على ذلك، أعتبر بعض منتقديها أن عبارتها تفاهة الشر تقر باستعداد كل شخص على أن يكون شريرا، وبمعنى آخر فعبارة “تفاهة الشر” تحمل في ذاتها شرا جذريا، بمعنى انه يمكن ألي شخص كيفما كان أن يتحول أيخمان في نسخة أخرى، وتفهم حال أيخمان من شأنه أن يجعل القتل مباحا بدعوى هشاشة الطبيعة البشرية وانزلاقها نحو العنف والتدمير.

كانت آرندت على علم بمثل هذه الاعتراضات[13]، وقد وضحت أن أيخمان يتحمل مسؤوليته الفردية، وتفاهة الشر ال تجعله بريئا من الجرائم التي تم اقترافها. انتبهت الفيلسوفة إلى أن عبارة تفاهة الشر ال تعني أن الشر يأتي عرضا، وأيضا ال تحمل في ذاتها أي فهم منطقي وعقلاني للوضع البشري، فالتفاهة تحيل هنا إلى محايثة الشر للحياة الإنسانية اليومية والتي ليس من الممكن توقعها، أو وضع قانون مسبق يحكمها ويتوقعها.

تهدف آرندت من عبارة عبثية الشر وتفاهته إلى بيان حدود مسؤولية الأفراد الذين كانت لهم يد في ارتكاب جرائم تسمى جرائم ضد الإنسانية. وعليه ترفض أن تقبل مسألة المسؤولية الجماعية ساعية إلى تبيان المسؤولية الفردية، التي تحمل في ذاتها آثار مسؤولية أخلاقية ترتبط بالفكر والقدرة على التفكير. وما يسمح بهذه المسألة هو أن هناك حالات كثيرة قد كانت في كنف الجرائم والحرب، لكنها رفضت أن تكون آلة للتعذيب أو القتل لكن في نفس الوقت كانت عبارة عن جماهير تكتفي بمشاهدة المشهد العالم. وتذهب آرندت إلى اعتبار إن امتناع انسياق هؤلاء نحو ارتكاب الجرائم جاء نتيجة لسيطرة ضميرهم الأخلاقي، وقد شكلوا حالات استثنائية، وفي هذا السياق تقول الفيلسوفة: لقد اختار هؤالء الموت عندما أجبروا على الماركة في الجرائم، ويمكن القول بشيء من المرارة إن امتناعهم عن القتل لم  يكن استجابة للقانون الأخلاقي “ال تقتل”، بل إنهم لم يرغبوا في العيش مع المجرم الذي  سيسكنهم بعد القيام بتلك الأفعال[14].

تشير آرندت بهذا القول إلى أهمية الحوار الداخلي مع الذات، وأثره في تقوية ملكة التفكير والحكم إدراك المسؤولية الأخلاقية التي يتحملها الإنسان تجاه نفسه وتجاه العالم ال يتطلب ذكاء خارقا وإنما وانصات للضمير الأخلاقي الداخلي، ويمكن القول إن آرندت استندت -في هذا السياق-لكانط، وال سيما مقاله ما الأنوار؟ والذي حث فيه على استخدام العقل[15]، وذلك على اعتبار أن الفكر ليس مفهوما من المفاهيم المتعالية على الواقع المعيش، نما ملتصقة به وتنتمي إليه.

هذا هو المدخل الذي انطلقت منه آرندت لفهم مشكلة المسؤولية، وهو في مدى قدرة الفرد على فتح حوار داخلي مع الذات والتصالح معها، هذه القدرة التي كشفها سقراط في  البداية واعتبرتها آرندت عنوان تجربة العيش المشترك في المدينة اليونانية. وعليه فالأساس الذي نبني عليه المسؤولية ليس خارجيا هو ذاتي، يكمن في مدى تصالح الإنسان مع ذاته وتوافقه معها.

كشف تصور آرندت للمسؤولية تقاطع الأخلاق مع السياسة، حيث يمكن إدانة أيخمان إدانة أخلاقية لعجزه على تحكيم عقله وتغليب صوت الضمير الأخلاقي على الانصياع الأعمى للأوامر، ومعايير الأفعال الأخلاقية هو التصالح مع الذات، والمسؤولية في آخر المطاف فردية وليست جماعية، واعتقاد أيخمان الذي يعتبر فيه أنه كان يقوم بواجبه، ووضح في أكثر من مناسبة أنه كان وفيا لمبادئ الواجب الأخلاقي كما صاغها كانط، لا يمكن أن يكون مقبولا حيث لا يمكن للمبدأ الأخلاقي أن يتحول إلى مصوغ لأفعال غير أخلاقية، ولعل هدفها من الإشارة إلى هذه النقطة هو التنبيه إلى خطورة إفراغ الواجب الكانطي من أساسه النقدي، والذي يتمثل في ملكة الحكم.

ثالثا: الصفح والوعد

تدخل الأفعال التي لا تقبل مبدأ التقادم حيز اللامنسي unforgettable، فيمكن للضحية أن يصفح عن جلاده لكن ليس من الممكن نسيان بشاعة الجرائم التي تم ارتكابها وطريقة تنفيذها، على اعتبار أنها تدخل حسب جانكليفيتش في إطار الأمور التي لا تقبل التعويض ولا تقبل الاصلاح، وغير قابلة للمحو، ولا تقبل العودة، وغير قابلة للنسيان، ولا يمكن إلغاؤها. وفي نفس الإطار تندرج رؤية حنة آرندت للصفح؛ يمكن للصفح أن يكون ممكنا إذا اقترن بالوعد، وذلك على اعتبار أن الإنسان الحديث قد فقد ثقته في العيش المشترك، وعدم نسيانه لما حدث من جرائم بشعة من شأنه أن يعمق غربته وتقوقعه الذاتي،  لذلك تلقى كل محاولة لتصحيح أخطاء الماضي والتصالح ترحيبا كبيرا، ألن التحدي الذي يواجه الانسان الحديث هو تحدي التجاوز ،وفي هذا السياق يظهر الصفح كفرصة يستطيع الإنسان من خلالها التصالح مع الماضي[16] وبداية صفحة جديدة، ويستند الصفح على إشكال أساسي وهو: ألا يستطيع الإنسان الصفح عن نفسه فلو تركنا لأنفسنا  سنتيه من دون قوة أو هدف[17]، فالقدرة على الصفح المقرون بالوعد تأخذ بعين الاعتبار التعددية الإنسانية، وتتأسس على الواقع المعيش في جانبه الاجتماعي والسياسي، فال يمكن أن يتحقق الصفح دون وجود الآخر، هذا الأخير الذي يتيح لنا إمكانية الصفح والوعد بهدف العيش المشترك.

تتيح ملكة الوعد أو التعهد في هذا الوسط الذي يسيطر عليه الشك والخوف من المستقبل، جزرا آمنة بدونها لا تكون أي استمرارية ممكنة على صعيد العلاقات الإنسانية[18] فالتخلص من حالة اللاعودة في الفعل تكون ممكنة في الصفح، لأنه يحمي من التغيرات التي يمكن أن يحملها المستقبل، وباقترانه بالوعد فهو يعطي إمكانية لتجاوز مآسي الماضي الأليمة والمضي قدما في العالقات الاجتماعية، فلو ظل الإنسان سجين الماضي وأحداثه سيكون مآله آنذاك السقوط في اللامعنى، وبالتالي سوف يفقد ماهيته باعتباره كائنا فاعلا. لولا الصفح صفح الآخرين علينا لما استطعنا التخلص من أعباء أخطائنا وأفعالنا، ولبدت  قدرتنا على الفعل عاجزة وحبيسة فعل واحد ملتصق بنا[19] ، وعدم التزام الجلاد بالوعد والتعهد على عدم القيام بالأفعال القديمة مجددا سيتكرر الماضي بمآسيه، وهذا الأمر ليس من الممكن أن يتم في غياب الغير، حيث ال يمكن لشخص أن يصفح عن نفسه وأن يتحمل أعباء تعهد قطعه على نفسه، فلا معنى لملكتي الوعد والصفح في غياب أفق إنساني تعددي.

 من هنا يظهر أن حنة آرندت تضفي على الصفح طابعا سياسيا، والذي يتجلى في المجال العمومي كأفق للعيش المشترك وكمجال مناسب لممارسة الصفح، وتحيل في هذا السياق على العمق الديني الذي يحمله مفهوم الصفح التي تعود للمسيحية والمرجعية الدينية تأكيد على اتساع أفق الصفح؛ فالأخطاء الإنسانية كثيرة ومتعددة، لهذا يجب أن يكون الصفح حاضرا لكي يضمن الإنسان سير الأمور في مجراها العادي، ولكي يشعر بالتحرر والحرية التي تنتج عن فك ارتباطه بما فعله من أفعال خطيرة ومشينة. لكن كيف يمكن التعايش وقبول الصفح في ظل سيطرة الرغبة في الانتقام على الانسان؟

تعتبر آرندت أن الصفح يستلزم القطع بصفة نهائية مع ثقافة الانتقام، حيث تقول: يقتضي الصفح التخلي عن الانتقام، حيث أن هذا الأخير هو ضد الصفح تماما، وذلك على اعتبار أن الانتقام يقوم على رد فعل ضد عثرة أصلية، فالانتقام في آخر المطاف هو انحصار الفعل داخل دائرة الماضي الضيقة، وتوق لإحياء ما حدث، وهو من ناحية أخرى رد فعل طبيعي وعادي ضد الظلم والقهر والشر، إلا أنه يعيد إنتاج ذاته، مما يحول دون وجود بيئة تضمن العيش المشترك المبني على الثقة. فالانتقام يسجن الضحية في دوامة الماضي ويحبس فاعليته الإنسانية، والضحية ال تريد وعودا بالانتقام لمعاناتها، وال الشفقة والرحمة، بل ما تريده هو العدالة[20]. إن الصفح بهذا المعنى ليس فقط أفقا لبداية عصر جديد تسوده الثقة والتعايش، بل هو أيضا عالج آلام الماضي.

هنا يمكن أن نتحدث عن العقاب الذي يمتلك صفة جوهرية تجمعه مع الصفح وهي محاولة وضع حد للنزاعات والجرائم بشكل خاص وللشر بشكل عام. فلو تركنا كل شيء كما هو لاستمر إلى ما لا نهاية[21]، فالصفح والانتقام يهدفان بالدرجة الأولى إلى الحد من أعمال العنف والشر لكن الفرق يكمن في أن العقاب أو القصاص يأخذ توجها إلزاميا قانونيا في حين أن الصفح صبغة أخلاقية إلتزامية، فالناس غير قادرين على الصفح عمن لا يستطيعون معاقبته، وغير قادرين على تنزيل العقاب عما يبدو لهم غير قابل للصفح[22].

إن أفعال الهدم تبعث على النشوة، لكن هذه الأخيرة ال تدوم طويلا، شأنها في ذلك شأن الانتقام، وبهذا المعنى يكون للصفح سمة مشتركة مع الفعل، تماثل تماما تلك التي نراها في أعمال البناء[23]، يتشابه الصفح والفعل في مسألة البناء، كالهما يرومان إلى الانفتاح على المستقبل وبناء عصر جديد يتجاوز الماضي.

ما يجعل الصفح فعال صعبا هو طابعه الأخلاقي الذي يروم التخلي عن العقاب والانتقام، فهو يتطلب كرما وطيبة أخلاقية تتجاوز الرغبة الملحة في الهدم وأخذ بالثأر، ويقوم على القاعدة الأخلاقية: بدل الرد على الشر بالشر، يجب مقابلة الشر بالخير، وإذا كان فعل الصفح فرديا فإن الرحمة غالبا ما تكون فعال سياسيا[24].

يتضمن الصفح تفهما للذات الإنسانية واحتمالية وقوعها في الخطأ، بمعنى تجنب اختزال كائن إنساني في الجريمة التي ارتكبها[25]. لذلك عوض أن تتم معاقبة الفاعل بإجراءات قانونية، الأحرى هو تفهم هشاشة الطبيعة البشرية واحتمالية ارتكابها للشر، على اعتبار أن التفهم يحمل في طياته وعيا بكون أن المجرم إنما كان يهدف إلى جلب الخير لخدمة التوجه الأيديولوجي الذي ينتمي إليه، والذي يحمل في ذاته وعدا بالخالص، كما هو الحال بالنسبة للنازيين[26].

وفي هذا السياق يكتسب الصفح معنى أخلاقيا، ينأ به عن العقاب بما هو سلوك إجرائي قانوني، يحمل في ذاته نوعا من الانتقام، لكن الفرق بين الانتقام والعقاب يتجلى في كون هذا الأخير ال يعيد إنتاج نفسه كما هو الحال في الانتقام، والعقاب لديه منطقه القائم على العدالة القانونية وليس عبثيا وفوضويا. لكن الصفح يسمو عن هذين الفعلين ألنه يحمل في ذاته نوعا من التفهم للهشاشة البشرية. فهناك عالقة وطيدة بين الفهم وعدم الانتقام، كان  فيكتور هيجو يقول: إنني أحرص على الفهم حتى أتمكن من ممارسة الصفح[27] . والصفح رهان أخلاقي يبتغي بعث واعادة إحياء المذنب من جديد، وهو رهان حول إمكانية تغيير المذنب

إن الصفح ككرم أخلاقي يعطي للمذنب فرصة حياة جديدة، وذلك بفتحه على إمكانية الاندماج مرة أخرى داخل المجتمع من ناحية، ومن ناحية أخرى، يفتح أفق التغيير وعدم تكرار زالت الماضي.

ويمكن القول في هذا الصدد إن تأثير فلسفة كانط يتجلى في فلسفة آرندت خاصة فيما يتعلق بمسألة الصفح. لقد انتبه كانط إلى أهمية فكرة السلم بشكل كبير وهذا ما يوضحه في  كتابه السلم الدائم ، وهذا الأخير هو دعوة إلى إنشاء اتحاد بين الشعوب بغاية القضاء على الحرب ونتائجها المرعبة. رغم اعترافه سابقا بالدور الحضاري للحرب. وعلى هذا الأساس يعتبر كانط أن الحرب ليست هي أكبر الشرور فحسب، بل حتى فكرة إمكانية قيام حرب مستقبلا هي فكرة مرعبة، إن أي معاهدة من معاهدات السالم ال تعد معاهدة إذا انطوت نية 1 عاقديها على أمر من شأنه إثارة الحرب من جديد[28]، ومنه قد يعتبر ذلك سببا لحماية الحرية وتجنب الاستبداد والقضاء عليه في آن واحد. وقد كتب كانط كتابه بصيغة شروط محددة بين فيها المسائل المهمة التي من شأنها أن تقضي على الحروب، وكانط ال يقدم من خلال كتابه نموذجا لسلم مؤقت بل هو عبارة عن مشروع سلم دائم وشامل وكوني، وهو بذلك ينقله من المستوى السياسي إلى المستوى الأخلاقي النابع من مباد العقل العملي.

ولا يتحقق السلم حسب كانط بناء على حب الإنسانية فقط بل من خلال نهج حقوقي عام بين جميع البشر، ويقوم هذا النهج على أساس اتفاق مدني يلتزم فيه الجميع دون استثناء، ألنه لو تم إقصاء شخص أو طائفة من ذلك الاتفاق أو التعاقد، تبقى فرصة العودة إلى الحرب قائمة دائما. ومن الأسس التي يجب أن تطبع هذا التعاقد هو أن يكون قائما على الحق، ويكون ضامنا للحرية، وذلك عن طريق تقييد تلك الحرية لكي تندمج وحرية الآخرين، أي بشكل ال تتعارض فيه مع حرية الآخرين، ويتم ذلك عن طريق سن قوانين يخضع لها الجميع دون تمييز. ويؤدي ذلك بالضرورة إلى تقليص مجال الحرية المطلقة لكنه في نفس الوقت يحقق الحرية بالفعل لكون السلم الدائم يتوقف على ذلك، وعليه ال يجوز ألي 2 دولة أن تتدخل بالقوة في نظام دولة أخرى أو في طريقة الحكم فيها[29]، وذلك ألن الدول ليست بضاعة، بل هي عبارة عن تجمعات إنسانية ال يجوز ألحد التحكم فيها سوى هي نفسها، فهي مستقلة بذاتها. الأمر الذي دفعه للقول بضرورة إلغاء الجيوش الدائمة إلغاء تاما على مر الزمان[30] ، ذلك ألن الجيش في استعداد دائم للقتال وهذا الأمر ما يجعل الدول الأخرى في إحساس دائم بالتهديد المستمر، وأيضا يؤدي ذلك بالدول إلى التنافس والتسابق إلى التسلح. ويضيف كانط بنظرة أخلاقية واضحة بقوله أن استئجار الناس للحرب يعتبر بمثابة تحويلهم إلى آلات في يد الدولة، وهذا يتعارض بوضوح مع حقوق الإنسان. ويورد كانط هنا مقابلة بين هذه الحالة والحالة التي يتطوع فيها المواطنون للتدريبات العسكرية من حين آخر من أجل ضمان سالمتهم وسالمة أوطانهم من العدوان الخارجي.

بالرغم من توافق آرندت وكانط حول مسألة ضرورة وجود السلام والصفح، إلا أن طريقة مقاربتهما للمبدأ تختلف بشكل نهائي، حيث يمكن القول إن كانط قد ركز في مقاربته على العالقات الدولية لتجنب الدخول في حروب كونية، في حين ركزت آرندت في مقاربتها لمفهوم الصفح على العالقة بين الضحية والجلاد، وأيضا ألن مقاربتها تأخذ طابعا أخلاقيا أكثر مما هو تقني وقانوني إجرائي، في حين أن الشروط التي وضعها كانط تأخذ صبغة قانونية كونية، لكن هذا لا يعني أن كانط قد أغفل الجانب الأخلاقي وإنما  مشروع السلم الدائم هو نموذج تطبيقي لفلسفته الأخلاقية. وعليه يمكن القول إنه رغم تقاطع التوجهين في طريقة تناول السلم والصفح إلا أن الغاية واحدة، وهي عدم تكرار مآسي الماضي، فالسلم الدائم مشروع يهدف إلى تجنب الحروب حاليا ومستقبلا، و آرندت في تركيزها على عالقة الضحية بالجلاد هدفت إلى عدم تكرار أخطاء الماضي.

خاتمة:

ما يمكن استخلاصه مما سبق هو أن الصفح حسب آرندت باعتباره كرما أخلاقيا يتجاوز المنطق الجنائي والمنطق الانتقامي، ويتجاوز منطق العدالة أيضا، حيث يتعلق في عمقه بالعالقة العميقة التي تربط بين الجلاد والضحية دون دخول أو وجود طرف ثالث، فالعدالة تظل سطحية ولها بعد تقني قانوني، في حين أن الصفح يستهدف ما هو أكبر من ذلك ونقصد، العالقة الحميمية بين الظالم والمظلوم. كما أن الصفح يخترق منطق الاستراتيجيات وهيئات المصالحة، وذلك على اعتبار أن هذه الهيئات تهدف إلى طي صفحة الماضي لكن على حساب إلغاء ذاكرة الضحية فليس من الممكن نسيان ما لا ينسى، وجبر ما لا يقبل الجبر، وتعويض ما لا يقبل التعويض فهي أحداث تتجاوز قدرة الانسان عل الفهم والتقبل، فالسبيل الوحيد لتجاوز هذه المسألة هو التحلي بقيمة الصفح.


[1] – الكتاب المقدس، العهد القديم، صموئيل الأول ، 23-2- الخروج ، 17-، 19 – المزمور 11-9.

[2] – Hannah Arendt, The human condition, University of Chicago Press, Second edition, 1998, p. 304

[3] – Ibid, p. 307.

[4] – Ibid, p. 309.

[5] – Hannah. Arendt, Responsibility and Judgment, Edited and with an introduction by Jerome Kohn, schoken books, New York, 2003, p. 88

[6] – زيجمونت باومان، الخوف السائل، ترجمة: حجاج أبو جبـر ، تقديم: هبة رؤوف عزت، بيـروت: الشبكة 176 العربية للأبحاث والنشر، 2007،ص. 124 .

[7] – Hannah Arendt, Responsibility and Judgment, op, cit, p: 198

[8] – Ibid, p-p: 201-202

[9] – حنة آرندت، إيخمان في القدس/تقريـر حول تفاهة الشر، ترجمة نادرة السنوسي، تقديم علي عبود 180 محمداوي، بيـروت: ابن النديم للنشر والتوزيع ودار الروافد الثقافية، 2014، ص 15.

[10] — المصدر نفسه، ص. 16 .

[11] — بول ريكور، صراع التأويلات، ترجمة: منذر عياشي، بيـروت: دار الكتاب الجديد، 2005 ،ص. 451 .

[12] -Emmanuel Faye, Arendt et Heidegger: Extermination nazie et destruction de la pensée, Paris, Albin Michel, 2016, p. 297 .

[13] -Hannah. Arendt, Responsibility and Judgment, op. cit, p. 65 .

[14] -Ibid, p. 97.

[15] -الأنوار هي خروج الإنسان من حالة القصور التي هو نفسه مسؤول عنها؛ وهذا القصور، أي العجز عن استخدام العقل من دون توجيه من الغيـر.

أنظر: إمانويل كانط ، ما هي الأنوار ، تعريب وتعليق: محمود بن جماعة، تونس: دار محمد علي للنشر، 2005 .

[16] -يمكن تعريف التصالح تبعا لثلاثة أصناف أساسية: الصنف الأول وهو الذي يعنى بالتكافل والتعايش السلمي، هذا الصنف يفتح أفقا للتجاوز أخطاء الماضي وتعايش السلمي بين الأفراد سواء كانوا ضحايا أو جلادون، لكن هذا ال يعني أن يتم نسيان الجرائم وتجاهلها، وإنما هي نوع من التجاوز والتغاضي في سبيل العيش الجماعي، والقطع مع سياسة العنف، لأن العنف ليس من شأنه إلا أن يخلق عنفا من نوع آخر. والصنف الثاني يكمن في المصالحة كأساس لبناء الثقة في الفضاء العمومي، بحث تصبح العالقة بين الجلاد والضحية عالقة ثقة وهي التي عبـر ت عنها حنة آرندت بالوعد، والذي يفتح أفقا للعيش المشترك دون خوف من عودة العالقة القديمة بين الضحية والجلاد، وهذه الثقة هي التزام داخلي وليست إلزام قانوني خارجي. والصنف الثالث والأخير هو الذي يتخذ من الاعتذار أساسا له، والاعتذار هنا يقصد به طلب العفو والصفح، وهو فعل أخلاقي. للمزيد من التفاصيل يمكن الاطلاع على كتاب :

-Pablo de Greiff, Le rôle des excuses dans les processus de réconciliation nationale, in, La mémoire et le pardon, les commissions de la vérité et de la réconciliation en Amérique latine, Arnaud martin, 2009, p-p. 214-225

[17] -بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، تقديم وترجمة وتعليق: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة ، 2009، ص 702.

[18] – Hannah Arendt, The human condition, op. cit, p. 237 .

[19] — حنة آرندت، استحالة الرجوع إلى الوراء والصفح كأفق مفتوح، ضمن كتاب المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة، مجموعة من المؤلفين، ترجمة حسن العمراني، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، ص:54 .

[20] -Hannah Arendt, Penser l’événement, tr. par Claude Habib, Paris, Belin, 1989, p. 120 .

[21] -Hannah Arendt, The human condition, op, cit, p. 241 .

[22]– Ibid, p. 241 .

[23] -Ibid, p. 241 .

[24] – إدغار موران، الصفح مقاومة لبشاعة العالم ، ضمن كتاب المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة ، ص:41 .

[25]– المصدر نفسه، ص:42 .

[26] -تقوم الإيديولوجية النازية على حلم إقامة دولة ألمانيا العظمى التي تتأسس على سيادة الجنس الآري وتفوقه 200 على باقي الأجناس الأخرى، كانت رؤيا الحزب واسعه المبنية على التنظيم والعدالة الذريعة الأولى التي جعلته يقوم باحتلال مناطق واسعه في العالم وارتكاب مجازر وحشية.

[27] -إدغار موران، الصفح مقاومة لبشاعة العالم ، ضمن كتاب المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة ، ص. 44

[28] — إيمانويل كانط، السلم الدائم ، ترجمة: عثمان أمين، القاهرة: مكتبة األنجلو المصرية، 1952 ،ص. 23 .

[29] – المصدر نفسه، ص. 29 .

[30] – المصدر نفسه، ص. 26 .

_________
*الدكتورة يسرى الهراق/ جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة