دولة (56): في العلاقة بين التشكُّل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، والحروب والثورات عقب الاستقلال

image_pdf

حرب 15 أبريل نموذجا:

ملخَّص البحث:

في 15أبريل اندلعت الحرب في السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وكان السودان قد اختبر عقب الاستقلال، أزمنة متطاولة من الحروب والثورات والتي تمخضت عن توقيع أكثر من 46 اتفاقية للسلام، والتي نفترض هنا وجود آليات بنيوية تعمل على إنتاج هذه الحروب ويطرح هذا البحث، نموذجا تفسيريا يربط بين حرب 15 أبريل وجميع الحروب السابقة التي انتظمت تاريخ السودان، والتشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان؛ وذلك عبر تتبع التحولات الجذرية التي أحدثتها مؤسساتها  الدولة الاستعمارية على مستوى علاقات السلطة والاقتصاد داخل الاجتماع-السياسي السوداني:  ويخلص البحث إلى، أن حرب 15 أبريل وكل الحروب السياسية التي انتظمت تاريخ السودان، تجد جذورها التاريخية في التشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، الذي فرض مؤسسات استعمارية ذات طبيعة احتكارية واستبدادية، تعمل بنيويا على خلق شروطا اجتماعية للحروب والثورات.

كلمات مفتاحية: الدولة الاستعمارية، دولة (56)، الدائرة الداخلية/الخارجية للصراع، التناقض الرئيسي/الثانوي، سياسة المليشيات.

المقدمة:


في 15 أبريل 2023، اندلعت الحرب بين كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في ولاية الخرطوم، وهما القوتان اللتان تشكلان الجيش الرسمي للدولة السودان، الأمر الذي يشير إلى إنهيار المنظومة الأمنية للدولة السودانية، وهو انهيار يؤكده انتقال الحرب التي اندلعت في الخرطوم لتشمل (14) عشرة ولاية من أصل (18) ولاية في السودان، مخلفة أثناء انتقال المعارك إلى هذه الولايات، ملايين النازحين واللاجئين، وعشرات الآلاف من القتلى من السودانيين، نتيجة المعارك الضارية، ويأتي ذلك في ظل وجود تقارير دولية تفيد بأن المجاعة تهدد ما يفوق نصف سكان السودان[1]،  ولعل  نظرة فاحصة لطبيعة هذه الحرب وطبيعة الأطراف الفاعلة فيها، والانقسام الاجتماعي الذي تجذرة داخل المجتمع السوداني كلما طال أمدها وتوسعت؛ كلها تشير إلى أنها حرب بين قوى اجتماعية وتتجاوز التوصيفات السائدة لها حاليا، وإلى أنها حرب ذات جذور تاريخية بعيدة، حيث كما يؤكد تقرير  بعثة تقصي الحقائق (the Independent International Fact-Finding Mission for the Sudan) التابعة مجلس حقوق الإنسان (Human Rights Council-HRC)التابع للامم المتحدة (United Nations-UN)  الذي صدر عقب سنة ونيف على اندلاع حرب 15 أبريل الجذور التاريخية البعيدة لهذه الحرب التي نشير إليها هنا، مقررا ” دخل السودان في دوامة من العنف والتشظي منذ الاستقلال، والذي  كان عنفا مؤسسيا ومتواصلا حتى في أوقت السلام” [2]، ولعل  دوامة العنف والحروب  التي دخل فبها السودان عقب الاستقلال، تشير إلى وجود مشكلات بنيوية في مؤسسات الدولة،خاصة وأنها حروب وتمردات وثورات كانت دائما ما  تنشأ نتيجة المظالم التاريخية ذات الصلة بالتهميش الاجتماعي والتطور غير المتكافئ بين القوى الاجتماعية، حيث أن السودان اختبر أزمنة متطاولة من الصراعات المسلحة،والمعاناة السياسية والحروب التي تمخضت عن توقيع “أكثر من 46 اتفاقية للسلام،  تعاني جميعها من نقطة ضعف مشتركة، وهي التركيز على إنهاء الصراع دون معالجة جذوره ومحاسبة المسؤولين من الانتهاكات الواسعة،”[3] وبغض النظر عن فشل كل هذا الكم من اتفاقيات السلام، إلا أن كل هذه الحروب التي تستدعي هذا العدد الكبير من اتفاقيات السلام، تشير إلى وجود آليات ودينمات تاريخية تؤدي إلى إنتاج هذه الحروب والثورات.

أيضا نشير إلى أن حرب 15أبريل -مثل كل ظاهرة اجتماعية كبرى- ذات جذور تاريخية بعيدة وذات صلة وثيقة بتاريخ تشكل وتطور الأطراف المتصارعة؛ وفي تاريخ تشكل كل من الدعم السريع والجيش على حد سواء، وبالتبع تاريخ الصراع الاجتماعي على الثروة والسلطة في السودان، خاصة وأن هذه الحرب ترتبط بالتناقضات الاجتماعية داخل الدولة السودانية؛ والتي تمظهرت تاريخيا في انقسامات وتناقضات اجتماعية حادة داخل المجتمع السوداني، كانت السبب الرئيس في اندلاع حروب وتمردات سابقة ضد الدولة، وعدد كبير آخر من الحروب الإثنية والقبلية في أقاليم السودان المختلفة. ونشير هنا إلى إننا نصف التغيرات التي تحدثها حرب 15 بالتغيرات المهولة،  نظرا لأن  طبيعية التحالفات العسكرية والسياسية الجديدة التي تفرضها هذه الحرب، تشير إلى حدوث تغيرات جذرية في بنية وعلاقات السلطة في السودان ، وربما دخول الاجتماع-السياسي إلى مرحلة جديدة من تاريخ الصراع الاجتماعي على السلطة في السودان، ولعل ما يؤكد ذلك، أنها تفرض أوضاعا سياسيا واقصادية واجتماعية جديدة في السودان، حاصة عقب أن أصبحت كل من قوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع تتناصفان السيطرة على البلاد، ولعل ما يؤكد جذرية هذه التغيرات هو، أنها باتت تتمظهر حتى داخل القاموس السياسي السوداني، وبشكل خاص مع بروز مصطلحات مثل الجمهورية الثانية، التأسيس الجديد للسودان، نهاية دولة (56)، العقد الاجتماعي الجديد. وكم كبير من المصطلحات، حيث يدلل بروز اصطلاحات سياسية مثل هذه داخل القاموس السياسي السوداني، على أن هنالك واقعا جديدا داخل الاجتماع-السياسي السوداني، يتطلب مصطلحات وتوصيفات سياسية جديدة، وبعبارة أدق، نقرر ن حرب ال15 من أبريل ونتيجة للمتغيرات المهولة التي تفرضها تفرض أيضا، حاجة أخرى إلى توصيفات جديدة للصراع الاجتماعي في ضوء هذه المتغيرات.

تهدف هذه الدارسة  إلى موضعة حرب 15أبريل في سياقها التاريخي ضمن  تاريخ الصراع الاجتماعي على الثرورة والسلطة في السودان،  بغرض إعادة تعريفها وتوصيفها كظاهرة، ونطرح هنا نموذجا تفسيريا يربط بين حرب 15 أبريل وجميع الحروب السابقة في تاريخ السودان، والتشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، وذلك عبر فحص طبيعة أو بنية المؤسسات التي فرضها القوى الاستعمارية وطبيعة السلطة ونظام وأساليب الحكم فيها، إضافة إلى تتبع التحولات الجذرية على مستوى علاقات السلطة والاقتصاد داخل  الاجتماع-السياسي السوداني، وكذلك تتبع التطور التاريخي للقوى الاجتماعية السودانية في علاقتها بمؤسسات الدولة الاستعمارية ، ذلك أن حالة عدم الاستقرار السياسي التي انتظمت البلاد عقب الاستقلال، والتي تمظهرت في عدد لا يحصى من الحروب والثورات والتمردات، هي نتيجة مباشرة لما نسميه بالدولة الاستعمارية وسياساتها، وإعادة انتاجها عقب الاستقلال وسيكون ذلك في أربعة أقسام:  (1)التأسيس الاستعماري الأول للدولة الحديثة في السودان (1821-1885) ويبحث التأسيس الاستعماري للحكم المركزي وللدولة الحديثة في السودان بواسطة الاستعمار التركي المصري، وطبيعة المؤسسات التي فرضها في السودان، وكذلك أهم التغيرات التي أحدثها الحكم المركزي  (2) يبحث التأسيس الاستعماري الثاني للدولة الاستعمارية في السودان: ويبحث طبيعة المؤسسات التي فرضها الاستعمار البريطاني-المصري في السودان، وطبيعة نظام الحكم والسلطة فيها، وأهم التغيرات التي فرضتها بنية الدولة الاستعمارية داخل الاجتماعي-السياسي السوداني وفي تاريخ الصراع الاجتماعي على السلطة في السودان    (3)الدولة الوطنية: إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية: يبحث العلاقة بين الممارسة السياسية للنخبة الوطنية التي حكمت السودان عقب الاستقلال، واستمرار السياسات الاستعمارية، ويفحص أهم التحولات على مستوى علاقات السلطة داخل الاجتماع-السياسي السوداني التي حدثت عقب الاستقلال (4) الدولة الاستعمارية وآليات إنتاج الحروب والثورات حرب 15 أبريل نموذجا: ويبحث العلاقة بين  طبيعة مؤسسات الدولة الحديثة في السودان ونظم وأساليب الحكم وعلاقتها بالحروب والثورات التي انتظمت تاريخ السودان، ويتتبع الجذور البعيدة لحرب 15أبريل بوصفها تتويجا لسلسلة من الحروب ذات الأسباب المشتركة التي ترتبط بالتشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان.

1-التشكل الاستعماري الأول للسودان الحديث:  الاستعمار التركي-المصري(1821-1885)

إن الإطلاع على الأدبيات السياسية السودانية  ، يكفي حتى ندرك أن الإشكالات البنيوية التي تعاني منها الدولة السودانية الحديثة، هي في المقام الرئيسي مشكلات ترتبط بتاريخ تشكل الدولة الحديثة في السودان، وتشكل ما يمكن تسميته بالاجتماع السياسي السوداني الحديث[4]، وبالتالي فإنها أيضا وبدرجة أولىى مشكلات ذات جذور تاريخية بعيدة، يمكن تتبعها حتى إلى ما قبل الفترة الاستعمارية الأولى من تاريخ السودان، والتي سنسميها هنا  بحقبة “السودان القديم”[5] تمييزا لها عن حقبة السودان الحديث، التي تبتدئ بحقبة الاستعمار التركي-المصري (1821-1985)،  ذلك أنه وفي هذه الحقبة قد تشكلت الجغرافيا السياسية للسودان الحالي،  كما أن السودان عرف فيها لأول مرة في تاريخية مؤسسات دولة حديثة، . ولعل أول  ما يجب تأكيده هنا، أن السودان ما قبل هذا التاريخ  (1821) الذي يشير إلى بداية الغذو التركي-المصري، كان مقسما إلى عدة ممالك وسلطنات مستقلة، لكل منها سلطة مركزية وحدود جغرافية منفصلة، كما أن لكل منها نظم وأساليب حكم وعلاقات سلطة واقتصاد خصوصية الطابع تختلف من دولة إلى أخرى ومن إقليم إلى أخر،  وبالتالي أيضا، قوى اجتماعية مختلفة تتصارع كل منها في دولة مستقلة، وبعبارات أخرى، إن المنطقة التي تسمى حاليا بجمهوية السودان وجغرافيتها وحدودها السياسية الحالية،  لم تعرف تاريخيا “الحكم المركزي الموحد”  قبل هذه اللحظة التاريخية. وهنا نقرر أن لحظة الاستعمار التركي-المصري لحظة مفصلية في تاريخ السودان، ذلك أنها أدت إلى تغيرات مهولة في بنية مجتمعات الممالك والسلطنات المستقلة، وفي  علاقات السلطة في جغرافيا “السودان القديم” وكذلك في العلاقات بين المجتمعات التي تشكل الآن الشعب السوداني: لعل أهمها إنشاء حكم مركزي يضم عدة أقاليم كبرى كانت بمثابة دول وممالك وسلطنات منفصلة، ألا وهي المنطقة التي عرفت تاريخيا ب”سنار أو السلطنة الزرقاء” أو “مملكة الفونج” والتي كانت تحكم أجزاء واسعة من شمال وسط وشرق السودان، والمنطقة التي عرفت تاريخيا ب”كردفان”، والتي تسمى تاريخيا ب”سلطنة المسبعات وتقلي”،  وكذلك المنطقة التي عرفت تاريخيا ب”سلطنة دارفور”، وأيضا منطقة جنوب السودان التي تشكل الآن دولة منفصلة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن  لفظ “بلاد السودان” كان يشير إلى جغرافيا تشكل السودان الحالي والمنطقة التي تسمى حاليا ب”منطقة الساحل، وفي هذا السياق، نجد أن الرحالة محمد بن عمر التونسي يوثق هذه الحقيقة التاريخية بدقة، فقد كتب في العام 1803م قبل أقل من عقدين حيث يقول، “أما دارفور فهو الأقليم الثالث من ممالك دارفور، ذلك أن القادم من المشرق إلى بلاد السودان، أول مملكة أو أقليم يعرض له -هو- مملكة سنار، ثم كردفان، ثم دارفور، فظهر أنها الأقليم الثالث، وبحسب ذلك يكون أقليم وداي هو الرابع، والباقرمة هو الخامس، برنو السادس، …”[6]، ونلاحظ أن كلمة السودان -بحسب التونسي- كانت تشير إلى الجغرافيا التي تمتد من ساحل البحر الأحمر حتى منطقة الساحل جنوب الصحراء، وبالتالي إلى عدة ممالك وسلطنات ودول، وليس إلى دولة واحدة ذات حكم مركزي كما  تشير الكلمة الآن،  وبهذا المعنى  فإن لحظة الحكم التركي-المصري، هي لحظة تأسس الدولة السودانية الحديثة وتشكل الجغرافيا السياسية للسودان الحديث، وبالتبع أنحلال وزوال الممالك والسلطنات التي كانت تحكم الجغرافيا السياسية  “للسودان القديم” ما قبل الاستعمار التركي-المصري.

إنه ينبغي أن نفهم أن الحكم التركي-المصري كان العامل الرئيس في تغير العلاقات الاجتماعية والسياسية بين  القوى الاجتماعية غير المتجانسة من حيث اللغة والعرق والدين، والتي كانت لكل منها تاريخ تطور سياسي واقتصادي مختلف، وذلك نظرا لشساعة جغرافيا السودان الحديث التي تضم قوى اجتماعية متباينة وممالك وسلطنات ذات تاريخ وتطور اجتماعي مختلف، وهي شساعة يصفها حاج حمد قائلا: “إن السودان ليس بلدا واسعا فقط، بل هل -وهنا النقطة الخطرة- مجال التدامج القومي لكل شعوب القارة الأفريقية من ناحية، ولتدامجها مع العرب من جهة أخرى”[7]، وما نشير إليه، أن الحكم التركي-المصري أنشأ حكما مركزيا في جغرافيا تضم قوى اجتماعية مختلفة من حيث اللغة والعرق والدين، والتطور السياسي والاقتصادي، الأمر الذي كان مؤذنا بانطلاق دينميات اندماج هذه القوى الاجتماعية المتباينة عبر جهاز الحكم المركزي الحديث، وانطلاق الصراع الاجتماعي  داخل الاجتماع-السياسي السوداني الحديث الذي بدأ يتشكل بالتوازي مع الحكم المركزي. وجدير بالذكر هنا، أن قوى الاستعمار التركي-المصري لم ترسم حدود الدولة السودانية الحديثة، استناد إلى التاريخ السياسي والديموغرافي للمنطقة، وإنما استنادا إلى سياسات الهيمنة العسكرية التي تقوم على ضم المناطق التي تصلها جيوشها إلى جهاز الدولة الحديث، والذي كانت القوى الاستعمارية تعمل على تأسيسه بالتوازي مع ضم المناطق الجديدة إلى سيطرتها، وهنا يقول المؤرخ محمد سيعد القدال “انتقل السودان بعد عام 1821، من نظم سياسية ذات علاقات محدودة بالعالم  الخارجي، إلى كينونة موحدة بدأت تخطو نحو الارتباط بالسوق الرأسمالية العالمية عبر علائق  تجارية وسياسية وثقافية متفاوتة الدرجات “[8]وعلى هذا، فإن الحقبة الاستعمارية التركية-المصرية كانت تؤذن بانطلاق صيرورة الصراع الاجتماعي في جغرافيا السودان القديم في مستوى جديد، مستوى نتج عن تحول القوى الاجتماعية المتباينة، والتي كانت تتصارع بشكل منفصل في الممالك والسلطنات التي أنهتها الدولة الاستعمارية، إلى الاندماج في حكم موحد، الأمر الذي كان يعني أيضا تأسس أجتماع-سياسي وطني سوداني حديث، تتصارع داخله هذه القوى الاجتماعية المتباينة وتتطور تدريجيا بشكل متفاوت، وبعبارات أدق، وبالتوازي  مع تأسيس  الدولة الاستعمارية الأولى، كانت تتشكل ملامح القوى الاجتماعية الرئيسية في الاجتماع-السياسي السوداني الحديث، والتي حتما ستكون متباينة المصالح والطبيعة نظرا لغياب الحكم المركزي تاريخيا في جغرافيا السودان القديم[9]، ومن هنا نقرر أن الدولة الاستعمارية الأولى،كانت أيضا لحظة انتقال الصراع الاجتماعي  في جغرافيا السودان، من مرحلة السودان القديم الذي كان فيه الصراع بين القوى الاجتماعية محددا بالنظم المركزية في الدويلات التي كانت تشكل جغرافيا السودان  القديم، إلى مرحلة الصراع الاجتماعي في السودان الحديث، حيث يتحدد الصراع الاجتماعي  بالدولة المركزية، ويتخذ طابع وطنيا.

أيضا تجدر الإشارة هنا إلى ملاحظة تاريخية مهمة، وهي  أن توغل الجيش الغاذي كان يجد مقاومة شرسة من قبل القوى الاجتماعية في أطراف السودان، حيث نلاحظ أن توغله “في الجنوب استمر حتى (1840) ولم يتم استتباع الأقليم بالكامل، كما أن  توغله في كردفان ودارفور كان تدريجيا حتى (1970)”[10] الأمر الذي يشير إلى أن  تشكل جغرافيا السودان الحالية، استغرق عدة عقود، حيث أن تمدد الحكم المركزي،  دائما ما كان يواجه بمقاومة من قبل مجتمعات “السودان القديم”، وهنا يقول القدال، “إن هذه التكوينات السياسية والإقليمية بدأت بعد العام 1821 تتشكل في كينونة سياسية، هي التي عرفت بالسودان، أن تلك الكينونة لم يكتمل تأسيسها في عام أو بضعة أعوام، بل تواصلت عملية التوسع الاستعماري طوال العهد التركي-المصري حتى آخر حقبة من وجوده”[11] وهو الأمر الذي جعل بنية الدولة الحديثة في السودان ونظام حكمها المركزي الجديد هشة، حيث أن مؤسسات الدولة الجديدة غير متجذرة في الجغرافيا التي أصبحت تشكل السودان الحديث، خاصة في الأقاليم التي تشكل أطراف الحكم المركزي الاستعماري الحديث، ورغم هذا التشكل التدريجي لجهاز الدولة الحديث في السودن، إلا أننا نرجع لحظة تأسيس السودان الحديث كدولة لها جهاز حكم مركزي  إلى العام (1833) ، على الرغم من أن هذا التاريخ يسبق الاستتباع الاستعماري الكامل لكل من جنوب السودان وكردفان ودارفور وشرق السودان، ذلك أن لحظتها “تم  إعلان “الخرطوم” عاصمة إدارية للحكم التركي-المصري، بالتزامن مع فرض نظام ضرائب قاسي، وإنشاء عدة مصالح ومؤسسات حكومية وعدة مظاهر أخرى لجهاز الدولة الحديث والحكم المركزي في السودان”[12]. وهي مؤشرات تكفي لاعتبار هذه اللحظة، لحظة التأسيس الأولى للدولة السوادنية الحديثة الحالية، خاصة أن الضم التدريجي لبقية أقاليم السودان إلى الحكم الاستعماري التركي-المصري، كان يعيد تشكل جغرافيا السودان الحديث التي نعرفها حاليا، بحيث تتخذ العاصمة الموحدة الأولى في تاريخ السودان الحديث صفة مركز الدولة، وتتحول الأقاليم الأخرى شمال، شرق، غرب، جنوب إلى هوامش وأطراف هذ المركز. ونشير هنا إلى أنه ونتيجة لذلك وتدريجا تغير القاموس السياسي القديم ليتم تعريف دارفور وكردفان بأنهما غرب السودان، وكذلك جنوب السودان، وأصبحت منطقة البحر الأحمر تعرف بشرق السودان،  ونشأت بالتبع كل التوصيفات السياسية الحديثة التي نستخدم كثير منها الآن.

في هذا السياق أيضا، نشير أيضا إلى ملاحظة مهمة، تتعلق بالنموذج التفسيري الذي نهدف إلى طرحه لتفسير الصراع الاجتماعي على السلطة في السودان الحديث، وتفسير الحروب والثورات والتمردات والانتفضات التي انتظمت تاريخ السودان، وهي  أن هنالك فارقا كبيرا من حيث البنية بين الدول الحديثة التي نشأت نتيجة تطور تاريخي طبيعي، وبين تلك الدول الحديثة التي نشأت بفعل قوى خارجية، وهو ما سنأتي ونفصل فيه تاليا، ولكننا سنكتفي هنا بتقرير، أن تأسس الدولة الحديثة في السودان نتيجة تدخل قوى خارجية، هي في الأساس قوى ذات طابع استعماري، يجعل مؤسساتها مصممة بشكل أساسي “لتنمية خير القوى الاستعمارية لا الشعب صاحب الأرض”[13] ، الأمر الذي يتمظهر في مشكلة شرعية تواجهها السلطة الاستعمارىة، ذلك أن جهاز السلطة الحديث الذي أسسه المستعمر التركي-المصري في السودان كان بمثابة جهاز سلطوي يهدف كلية لخدمة أطماع القوى الاستعمارية، والتي تتلخص في تأمين الموارد الاقتصادية، بغرض تمويل الحملات التوسعية لمحمد علي باشا في مصر. ومشكلة الشرعية هذه يمكن ملاحظتها في مقاومة المجتمعات المحلية لمؤسسات الدولة الحديثة والحكم المركزي، ولعل مشكلة الشرعية التي تواجهها المؤسسات استعمارية الطابع هي أيضا، ما يفسر عدم تجذر مؤسسات الدولة الحديثة التي فرضتها القوى الاستعمارية داخل المجتمع السوداني، وعدم قدرتها على الحلول محل البنى التقليدية للسلطة، وأيضا تتمظهر مشكلة الشرعية هذه في تركز الجهاز الاداري الحديث للدولة الاستعمارية الأولى(1821-1885) وتمدده بشكل حصري في مناطق الوسط والشمال: ذلك أن جهاز السلطة الاستعماري كان لابد أن يكون مرتبطا بالنيل وبالطرق التجارية القديمة التي تتركز في الوسط والشمال، بغرض تسهيل نقل الموارد التي يتم استخراجها بواسطة جهاز السلطة الاستعماري من السودان إلى مصر. ومن المهم هنا أنه نقول: إنه ونتيجة تركز الجهازي الإداري للدولة الاستعمارية الأولى، وكذلك تركز مؤسسات الدولة الاقتصادية والخدمية والمشاريع الزراعية -على قلتها- في الوسط والشمال، إبتدأت الصيرورة التاريخية لتحول كل من أقاليم كردفان ودارفور وجنوب السودان والشرق إلى هوامش لمركز سياسي واقتصادي بدأ في التشكل لحظتها عبر ممارسات القوى الاستعمارية.

نخلص هنا، إلى أن كون تأسس جهاز الدولة الحديثة في السودان، كان بفعل قوى استعمارية يعني، أن نظامها الإداري وسياساتها الاقتصادية وكل بنيتها ومؤسساتها مصممة في المقام الأول لخدمة مصالح قوى خارجية هي القوى الاستعمارية، وليس خدمة مصالح الشعب السوداني، ولعل  هذا ما سيفسر تكون جهاز السلطة بشكل حصري في بدايته من العسكريين والإداريين المستعمرين، وفي ذلك يقول القدال “شكل الجيش الذي قام بعملية الغزو أساسا آخر للنظام الإداري. فتحول بعد اكتمال الغزو إلى أداة إدارية في بلاد غريبة عليه وشاسعة ومضطربة. وكان القادة من العسكريين هم حكام المناطق، ولهم استقلالهم إذ يتبعون رأسا إلى القاهرة. وتركزت مهمتهم في استتباب الأمن. وبعد استقرار الأوضاع بقي الطابع العسكري ملازما للنظام. . فكان الإداريون بداية بالحكمدار الحاكم العام) حتى الإداريين للصغار، كلهم من العسكريين، وفرض هذا الطابع العسكري نظاما إداريا مركزيا صارما، وتمازج المنهج العثماني مع الطابع العسكري ليتسم النظام الإداري بالتسلط المطلق. فكان نظاما غريبا على تقاليد أهل البلاد وأعرافهم ومعتقداتهم”[14]، ونستنج هنا أن الطبيعة العسكرية للدولة الحديثة في السودان في بدية تشكلها وتمددها في جغرافيا السودان، تتصل بطبيعتها الاستعمارية، التي سنفصل فيها في القسم التالي من هذا البحث، لكن نكتفي هنا بتقرير، أن التأسيس الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، كان يفرض مؤسسات دولة حديثة تعاني من مشكلة شرعية، الأمر الذي يفرض تمديد جهاز الدولة بواسطة العنف والقهر، ومن هنا الطبيعة الاستبدادية لمؤسسات الدولة الاستعمارية الأولى التي فرضتها القوى الاستعمارية في جغرافيا السودان القديم، ونزوع المجتمعات السودانية في دويلات السودان القديم إلى مقاومتها، واسقاطها بالنهاية.

نشير هنا أيضا، إلى أن أهم التغيرات الجذرية التي أحدثها بنية الدولة الاستعمارية في السودان، تتصل بتغير العلاقات السياسية والاقتصادية في جغرافيا السودان القديم ، خاصة وأن ملامح قوى اجتماعية واقتصادية حديثة في السودان، بدأت بالتشكل تدريجا نتيجة اتصالها ببنية وجهاز الدول الحديث، وهي القوى الاجتماعية تتكون بشكل حصري من المجتمعات التي قبلت التعاون مع  القوى الاستعمارية.  وهنا نشير إلى أن القوى الاستعمارية كانت تدرك حوجتها إلى حليف من المجتمعات المحلية، يسهل عليها تأسيس وإدارة الجهاز الإداري  للدولة بمساعدتهم، ويبدو أن القوى الاستعمارية قد وجدت ضالتها في بعض الزعماء المحليين، حيث يقول  القدال “لقد أدى الزعماء الذين تعاونوا مع النظام خدمة كبيرة له. كانوا بمثابة القنطرة الأولى التي عبر بها إلى واقع السودان، ثم أصبحوا أدوات اتصاله بالناس”[15]، ونشير هنا، إلى أن تحالف القوى التقليدية مع القوى االاستعمارية، كان يعني أنها قد بدأت بالارتباط ببنية الدولة الحديثة  عبر الوظائف الحكومية والتعليم الحديث وعلاقات الإنتاج الحديثة التي تربتط بالتجارة والزراعة والانشطة الاستخراجية والاقتصاد الاستعماري ، وبالتالي تحولها التدريجي إلى طبقة اجتماعية حديثة  نتيجة ارتباطها بجهاز الدولة الحديث،  وهذا ما حدث بالفعل، ولابد هنا من تقرير: إن هذه القوى الاجتماعية السودانية الحديثة التي بدأت بالتشكل التدريجي حول جهاز السلطة الاستعماري، كانت تتكون بشكل حصري من  المجتمعات التي عرفت في الأدبيات التاريخية والسياسية السودانية باسم “الجلابة، والتي  نسميها في هذا البحث بالقوى الاجتماعية النهرية[16]، وفي ذلك يقول القدال “وجد الأتراك ضالتهم في فئتين. وجدرها أولا في قبيلة الشايقية. فكونوا منهم جيشا غير نظامي يتبع للدولة، وأوكلت لهم مهام أمنية ونظامية، وكان يقودهم زعماء من بينهم ولم تعط لهم مرتبات، بل كانوا يمنحون أرضا لزراعتها ويستخلص منها الفرد أمر معاشه وتمدهم الحكومة بالسلاح”[17] أما الفئة الأخرى فهي بعض القبائل الكبيرة في السودان، التي تتعاون ليس من واقع المشاركة الفعلية في الحكم فحسب، وإنما لوجود مصالح اقتصادية مشتركة حيث أن “ذلك التعاون ليشمل زعماء القبائل الذين احتلوا مناصب إدارية عالية. فأصبح بعضهم مديرا لمديرية، وأنعم عليهم بلقب بك وباشا منهم الشيخ أحمد باشا أبو سن شيخ مشايخ الشكرية الذي أصبح مديرا للخرطوم، وحسين باشا خليفة ناظر العبابدة الذي أصبح مديرا لبربر ودنقلا، والياس باشا أم برير الذي أصبح مديرا لكردفان ثم خلفه ابن عمه ومنافسه أحمد بك دفع الله وكلاهما من الجلابة الجعليين، والزبير باشا رحمة مدير بحر الغزال. وهناك من ترقى في مجال العسكرية مثل آدم بك العريفي،”[18]  . ولعل تحالف مجتمعات الجلابة مع المستعمر هو الذي مكنها من بين كل مجتمعات السودان القديم من التطورت لتصبح طبقة اقتصادية سياسية ذات نفوذ واسع ،كما أنه تحالفها مع الاستعمار التركي-المصري أمن لها نماء اقتصاديا وسياسيا  وتطورا متسارعا  للتتحول في خضم حركة التاريخ التي وصفناه أعلاه، إلى  قوى اقتصادية  تحتكر الوظائف الإدارية والعسكرية وتهيمن على التجارة في مختلف أقاليم السودان. وهي القوى الاجتماعية ذاتها التي ستتحالف مع المستمعر الإنجليزي-المصري الذي سيغذو السوادن نهاية القرن التاسع عشر في العامل(1898) ذلك أن الثورة المهدية التي اسقطت الاستعمار التركي-المصري، اسقطت أيضا امتيازاتها الاقتصادية والسياسية التي أمنها لها تحالفها مع القوى الاستعمارية، وفرضت علاقات سلطة ونموذح سياسيي واقتصادي قطع التطور التاريخي للقوى الاجتماعية الحديثة التي تعود جذورها إلى المجتمعات النهرية  في شمال ووسط السودان.

أيضا، يمكن النظر إلى التحالف بين مجتمعات الجلابة وقوى الاستعمار التركي-المصري، على أنه الرافعة التاريخية التي وضعت القوى الاجتماعية النهرية في هرم السلطة داخل الاجتماع-السياسي السوداني، وليس هذا فحسب، بل إن تحول الإسلام إلى دين الدولة الرسمي في العهد التركي-المصري، رفقة تحالف القوى الاجتماعية النهرية  ومجتمعاتها العربية-المسلمة -ثقافيا على الأقل- مع القوى الاستعمارية، كان يعني تحول مقولتي الإسلام والعروبة بشكل رسمي إلى محددات مهمة في علاقات السلطة داخل الاجتماع-السياسي السودان الحديث، حيث يؤكد أليكسي يلونين “أصبح الدين المذهبي العثماني يستخدم بشكل متزايد كوسيلة للسيطرة، حيث كان الإسلام السني المذهبي بمثابة قوة مركزية، تنظيم شؤون  السودانيين، وتم ترسيخه كدين للدولة.”[19].  وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأتراك أسسوا   نظام حكم يستند إلى الفقه العثماني كمرجعية، وهنا يشير القدال إلى أنه “رغم أن دولة الفونج كان بها نظام قضائي إسلامي، إلا أنه لم ينشأ في ظل دولة مركزية تفرض نفوذها على مؤسسات الحكم وتدبرها مركزيا، مما أعطى رجاله درجة من الاستقلال. أما الأتراك فقد أخضعوا المؤسسة القضائية لسلطة الدولة المركزية إخضاعا تاما. فالدولة تعين القضاة وتمنحهم مرتبات وتفصلهم. وتفرض في كثير من الأحيان كلمتها لتغيير مجرى العدالة” [20] وفي سياق ذلك نلاحظ أيضا أن  الحكم التركي-المصري اهتم أيضا، بتدريب بعض السودانيين خاصة من المجتمعات التي تعاونت معه، وهو تدريب  في علوم الشريعة، حيث أصدر الخديوي “أمرا بلزوم تشويق وترغيب الأشخاص الملمين بعلوم الفقه والنحو من أهالي السودان في الحضور إلى الجامع الأزهر وملازمتهم الإقامة فيه لمدة سنتين أو ثلاث سنوات لتكتمل علومهم وهذا لأجل نشر وتعليم أصول أحكام الشريعة والديانة في الأقطار السودانية حيث يندر وجود العلماء والفقهاء فيها”[21]  وليس هذا فحسب، بل إن الحكم التركي- قد ابقى على بعض الزعماء المحليين في مناصبهم، خاصة في جغرافيا السودان السناري أو مملكة الفونج التي تسمى حاليا بإقليمي وسط وشمال السودان،حيث يذكر القدال “تعامل الأتراك مع القيادات المحلية منذ بداية الغزو، حيث أبقوا على بعض الزعماء المحليين في مناصبهم، مثل النوبة ودنقلا وبربر والحلفاية وسنار وفاز غلي، ولكن بعد أن سلبوهم استقلالهم الذي كان مصدر منعتهم، فتحولوا إلى موظفين تابعين للسلطة المركزية الأجنبية”[22]

 ولعل من المهم هنا، أن نشير إلى أن تحالف القوى الاجتماعية النهرية مع القوى الاستعمارية، كان يعني أيضا تعزز مكانة هذه القوى الاجتماعية داخل الاجتماع-السياسي السوداني  نتيجة الامتيازات التي تعود عليهم من التحالف والارتباط بمؤسسات وأساليب حكم الدولة الاستعمارية الحديثة، وهنا نلاحظ أن عددا من التشكيلات الدينية بين القوى الاجتماعية النهرية، خاصة ذوي النزوع المذهبي المقارب للإسلام السني العثماني: تمكنت من الحصول على امتيازات سياسية واقتصادية، مكنتهم من أن يصبحوا النواة الرئيسية للقوى الاجتماعية الحديثة التي سترث الدولة مستقبلا. أيضا، نشير إلى أن تحول الإسلام  والعروبة إلى محددات مهمة من محددات علاقات السلطة في السودان، يعود إلى تاريخ أبعد من لحظة الحكم-التركي، لكن ليس في كل جغرافيا السودان،حيث يؤكد يلونين أن صعود القوى الاجتماعية العربية سلطويا في جغرافيا أفريقيا كان نتيجة عوامل تاريخية متعدد، حيث يقول “وقد تم تسهيل هذه العملية من خلال المكانة البارزة المتزايدة للعرب في مجتمعات الساحل بسبب تقاليدهم الأبوية وازدهارهم الاقتصادي بشكل أساسي كتجار، حيث أن الاختلاط مع المجتمعات المحلية ذات النسب الأمومي عمومًا، أنتج أحفادًا مستعربين مع تزايد تدريجي في الوصول إلى مناصب السلطة” [23]، ويضيف يلونين، “ويرجع ذلك جزئيًا إلى تحسن وضعهم الاقتصادي والسياسي، حيث تمكنت العناصر المستعربة من اكتساب مكانة اجتماعية من خلال التركيز على الإسلام والادعاء بنسبهم إلى المملكة العربية السعودية والنبي مسلم، مما مكنهم من تأكيد مكانتهم الاجتماعية”[24] .  وما يهمنا في هذه الملاحظة التاريخية المهمة، هو أن تركز جهاز السلطة ومؤسسات الدولة الاستعمارية الأولى في الوسط-الشمال وفرض الإسلام دينا رسميا للدولة ، كانت العوامل التاريخية التي تطورت عبرها المكانة الاجتماعية للقوى الاجتماعية النهرية، حيث يشير حاج حمد إلى القوى الاستعمارية التركية-المصرية قد فضلت “حركات صوفية معينة في وسط السودان وبالذات طائفة الختمية، .. وبعض القبائل وبالذات الشايقية”[25]   مما أمن لها تطورا اقتصاديا وسياسيا متسارعا: بحيث أصبحت قبائل وطوائف دينية ذات نفوذ وهيمنة سياسية واقتصادية.

فيما يتعلق بالثورة المهدية (1881-1898)، نشير إلى أنها كانت أيضا متغيرا مهما في تاريخ السودان الحديث، خاصة أنها كانت الثورة الشعبية التي أنهت الحقبة والدولة الاستعمارية الأولى (1821-1885)، ونشير إلى أنها وبدرجة أولى، ثورة القوى الاجتماعية السودانية في الأطراف على الدولة المركزي الحديثة في المركز وقواها الاستعمارية وحلفائها المحليين، ذلك أنها تتكون بشكل رئيس-وقتها- من تشكيلتين اجتماعيتين أساسيتين، الأولى تتمثل في زعماء الطرق الدينية وجمعاتهم التي أكتسبت فعالية سياسية كبيرة داخل المجتمعات السودانية في فترة ضعف السلطنات والممالك التي كان يتكون منها  “السودان القديم” قبل التأسيس الاستعماري للدولة الحديثة، والتي تزايدت فاعليتها السياسية أيضا بعد أن أصبح الإسلام المذهبي دينا رسميا للدولة إبان الاستعمار التركي المصري-بحيث أصبحت قادرة على تحشيد السودانيين،  أما التشكيلة الثانية الرئسية في الثورة المهدية  فهم زعماء القبائل خاصة القبائل العربية الرعوية في غرب السودان والتي تشكل القوى الاجتماعية الرئيسية للثورة المهدية، والتي سنسميها هنا بالقوى الاجتماعية العربية الرعوية، والتي تسكون أحد أبرز القوى الاجتماعية التي تتصارع  على السلطة داخل  الاجتماع-السياسي السوداني الحديث. ونؤكد هنا، أن الثورة المهدية كانت نتيجة تحالف الزعماء الدينيين مع زعماء القبائل، ضد قوى استعمارية أزلت واستغلت السودان والسودانيين. ولعل ما يفسر أن الثورة المهدية كانت نتيجة تحالف هاتين التشكيلتين، هو أنها كانت رد فعل على السياسة التركية-المصرية التي تقوم على “الإفادة من زعماء الدين -مثلهم مثل زعماء القبائل- كأدوات للحكم، وكانت الأسرة الميرغنية تجد تفضيل خاص، وارتبط الختمية بالحكم التركي-المصري بروابط وثيقة”[26]، ومن هنا ارتباط الوثيق بالقوى الاجتماعية في أطراف السودان، ذلك أنها كانت اصطفافا مضادا من قبل هذه القوى الاجتماعية في أطراف السودان ضد الاصطفاف الآخر للتشكيلات القبلية والدينية النهرية المتحالفة مع القوى الاستعمارية.

أيضا، تكمن أهمية الثورة المهدية في تاريخ السودان، في أنها كانت بمثابة لحظة تبلور ما يمكن تسميته ب “الإرادة الوطنية” لأول مرة في تاريخ السودان، حيث أن المشاركة الواسعة فيها من قبل السودانيين من مختلف الأعراق والديانات والطرق والمذاهب والقبائل كانت أيضا بمثابة لحظة تأسيس “الحس الوطني” المشترك بين السودانيين، ولكن ولأن القوى الاجتماعية الرئيسة في هذه الثورة كانت أقل حداثة من تدير جهاز الدولة المركزي الحديث، لم تنجح القوى الاجتماعية السودانية في تطوير هذا الحس الوطني الناشيء ،وذلك يعود من ناحية أيضا، إلى كون “الدولة المهدية” كانت تمثل ما يمكن تسميته بتجربة “الحكم الوطني الأولى” أو الدولة الوطنية الأولى (1885-1899) في السودان الموحد الحديث. ونتيجة لهذه العوامل وعوامل أخرى مثل السياسة الاقتصادية للمهدية، وكذلك الحصار الخارجي، وكون الغذو الخارجي كان بأدوات أكثر حداثة من تلك التي تمتلكها القوى الاجتماعية الثوري نتيجة لتطورها التاريخي،  لم تستطع الثورية القوى الاجتماعية التي أسست الدولة “الوطنية الأولى” أن تدير الدولة  وجهاز حكمها الحديث، الأمر الذي سهل إنهيارها وهزيمتها أمام المستعمر الجديد.. وما يجب تقريره هنا أن غياب  عوامل مثل:  عدم وجود الحكم المشترك في فترات سابقة  أو وجود دين أو لغة مشتركة بين كل  السودانيين والتي تعد عواملا مهمة ومساعدة في تبلور وتطور مفاهيم مثل الأمة، الشعب، المواطنة، والدستور، و..الخ، كانت أهم أساب انهيار الدولة الوطنية الأولى (1885-1899) ، وهي عوامل كانت ذات أثر حاسم في تعثر استكمال بناء الدولة الحديثة في السودان.

(2)الدولة الاستعمارية الثانية: الاستعمار البريطاني-المصري(1899-1956): 

كنا قد أشرنا باقتضاب إلى أهم المتغييرات التاريخية التي فرضها الاستعمار التركي-المصري في السودان، وأوضحنا أنها متغييرات جذرية عميقة داخل الاجتماعي-السياسي السوداني وفي المجمل، أكدنا على أنها كانت تتم في إطار ما اسميناه بالتأسيس الاستعماري الأول للدولة الحديثة في السودان، وباقتضاب هنا أيضا، أننا نقترح هنا، نموذجا تفسيريا يربط بين الحروب والثورات والتمردات وحالة عدم الاستقرار السياسي  التي انتظت  تاريخ الدولة السودانية عقب الاستقلال (1956-2023) من جهة، والتشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان من جهة أخرى، حيث نرى أن التشكل الاستعماري للدولة فرض مؤسسات سياسية واقتصادية ونظام حكم هجين[27]، تفرض بطبيعة بنيتها دينمايات وسياسات، تسند إلى العنف والقهر، وهي قبل ذلك سياسات تخلق وتكرس لتطور غير متكافيء بين أقاليم السودان المختلفة من حيث تطور القوى الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، وفوارق أخرى من حيث التمثيل والمشاركة السياسية، الأمر الذي يوفر دوافعا موضوعية للحروب وللتمردات والثورات ضد هذه الدينمايات والسياسات. وجدير بالذكر هنا، أن هذا  الارتباط يتجاوز السودان، ليشمل معظم الدول في أفريقيا، ذلك أن حروبا وحالة مشابه من عدم الاستقرار السياسي قد انتظمت دولا أفريقية كثيرة، ولنفس الأسباب في معظم الحالات، وهنا دول مثل يوغندا وتشاد وليبيا ومعظم دول شرق وغرب أفريقيا، وخاصة دول الساحل هي خير مثال لهذا الارتباط الذي نشير إليه،  وفي ذلك يقول ليونين “سعت العديد من النظريات إلى تفسير مدى انتشار عدم الاستقرار السياسي والحروب في أفريقيا منذ الاستقلال، وبلغت ذروتها في الاتجاه الأخير نحو المركزية الاقتصادية. إحدى الحالات النموذجية في أفريقيا، هي السودان، الذي شهد حركات تمرد بشكل مستمر لعقود من الزمن”[28]   وسنحاول تاليا أن نفصل في الارتباط المباشر بين التشكل الاستعماري الثاني للدولة  الحديثة في السودان،   وحالة الحروب المتواصلة وعدم الاستقرار السياسي التي انتظمت السودان عقب الاستقلال.

في البدء، وفي نهاية العام 1898وبنهاية معركة كرري التي كانت بمثابة لحظة إعلان نهاية الدولة الوطنية الأولى أو الدولة المهدية(1885-1899)، والتي كانت أيضا لحظة انتصار القوى الاستعمارية البريطانية-المصرية في السودان، ظهرت إلى الوجود مشكلة كيفية حكم السودان بشكل جدي بين البريطانيين والمصريين، حيث كانت قضايا مثل، ما هو النظام الأمثل لحكم السودان؟، ومن يحكم السودان؟، وكيف يحكم السودان؟، قضايا ملحة على الطرفين البريطاني والمصري، وفي ذلك  يقول القدال: “كان المخرج هو اتفاقية الحكم الثنائية، أو الاتفاق “الهجين” كما اسماه اللورد كرومر، التي وقعت بين بريطانيا ومصر في يانير 1899، حيث أصبحت الاتفاقية هي الدستور الذي حكم السودان حتى 1953، دون أن يكون لأهل السودان أي مشاركة فيها”[29] ولعل عدم مشاركة السودانيين  في صياغة الوثيقة التي سيحكمون بموجبها لعقود، تشير بشكل واضح إلى أن اتفاقية الحكم الثاني، كانت بمثابة عقد اجتماعي استعماري الطابع، أو العقد المؤسس للدولة الاستعمارية الثانية (1899-1956) في السودان، ونحن نعني بمفهوم العقد الاجتماعي الاستعماري هنا: تلك الوثيقة التي  تتأسس  عليها شرعية سلطة الدولة، لا استنادا إلى عقد اجتماعي طوعي بين المواطنين المحكومين والحاكم أو الحكومة التي تمارس السلطة عليهم،  وإنما  على منطق القهر والقوة بواسطة قوى استعمارية، بحيث تصبح مؤسسات الدولة أدوات للضبط الاقتصادي والاجتماعي بما يحقق مصالح القوى الاستعمارية، لا الخير العام للمواطنين أو الشعب المحكوم، ذلك أنها، “تعتبر السكان المحليين وسائلا لا غاية، ولذلك  تستبعد السكان المحليين من الحكم وكل من لا ينتمي إلى الطبقة الاستعمارية”[30] كما يقرر فون مسايس، والذي يشير أيضا إلى التشابه بين الدولة الاستعمارية  والدولة الأميرية ذات السلطة الوراثية حيث يقول “مثل الدولة الأميرية القديمة في بنيتها، لا تريد الدولة الاستعمارية أن تسمع شيئا عن حقوق  المواطنين”[31] . وعلى هذا، تكمن الطبيعه الاستعمارية لهذا العقد الاجتماعي أو اتفاقية الحكم الثنائي ، في أن شرعية سلطة القوى الاستعمارية في نظر المواطنين، تتأتى من منطق القوة والقهرة لا من منطق التوافق أو الحق، وهي بالتالي عقد اجتماعي قهري.

فيما يتعلق بالتأسيس الاستعماري  الثاني للدولة الحديثة في السودان، نقرر أن الطبيعة الاستعمارية لاتفاقية الحكم الثنائي  تفرض مؤسسات حديثة تكون فيها السلطة لقوى اجتماعية من خارج المجتمع الذي تضبطه هذه المؤسسات، وهي في حالتنا هذه، القوى الاستعماريةالبريطانية-المصرية التي وقعت بينها هذه الوثيقة  الثنائية،  ونؤكد هنا أن عدم مشاركة السودانيين أو من يمثلهم في صياغة الوثيقة التي سيحكمون بها، يدلل وضوح هذه الطبيعة الاستعمارية التي نشير إليها، ذلك أن غيابهم يعني -من بين ما يعني- أن مؤسسات الدولة تخدم بشكل أساسي مصالح القوى الاستعمارية، لا المصلحة العامة للمحكومين أو  المستعمريين السودانيين، وهذا يعود بدرجة أولى كما  يرى فون  مسايس، إلى أن السلطة الاستعمارية لا تمتلك شرعية اجتماعية، وإنما شرعية قهرية،  حيث يشير  إلى أن من عليهم طاعة القانون لم يكونوا موجودين عند لحظة سنه، كما أن الذين يجب عليهم تحمل نظام الحكم المفروض عليهم، لم يكونوا مشاركين في تشكيل نظام الحكم هذا، فهؤلاء المحكومون هم بالمعنى السياسي غير أحرار وبلا حقوق سياسية حتى في ظل وجود هذه الحقوق شكليا على مستوى القانون[32]، ونستنتج هنا، أن اتفاقية الحكم الثنائي (1899) هي الوثيقة التاريخية المؤسسة للدولة الاستعمارية الثانية (1899-1956)، ذلك أنها ككل عقد اجتماعي استعماري، لا تجد شرعيتها من المجتمع الذي تحكمه، وإنما  من قدرة الجيش الغاذي على قهر هذا المجتمع موضع السيطرة. وبعبارة أدق، نحن نقرر هنا أن التشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، يثير مشكلة “شرعية السلطة “، وهي مشكلة تتمظهر في حوجة الدولة الاستعمارية إلى العنف والقهر لفرض مؤسساتها، الأمر الذي  يفسر الطبيعة العسكرية لجهاز السلطة الاستعماري،  ذلك أن إدارك القوى الاستعمارية، أن سلطتها ليست شرعية في نظر المجتمعات التي أصبحت تحكمها، يحتم عليها عسكرة جهاز السلطة ومؤسسات الدولة الحديثة التي بدأت القوى الاستعمارية في تأسيسها لإدارة السودان،  خاصة في الفترات الأولى من تأسيس السلطة الاستعمارية، وذلك حتى تضمن سيطرة كاملة على الرقعة الجغرافية التي تريد حكمها، وهذا ما حدث في السودان ومعظم الدول الأفريقية.

في سياق الطبيعة القهرية للدولة الاستعمارية وصلتها الوثيقة بعسكرة جهاز الدولة، يشير مدثر محي الدين إلى أن “الإدارة الاستعمارية البريطانية،التي أنشأها في السودان عقب قضائهم على المهدية، كانت قد وصفت كثيرا كأوتوغراطية ذات أهداف مدينة على الخطوط العسكرية”[33] ولعل هذا التوصيف للإدارة الاستعمارية في السودان من قبل اللورد كرومر كان بمثابة مبرر القوى الاستعمارية البريطانية لوجود حكومة عسكرية من الضباط البرطانيين في السودان، خاصة وأن “البلاد وضعت تحت سلطة الحاكم العام الذي كان ضابط عسكريا، وضعت في يديه السلطتين العسكرية والمدنية”[34]. وبإختصار هنا، لابد من تقرير أن الطبيعة التسلطية القهيرية للدولة الاستعمارية، هي صفة بنيوية في كل جهاز سلطة استعماري التشكل، ذلك أنها في جزء منها تشكل تمظهرا لمشكلة الشرعية المذكروة آنفا،  وجديد بالذكر هنا أن اللورد كرومر مهندس اتفاقية الحكم الثنائي، التي وصفناها بالعقد الاجتماعي المؤسس للدولة الاستعمارية، كان على وعي بمشكلة الشرعية التي تواجهها سلطتهم  الاستعمارية الجديدة، حيث، كما يذكر مدثر، “لأسباب مالية، وأيضا لأسباب تتعلق بكون اخضاع كل أقاليم الدولة مازال بعيدا عن أن يكتمل، إلا أن اللورد كرومر كان مقتنعا أن هذه الضرورة تجعل ألا غنى عن الجنود، رغم أنه يرى عدم صالحيتهم لشؤون الحكم”[35]  ويتضح من هذه الإشارة، أن اللورد كرومر عراب  ومؤسس الدولة الاستعمارية الثانية في السودان، كان يرى أن فرض مؤسسات الدولة الاستعمارية، يستدعي ضرورة وجود العسكريين على رأس الحكومة -السلطة- وفي أعلى هرم الدولة الحديثة التي شرع في تأسيسها بالتدريج، مع تمدد جيش القوى الاستعمارية إلى بقية الأقاليم واخضاعها بالكامل، وجدير بالذكر هنا أن ” أخضعت كل البلاد(السودان) تحت سلطة القانون العسكري، حتى 1926، عندما تعين تم تعيني أحد المدنيين كأول كحاكم عام للسودان، لكن الإدارة اسمرت لتكون ذات طابع عسكري، حتى يومنا هذا”[36]، ولعل من الواضح أن مشكلة شرعية المؤسسات الحديثة استعمارية التشكل هذه هي التي تفسر أيضا الصلة بين المؤسسة العسكرية في أفريقيا والانقلابات العسكرية.

جدير بالتوضيح هنا أيضا، أننا نظرا لهذا الملاحظات حول طبيعة السلطة في الدولة الاستعمارية، نميز بين الدولة الاستعمارية الثانية في السودان والدولة الحديثة وفقا للنموذج الغربي، ونرى أن هنالك اختلافا كبيرا بينهما من حيث طبيعة السلطة ونظام الحكم والمؤسسات، حيث نلاحظ أن السلطة في الدولة الحديثة وفقا للنموذج الغربي، تقوم على روابط وعلاقات سياسية وسلطوية حديثة تقوم على الإنتماء الطوعي أو الإرادي، على عكس الدولة الاستعمارية لتي تستند علاقات السلطة فيها على الروابط التقليدية التي تقوم على الانتماء اللاإرادي “العرق، الجهةـ القبيلة…الخ،  وعلى العكس أيضا من الدولة الاستعمارية  التي تتأسس على القهر والإكراه من قبل القوى الاستعمارية، تتأسس سلطة الدولة الحديثة على احتكار العنف  الشرعي وتمديد الجهاز الخدمي للدولة وضمان سيادة القانون، ولعل أهم هذه الروابط السياسية الحديثة التي تميز الدولة الحديثة عن الدولة الاستعمارية والتقليدية، هي روابط الإنتماء لحزب سياسي، نقابة، جمعية تعاونية و…الخ. وباختصار هنا،  يجعل تأسس علاقات السلطة  في الدولة الحديثة على الروابط الطوعية، الممارسات السياسية ونظام الحكم فيها  يتأسس بالتبع، على مقولات مثل المواطنة، الطبقة، حكم القانون، الفصل بين السلطات، الدستور،  وهي مقولا سياسية تعرف فيها العلاقة بين المواطن والدولة من جهة،  وبين المواطنين أنفسهم على أنها علاقة حقوقية  بين “المواطنين والدولة”  للمواطن فيها حقوق سياسية ومدنية واقتصادية على الدولة، كما أن  للدولة فيها واجبات على  المواطن، وهي شروط لا تتوفر في الدولة الاستعمارية، حيث لا حقوق للمواطنين المحليين. وجدير بالذكر، أن هذا الشكل من الدول، والذي “يعرف بالدولة الفيبربية” (  ( Western-style Weberian-type Stateظهر تدريجيا في أوروبا وبالكاد يوجد خارجها”[37]وظهر تاريخيا مع تطور الطبقات الطبقات البورجوازية، وبالتزامن مع تطور الرأسمالية الصناعية والليبرالية السياسية، وهي الحقبة التي تحولت فيها الدول الأوروبية من دول ملكية مطلقة ذات سيادة تقليدية، إلى ملكيات دستورية وجمهوريات ذات سيادة حديثة، ولعل أهم المتغيرات التاريخية التي رافقت ظهور الدولة الحديثة في أوروبا، تمثلت ظهور وصعود الطبقة البيروقراطية الحديثة وتخلصها على مراحل وعبر ثورات من طبقة النبلاء والملوك، ومن هيمنتها على جهاز السلطة. وما نود أن نقرره هنا، أن الدولة الحديثة تفرض شكلا معينا من السلطة والمؤسسات ونظم وأساليب الحكم، التي تختلف كثيرا عن شكل السلطة والمؤسسات في الدولة الاستعمارية الثانية في السودان.

 أيضا، فيما يتعلق  بطبيعة مؤسسات الدولة الحديثة التي فرضتها القوى الاستعمارية في السودان في السودان، نلاحظ أن مؤسساتها كانت ذات طبيعة تختلف كثيرا عن  المؤسسات التي للدولة الحديثة بالمعنى الفيبري الذي أشرنا إليه، ذلك أن إدراك القوى الاستعمارية البريطانية، أن المؤسسات الحديثة التي  سيفرضونها في السودان بهدف تحقيق مصالحهم الاقتصادية والسياسية، لا يمكن أن تعمل بالكفاءة ذاتها التي تعمل بها في أوروبا نظرا للاختلاف في السياق التاريخي بين أوروبا وأفريقيا، وهو ما دفعهم إلى أخذ البنى ومؤسسات الحكم التقليدية الموجودة في السودان في الاعتبار، حتى يضمنوا فعالية أكبر لمؤسساتهم الاستعمارية،  ولعل أفضل طريقة لفرض هذه المؤسسات في السودان وأفريقيا، كانت كما يرى يلونين من خلال “إيجاد هياكل مجتمعية محلية يمكن وضعها لخدمة المصالح الاستعمارية”[38]،  ونتيجة لذلك، ظهرت المؤسسات التي نصفها بأنها ذات طبيعة بنيوية استعمارية، ذلك أنها مؤسسات لا تحد بشكل فعال من المصالح الشخصية للحكام،  ومصممة بشكل رئيس لخدمة مصالح القوى الاستعمارية خاصة في “المستعمرات حيث كان الأوروبيون أقلية صغيرة تحكم أعدادًا كبيرة من السكان المستعمرين[39] ، وبعبارة أخرى ، تختلف الدولة  الاستعمارية الثانية أو الدولة الحديثة كبنية في السودان،عن  الدولة الحديثة بالمعنى الفيبري، من حيث طبيعة السلطة وطبيعة نظام الحكم والقيم التي تعمل استنادا إليها مؤسسات الدولة، ذلك أن هذه المؤسسات كما يقول يلونين “كانت نتيجة لأطماع جيوسياسية واقتصادية لقوى استعمارية تهدف إلى السيطرة على الواقع المحلي”[40]  الأمر فرض شكلا هجينا من المؤسسات التي تعمل داخلها علاقات والسلطة/السيادة التقليدية رفقة علاقات السلطة/السيادة الحديثة، ولعل نظام الحكم الهجين هذا، يشير إلى تسرب القيم والمعايير التقليدية المتعلقة بممارسة السلطة إلى الهياكل الرسمية للدولة، الأمر الذي يؤدي إلى تحول مؤسسات الدولة الرسمية إلى “خدمة التفضيلات المجتمعية لمن هو في السلطة””[41] كما يقرر مارين كروشايير ودانييل لامباخ، اللذان يشيران أيضا،  إلى أن ذلك دائما ما يتم عن طريقي ” دمج المؤسسات التقليديةـ، إما بحكم القانون أو بحكم الأمر الواقع في جهاز الدولة الرسمي، وبالتالي خلق مؤسسات هجينة”[42] ولعل أهم الأمثلة على هذه الهجنة في نظام الحكم، ما يعرف ب”نظام الحكم غير المباشر” الذي دشنه الاستعمار البريطاني-المصري في السودان،إلى جانب مؤسسات الحكم الحديثة، حيث تم إضفاء الطابع المؤسسي على زعماء القبائل التقليديين عبر نظام الإدارة الأهلية لتسهيل حكم السودان،  وباختصار هنا، يعود اختلاف مؤسسات الدولة الاستعمارية في السودان عن مؤسسات الدول الحديثة بالمعنى الفيبري، إلى أن القوى الاستعمارية لم تكن مهتمة بتأسيس جهاز دولة حديث في السودان، بقدر ما هي مهتمة بتأسيس مؤسسات وجهاز دولة  يخدم مصالحها كقوة استعمارية[43]؛ الأمر الذي جعل مؤسسات الدولة أدوات ووسائل  للهيمنة الاقتصادية والتحكم في موارد الدولة، وهذا ما يجعلها ترتبط بشكل مباشر أيضا بتهميش الأغلبية من السكان، عبر سياسات التنمية غير المتوازنة والافقار الممنهج.

أيضا وفي سياق بحثنا طبيعة السلطة في جهاز الدولة الاستعمارية الثانية، نشير  إلى أن  يلونين يطرح في سياق بحثه لطبيعة مؤسسات الدولة الاستعمارية الثانية في السودان وعلاقتها بالتهميش الاجتماعي والفوارق التنموية  بين أقاليم السودان،  مفهوم “الدولة المهمشة” وذلك بهدف تفسير هذه  الفوارق التنموية، وهي الدولة التي يعرفها على أنها “حالة بنيوية، نتاج عمليات تاريخية عند إنشاء الدولة، وهي ذروة الهيمنة الخارجية التي كانت فيها إدارة  جهاز الدولة والسكان المحليين لاستخراج الموارد، أمرًا بالغ الأهمية”[44]  ويشير يالونين أيضا، إلى أن عدة خصائض تميز المؤسسات الحديثة التي فرضتها القوى الاستعمارية في أفريقيا والسودان بشكل خاص، حيث يؤكد أنها خصائص ذات ارتباط مباشر بالطابع القهري والطبيعة الاحتكارية الضيقة لجهاز الدولة الاستعمارية نفسه، فيقول “تم تصميم تلك المؤسسات التي تم إنشاءها في مختلف المستعمرات الاستوائية لتسهيل الاستخراج الفعال للموارد. وكان هذا صحيحاً بشكل خاص في أفريقيا وفي حالة نيجيريا والسودان اللتين يعتقد أنهما غنيتان بالموارد الطبيعية.”[45]،  ويربط يلونين بين الطابع الاستخراجي للمؤسسات التي أنشأها المستعمر في أفريقيا والسودان، وبين الطبيعة الاستبداية للدولة الاستعمارية، حيث يشير ” كان لا بد من السيطرة على هذه المستعمرات الاستوائية من خلال مؤسسات تمارس الاستبداد القمعي من أجل فرض السيطرة لأن مديري المستعمرات كانوا قليلين في كثير من الأحيان وقد امتدت الإمبريالية الأوروبية إلى المستعمرات الاستوائية جزئيا بسبب الموارد.”[46] وباختصار هنا، فإنه ومن أجل ضمان التدفق الفعال للموارد المحلية للسودان، بهدف تغذية اقتصاد القوى الاستعمارية، كانت أحد أهم الوسائل هي، تأسيس مؤسسات ذات طابع استعماري قهري تقوم بوظيفة “تأمين السيطرة الكافية على الأراضي من أجل ضمان الاستغلال الفعال للموارد المحلية، وكان لا بد من هيكلتها بحيث يمكن تكييفها بسهولة مع الظروف المتغيرة من خلال السيطرة عليها والتلاعب بها، من قبل السلطات الاستعمارية”[47]، ويمكن أن نستنتج من ذلك، أن هنالك ارتباطا وثيقا ومباشرا بين التهميش الاجتماعي والفوارق التموية بين أقاليم  االسودان والتشكل  الاستعمارية  للدولة الحديثة في السودان.

إن من الواضح استنادا إلى التحليلات السابقة، أن مؤسسات الدولة الاستعمارية الجديدة التي فرضتها القوى الاستعمارية في السودان، والتي تستند إلى استراتيجية فرق-تسد كأحد أهم أساليب حكمها، كانت ذات دور كبير في خلق الفورقات التنموية بين أقاليم السودان المختلفة، حيث نجد أن هذه المؤسسات التي فرضتها القوى الاستعمارية البريطانية في السودان، كانت تهدف بشكل أساسي إلى تقليل التحديات أو المقاومة المحلية للسلطة الاستعمارية، هذا مع هدف آخر، هو تحقيق أكبر فائدة ممكنة من النشاطات الاستخراجية الاستخراجية بما يحقق مصالح القوى الاستعمارية، الأمر الذي كان يجعلها تفقر السودانيين في الأطراف كسياسة لضمان فعالية هذه المؤسسات، واضعاف إمكان المقاومة من قبل المجتمعات المحلية،  هذا وقد كنا أشرنا سابقا، إلى أن مشكلة الشرعية التي تواجهها الدولة الاستعمارية، تجعل مؤسساتها تسلطية وقهرية بطبيعتها، لكن القهر والاستبداد وحده،  ليس كافيا بالنسبة للقوى الاستعمارية، حتى تحقق سيطرتها الكاملة على السودان، وهنا يقرر يلونين ” أدرك البريطانيون مبكر حاجتهم إلى التحالف مع أهم القوى الاجتماعية لجعل سلطتهم الاستعمارية شرعية، ولذلك عملوا على رعاية أهم الحركات الدينية والتشكيلات القبيلة التي لعبت دورا مهما في الواقع الاجتماعي السياسي والاقتصادي السوداني”[48]  ونشير هنا أن القوى الاستعمارية،وجدت في القوى الاجتماعية النهرية حليفها الاستراتيجي المحلي، وذلك ضمن سياسية فرق-تسد الاستعمارية. ونشير هنا إلى أننا نعرف هذا التحالف، بالتالحف المؤسس للدولة الاستعمارية، نظرا إلى إن “التهميش الاجتماعي” والذي نعني به حرمان جماعة أو جماعات  أو مجتمعات، على أساس جهوي أو ديني أو عرقي، إثني من حقوقهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمدنية بواسطة جهاز الدولة واستبعادهم من المشاركة السياسية والاقتصادية: هو صفة بنيوية في الدولة الاستعمارية، يرتبط بشكل وثيق بسياسة فرق-تسد الاستعمارية، وحوجة القوى الاستعمارية لتفضيل قوى اجتماعية محلية لضمان شرعية سلطتها الاستعمارية التي تواجه مشكلة شرعية، وهذا ما يفسر عمل مؤسسات الدولة الاستعمارية بطبيعتها على افقار واستبعاد جماعات ومجتمعات بعينها من المشاركة السياسية والتنمية الاقتصادية، خاصة تلك المجتمعات التي تظهر نوعا من المقاومة لهيمنة القوى الاستعمارية، وعلى هذا ففي الحين تفرض مشكلة شرعية السلطة الاستعمارية على القوى الاستعمارية ضرورة اعطاء امتيازت اقتصادية وسياسية لقوى اجتماعية محلية،  فإنها تفرض التهميش الاجتماعي على بقية القوى الاجماعية الأخرى في  السودان، ونستنتج هنا، أن التهميش الاجتماعي يرتبط بضرورة تحالف القوى الاستعمارية  مع قوى اجتماعية سودانية مؤثرة كحليف استراتيجي، وهو وفقا  لذلك، أول تمظهر واقعي لاسترتيجية فرق-تسد كأحد أهم قواعد واساليب الحكم مركزية في الدولة الاستعمارية.

إن من الأهمية أن نؤكد هنا، أن ما يبرر تسميتنا  هذا التحالف بين القوى الاستعمارية والقوى الاجتماعية النهرية، بالتحالف المؤسس للدولة الاستعمارية الثانية (1899-1956) في السودان ذلك أنه أعطى العقد الاجتماعي الاستعماري المتمثل في وثيقة الاتفاقية الثنائية(1899)، شرعية محلية، وسهل على القوى الاستعمارية إدارة وحكم البلاد؛ حيث نجد أن المعاملة التفضيلية للقوى الاجتماعية النهرية في من قبل القوى الاستعمارية البريطانية نتيجة هذا التحالف، كانت على حساب مجتمعات أقاليم السودان الأخرى، وفي ذلك يقرر يلونين ” استتبعت الدولة الاستعمارية في السودان، أقاليم جنوب السودان، ودارفور للدولة السودانية، وكسلفهم السابق (الاستعمار التركي-المصري) خص البريطانيون بالتفضيل، نخبة من المجتمعات العربية المسلمة بوسط-شمال السودان، وتم استبعاد شعب أطراف السودان الأخرى”[49]. وما يجب تقريره هنا، أننا نعد هذا التحالف مؤسسا للدولة الاستعمارية الثانية وسلطتها في السودان لعدة أسباب، أهما أنه كان بمثابة إعلان تدشين السياسات الاستعمارية التي تستند على استراتيجية فرق-تسد، والتي  كانت تؤذن بانطلاق أو استئناف آليات وديناميات التهميش الاجتماعي لسكان الأطراف في السودان، والتي إبتدأت منذ الدولة الاستعمارية الأولى، وبالتوازي مع ذلك أيضا، لأنه كان يسارع صيرورة تشكل متسارع لمركز سياسي سلطوي وتنموي في جغرافيا  وسط-وشمال السودان، وهامش لهذا المركز هو بقية أقاليم السودان، وهي المتغيرات التي كان لها أثر كبير في مستقبل الصراع الاجتماعي على السلطة، كما سندلل على ذلك في القسم التالي.

في هذا السياق أيضا،يشير يلونين إلى أن البريطانيين، “مدركين لإمكان تشكل تحالف بين القيادات الطائفية والقياديات القبلية قادر على تحدي السلطة الاستعمارية كما حدث سابق مع الاستعمار التركي-المصري، أنشأ البريطانيون نظام إدارتهم غير المباشرة على استراتيجية فرق-تسد في السودان”[50] وهنا نلاحظ أيضا، أن استرايجية فرق-تسد وثيقة الصلة بالطبيعة الهجينة لجهاز السلطة الاستعمارية التي أشرنا إليها سابقا، كما أنها السبب الرئيس في ضيق القاعدة الاجتماعية للسلطة الاستعمارية، ذلك أن كون القوى الاستعمارية، كانت أقلية غريبة ، جعل شرعيتها تستند على منطق القوة والقهر كما أنه يحتم عليها تقليل  المستفيدين من جهاز السلطة الاستعمارية والموارد التي يتحكم فيها، وعلى ذلك فإن جهاز السلطة الاستعماري الذي فرضته القوى الاستعمارية في السودان، ذي  طبيعة احتكارية، نظرا لضيق القاعدة الاجتماعية للسلطة، ومن هنا عمله بشكل منهجي على تهميش أغلبية السكان ، خاصة في الأطراف التي توجد بها مقاومة اجتماعية للقوى الاستعمارية، وإلى ذلك يشير يلونين ” في هذه الفترة (1899-1956) تأسست الدولة الاستعمارية التي تكرث للتهميش في السودان، لتخدم بشكل أساسي المصالح الجيوسياسية والاقتصادية لبريطانيا، وطبقة الإداريين البريطانيين في الخدمة المدنية السودانية، وطبقة التجار والغرف التجارية الذين غالبهم أوروبيين وشرق أوسطيين، وأيضا الحلفاء المحليين للاستعمار”[51]، وجدير بالتأكيد هنا، أن التهميش الاجتماعي كسياسة، متجذر في بنية الدولة الاستعمارية، ويهدف بشكل أساسي إلى السيطرة على أطراف السودان عبر الاستتباع القهري الذي يقوم على تقليل المقاومة والتحديات التي يمكن أن تواجه السلطة  الاستعمارية. ومن الواضح أن النتيجة المباشرة لهذه السياسة الاستعمارية هي،” حرمان مجتمعات أطراف السودان من المشاركة السياسية والاقتصادية، هذا على عكس النخب الاستعمارية وحلفاءهم في وسط-شمال السودان”[52] ، ونخلص هنا، إلى أن التهميش الاجتماعي التفاوت التنموي الذي طبع تاريخ السودان، يرتبط بشكل وثيق بالتشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان.

من جانب آخر، ترتبط أساليب وسياسات الحكم الاستعمارية في السودان، بما سنسميه بالتطور اللامتكافيء للقوى الاجتماعية داخل الاجتماع السياسي-السوداني، ذلك أن “سياسة نماء أحادية قد طبقت في السودان، كاستراجية تهدف إلى تركيز التنمية الاقتصادية والخدمة الاجتماعية في المركز حول مدينة الخرطوم، ومنطقة الزراعة الانتاجية التصديرية بالنيلين الأبيض والأزرق، في حين تم حرمان أطراف السودان بشكل تام”[53] ونشير هنا، إلى أن هذه السياسة التنموية الأحادية كانت أحد أهم آليات والديناميات التي تسارع التشكل التدريحي لمركز سلطوي واقتصادي في جغرافيا وسط وشمال السودان، وتحول كل من أقاليم دارفور وكردفان وجنوب السودان والبحر الأحمر إلى هوامش وأطراف لهذا المركز والذي يوجد به جهاز السلطة المركزي ويتحكم في اقتصاد هذه الأطراف، وبالتالي فإنها أيضا، كانت أهم آليات وديناميات  التهميش الاجتماعي الفوارق التنموية بين المركز و الهامش\الأطراف وبالتبع التطور اللامتكافئ بالقوى الجتماعية في المركز والهامش\الأطراف، حيث نجد أنها كانت أحد الضرورات التي فرضتها مصالح القوى الاستعمارية، ومصالح حلفائهم من القوى الاجتماعية النهرية التي أصبحت تستفيد من جهاز بنية الدولة الحديثة في جغرافيتها، ومن مواردها الاقتصادية وجهازها الخدمي، ومن هنا نوصف هذه السياسة التنموي الأحادية كإستئناف للتطور التاريخي لهذه القوى الاجتماعية، وهو التطور الذي قطعته المهدية كما ذكرنا سابقا، حيث نلاحظ أنه والبتوازي مع تأسس السلطة الاستعمارية ومؤسساتها في السودان، بدأت تتخلق وتطور حول جهاز السلطة الستعماري الحديث؛ قوى اجتماعية حديثة في السودان من هذه المجتمعات حصرا، ذلك أن القوى الاجتماعية النهرية ونتيجة تحالفها مع القوى الاستعمارية، وأيضا نتيجة ارتباطها بمؤسسات الدولة الحديثة، بدأت تنتظم في تشكيلات سياسية واقتصادية واجتماعية ذات طابع حديث. هذا، وفي الحين الذي كان تطور هذه القوى الاجتماعية النهرية يتسارع بفعل ارتباطها بجهاز الدولة الحديث، تركت القوى الاجتماعي  أقاليم السودان الأخرى لنظام الإدارة التقليدي وعمليات الاقتصاد التقليدي، محرومة من مؤسسات الدولة الحديثة وعلاقات اقتصادها وكل عوامل التحديث الأخرى التي ترتبط بجهاز الدولة الحديث، مثل التعليم، التوظيف، الخدمات، التجارة، …الخ.

إن ما يمكن أن نتستنجه هنا باختصار، هو أن الدولة الاستعمارية الثانية كانت تكرس بنيويا لتطور غير متكافيء بين القوى الاجتماعية السودانية، ذلك أن ارتباط القوى الاجتماعية النهرية التاريخي كحليف استراتيجي للقوى الاستعمارية بالجهاز الإداري والخدمي للدولة الحديثة ومؤسساتها الاقتصادية؛ كان بمثابة عوامل تحديث وتطور هذه القوى الاجتماعية، نظرا لأن القوى الاستعمارية البريطانية وبعد أن نحجت في فرض سلطتها الاستعمارية على معظم اقاليم السودان الحديث، شرعت في تنفيذ سياسات اقتصادية تهدف إلى تسخير موارد السودان لتزويد رأسماليته الصناعية في الجزيرة البيريطانية، وكان معظم البنية الاقتصادية والانتاجية الحديثة متركزة في جغرافيا وسط وشمال السودان، ولابد من الإشارة إلى أن ارتباط تشكل وتركز الجهاز الإداري والخدمة الحديث للدولة واقتصادها بالاطماع الاستعمارية في شمال ووسط السوادن يرتبط  بقرب هذا الأقليم من الطرق التجارية على البحر الأحمر، وارتباط تأسيس طرق وسائل النقل الحديثة في السودان بالنيل وخط السكة حديد الواصل إلى مصر والذي إنشيء “من أجل تسهيل حملة الغز ضد الدولة المهدية”[54] ، وهنا يشير القدال أن السلطات البريطانية “نجحت في تهدئة معظم السودان بحلول عشرينيات القرن العشرين. وأنه وبمجرد تحقيق استقرار نسبي في السودان “تم تنفيذ المشاريع الاقتصادية الاستعمارية من أجل تغذية الاقتصاد البريطاني. وأصبح القطن المحصول الرئيسي الذي يزرع في وسط السودان ليتم تصديره إلى بريطانيا. وهذا ما جعل منطقة السودان النهرية الوسطى أغنى منطقة”[55] وأكثرها تطوراً على حساب بقية أقاليم السودان التي لم تحظى بتنمية مماثلة خلال الدولة الاستعمارية الثانية. أيضا وأخيرا، تجد تسمية هذا التحالف بين القوى الاستعمارية وهذه لقوى الاجتماعية بالتحالف المؤسس لدولة الاستعمارية، في أن نتيجته المباشرة كانت تشكل وتطور القوى الاجتماعية الحديثة التي ستثرث مؤسسات لدولة الاستعمارية عقب خروج الاستعمار،  حيث أن “نتيجة تفضيل البرطانيين للمجتمعات العربية-المسلمة في الوسط والشمال وتسهيل هيمنتها الاجتماعي-سياسية، تحولت هذه الجماعة إلى المرشح الرئيس لوراثة السلطة السياسية”[56] ،  ولعله من الضروري أن نقرر هنا، أن  تحول القوى الاجتماعية النهرية في الوسط-الشمال وتدريجا، إلى القوى الاجتماعية الأكثر تطورا والوريث الحصري لجهاز السلطة  مستقبلا ، لم يكن عملية اعتباطية من قبل القوى الاستعمارية، ذلك أنها كانت عمليات ذات صلة بنيوية بجهاز السلطة الاستعماري، حيث نجد  أنها ذات صلة بالطبيعة الاحتكارية وضيق القاعدة الاجتماعية لجهاز السلطة الاستعماري، التي كانت تفرض على القوى الاستعمارية تفضيل قوى اجتماعية سودانية كحليف استرايجي، على حساب بقية القوى الاجتماعية السودانية الأخرى،  ولذلك كان من الطبيعي أن تخلق القوى الستعمارية نخبا متعلمة من القوى الاجتماعية المحلية التي تحالفت معها لتساعدها في حكم السودان، وكان من الطبيعي بالتبع أن تتحول القوى الاجتماعية النهرية عبر تعليم الاستعمار ووظائفه، إلى الوريث الحصري للدولة الاستعماري عقب خروج المستعمر،   وباختصار هنا، يجد التطور اللامتكافيء بين القوى الاجتماعية السودانية، في السياسات الاستعمارية التي تستند على استراتيجية فرق-تسد.

في هذا السياق أيضا، كنت قد أشرت سابقا إلى أن الدولة المهدية كانت عاملا تاريخيا مهما، خاصة فيما يتعلق بتشكل ملامح الصراع الاجتماعي على السلطة والثروة في السودان الحديث، ذلك  أنها كانت بمثابة الحركة الاجتماعية التي قطعت التطور التاريخي للقوى الاجتماعية النهرية في الشمال-الوسط، حيث أن هذه المجتمعات كانت أيضا، الحليف المحلي الاستراتيجي للقوى الاستعمارية التركية-المصرية، الأمر الذي جعلها تدخل في تناقض وصدام مباشر مع القوى الاجتماعية الثورية التي ناصرت الثورة المهدية، والتي تتكون بشكل أساسي من المجتمعات العربية الرعوية في دارفور وكردفان وشرق السودان. أيضا،  وفيما يتعلق بصلة الثورة المهدية بهذا التحالف فإنه يمكن أن نقول، إنه وفي سياق الصراع على السطلة في السودان الحديث، ساهم بطش الخليفة عبد الله التعايشي الذي مارسه على هذه القوى الاجتماعية إبان فترة حكمه (1885-1898)، بشكل كبير في خلق مظالم تاريخية، دفعت هذه القوى الاجتماعية النهرية، إلى التحالف مع القوى الاستعمارية البريطانية-المصرية، بهدف التخلص من القوى الاجتماعية للثورة المهدية ودولتها التي بطشت بها. وأيضا، ولأن الثورة المهدية كانت نتيجة تحالف الزعماء الدينين مع زعماء القبايل، ولضمان عزل هذين التشتكيلتين الاجتماعيتين من التفاعل، أدركت القوى الاستعمارية منذ وقت ضرورة ضمان ولاء أكبر التشكيلات الدينية المؤثرة في السودان، وهما طائفتي الختمية بقيادة السيد على الميرغني،  وطائفة الأنصار بقيادة عبد الرحمن المهدي، ولم يكن ذلك ليتم إلا عبر سياسات الامتيازات السياسية والاقتصادية، ف “مستفيدين من هذه السياسة اقتصاديا، أصبح كل من السيد على الرحمن المهدية زعيم طائفة المهدية، والسيد على المرغني زعيم الطائفة الختمية، حلفا للنظام الاستعماري، يتحصلون بمزجب ذلك على مخصصات من الدولة لدعيم مكانتهم الاجتماعية الاقتصادية”[57]، هذا في حين كان البريطانيين يستقلون الخصومة بين الطائفتين وهي خصومة تعود إلى دعم الطائفة الختمية للاستعمار التركي-المصري، ونفي قيادتها إلى مصر عقب سقوط الدولة الاستعمارية الأولى(1821-1885)، وبشكل عام نقرر هنا، أن الصراع الاجتماعي داخل الاجتماع-السياسي السوداني، كان يتحدد بشكل كبيرا بتفاعل القوى الاجتماعية السودانية المختلفة مع جهاز الدولة، ذلك أنه وبقدر الولاء والتبعية  للقوى الاستعمارية تتعاظم مصالح القوى الاجتماعية، وكون القوى الاجتماعية النهرية هي الحليف الاسترايجي للقوى الاستعمارية، جعلها أكثر القوى الاجتماعية حداثة وقدرة على التعامل من بنية الدولة الحديثة استعمارية الطابع.

إن  أهمية الثورة المهدية في تاريخ الصراع الاجتماعي على السلطة والثروة في السودان، تتصل أيضا بأنها كانت ذات أثر كبير في تحديد هوية النخب الوطنية المتعلمة التي سترث القوى الاستعمارية عقب الاستقلال، حيث إن تتبع تاريخ تشكل النخبة الاستعمارية والطبقات الحديثة التي ستجكم السودان، يشير إلى أن تفاعل القوى الاجتماعية مع بنية الدولة الحديثة، وكونهم   الحليف المحلي للقوى الاستعمارية وكذلك تركز تعليم الاستعمار في مناطقهم بشكل حصري، جعل تشكل النخب الوطنية المتعلمة  بشكل حصري من هذه القوى الاجتماعية وفي حين استبعدت كل القوى الاجتماعية ذات الصلة بالثورة المهدية، وفي ذلك يقول صديق امبده “لأسباب تاريخية عديدة، من أن الاستعمار لم يكن حريصا أو راغبا في أن يرى الذين ارتبطوا بالثورة المهدية في أجهزة الحكومة تحت الحكم البريطاني-المصري،كان حريصا على أن يكون التوظيف الحكوما حكر على الموالين للنظام الجديد أو ممن كانوا على عداء مع المهدية”[58] وهو الأمر جعل الاستعمار يفتتح أولى المدارس في الخرطوم والشمالية، وبعبارة أخرى، مستفيدة من التحالف مع القوى الاستعمارية ضد الدولة المهدية، تحولت هذه القوة الاجتماعية إلى قوى اجتماعية حديثة، تقودها طبقة بيروقراطية متعلمة، من أبناء التجار والموظفين وكبار الملاك، والمزارعين وبدأت تظهر محصورة فيهم أيضا، وتدريجيا عددا من التشكيلات السياسية والاقتصادية الحديثة المؤثرة، وهي المؤشرات التي كانت تؤكد تحول القوى الاجتماعية النهرية إلى الوريث التاريخي للدولة الاستعمارية وجهاز سلطتها، وهو ما سنحلله تاليا.

(3)- دولة (56)[59]: إعادة انتاج الدولة الاستعمارية:

كنا قد أشرنا سابقا إلى أن الدولة الاستعمارية الثانية التي أسسها الاستعمار البريطاني-المصري في السودان، كانت جهاز سلطة وحكم مستورد ولا علاقة له بالتطور التاريخي الطبيعي لأنظمة الحكم في السودان، وأشرنا أيضا إلى مشكلة هجنة السلطة الاستعمارية التي تحتم ضرورة اختلافها كليا، عن أنظمة الحكم  التي ترتبط بالدولة الحديثة بالمعنى الفيبري،  وهذا الاختلاف يمكن تلخيصه في أن الدولة الحديثة إضافة إلى الخصائص التي ذكرنا سابقا، تعرف بوصفها الجهة الشرعية التي تحتكر العنف الشرعي، ليس استنادا إلى حق مطلق،  وإنما في مقابل قيامها بواجبات تجاه المواطنين، يمكن تلخيصها في “تمديد جهاز الدولة الخدمي وتعزيز فعالية مؤسسات الدولة الحديثة في المجتمع بحيث تصبح الفاعل الرئيس في الحياة الاجتماعية الذي يوجد في الرقعة الجغرافية التي تحكمها”[60]، ونشير هنا أيضا، إلى أن الدولة الحديثة  تقوم  بوظيفتين رئسيتين ترتبطان بمفهوم السيادة \السيادة الحديثة، حيث للدولة سيادة سياسية واقتصادية وثقافية على الرقعة الجغرافية التي تشكل حدودها، وهما: الأولى، “وظيفة الضبط الاجتماعي الداخلي والثانية، وظيفة الأمن الخارجي” [61] وفي حالة الدولة الحديثة في السودان، فإنه لابد من التأكيد،  أن التأسيس الاستعماري  للدولة الحديثة جعل بنية الدولة الحديثة وجهاز سلطتها ومؤسسات حكمها، بنية حديثة في مجتمع تقليدي تسوده نظم  وأساليب حكم  وعلاقات سلطة تقليدية، الأمر الذي أنتج مؤسسات استعمارية هجينة، لا تجد شرعية احتكارها للعنف، عبر تمديد الجهاز الخدمي للدولة وتطوير رابطة المواطنة،  وإنما عبر القهر والاستبداد، وهو الأمر الذي يخلق مشكلة شرعية مؤسسات الدولة، وتنشأ المظالم التاريخية، نظرا لعدم قدرة الدولة اكتساب شرعية اجتماعية في الجغرافيا التي لا  يصلها الجهاز الخدمي للدولة، ومن هنا أيضا ظهور تشكيلات اجتماعية تقليدي في الهامش تنافس الدولة أداء وظائفها الحيوية، خاصة الأمنية،  و  ونلاحظ أن هجنة السلطة  البنيوية في الدولة الاستعمارية نتيجة مشكلة الشرعية التي تواجهها، قد بدأت تتكشف بشكل أوضح داخل مؤسسات الدولة عقب خروج القوى الاستعمارية من السودان، ذلك أن دولة 56 التي أعلنتها النخب الوطنية استعمارية التشكل، كانت هي ذات الدولة الاستعمارية الثانية التي أسسها المستعمر لخدمة مصالحه، ولكنها ألبست ثوبا وطنيا، وسنحاول في هذا الفصل تتبع الارتباط الوثيق بين التشكل الاستعمارية للدولة الحديثة في السودان، وحالة عدم الاستقرار السياسي التي تتمظهر في الحروب والثورات والتمردات والانتفاضات التي انتظمت السودان عقب الاستقلال، عبر فحص التحولات العميقة في علاقات السلطة داخل الاجتماع-السياسي السوداني، نتيجة تحول القوى الاجتماعية النهرية إلى شغل الفراغ السلطوي داخل الدولة الاستعمارية، والذي نتج عن خروج القوى الاستعمارية. وأيضا، سأحاول هنا تفسير التراجع والتدني الكارثي لأداء جهاز الدولة الحديث في السودان منذ لحظة الاستقلال، وهو التراجع الذي توج بالانهيار النهائي للدولة في حرب 15 أبريل.

في البدء، جدير بالذكر أن عددا من الباحثين قد أعادوا استخدام مصطلح ماكس فيبر “السيادة التقليدية” الذي يستخدمه لوصف نظام الحكم الذي يعمل داخله نوعان مختلفان من القيم، الأولى قيم حكم حديثة، والثانية قيم حكم تقليدية، وأعادوا استخدامه في حقل الدراسات الأفريقية، لتفسير تراجع وتندني آداء الدولة في أفريقيا عقب الحقبة الاستعمارية، ونشير هنا، إلى أن أسياكا بادموس، وفي سياق إعادة استخدام المصطلح بهدف دراسة بنية السلطة في الدول الأفريقية عقب الاستقلال، يشير إلى الاختلافات التي ذكرناها سابقا، بين الدولة الحديثة والدولة في السودان  من حيث نظم الحكم، ويؤكد أن نظام الحكم في الدول الأفريقية، خاصة السودان هو نظام حكم هجين، حيث يشر إلى أن هنالك” تداخلا متعمد بين المجالين العام والخاص في الحكم وإدارة الدولة: الأمر الذي تترتب عليه عواقب وخيمة على الدولة وشعبها”[62] ويتابع  مشيرا إلى أن نظام السلطة\الدولة الهجين مثله مثل السلطة الاستعمارية، “حيث أن الوصول إلى مراكز السلطة الدولة، يسمح بخصخصة مواردها، ويسهل توارثها، وهذا ما يفسر كيف، أن القادة الأفارقة، ينظرون إلى المراكز السلطوية كوسيلة للثروة، وبالتالي إعادة توزيع موارد الدولة على أساس العرق و/أو القبائل، والداعمين السياسيين، وما إلى ذلك”  [63]، وهنا نؤكد أن تحول المراكز السلطوية إلى وسيلة لجمع الثروة، يشير إلى تسرب قيم تقليدية إلى مؤسسات السلطة الحديثة، وبالتالي سيادة نظام حكم هجين، حيث أن نظم الحكم السياسية الحديثة تتأسس على معايير الكفاءة والجدارة، وبعبارة أدق، على جهاز بيروقراطي حديث، وهو الجهاز الذي تشله سيادة العلاقات العشائرية\الجهوية داخل مؤسسات الدولة، حيث أن الجهاز البيروقراطية للدولة سيتحول إلى خدمة التفضيلات الاجتماعية لمن هم في السلطة، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع أداءه بالنهاية نتيجة ذلك، وهذا ما كان عليه الوضع في الدولة الاستعمارية الثانية،حيث علاقات أن سيادة علاقات السلطة القائمة على الولاء والتبعية للقوى الاستعمارية تسود علاقات السلطة، جعل الجهاز البيروقراطي للدولة يخدم التفضيلات الاجتماعية للأقلية للاستعمارية، طوال الحقبة الاستعمارية.

فيما يتعلق بدولة (56) نشير إلى أن  تحول النخب الوطنية في عام (1956)، إلى شغل مكان القوى الاستعمارية في جهاز الدولة عقب الاستقلال . وبعبارة أدق، انتقال الهيمنة على مؤسسات الدولة الاستعمارية وجهاز سلطتها ومؤسساتها  من الأقلية الاستعمارية، إلى النخب الوطنية التي تشكلت عبر تعليم الاستعمار والتي انتظمت في تشكيلات سياسية حديثة بدأت تظهر في أخر الحقبة الاستعمارية: دون تغير جذري في أساليب ونظم الحكم والممارسات الاستعمارية المرتبطة ببنية الدولة الاستعمارية -وهذ ما حدث بالضبط عقب الاستقلال- كان يعني إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية، في ثوب وطني، ذلك  أن وراثة القوى الاجتماعية النهرية  سيطرة حصرية على الجهاز البيروقراطي للدولة ومؤسساتها، لم يكن يعني إلا تحول جهاز السلطة الاستعماري من خدمة مصالح الأقلية\القوى الاستعمارية، إلى خدمة مصالح أقلية\قوى اجتماعية وطنية، وبالتالي استمرار الطبيعة القهرية والاحتكارية وضيق القاعدة الاجتماعية للسلطة الاستعمارية في الدولة الوطنية الثانية التي تم إعلانها  عقب لحظة الاستقلال(1956)، ودون أي تغيير جذري في بنيتها. وباختصار هنا، نؤكد أن تحول القوى الاجتماعية النهرية من موقع الحليف المحلي للسلطة الاستعمارية، إلى  موقع الهيمنة على جهاز السلطة الاستعماري، كان يعني إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية في حكم وطني، وهو الأمر الذي جعل الاستقلال استقلالا شكليا، ولعل ما يبرر تقريري هذا، ذلك التحول العميق في علاقات السلطة الذي حدث داخل الاجتماع-السياسي السوداني عقب الاستقلال،  والذي يشير إليه ا بادموس عندما يؤكد، أنه وعقب الاستقلال “أصبحت الرؤية السياسية للنخب الشمالية تمثل السودان ككل، هذا في حين تتطابق القومية السودانية مع القومية العربية”[64] ، ونؤكد هنا، أن تحول هوية القوى الاجتماعية النهرية نتيجة الفراغ الهووي الذي خلفه خروج القوى الاستعمارية من السودان، إلى هوية الدولة السودانية المستقلة حديثا، يشير بوضوح إلى سيادة علاقات سلطة جهوية\عشائرية داخل مؤسسات الدولة الاستعمارية ، بحيث ” أصبح مصطلح السوداني مطابق لسكانا الوسط-الشمال، وقد حملت دلالاته باصطلاحات تحقيرية، كأولاد البلد في مقابل جنوبيين والغرابة،  وأولا العرب (الشماليين) في مقابل العبيد ، وهي دلالات استخدمت إعلاء قيمة بعض المجموعات وإنكار قيمة بقية المجتمعات الأخرى”[65] ، واستنادا إلى ذلك نؤكد هنا أيضا، أن عملية إعادة انتاج الدولة الاستعمارية، إبتدأت لحظة تبلور ما اسمينا بالتحالف المؤسس للدولة الاستعمارية الثانية، حيث”كانت بريطانية تشجع التأثير المصري على النخب العربية-المسلمة، خاصة فيما يتعلق بمشروع بناء الدولة الذي يتأسس على هيمنة اللغة والثقافة العربية، وهيمنة الإسلام، وهو المشروع الذي يشكل جوهر الهوية السياسية لهذه النخب”[66]، وهي هيمنة لا تختلف عن الهيمنة الاستعمارية إلا في أنها، هيمنة القوى اجتماعية سودانية، ولعل  توصيف دولة(56) بأنها إعادة الدولة الإستعمارية،ـ هو التوصيف الذي يمكن أن نفسر بواسطته، تواصل الفوارق التنموية والتطور اللامتكافئ والتهميش الاجتماعي، الذي تعرضت له القوى الاجتماعة في أطراف\هامش السودان طوال الفترتين الاستعمارية والوطنية، ذلك أن النخبة السياسية الوطنية لدولة (56) ممثلة في الاحزاب التقليدية والأحزاب الحديثة والتي نعرفها جميعا ب”القوى الاجتماعية النهرية الحديثة” واصلت نفس سياسات القوى الاستعمارية وأساليب حكمها، هذا، إلى “جانب الاستراتيجية البريطانية فرق-تسد الموروثة من الفترة الاستعمارية، كانت أهم العوامل في استمرار الدولة المهمشة عقب الاستقلال، عندما رأت النخب العربية-المسلمة، أن مشروع بناء الدولة استادا إلى هويتها الثقافية، جوهري لحماية هيمنتها الاحتكارية على السلطة السياسة والاقتصادية[67]”   ولعل مشروع بناء الدولة السودانية استناد إلى هوية القوى الاجتماعية النهرية، وقد كان أيضا عاملا جوهريا في عملية إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية في دولة وطنية شكلا، نسميها في هذا البحث ب “دولة (56)”.

إن الاختلاف الجوهري بين الدولة الاستعمارية الثانية(1899-1956) ودولة(56)،التي نعرفها بأنها دولة استعمارية مقنعة، ليس من حيث البنية، ذلك أن لهما نفس جهاز السلطة الاحتكاري والمؤسسات الاستخراجية التي تعزز ديمناميات التطور اللامتكافيء بين القوى الاجتماعية السودانية والفوارق التنموية بين أقاليم السودان؛ وإنما هو اختلاف من حيث القوى الاجتماعية المهيمنة على جهاز السلطة الاستعماري، وهنا يقرر بادموس  “بلا أدنى شك، كان استمرار تهميش أطراف السودان بلا انقطاع عقب الاستقلال، الوسيلة التي تتعزز عبرها المجتمعات النيلية من هيمنتها، وذلك باستخدام وزارة مالية السودان كأهم أدوات القهر الاقتصادي في أطراف السودان” [68] ، وما نشير إليه هنا، أن الفرق بين الدولة الاستعمارية الثانية، ودولة(56) يمكن في علاقات السلطة،  لا في طبيعة جهاز السلطة ومؤسسات الدولة،  ففي حين نلاحظ أن علاقات السلطة أثناء الدولة الاستعمارية الثانية، كانت تقوم على محددات الولاء والتبعية للقوى الاستعمارية، حيث كانت الأقلية الاستعمارية الأوروبية هي التي تتربع على هرم السلطة وتتحكم في موارد الدولة بما يضمن تحقيق مصالحها، نلاحظ أيضا،  أن علاقة السلطة في دولة (56)  تقوم على بشكل أساسي على الولاء والتبعية للنخب السياسية النهرية، وهذا أحد أهم الأسباب التي  نقرر استنادا إليها، أن دولة (56) هي إعادة إنتاج للدولة الاستعمارية،وأنها تجد جذورها في الممارسات السياسية للقوى الاستعمارية البريطانية، ذلك أن التطور الامتكافئ بين القوى الاجتماعية في أقاليم السودان المختلفة، كان يشير إلى تحولات مهولة في علاقات السلطة داخل الاجتماع-السياسي السودان،  خاصة وأن  جهاز الإدارة البريطاني “بدأ مبكرا في تحويل المجتمعات السودانية قبلية البنية، وتدعيم البنى والنظم السياسية  التي تتأسس على علاقات القرابة، وبواسطة ذلك كانت تؤسس لنظام الامتيازات القائم حاليا”[69]،  ولعل سياسة الامتيازات هذه، ذات الصلة بالتطور  اللامتكافيء للقوى الاجتماعية في السودان، كانت أهم أسباب الثورات والنزاعات في السودان، حيث أن تحول القوى الاجتماعية النهرية إلى الطبقة الحاكمة، أطلق ديناميات الاستقطاب والصراع  الاجتماعي على الثروة والسلطة في السودان في مستوى جديد، . وهنا يقول بادموس “عندما نال السودان استقلاله، كان الاستقطاب الحاد بين الشمال-الجنوب، وعددا آخرا من الانقسامات، يعمق ويساهم في بروز نمازج تصنيفات هرمية على أساس العرق/القبيلة، تحتل فيها مجموعات عرقية محددة المكانة الأعلى بين المجتمعات الأخرى، مستخدمة في ذلك حججا أنثروبولوجية تتأسس على تصوير  المجتمعات عرب السودان  النيلي كالمجتمعات الفاضلة في مقابل بقية مجموعات السودان العرقية.”٩٩٣[70]  وبالتبع فإنه لابد من أن نقرر هنا، أن تحول  النخب النهرية إلى شغل جهاز السلطة وفرضها هويتها العربية والإسلام، كان يعني أيضا، تحول العروبة والإسلام إلى محددات مهمة في علاقات السلطة،  وتحولها بالتبع إلى محرك رئيس  لتوليد اصطفاف هووي مضاد في مقابل للهوية العربية-المسلمة من قبل القوى الاجتماعية الافريقية في الهامش وخاصة تلك المجتمعات غير المسلمة بجنوب السودان.

جدير بالإشارة أيضا، أن تحول  النخب الوطنية استعمارية التشكل، والتي سنسميها هنا بالنخب السياسية لدولة (56)[71]  إلى الطبقة التي تهيمن حصرا على جهاز الدولة،  والتغيرات العميقة في علاقات السلطة نيجية ذلك والتي وصفناها أعلاه، كان من خلال ما عرف تاريخيا بعملية “السودنة”والتي تشير إلى العملية الإجرائية  التي سهلت تاريخيا،  إحلال الوريث الشرعي(النخبة السياسية دولة 56) مكان النخبة الاستعمارية الحاكمة،  وذلك عندما شكلت لجنة سودانية بواسطة القوى الاستعمارية لسودنة 800 وظيفة، كانت تشكل الفراغ الإداري الذي تركته القوى الاستعمارية في السودان. وجدير بالذكر هنا أيضا، أن عملية السودنة كانت بشكل حصري في ما عرف بمؤتمر الخريجين (1945) الذي كان بمثابة أول تشكيل سياسي حديث في السودان، والذي كان أيضا بمثابة أول جماعة ضغط لإنهاء الاستعمار في السودان، ويتكون من عدد من الخرجين والموظفين والفاعلين السياسين ذوي الصلة بالطوائف التقليدية والذين كانوا بمثابة نواة تشكل الأحزاب السياسية الحديثة في السودان، ولكن ما لا يمكن اغفاله  إضافة إلى كل هذه السمات التي تخص “مؤتمر الخريحين”، هي أنه كان يتكون بشكل أساسي من متعلمين ذوي جذور اجتماعية من وسط وشمال السودان وبعبارة أدق من القوى الاجتماعية النهرية، حيث يقول يلونين،  “ابتدأت عملية إنهاء استعمار السودان في منتصف الأربعينيات، وكانت حصرا في مؤتمر الخريجين، أهم تشكيل سياسي وطني سوداني -وقتها- وجماعة ضغط تنادي بانهاء الاستعمار، مكون حصرا من مجموعة من النخب العربية-المسلمة المتعلمة من وسط-شمال السودان”[72]  وهذا أيضا، أحد الأسباب التي تبرر تعريفنا للتحالف بين القوى الاستعمارية، والقوى الاجتماعية النهرية، بالتحالف المؤسس للدولة الاستعمارية الثانية، ودولة (56) أيضا، حيث نجد أن عملية السودنة هذه، تشرح بشكل واضح كيفية إعادة انتاج الدولة الاستعمارية، وإن في ثوب وطني، ذلك أن تحول النخب السياسية لدولة (56)، والتي حكمت السودان ما بعد الاستقلال واحتكرت الثروة والسلطة في السودان، إلى شغل مكان القوى الاستعمارية،  كان عن طريق ما يسمى ب”السلوك الريعي للخريحين” بحسب اصطلاح صديق أمبده، والذي يتلخص في أن: “تعمل النخبة على إعادة إنتاج طبقتها عن طريق شبكة العلاقات الاجتماعية التي بنتها منذ الدراسة -أيام الاستعمار- وذلك بتبادل المنافع والافضال فيما يخص المواقع الهامة والوظائف ذات الامتيازات والدخول العالية، بصرف النظر عن التكلفة الاجتماعية لهذه التجاوزات المرتبطة بذلك”[73]  ولعل مراجعة الممارسات السياسية للنخبة السياسية لدولة (56) تاريخيا، وخاصة في فترة التحضير للاستقلال تكشف أن “السلوك الريعي” للنخبة السياسية إبتدأ مؤسسيا -على مستوى المؤسسات-  في العام (1953) أثناء عملية “السودنة”  ففي هذا العام تم تشكيل لجنة “السودنة” والتي كلفت بسودنة (800) وظيفه أخلاها البريطانيين[74]، حيث تمظهر السلوك الريعي للنخبة في أن المعايير التي تم استخدامها في عملية السودنة  وملء الوظائف الإدراية العليا في الحكومة، لم تراعي قوانين المنافسة الحرة التي تستند إلى الجدارة أو الكفاءة، وإنما استندت إلى معايير القرابة أو الشللية الضيقة،  فعلى ما يبدو “إن حكومة “الأزهري” الأولى كانت حريصة على أن تملأ الفراغ السياسي الذي تركه المستعمر في أسرع وقت ممكن، وذلك قبل أن تأتي حكومة أخرى يرأسها الغريم السياسي التقليدي “حزب الأمة”[75]  كما يقرر صديق أمبدة،  وما يدلل على ذلك، أن لجنة السودنة، كانت قد “أنجزت عملية السودنة في سنة واحدة، بعد أن كان مقررا لها أن تتم مهمتها في ثلاثة سنوات”[76] وعلى هذا فإن المصلحة الضيقة للنخبة السياسية لدولة (56) كانت المحرك الرئيس لممارساتها السياسية وليس مفهوم  “المصلحة العامة”  أو “الوطن” الذي يجب أن يقدم على المصلحة الذاتية أو مصلحة القبيلة أو مصلحة الجماعة السياسية.، وهو الأمر الذي أدى إلى استمرار ذات السياسات الاستعمارية وبالتالي إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية، في دولة (56).

إننا نقرر هنا، أن عملية السودنة على هذا، كانت بداية تحول مؤسسات الدولة الاستعمارية الثانية، من خدمة مصالح أقلية اجتماعية استعمارية، إلى خدمة أقلية اجتماعية وطنية، ذلك أن النخبة السياسية التي ورثت جهاز السلطة الاستعماري لم ترثه على المستوى السياسي والاقتصادي فقط، وإنما حتى على المستوى الاجتماعي الثقافي، فقد أعلنت هذه النخبة فور الاستقلال، السودان دولة عربية مسلمة مطابقة بين هويتها الذاتية وهوية الدولة، كما أنها أعلنت نفسها الممثل السياسي الوحيد لكل السوادنيين الذي يسودهم التعدد والتنوع، حيث إدعت النخبة السياسسة لدولة (56) ذات الجذر النهري خطأ، أنها تمثل كل جمتمعات السودان، كمل يقول يلونين “متأثرين بحركات القومية العربية في العالم العربي، قد أدعوا خطأ تمثيل المجتمعات السودانية غير المتجانسة أبان الحقبة الاستعمارية”[77] ” وما يجب التأكيد عليه هنا، أن دولة (56) ومنذ إعلانها دولة مستقلة، تم اختطافها من قبل هذه النخبة وتسخيرها لخدمة مصالحها الضيقة ومصالح مجتمعاتها عبر مواصلة نفس السياسات الاستعمارية، التي تحرم عمدا الأقاليم الأخرى من المشاركة السياسية والتنمية الاقتصادية المتساوية، حيث أن هذه النخب كما يرى يلونين “ترى النخب العربية-المسلمة التي يتأسس مشروعها السياسي على هويتها الشخصية (هوية عربية-مسلمة)، والتي ورثت الاحتكار الحصري لجهاز الدولة؛ فإن السودان قد نال استقلاله كدولة عربية موحد تعترف بالإسلام دينا للدولة، مع وجود اعتقاد بتمثب النخب العربية-المسلمة المجموعات السودانية الأخرى غير المتجانسة معها.”[78]  ويشير يلونين في ذات السياق أيضا، إلى أن الممارسة السياسية للنخبة السياسية التي ورثت جهاز الدولة، قد “عززت البنى الدولة الاستعمارية، الأمر الذي ضمن استمرار احتكار السلطة السياسية من قبل النخب العربية-المسلمة”[79] ولعل ذلك هو السبب الرئيس في ظهور مقاومة مبكرة لهذه النزعة الاحتكارية خاصة في الأقاليم التي  غالبية سكانها مجتمعات غير عربية أو مجتمعات غير مسلمة أو الأثنين معا، وأقترح هنا لفهم دور إعادة الدولة الاستعمارية، وصلته بالحروب التي انتظمت تاريخ السودان عقب الاستقلال، أن  نشير إلى، أنه ونتيجة لقارات وحمالات صيد العبيد في جنوب السودان منذ القرن ال19 وكذلك حرمان الجنوبيين من المشاركة السياسية والاقتصادية من الفترة (1920_1940) وعزله عن أجزاء السودان الأخرى تحت قانون المناطق المحمية، كانت النخب الجنوبية حديثة التشكل تتوجس ولا تثق في النخب السياسية لدولة (56)، خاصة بعد أن تم حرمان الجنوبيين من الوظائف في عملية “السودنة” وهو الأمر الذي عنى بالنسبة لهم فقدات إمكانية المشاركة السياسية العادلة وفرص التمنية الاقتصادية هذا بالإضافة إلى مشروع الأسلمة والتعريب الذي تبنته النخب السياسية لدولة (56) فكما يقرر بادموس،”إن مشروع بناء الدولة هذا، اشتمل على سياسات قهرية في الأقاليم الهامشية  غير المتجانسة مع الهوية العربية-المسلمة، خاصة منطقة جنوب السودان، حيث أن أسوأ فترات التعريب والأسلمة القهرية كانت أهم العوامل المساهمة في ظهور النشاطات العنيفة بهدف مقاومة وتحدي الهيمنة العربية-الإسلامية.”[80] : ونقرر هنا أيضا، أن هذه الأسباب وأسبابخرى التي لم نذكرها والتي  قادت إلى تمرد توريد (1955) في جنوب السودان،  ليست أسبابا حديثة، وإنما قديمة تعود جذورها إلى التشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، وذلك ما يؤكده أن أول تمرد من قبل القوى الاجتماعية الأفريقية في الهامش كان في (1955) أي قبل عام من الاستقلال، كنتيجة مباشرة ورد فعل على هيمنة القوى الاجتماعية النهرية على جهاز السلطة الاستعماري وإقصاء بقية القوى الاجتماعية الأخرى عبر عملية السودنة، وهنا تجد معظم حروب السودان جذرها التاريخي.

نؤكد هنا أيضا، أن استمرار التطور اللامتكافئ بين القوى الاجتماعية في السودان ذي الصلة بالطبيعة الاحتكارية للدولة الاستعمارية عقب الاستقلال بديناميات أسرع ونتائح أكثر كارثية، يؤكد أن دولة (56) هي بدرجة أولى إعادة إنتاج للدولة الاستعمارية، حيث نلاحظ أنه  وتدريجا وعبر تسخيرها جهاز الدولة ومورادها الاقتصادية لصالح فئاتها الاجتماعية، بدأت تتطور  الطبقات الوسطى السودانية والطبقات البورجوازية المدينية، وفي فترة لاحقة الطبقة الرأسمالية السوادنية بشكل حصري من هذه القوى الاجتماعية النهرية، وبهذا المعنى فإن تطور الطبقات الاجتماعية الحديثة في السودان كان يتسارع ويتزايد محصورا في النخبة السياسية لدولة (56) وحواضنها الاجتماعية، حيث أن “التحكم في الموارد، سهل هيمنة النخب العربية-المسلمة على اقتصاد الدولة، وخلق مصدرا أساسيا مكنها من المحافظة على هيمنها”[81] ، وإضافة إلى حتكار السلطة كوسيلة لاستمرار هيمنتها، يشير يلونين إلى أن الدعم الخارجي لعب دورا مهما في استمرار هذه الهمينة للقوى الاجتماعية النهرية، حيث يقول، ” لعب توفر مصدر موارد خارجي، دورا مهما في تماسك بعض الأنظمة، ويشمل ذلك نظام عبود(1958-1964)، ونظام النميري (1969-1985) والنظام الاسلامي (1989)، وفي جميعها استخدمت الحكومة الاعتراف الدولي بشرعيتها كحكومات لدولة عربية-مسلمة عندما كان ذلك ذو منفعة لها، ويحقق لها دعما سياسيا، وموارد اقتصادية وعسكرية”[82]  وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى تسارع معدلات التطور اللامتكافئ بين القوى الاجتماعية النهرية والقوى الأجتماعية السودانية في الأقاليم الأخرى، ذي صلة، بترك القوى الاجتماعية في الهامش  لأنظمة الحكم التقليدي وللبنى الاقتصادية التقليدية، ذلك أنه في حين تواصل تركز مؤسسات الدولة الحديثة والخدمات والتمنية في المركز عقب الاستقلال، كان نظام الإدارة المحلي أو نظام الحكم التقليدي هو الذي يسود في الهامش، مع سيادة نظام الملكية الجماعي للأرض “الحاكورة” ونمط الانتاج الكفائي والرعي والزراعة التقليديين. وبعابرة أدق،  كان تواصل تركز مؤسسات الدولة الحديثة في الشمال-الوسط، يجعل ركائز الدولة الحديثة فقط هي التي توجد في الهامش، ويجعلها غير فاعلة في أداء وظائفها الحيوية، وهو الأمر الذي أعاق تطور الحس القومي وكذلك رابطة المواطنة في هوامش السودان.

إن مشكلة مشكلة الشرعية التي تعاني منها الدولة الاستعمارية، تطورت إلى مشكلة في رابطة المواطنة والحس القومي في دولة (56)، وذلك نتيجة هيمنة النخب السياسية لدولة (56) والقوى الاجتماعية النهرية على بيرقراطية الدولة بواسطة السلوك الريعي الذي وصفناه، حيث أن استمرار السياسات الاستعمارية التي تكرث للفوارق التموية والتطور اللامتكافيء  بين القوى الاجتماعية في السودان عقب الاستقلال، قطع الطريق على تحول المؤسسات الاستعمارية وأنظم حكمها إلى مؤسسات ونظم حكم وطنية، ذلك أن جهاز الدولة البيروقراطي أصبحت تسوده علاقات سلطة جهوية\عشائرية، وهو الأمر الذي يقلص فعالية الجهاز البيروقراطي للدولة كما أشرنا سابقا، ويجعل أداها يتراجع إلى أن يصل إلى غياب مؤسسات الدولة التام في بعض المناطق، وهنا يشير ميشيل بريتون ونيكولاس فان دي والي، إلى أن هذه السمة، هي السمة المميزة للدولة في أفريقيا عقب الاستقلال، حيث يؤكدان  أن “العلاقات الشخصية تشكل عاملاً هامشياً في كل الأنظمة البيروقراطية، ولكنها في أفريقيا تشكل الأساس والبنية الفوقية للمؤسسات السياسية”[83]   وهو الأمر الذي يشل الجهاز البيروقراطي للدولة حيث أن “شاغل السلطة التنفيذي يحتفظ بسلطته من خلال المحسوبية الشخصية، وليس من خلال الإيديولوجية أو القانون”[84] ولعل أهم تمظهر لهذه السمة، يتلخص في أن “تغلغل علاقات الولاء والتبعية العشائرية أو القرابية داخل النظام السياسي والإداري الرسمي للدولة”[85]  وهو الأمر الذي يحول مؤسسات الدولة ومواردها إلى غنيمة للقوى الاجتماعية التي في السلطة، وتخدم بشكل أساسي تفضيلاتها المجتمعية الخاصة، حيث  ” يشغل القادة المناصب البيروقراطية، ليس لأداء خدمة عامة، بل لاكتساب الثروة الشخصية والمكانة”[86]  ولعل سيادة علاقات سلطة تقليدية داخل مؤسسات الدولة الرسمية هو ما يفرغ مؤسسات الدولة من مضمونها الوطني الذي يقوم على التمييز بين المصلحة الخاصة والعامة، فكما يقرر بريتون ودي والي، فإن سيادة علاقات سلطة تقليدية داخل مؤسسات الدولة الحديثة، سيؤدي بالضرورة إلى نشوء نظام حكم هجين، تسوده “علاقات ولاء شخصي تتأسس على محسوبية، وعلى امتيازات غير مستحقة، ذلك أنها تستند على أسس التفضيل القائمة على القرابة، العرق، المجموعات المناطقية  “[87]،  وهو الأمر الذي يحول  “المؤسسات إلى مكافآت توزع على أسس شخصية، سواء على مستوى مؤسسات الدولة (لا سيما وظائف القطاع العام) أو في المجتمع (على سبيل المثال، التراخيص والعقود والمشاريع)، وفي مقابل المكافآت المادية هذه، يحشد المستفيدين الدعم السياسي”[88] ، وهنا نؤكد أن سيادة علاقات السلطة التقليدية للقوى النهرية وهيمنتها على بيروقراطية الدولة هو السبب الرئيس الذي يفسر تمكنها من إدارة جهاز الدولة لخدمة مصالحها الضيقة، وذلك بدلا عن إدارة الدولة ومورادها الاقتصادية في تنمية الخير العام للشعب وتمديد جهاز الدولة الخدمي وتوسيع دائرة المشاركة السياسية والاقتصادية، وتطوير الحس القومي ورابطة المواطنة داخل الاجتماع-لسياسي السوداني،ذلك أنه قد تمت إدراة جهاز الدولة وطوال تاريخ “الدولة الوطنية الثانية” بما يضمن تواصل احتكار الثروة والسلطة من قبل هذه القوى الاجتماعية النهرية.

نستنج من هذه الملاحظات والتحليلات ، أن إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية، كان يعني هجنة في نظم وأساليب الحكم في دولة (56)، وبالتالي سيادة نوعين من القيم (الحديثة  والتقليدية) داخل جهاز الدولة، الأمر الذي ساهم في تقلص فعالية الدولة ومؤسساتها عقب الاستقلال، نظرا إلى أن تواصل أساليب الحكم الاستعمارية، كان يعزز سياسات التطور التنموي غير المتكافئة التي تعزز الوجود الفوقي لمؤسسات الدولة الحديثة في أطراف\هوامش السودان، وفي هذا السياق، نعزو تراجع أداء مؤسسات الدولة الحديثة في السودان في أداء وظائفها الحيوية عقب الاستقلال، إلى أن أنظمة الحكم الحديثة لا يمكن أن توجد إلا في ظل تشريعات ترتبط بمفاهيم مثل المواطنة وحكم القانون  والدستور و…ألخ، وإلا في ظل وجود مؤسسات قانونية وعدلية وشرطية ورقابية تضمن سيادة حكم القانون،  وهو الأمر الذي يتعارض مع الطبيعة القهرية للدولة الاستعمارية، وبعبارة أخرى، نقرر أن إعادة انتاج الدولة الاستعمارية في صيغة وطنية، هو السبب الرئيس في تزايد قدرة مؤسسات الدولة في المركز وتناقصها وتناقص فاعليتها في أداء وظائف الضبط الاجتماعي في الهامش، حيث تفرض هجنة السلطة في (56) تعددا في الجهات التي  تحتكر العنف الشرعي داخل الدولة، ذلك أن الدولة  تحمي المواطنين في المركز وتضبط الصراع الاجتماعي سلميا بضمان حد أدنى من سيادة حكم القانون، لكن وفي الهامش، فإننا نجد أن الأنظمة الحماية التقليدية، مثل “القبيلة” و”المحاكم العرفية” تشارك الدولة وظائف الضبط الاجتماعي وظائفها الرئيسية الأخرى، ونشير هنا إلى أنظمة الحكم التقليدية، هي في الأساس مؤسسات لا تقوم على رابط المواطنة وإنما على رابط القبيلة، الجهة، الدين و…الخ: وبالتالي فإن وجود مؤسسات ونظم حكم حديثة في المركز وأخرى تقليدية في هامش، كان يشير إلى أن الدولة الحديثة في السودان غير متجذرة في المجتمع، ومن هنا حوجتها إلى البنى التقليدية، ونستنتج من ذلك أيضا، أن إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية  في المركز واستمرار فعالية البنى التقليدية في هامش\أطراف السودان   أنتج لنا “‘أزمة المواطنة” التي يعاني منها الاجتماع السياسي السوداني الحديث، ففي ظل غياب مؤسسات الدولة الحديثة، خاصة مؤسساتها الخدمية بشكل تام أو جزئيا في الهامش، أو في ظل عدم حضورها في حياة القوى الاجتماعية في الهامش إلا بالكاد،  تعرف مؤسسات الدولة الحديثة من قبل القوى الاجتماعية في الهامش على أنها مؤسسات حكم غريبة عنهم مثلها مثل السلطة الاستعمارية،  وهو الأمر الذي يجعل البنى التقليدية هي الأكثر شرعية وفاعلية، نظرا لحضورها وفعاليتها العالية في أداء وظيفة الضبط الاجتماعي في  الهامش، وهذا ما يفسر أيضا، أن المواطنون في الهامش لا يعرفون  أنفسهم “كمواطنين في الدولة” على الأقل في المقام الأول، وإنما  كمنتمين إلى “قبائل” “أعراق” “أديان” في المقام الأول، ومن ثم بعد ذلك كمواطنين في الدولة،  وما نشير إليه هنا، أن إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية، كان يعني عدم وجود أو ضعف مؤسسات الدولة في أطراف السودان، ذلك أن تطوير وترسيخ “حس المواطنة” “الحس القومي” لا يمكن أن يتم عبر احتكار العنف الشرعي فقط، وإنما عبر تمديد الجهاز الخدمي ومؤسسات الدولة لتصبح نظام الحكم والفاعل الرئيسي في تشكيل الحياة الاجتماعية لمواطني الهامش، وهو الأمر الذي يتعارض مع الطبيعة الاستعمارية للدولة الحديثة في السودان، ويتعارض كذلك مع الممارسة الاحتكارية للنخب السياسية لدولة (56) ونقرر هنا، أنه ما دامت النظم الاجتماعية التقليدية هي الفاعل الرئيس في حياة الناس في الهامش، فإن القوى الاجتماعية التي توجد هناك ستظل تلجأ إليها لتقديم الخدمات الحمائية والاقتصادية والاجتماعية، وبعبارة أخرى، فإن ذلك يعني وجود كيانات ونظم اجتماعية ذات شرعية اجتماعية،  وتنافس دولة(56) وظائفها الحيوية.

(4)-دولة (56): آليات إنتاج الحروب والثورات: حرب 15 أبريل نموذجا

لعل أول ما يمكن أن نستنتجه من تحليل التشكل الاستعماري للدولة السودانية الحديثة في السودان، وفحص طبيعة أو بنية المؤسسات التي فرضتها القوى الاستعمارية وطبيعة السلطة ونظام وأساليب الحكم فيها، إضافة إلى تتبع التحولات الجذرية على مستوى علاقات السلطة والاقتصاد داخل  الاجتماع-السياسي السوداني، وكذلك تتبع التطور التاريخي للقوى الاجتماعية السودانية في علاقتها بمؤسسات الدولة الاستعمارية ، يكشف أن حالة عدم الاستقرار السياسي التي انتظمت البلاد عقب الاستقلال، والتي تمظهرت في عدد لا يحصى من الحروب والثورات والتمردات، هي نتيجة مباشرة لما اسميناه بالدولة الاستعمارية وسياساتها، وإعادة انتاجها في دولة (56)، وهنا نشير إلى أن حرب 15 أبريل  تأتي ضمن سلسلة حروب طويلة ومتتالية حيث أن السودان كما يشير تقرير بعثة تقصي الحقائق (the Independent International Fact-Finding Mission for the Sudan) التابعة مجلس حقوق الإنسان (Human Rights Council-HRC)التابع للامم المتحدة (United Nations-UN)  الصادر عقب سنة ونيف على حرب 15أبريل،    ” في دوامة من العنف والتشظي منذ الاستقلال، والذي  كان عنفا مؤسسيا ومتواصلا حتى في أوقت السلام” [89]، ولعل  دوامة العنف والحروب  التي دخل فيها السودان عقب الاستقلال، تشير إلى وجود مشكلات بنيوية في مؤسسات الدولة،خاصة وأنها حروب وتمردات وثورات كانت دائما ما  تنشأ نتيجة المظالم التاريخية ذات الصلة بالتهميش الاجتماعي والتطور غير المتكافئ بين القوى الاجتماعية ذي الصلة بمؤسسات وسياسات الدولة الاستعمارية، حيث أن السودان اختبر أزمنة متطاولة من الصراعات المسلحة،والمعاناة السياسية والحروب التي تمخضت عن توقيع “أكثر من 46 اتفاقية للسلام،  تعاني جميعها من نقطة ضعف مشتركة، وهي التركيز على إنهاء الصراع دون معالجة جذوره ومحاسبة المسؤولين من الانتهاكات الواسعة،”[90] وبغض النظر عن فشل كل هذا الكم من اتفاقيات السلام، إلا أن كل هذه الحروب التي تستدعي هذا العدد الكبير من اتفاقيات السلام، تشير إلى وجود آليات ودينمات تاريخية تؤدي إلى إنتاج هذه الحروب والثورات.  وفي هذا القسم من البحث، سأحاول بحث الارتباط الوثيق بين إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية في دولة (56)،والحروب والثورات التي انتظمت تاريخ السودان، وأيضا، تحديد آليات إنتاج العنف والحروب والثورات المتجذرة في التشكل الاستعماري لدولة (56)، وعلاقة كل ذلك بحرب 15 أبريل الحالية، ونواصل هنا أيضا تكملة النموذج التفسيري الذي نفسر عبره الصراع الاجتماعي في السودان، وهذه الحرب أيضا.

في البدء، نقرر هنا، أن إعادة إنتاج الدولة الاستعمارية في دولة (56) وهيمنة القوى الاجتماعية النهرية الاحتكارية على الثورة السلطة، جعل الصراع الاجتماعي في السودان ذو مستويين، الأول: هو المستوى الداخلي للصراع على السلطة، حيث تتصراع  النشكيلات السياسية الحديثة فيما بينها -أشرنا إلى تكونها  الحصري من القوى الاجتماعية النهرية- في المركز، وتتنافس الهيمنة على بيروقراطية الدولة وجهاز السلطة، أما المستوى الثاني: فهو المستوى الخارجي للصراع، حيث تتصراع  القوى الاجتماعية النهرية التي تحتكر السلطة والثورة في المركز والقوى الاجتماعية التقليدية في الهامش “دارفور وكردفان والشرق” وتشكيلاتها السياسية والعسكرية، ذلك أن الدولة  التي لها نظام حكم هجين مثل دولة(56)، وتهيمن فيها قوى اجتماعية بعينها على جهاز السلطة، تخلق وبشكل مؤسسي  مظالم  تاريخية  وبالتالي شروطا اجتماعية للتمرد على جهاز الدولة المحتكر، حيث أن سيادة علاقات سلطة تقليدية  على بيروقراطية الدولة، يعجل مؤسسات الدولة، كما يقرر دي وال وبريتون، تعمل بشكل مؤسسي على  “طرد المعارضين عوضا عن  استيعابهم،  مشكلة السبب الرئيسي في ظهور المعارضة المنظمة”[91]، وباختصار هنا نقول: إن إعادة انتاج الدولة الاستعمارية في دولة (56) واستمرار السياسات ونظم وأساليب الحكم الاستعماري،  هي الدليل الأهم على الممارسة السياسية للنخبة السياسية لدولة (56) تاريخيا، لم تكن تسند إلى قيم ديمقراطية أو وطنية أو قومية راسخة، وليس هذا فحسب، بل إننا نحاجج هنا على أن استمرار الطبيعة الاحتكارية لجهاز السلطة الإستعماري، يجعل نظام الحكم في دولة (56) في تناقض مع الديمقراطية كنظام حكم، ذلك أن نظام الحكم الديمقراطي يقوم على قيم حديثة مثل المواطنة والمشاركة السياسية، المساواة أمام القانون، كما أنها تفرض ممارسة سياسية  تقوم على توسيع قاعد المشاركة في السلطة والثورة، وعلى إدراة الصراع الاجتماعي بشكل سلمي: وهي الخصائص التي تجعل الديمقراطية في تناقض جذري مع الإمتيازات التاريخية الموروثة للقوى الاجتماعية النهرية. وبهذا المعنى فإن  الديمقراطية  لابد أن تكون ضد الطبيعة الاحتكارية لجهاز السلطة ذي الطبيعة الاحتكارية لدولة (56) وضد مصالح نخبتها السياسية المهيمنة، التي  لم تحتكر السلطة فقط، بل حتى التنافس عليها في السودان، وكانت بذلك تجعل الصراع الاجتماعي على السلطة في السودان ذي مستويين، داخلي وخارجي.

جدير بالذكر هنا أيضا، أن كون الصراع الاجتماعي ذو مستويين داخلي وخارجي، يشير إلى أن هنالك نوعين من المعارضة للسلطة، النوع الأول “المعارضة الداخلية” التي تتكون من نفس القوى الاجتماعية النهرية المهيمنة على بيروقراطية الدولة وخاصة جيشها، والنوع الثاني: “المعارضة الخارجية” التي تتكون من التشكيلات السياسية والعسكرية للقوى الاجتماعية في الهامش، كما أن هذين المستويين  من الصراع يشيران أيضا، إلى وجود نوعين من التناقض داخل الاجتماع-السياسي السوادني بين القوى الاجتماعية التي تتصارع على السلطة في السودان، هي: التناقض الثانوي، الذي يتركز بشكل أساسي بين المعارضة الداخلية والتشكيلات السياسية الحاكمة تاريخا لدولة (56)، ونعرفه على أنه تناقص ثانوي نظرا للتطابق من حيث القوى الاجتماعية وبالتالي المصالح الاجتماعية، بين كل من التشكيلات المعارضة في المركز والتشكيلات الحاكمة تاريخيا لدولة (56)، وهنالك أيضا،  النوع  الثاني من التناقض والذي نعرفه على أنه، التناقض الرئيسي داخل الاجتماع-السياسي السوداني، والذي يوجد بشكل رئيس بين التشكيلات السياسية\العسكرية للقوى الاجتماعية في الهامش والتشكيلات السياسية\العسكرية الحاكمة تاريخيا -القوى الاجتماعية النهرية-  لدولة (56)، وهو تناقض رئيسي نظرا للاختلاف من حيث القوى الاجتماعية وبالتالي المصالح الاجتماعية، حيث أن مصلحة القوى الاجتماعية في الهامش تتركز بشكل أساسي في إنهاء الحكم الاحتكاري للقوى الاجتماعية النهرية وبالتبع مؤسسات الدولة الاستعمارية التي تمت إعادة إنتاجها في دولة (56)، هذا في حين توجد مصلحة القوى الاجتماعية النهرية في تواصل حكمها الاحتكاري وهمنتها على جهاز الدولة. نشير في هذا السياق أيضا، إلى أن أهم ما يؤكد وجود هذين المستووين، -الخارجي والداخلي- للصراع الاجتماعي على السلطة داخل الاجتماع-السياسي السوداني،  هو دخول المؤسسة العسكرية التي تهيمن عليها القوى الاجتماعية النهرية -ضمن المؤسسات استعمارية الطابع التي ورثتها عن القوى الاستعمارية- خاصة قيادتها العليا: كفاعل سياسي رئيسي في المشهد السياسي السوداني، وبالتالي خروجها عن أن تكون مؤسسة عسكرية مهنية  منذ وقت باكر على الاستقلال، حيث يشير منزول أبو عسل إلى ذلك قائلا، “إن تورط الجيش في الأنشطة السياسية الاقتصادية يعود إلى السنوات الأولى من الاستقلال”[92].

أيضا، إن  وجود هذين المستويين (الداخلي والخارجي) للصراع الاجتماعي في السودان، وكذلك  وجود هذين النوعين من التناقض (الثانوي والرئيسي)، يمكن أن يدلل عليه أيضا، عبر  قدرة المعارضة الداخلية وتشكيلاتها السياسية العالية تاريخيا، على تغيير الأنظمة الحاكمة لدولة (56) بواسطة المؤسسة العسكرية ، ويكفي لإثبات ذلك مراجعة العلاقة التاريخية بين التشكيلات السياسية الحديثة التي نشأت في المركز والانقلابات العسكرية، فعلى سبيل المثال كان الانقلاب الذي قام به الجنرال عبود (1958-1964) بتخطيط من حزب الأمة القومي وطائفة الأنصار، حيث ” ابتدأ عبد الله خليل، والذي كان رئيسا للوزراء وأيضا وزيرا للدفاع وضابطا رفيعا سابقا في قوة دفاع السودان -الجيش، قبل أن يدخل السياسة، مشاورات مع قيادة الجيش حول إمكان انقلاب عسكري”[93] بحزب الأمة القومي وأيضا كان الانقلاب العسكري الذي أسس ما عرف تاريخيا بنظام مايو (1969-1985) بقيادة جعفر نيمري بالتخطيط مع الحزب الشيوعي، وكان الانقلاب العسكري الذي أسس ما عرف بنظام الانقاذ (1989-2019) بقيادة الجنرال عمر البشير بالتخطيط مع الجبهة الإسلامية القومية، وهذه هي، الانقلابات التي شكلت أكثر من ثلثي فترة الاستقلال، هي الانقلابات الناجحة فقط، فهنالك عشرات الانقلابات العسكرية الحزبية التي فشلت والتي لا داعي لذكرها هنا، ونحن نربط هنا أيضا،  بين سيطرة المؤسسة العسكرية على معظم تاريخ  الحكم في البلاد عقب الاستقلال، وبين الطبيعة الاستبداية لجهاز السلطة الاستعماري، حيث يمثل الحكم العسكري الوطني  إمتدادا لضرورة عسكرة جهاز السلطة الاستعماري في الحقبتين الأولى والثانية، وهي الضرورة التي تفرضتها حماية القوى الاجتماعية النهرية لحكمها الاحتكاري مثلما كانت تفرضها سابقا ضرورة حماية الحكم الاحتكاري للقوى الاستعمارية كما ذكرنا في الأقسام السابقة، وهو  الأمر الذي يؤدي بالنهاية إلى تشكل قوى عسكرية الطابع نتيجة المظالم التاريخية المرتبطة بالحكم العسكري الاحتكاري من القوى الاجتماعية في الهامش، ونقرر استنادا إلى ذلك أن الارتباط الوثيق بين الحكم العسكري الاحتكاري الأمر ونشوء الحركات المسلحة من القوى الاجتماعية في الهامش، ولعل ما يجب تأكيده هنا استنادا إلى هذه الملاحظات،  أن الممارسة السياسية الاحتكارية للنخبة السياسية لدولة (56) كانت دائما وأبدا  تخلق مقاومة داخلية اصلاحية[94] (داخل دائرة التشكيلات السياسية للنخبة السياسي\العسكرية لدولة (56)) ومقاومة خارجية ثورية(التشكيلات السياسية\العسكرية للقوى الاجتماعية في الهامش)، حيث نجد أن الممارسة الإقتصائة للنخب السياسية عقب الاستعمار، كانت العامل الرئيس في ظهور المعارضة المنظمة في الهامش، ذلك أنه  “كلما اكتمل حرمان المعارضة الخارجية من الفرص الاقتصادية والمشاركة السياسية، كلما زادت قوة دوافع لمعارضة النظام القائم”[95]وهي مقاومة أتخذت أشكالا مختلفة، عسكرية ومدنية،  ولكنها في المجمل إما انتفاضات سلمية في المركز أو انتفضات مسلحة في الهامش.

جدير بالذكر هنا، أن التمييز الذي نخطه بين مستويي (الداخلي-الخارجي) الصراع الاجتماع في السوداني، نؤكد أن ضعف القوى الاجتماعية  في الهامش، أو المعارضة الخارجية وعدم قدرتها على تهديد الحكم الاحتكاري للنخب العسكرية\السياسية لدولة(56) تاريخيا، يعود إلى أن تواصل أساليب الحكم المورثة من الاستعمار، خاصة  القاعدة الاستعمارية “فرق تسد”  والتي ظلت تتخذها النخبة السياسية لدولة (56) كأسلوب مركزي للحكم: حيث أنها وعقب الاستقلال،  أصبحت تتخذ من التلاعب بالنظم الاجتماعية في الهامش وفي التركيبة الاجتماعية لمجتمعاته، أداة مهمة لتقسيم مجتمعات الهامش وجعلها غير قادرة على التنظيم بشكل يجعلها قادرة على تهديد الحكم الاحتكاري للقوى الاجتماعية النهرية ، ونشير هنا إلى أن ذلك، كان ذلك كان دائما ما يتم عن طريق التلاعب ببنى السلطة التقليدية في الهامش، عبر ما سنسميه بسياسة  “المليشيات” التي برعت فيها هذه النخبة، حيث كانت تستخدم سياسة المليشيات هذه من قبل النخبة السياسية لدولة (56)، لضمان تبعية بعض المجتمعات من القوى الاجتماعية في الهامش، لجهاز السلطة في المركز، واستخدامها كأدوات لتأجيج الصراعات والنزاعات بين القبائل والجماعات والمجتمعات في الهامش، وأيضا كأدوات لقمع التشكيلات الثورية في الهامش: ومن الضروري أن نؤكد هنا،أن سياسة المليشيات هذه رفقة المظالم التاريخية، كانت تفاقم حدة الصراع الاجتماعي في الهامش، ذلك أنه وفي حين كانت تتزايد فعالية مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية والأمنية في المركز والجغرافيا التاريخية لنخبة دولة (56) عقب الاستقلال، كانت تتشكل تدريجيا وبالتوازي مع ذلك في الهامش تشكيلات سياسية وعسكرية ذات طابع تقليدي في الهامش كفعال رئيس في الحياة الاجتماعية لمجتماعات الهامش وهي تشكيلات سياسية\عسكرسة تشارك الدولة شرعيتها ووظائفها الحيوية، بعضها ثوري، والآخر تابع للسلطة، الأمر الذي فاقم حدة الصراع الاجتماعي في الهامش. ونجد هنا أيضا، أن سياسة المليشيات هذه، هي السياسية  المسؤولة بشكل مباشر عن الكثير من الحروب في تاريخ السودان ، خاصة  حرب 15 أبريل الحالية، حيث أن قوات الدعم السريع  (Rapid Support Forces-RSF) أحد أطراف الحرب 15 أبريل يعود جذرها إلى سياسة المليشيات هذه.

 إننا نوصف سياسة المليشيات هذه، كأحدى أهم آليات إنتاج الحروب والثورات والتمرداتفي دولة (56)، نظرا لأنها تخلق -كما حدث تاريخيا جهات أخرى غير المؤسسة الأمنية والعسكرية الرسمية للدولة، وبالتبع حالة من تعدد الجهات التي تحتكر العنف الشرعي داخل الاجتماع-السياسي السوداني، وهي الحالة التي تشكل تهديدا مباشرا للدولة، خاصة وأن هذه المليشيات التي تنشئها الدولة، غالبا من تتكون من جماعات أو مجتماعات مهمشة، وفي هذا السياق يشير بياتريس أونامو وإسرائيل نيابوري نياديرا إلى أن خطورة سياسة المليشيات على الدولة، تكمن في أن هذه المليشيات نشأت أصلا كوسيلة للعنف وبديلا للطرق الدبلوماسية في حل النزاعات، ومن هنا يربطان بين قدرتها العالية على تغيير الأنظمة وبين المرونة الناتجة عن أنها جهة موازية للدولة في ممارسة العنف الشرعي، حيث يؤكدان “أن قدرتها على التصرف بشكل مستقل مع الاحتفاظ بالارتباط بهياكل السلطة الرسمية تجعلها عوامل قوية لتغيير الأنظمة، وهو ما يترتب عليه في كثير من الأحيان عواقب وخيمة على الاستقرار الوطني والحكم.”[96] وهنا نلاحظ أن المجتمعات العربية في الهامش،  والتي تم تجنيدها في عدة مليشيات، ونظرا لأنها مجتمعات مهمشة وبالتالي في تناقض رئيس مع الدولة، كانت قد تمردت عدة مرات على الدولة، حيث يشير أونامو ونياديرا أيضا.  إلى أنه “ومنذ عام 2006 فصاعداً، كانت هناك حالات ملحوظة من عدم الولاء والمواجهات بين الميليشيات والقوات النظامية، وخاصة في دارفور”[97].ـ ويضيفان “أظهر العرب في كردفان ودارفور مقاومة متزايدة لتعبئة الميليشيات لقمع التمردات…. وبذلت الحكومة جهوداً متضافرة لاستعادة السيطرة على الميليشيات العربية في دارفور التي أصبحت غير مخلصة على نحو متزايد.”.[98] ، وهنا نؤكد أن إمكان تمرد القوى الاجتماعية العربية الرعوية في الهامش  على الدولة، يكمن في وجود التناقض الرئيس بينها وبين القوى الاجتماعية النهرية الذي وصفناه سابقا، خاصة وأن سياسةالمليشيات هذه، تربتط بدولة (56) وبنيتها، وليس بنظام محدد من بين النظم السياسية التي توالت على حكمها عقب الاستقلال ، حيث ” تعود أقدم مظاهر هذه الجماعات إلى الحرب الأهلية السودانية الأولى (1955-1972)”[99] ، وهي الحرب التي كانت الحرب صراعا بشكل رئيس بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة السودانية المركزية، وهنا نشير أيضا. إلى أن سياسية المليشسات أصحبت سياسية  رسمية للدولة عقب الاستقلال مباشرة، وتعززت  خلال الحرب الأهلية السودانية الثانية (1983-2005)، حيث نلاحظ أن النظام الإسلامي (1989-2019) تحت إدارة عمر البشير اعتمد على قوات شبه نظامية،  مثل قوات الدفاع الشعبي (People Defend  Forces-PDF) لتعزيز قدرة الجيش ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان (Sudan People Liberation Movement- SPLM)، ومن ثم قامت  نفس الإدارة بإنشاء عدة مليشات في دارفور، كان الهدف من تشكيلها مواجهة التمردات التي تشنها الجماعات غير العربية في دارفور، …. حركة العدل والمساواة (Justice and Equality Movement- JEM) وجيش تحرير السودان (Sudan Liberation Army- SLA))[100]،  ونستنتج هنا فيما يتعلق بالصراع الاجتماعي في السودان عقب الاستقلال، أن سياسية المليشيات هذه، هي السياسة التي تفسر تحول زعماء القبائل في الهامش إلى قادة عسكريين ، وتحول بعض القبائل والعشائر إلى مليشيات قبلية، وكذلك تحول الزعاء التقليديين إلى أمراء حرب في السودان، ذلك أنها كانت العامل الرئيس الذي  يسهل نجاح النخبة السياسية والعسكرية لدولة (56) في تقسيم القوى الاجتماعية في الهامش، عبر عسكرة بعض الجماعات القبلية في مليشيات مسلحة، ونشير هنا، إلى أن النخبة السياسية \العسكرية لدولة (56) كانت تنجح في عسكرة مجتمعات الهامش، عن طريق   “تلاعب جميع أطراف الصراع بالأعراق واحتداد التمايزات العرقية بتصوير الصراع بوصفه «حرب » إبادة ضد «الأفارقة »”[101]، وبالتالي تنجح أيضا في تحويل الصراع  من صراع اجتماعي على الثورة والسلطة إلى صراع عرقي، وما يجب أن نستنتجه من ذلك،  أن  هيمنة القوى النهرية على السلطة وفرضها للعروبة والإسلام، كانت الدافع الرئيس لصطفاف المجتمعات غير العربية وغير المسلمة التي نسميها بالقوى الاجتماعية الافريقية في تشكيلات سياسية وعسكرية تطالب بالعدالة ورفع المظالم التاريخية، وهذا هو السبب التاريخي لتعريف النخبة السياسية والعسكرية لدولة (56) الصراع على السلطة في السودان، على أنه صراع (أفارقة ضد عرب) أو صراع (مسلميين ضد مسيحيين)، كما  أن التلاعب بالنسيج الاجتماعي في الهامش عبر سياسات المليشيا أيضا، كان  دائما ما يدفع القوى الاجتماعية العربية الرعوية،  للتشكل في عدة تشكيلات عسكرية موالية للدولة، حيث يؤكد جولي فليب، “إن الإبالة -رعاة الإبل- الذي شكلوا رأس الحربة في حملة الحكومة لمكافحة التمرد في سنة 2003 كانوا عموما أكثر فقراً وتهميشاً من غير العرب الذين قادوا التمرد”[102]  وعلى ذلك فهذه السياسية كانت تعمل وبشكل أساسي على خلق تشكيلات عسكرية من المجتماعات العربية في الهامش موالية للسلطة في دولة (56)، ولعل النتيجة النهائية لها كانت  تفاقم  حدة الصراع والعنف في الهامش، وتصاعد كذلك من حدة الاستقطاب العرقي بين القوى الاجتماعية في الهامش من جهة، وبينها وبين القوى الاجتماعية النهرية من جهة أخرى، وكل ذلك كان يتمظهر بشكل رئيسي في تطور نوعين رئيسيين من القوى الاجتماعية في الهامش، المجتمعات ذات الجذر الأفريقي، والمجتمعات ذات الجذر العربي.

في سياق التمييز الذي نطرحه بين مستويين للصراع الاجتماعي على السلطة في السودان أيضا، نشير إلى أن  الأسباب التي أدت  فشل النخب السياسية لدولة (56) تاريخيا في إنجاز التحول الديمقراطي، ترتبط بشكل وثيق بمقولتي التناقض الثانوي والتناقض الرئيس، حيث نلاحظ أن إعادة انتاج الدولة الاستعمارية عبر علاقات السلطة العشائرية\الجهوية التي تهيمن القوى الاجتماعية النهرية من خلالها على بيروقراطية الدولة، يجعل مؤسسات الدولة،  “تميل إلى خلق نخبة متماسكة دفاعياً داخل الدولة، فضلاً عن مجموعة محتملة من الزعماء البدلاء خارج الدولة”[103] كما يقرر دي والي وبريتون، وهو الأمر الذي يجعل  التناقض بين التشكيلات السياسية داخل القوى الاجتماعية النهرية تناقضا ثانويا، ذلك أن المعارضة الجذرية نتيجة الطبيعة الاحتكارية لسلطة دولة (56) ستكون من الهامش، حيث أن هنالك تناقضا رئيسيا بين القوى الاجتماعية في الهامش والقوى النهرية التي تهيمن على بيروقراطية الدولة في المركز. وبعبارة أدق، يرتبط فشل النخب السياسية لدولة (56)  في إنجاز التحول الديمقراطي، بالتطابق من حيث القوى الاجتماعية بين التشكيلات السياسية الحديثة التي حكمت السودان تاريخيا عقب الاستقلال والتشكيلات السياسية المعارضة لها (المعارضة الداخلية) في المركز ، حيث أن هذا التطابق، يجعل الصراع على السلطة داخل القوى الاجتماعية يستند إلى تناقض ثانوي،  ومن هنا النزوع الإصلاحي للتشكيلات السياسية الحديثة في المركز، فكما يلاحظ دي وال وبريتون أن الصراع السياسي في الدول ذات النظم السياسية التي تسودها علاقات سلطة تقليدية “يبدأ كنتيجة لظهور نخبة جديدة من خارج دائرة النخبة القديمة”[104]،ذلك أن المعارضة الداخلية للنظام دائما ما تكون “أكثر ميلاً إلى اتخاذ موقف على أسس مصالحية في الصراعات على الغنائم”[105]، وهذا ما حدث تاريخيا في السودان، ذلك أن سيناريو تعثر التحول الديمقراطي دائما ما كان واحدا في حقب مختلفة، فبمجرد صعود المعارضة الداخلية للنظام الحاكم في المركز للسلطة عقب ثورة شعبية سلمية، حتى تفارق الممارسة الديمقراطية، لتواصل نفس السياسات الموروثة من المستعمر، وهذا الجزء الأول من السيناريو. أما الجزء الثاني فهو أن هذه التشكيلات السياسية الحديثة ونتيجة الخلفات في ما بينها، دائما ما تلجأ إلى الاستعانة بالمؤسسة العسكرية التي أخرجتها الثورة أو الإنتفاضة من السلطة، في إسقاط الحكومات الشرعية التي أدت عقب انتخابات شعبية ديمقراطية، وهذا ما حدث تاريخ في الانقلابات الثلاث المذكورة آنفا،   لينشأ تحالف جديد بين المؤسسة العسكرية والتشكيلات السياسية من المعارضة الداخلية لاستئناف الحكم الاحتكاري الذي يخدم مصلحة القوى الاجتماعية النهرية المهيمنة على دولة (56)، وهذا ما نسميه بسيناريو فشل الحول الديمقراطي في السودان.

في سياق سيناريو فشل التحول الديمقراطي في السودان، نشير إلى أن التطابق من حيث القوى الاجتماعية، بين التشكيلات الحديثة المعارضة في المركز والتشكيلات الحاكمة تاريخا، كان دائما،  ما يكشف نزعتها الإصلاحية التي أشرنا إليها أعلاه، وهذا ما حدث تاريخا في كل من ثورة أكتوبر (1964)  وثورة أبريل (1985)  ثورة ديسمبر (2018) التي كان جميعها ثورات شعبية أسقطت نظم عسكرية احتكارية، وتلتها نقلابات عسكرية، وسنقصر تحليلنا هنا على ثورة ديسمبر نظرا لارتباطها الوثيق بحرب 15 أبريل التي تتبع جذورها في هذا البحث، ونشير هنا، إلى أنها كانت ثورة شعبية، شاركت فيها كل من القوى الاجتماعية الحديثة في المركز، إضافة إلى  القوى التقليدية من الهامش. ولعل اتساع  القاعدة الاجتماعية لثورة ديسمبر هذا، هو الذي جعل مطالب الثورة جذرية، وتتمثل بشكل رئيس  في تغيير جذري في بنية السلطة وإنجاز التحول الديمقراطي في السودان، وبالتبع نهاية الحكم الاحتكاري للقوى الاجتماعية النهرية والدولة الاستعمارية ومؤسساتها، كما أنه أيضا، السبب الرئيس في نجاح الفعل الثوري للقوى الاجتماعية الحديثة في المركز والقوى الاجتماعية التقليدية في الهامش، بعد عدة أشهر من إندلاع الثورة، من الاطاحة بالنظام الإسلامي الحاكم، ولكن ونتيجة للاختلاف التاريخي من حيث التطور بين القوى الاجتماعية في السودان، فإن القوى الاجتماعية النهرية الأكثر تطورا، والتي توجد بشكل رئيسي  في المركز، وتشكيلاتها السياسية الحديثة التي تشكل المعارضة الداخلية للنظام الحاكم، كانت  هي الأقدر على افراز القيادة السياسية التي ستقود الثورة، وهنا  وكما في سيناريو فشل التحول الديمقراطي في السودان الذي وصفناه، نلاحظ أن تحول المعارضة السياسية الداخلية  للنظام: من موقع المعارضة إلى موقع السلطة الحاكمة، وذلك في أعقاب  سقوط النظام الإسلامي شكليا في 11 أبريل (2019)،  كان إعلانا بتحولها من تبني الموقف الثوري الداعي إلى تغيير جذري في بنية السلطة: إلى تبني موقف إصلاحي:  ويتضح ذلك في المفارقة الآتية: في الحين الذي كانت فيه “ثورة ديسمبر (2018) ثورة شعبية وجذرية المطالب، وقعت قوى الحرية والتغيير التي تمثل القيادة الفعلية للثورة،  الوثيقة الدستورية في 4  اغسطس (2019) والتي أسست للشراكة السلطوية بين الأحزاب السياسية المعارضة للنظام الإسلامي  والمؤسسة العسكرية التي تتكون من القوات المسلحة السودانية ((Sudanese Armed Forces-SAF، ,وقوات الدعم السريع ((RSF وهنا يقول منزول أبو عسل “لقد بدأت ثورة ديسمبر في الهامش الريفي، لكنها سرعان ما استخدمت من قبل شباب الطبقة الوسطى في الخرطوم، مستخدمين وسائل التواصل الاجتماعي”[106]. وبالنظر إلى  التطور التاريخي لهذه الأحزاب )المعارضة الداخلية في للنظام الحاكم)،  ومشاريعها وبرامجها السياسية، فسندرك أن التطابق من حيث القوى الاجتماعية بينها وبين القوات المسلحة السودانية والنظام الإسلامي الذي يهمن على قيادتها، هو الذي جعلها تقبل الصيغة السياسية لبقاء المؤسسة العسكرية في السلطة،   ةهو الأمر الذي “يؤكد النموذج طويل الأمد الذي  كان يتم بواسطة تحويل مسار التغيير السياسي بواسطة الطبقات الوسطى الحضرية، ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، وحتى في ظل حدوث احتجاجات في مدن مثل عطبرة والفاشر قبل الخرطوم، إلا أن هذه المدن لا يمكن أن تمثل الفاعلين الريفيين”[107]   وعلى هذا فإن الممارسة السياسية لتشكيلات المعارضة التي أصبحت حاكمة بموجب الوثيقة الدستورية أدت إلى تفريغ الثورة من مضمونها الشعبي، وهو ما يفسر كذلك التناقص التدريجي لمشاركة القوى التقليدية في الهامش في الفعل الثوري، إلى أن أصبح الفعل الثوري يتركز بشكل أساسي في المدن، أي في الطبقات المدينية، وبالتبع التحول التدريجي لقيادتها السياسية من المطالبة بتغيير جذري في بنية السلطة، إلى ممارسة سياسية تتركز حول تغييرات اصلاحية، ذلك أنها قيادة الثورة وقواها الفاعلة انحصرت بشكل رئيس، عقب الوثيقة الدستورية في الطبقات الوسطى، وهنا باختصار، كما يؤكد منزول “كان فشل الحكومة المدنية راجعًا إلى مشاكل في الوثيقة الدستورية، ونفوذ المكون العسكري في مجلس السيادة، والافتقار إلى الانسجام بين أعضاء قوى الحرية والتغيير والتخريب النشط من قبل الموالين للبشير[108]” وما نود أن نقرره هنا، أن فشل الانتقال الديمقراطي عقب الثورات الشعبية في السودان،  كان دائما يعود إلى قدرة الطبقات الوسطى على الهيمنة على الثورات الشعبية، الأمر الذي يعني تفريغها من النزوع الثوري، ذلك أن الطبقات الوسطى وتشكيلاتها السياسية توج بشكل أساسي في المركز وتشكلت تاريخيا وتطورة بشكل حصري من القوى الاجتماعية النهرية المستفيدة من الدولة تاريخيا، ومن هنا النزوع الإصلاحي للمعارضة الداخلية في المركز ، حيث أنه لم يكن من مصلحتها دائما، حدوث تغيير جذري في بنية السلطة، ذلك أنها السلطة التي تحقق عبرها مصالحها وتفضيلتها المجتمعاية،  وتهيمن على بيروقراطية الدولة بواسطتها.

إنه لابد من التأكيد هنا أيضا، أن ثورة ديسمبر (2018) كانت لحظة فارقة في تاريخ الاجتماع-السياسي السوداني ، ذلك أنه وبغض النظر عن تحولها إلى ثورة طبقة وسطى بالنهاية  وتفريغها من مضمونها الشعبي نتيجة هيمنة الطبقات الوسطى على قيادتها، وفشلها في إنجاز التحول الديمقراطي: إلا أنها غيرت التحالفات السياسية المشكلة للسلطة تاريخا، والتحالفات بين كل بين القوى الاجتماعية المختلفة في كل من الهامش والمركز، وبين كل من التشكيلات السياسية والعسكرية التي ترتبط بهما، ذلك أن التحالف الذي شكل الفترة الانتقالية، كان تحالفا بين قوى سياسية ذات مصالح اجتماعية متناقضة، فالمؤسسة العسكرية  تتكون من شقين، شق هو القوات المسلحة السوادنية(SAF) التي تحتكر قيادتها القوى الاجتماعية النهرية، والتي كانت تاريخيا بمثابة جهاز قمع دولة (56)، أما الشق الآخر فهو قوات الدعم السريع (RSF) التي تتكون بشكل أساسي من المجتمعات العربية بدارفور وكردفان أي القوى الاجتماعية الرعوية “بدو غرب السودان” وهي التشكيلة العسكرية التي نشأت بواسطة الجيش لتشمل كل التشكيلات العسكرية التي أنشئتها الدولة لمواجه لتمرد المجموعات الأفريقية بدارفور وكردفان في فترات مختلفة، وهي كذلك التمظهر الأهم لسياسة المليشيات، حيث كما يؤكد أونامو ونياديرا  “بلغت هذه التطورات ذروتها في إنشاء قوات الدعم السريع في منتصف عام 2013، وهي وحدة شبه عسكرية مطورة. تم تجنيد المجندين الأوائل لقوات الدعم السريع من القوات القائمة، وخاصة حرس الحدود. “[109]، ونشير إلى أن قوات الدعم السريع (RSF)  وفي خضم المتغيرات التاريخية تحولت قوات الدعم السريع إلى قوى عسكرية فعالة في حرب دارفور،  كما أنها أكتسبت بعد ثورة ديسمبر ثقلا سياسيا، بعد أن اصبح قائدها الرجل الثاني في المؤسسة العسكرية في الحكومة الانتقالية.

 بالعودة إلى مستووي الصراع الاجتماعي في السودان، نشير واستناد إلى ملاحظاتنا السابقة حول سياسات المليشيات وصلتها بتطور تشكيلات عسكرية موالية للسلطة في المركز ،إلى ملاحظة مهمة ذات صلة  بحرب 15 أبريل الحالية، وهي أن قوات الدعم السريع، حتى وإن كانت تتبع المؤسسة العسكرية وإنشئت كقوات مساندة لها لمواجهة التمرد بإقليم دارفور، إلا أن تكونها بشكل أساسي من بدو غرب السودان يجعلها ممثلا لمصالح قوى احتماعية مهمشة، وهنا يكمن إمكان تمرده على الدولة كما ذكرنا سابقا. وفي هذا السياق أيضا، وحتى نفهم الجذور التاريخية البعيدة لحرب15 أبريل، نؤكد أن تكون قوات الدعم السريع بشكل أساس (قيادة وجنودا) من القوى الاجتماعية العربية الرعوية في الهامش (بدو غرب السودان) والتي تمثل تاريخيا القوى الاجتماعية الرئيسية في  الثورة المهدية، والذين تم تهميشهم بشكل منهجي من قبل المستعمر لارتباطهم هذا بالثورة المهدية كما أشرنا سابقا، والذين تمت عسكرتهم  من قبل النخب السياسية\العسكرية لدولة (56) بغرض جعلهم دروع بشرية تحمي بها جهاز سلطتها من تمرد القوى الاجتماعية الأفريقية الثائرة في الهماش، كان يجعلهم من أكثر المجتمعات تهميشا، وبالتالي قوى اجتماعية في تناقض رئيسي مع الحكم الاحتكاري للنخبة السياسي لدولة (56)، وبهذا المعنى، تمثل  قوات الدعم السريع  مصالح قوى اجتماعية في تناقض تاريخي رئيسي  مع والقوى الاجتماعية النهرية،  حيث يمكن أن نفهم قبولها العسكرة في مليشيات تحمي الدولة من تمرد القوى الاجتماعية الأفريقية في الهامش رغم تناقضها الرئيس مع الدولة وقواها الاجتماعية، كتحالف مرحلي ضد القوى الاجتماعية الافريقية التي نشأت هذه القوات نتيجة الصراع الاجتماعي معها في الهامش. أيضا، وحتى نفهم الجذور التاريخية لحرب 15 أبريل، نشير هنا، إلى أن القوى الاجتماعية الأفريقية والتي نشأ الدعم السريع لمواجهتها في دارفور وكردفان، والتي تتكون بشكل أساسي من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا في أغسطس (2020)  كانت قد تحالفت مع الأحزاب السياسية المعارضة للنظام الإسلامي عقب ثورة ديسمبر، مشكلة الشق الثاني من الحكومة الانتقالية رفقة قوى إعلان الحرية والتغيير، وهي التشكيلات السياسية\العسكرية التي لعبت دورا كبيرا في إفشال التحول الديمقراطي، حيث يشير منزول إلى أن هناك جانبان رئيسيان يفسران مشاكل الحكومة الانتقالية، ” أولاً، انحاز بعض الموقعين على اتفاقية جوبا للسلام إلى المكون العسكري، هي حركة العدل والمساواة برئاسة جبريل إبراهيم؛ وحركة تحرير السودان برئاسة مني ميناوي – ونظمت اعتصام القصر (أوائل أكتوبر 2021) كذريعة للانقلاب العسكري”[110]، وأما الجانب الثاني فهو ” كان الجيش يخرب الحكومة المدنية من خلال السيطرة على الاقتصاد ورفض التخلي عن السلطة للمكون المدني”[111]  ولعل رفض الجيش التخلي عن السلطة ووئده للتحول الديمقراطي عقب كل الثورات، يؤكد ما ذهبنا إليه سابقا، من أنه الأداة التاريخية لمنع حدوث أي تغيير جذري في بنية السلطة، ذلك أن هيمنة القوى الاجتماعي النهرية على القيادة العليا للجيش  تاريخيا، حوله إلى الحامي التاريخي لاستمرار الدولة الاستعمارية  وسياساتها  وهيمنة القوى النهرية على بيروقراطية الدولة ومواردها، وهنا نؤكد أن سياسة المليشيات التي إنشئت قوات الدعم السريع بواسطتها، لم تكن إلا سياسة من سياسات الجيش التي تهدف إلى استمرار الدولة الاستعمارية المقنعة، ونحن هنا نربط بشكل مباشر بينها وبين حرب 15أبريل.

نشير هنا إلى ملاحظة ذات صلة بفهم السياق التاريخي لحرب 15 أبريل، خاصة أنها يمكن أن توصف كتتويج نهائي لفشل التحول الديقراطي في السودان عقب ثورة ديسمبر 2018، وهي أن ثورة ديسمبر (2018) كانت لحظة اختراق التشكيلات الثورية(الحركات المسلحة) والسلطوية (الدعم السريع) للقوى الاجتماعية في الهامش، وكسرها لدائرة التنافس الاحتكاري (الدائرة الداخلية للصراع) بين النخب السياسية لدولة (56)، ذلك أن نتيجة لهذه الثورة، فإن هناك قوى اجتماعية جديدة من خارج المستوى الداخلي للصراع الاجتماعي على السلطة في السودان، قد أصبحت تحوذ فعالية سلطوية داخل جهاز سلطة دولة (56) وهي بشكل رئيس الحركات المسلحة حركة العدل والمساواة (JEM)  وحركة جيش تحرير السودان (SLM\A)الموقعة على اتفاق سلام جوبا-أغسطس 2021  (Juba Peace Agreement)  وقوات الدعم السريع (RSF)أو القوى الاجتماعية الافريقية والقوى الاجتماعية العربية الرعوية، وهو الأمر الذي كان يعني أن هنالك قوى  جتماعية في تناقض تاريخي مع النخبة السياسية لدولة (56) قد اكتسبت فعالية سلطوية تمكنها من تحقيق مصالحها، التي تتناقض جذريا مع مصالح القوى الاجتماعية النهرية المهيمنة على السلطة، ونتيجة لذلك فإننا نقرر أن ثورة ديسمبر كانت لحظة  تحول الصراع الاجتماعي على السلطة والثروة في السودان إلى مستوى جديد: ذلك أنها أحدثت تغييرا جذريا في بنية التحالفات العسكرية والسياسية المؤسسة للسلطة في تاريخ السودان، حيث نلاحظ أنه وعقب انقلاب 25 أكتوبر 2021 تحولت الأحزاب وكل التشكيلات السياسية الحديثة(المعارضة الداخلية لدولة (56)) إلى المعارضة باسم قوى إعلان الحرية والتغيير المجلس المركزي، وتحولت الحركات المسلحة وبعض التشكيلات السياسية\العسكرية الثورية للهامش(المعارضة الخارجية لدولة (56) ) إلى التحالف مع القوات المسلحة(SAF) في انقلابها الذي تقف خلفه الحركة الإسلامية،  هذا في حين خرجت قوات الدعم السريع من هذا التحالف عقب إعتذاره قائده عن مشاركته في انقلاب 25أكتوبر،  وما نشير إليه هنا، أن موقف قوات الدعم السريع من انقلاب 25أكوتبر ومن الاتفاق الإطاري، جعله في تناقض سياسي وعسكري مع القوات المسلحة، وبالتالي كشف التناقض الرئيس بين كل من القوتين، وهو التناقض الذي كان يخفية الخطر الوجودي المشترك الذي كان يهدد القوى الاجتماعية النهرية المهيمنة على السلطة ويهدد كذلك القوى الاجتماعية العربية في الهامش، والمتمثل في التشكيلات العسكرية للقوى الاجتماعية الأفريقية، والذي كانت تخفيه قدرة الدولة على التحكم في بدو غرب السودان عبر الإدارات الأهلية والسلطة التقليدية وسياسة المليشيات، ولابد من تأكيد أن لحظة تحول الدعم السريع إلى تبني موقف سياسي مختلف عن القوات المسلحة خاصة عقب الاتفاق الإطاري-مارس 2023( (the Framework Agreement  كانت لحظة تحول الدعم السريع إلى مهدد لدولة (56) ذلك أن التناقض الرئيس بين القوى الاجتماعية النهرية والقوى الاجتماعية العربية الرعوية قد انكشف،  وفي هذا التناقض الذي فجرته ثورة ديسمبر 2018 ، تجد حرب 15أبريل جذرها التاريخي القريب .

في هذا السياق، يضع منزول أبو عسل، أسباب حرب 15 أبريل على النحو التالي “إن الصراع الذي يدور بين قوات المسلحة وقوات الدعم السريع، والذي يوصف عادة بأنه صراع بين جنرالين البرهان ودقلو على السلطة، يمكن أن يعزا لجذور وعوامل مثل غياب الحكم التشاركي والديقراطي، وعدم المساواة الكبيرة، واحتكار السلطة والثروة، إضافة إلى تهميش مجتمعات متعددة وشيوع الافلات من العقاب”[112]، وبغض النظر عن من الذي بدأ الحرب بين الأطراف المتصارع، إلا أن كل المعطيات تشير إلى أن أسباب هذه الحرب تجدر جذورها بعيدا في الحقبتين الاستعماريتين وفي الطبيعة الاحتكارية لدولة (56) ومؤسساتها ونخبها السياسية وقواها الاجتماعية، وأن حرب 15 أبريل متجذرة  في التناقض الرئيس بين القوى الاجتماعية التي تتصارع الآن، وفي التفاوت من حيث نسب المشاركة السياسية ومن حيث التنمية، وفي عمليات العسكرة والتهميش الذي تعرضت لها مجتمعات (بدو غرب السودان)،  وباختصار هنا، تجد حرب 15أبريل جذورها التاريخية في التشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان، حيث يشير منزول إلى أن حرب 15 أبريل تأتي كحرب ضمن،  “سلسلة من الصراع الطويل الأمد في السودان، ولذلك يتطلب السعي إنهاءها معالجة أسباب الصراعات  طويلة الأمد والاضطرابات الدائمة التي تميز تاريخ السودان بعد الاستقلال”[113]،  ولعل أهم ما يؤكد أن حرب 15 أبريل ذات جذور تاريخية بعيدة أيضا، وأنها كذلك إعلان النهاية لدولة (56) ومؤسسات استعمارية البنية، هو الانقسام  الاجتماعي الحاد الذي  يتمظهر في  الاصطفاف الجهوي حول أطراف الحرب، ذلك أن القوات المسلحة ونتيجة للملاحظات التي ذكرناها سابقا حول طبيعتها الجهوية وقاعدتها الاجتماعية الضيقة التي تتركز في الوسط والشمال، أصبحت تستقطب وتجند للحرب في امتدادتها الاجتماعية شمالا ووسطا ومن القوى الاجتماعية في الجغرافيا النهرية أو الجغرافيا التاريخيا لسنار أو سلطنة الفونج حيث الوجود التاريخي للقوى الاجتماعية النهرية:  هذا في حين ونتيجة ارتباطها التاريخي أيضا بالقوى الاجتماعية العربية الرعوية (بدو غرب السودان)  فإن قوات الدعم السريع  أصبحت تمدد وتجند بشكل أساسي في دارفور وكردفان،  أي في الجغرافيا التاريخية لوجود هذه المجتمعات هو الأمر الذي يؤكد أزمة المواطنة التي أشرنا إليها سابقا، ذلك عدم تمديد الجهاز الخدمي للدولة وتطور رابطة المواطنة داخل الاجتماع السياسي السوداني، يجعل الحرب تهدد بتفكك النسيج الاجتماعي الهش أصلا بسبب أن سياسات الدولة الاستعمارية أعاقت تطور الحس القومي\الوطني، وأنتجت لنا تعددا في الجهات الشرعية التي تحتكر العنف كما أشرنا سابقا، وهو الأمر الذي يجعل كل من القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع، مؤسستين  شرعتين في نظر القوى الاجتماعية السودانية في غرب السودان وشماله، ويفاقم من حدة الانقسام الاجتماعي بالتبع،  وإلى ذلك يشير منزول قائلا: “يهدد الاستقطاب الاجتماعي بتمزيق نسيج الاجتماعي، وخاصة في مناطق مثل دارفور التي لم تتعاف بعد من 20 عامًا من الحروب المدمرة”[114] ولعل النتائج الكارثية لحرب 15أبريل خاصة أثرها  على الحس القومي الهش نظر للاستقطاب الحاد الذي تبعها، وكذلك فشل كل مبادرات السلام في ايقافها، وتمددها المتسارع لتشمل معظم أقاليم السودان،وكذلك سقوط معظم وليات إقليم غرب السودان (كردفان، ودارفور) تحت سيطرة الدعم السريع، وبقاء سيطرة الجيش على وشمال وشرق السودان، كلها مؤشرات تؤكد: أن حرب (15) أبريل 2023 ما هي إلا لحظة الإعلان الرسمي لنهاية دولة (56) وعدم مقدرة مؤسسات على استيعاب الصراع الاجتماعي نتيجة تصاعد التناقضات داخل الاجتماع-السياسي السوداني إلى مستوى غير مسبوق، مستوى أعلى من تستوعبه مؤسسات الدولة الاستعمارية التي تم إعادة إنتاجها في دولة (56)، ومن هنا عودة التقسيم التاريخي للسودان القديم إلى البروز نتيجة سيطرة الدعم السريع على معظم دارفور وكردفان، وبقاء سيطرة الجيش في الجغرافية التاريخية لسنار.

إننا نوصف حرب 15أبريل على أنها لحظة الانهيار التاريخي لدولة (56) نظرا إلى عدم وجود صيغة للتسوية بين أطراف الصراع، ذلك أنه ليس صراعا بين مجرد مؤسستين عسكريتين، وإنما بين قوى اجتماعية، ولعل كونها بين قوى اجتماعية أكثر من كونها بين مجرد مؤسستين عسكريتين، يفسر ذلك الاصطفاف الجهوي من قبل مجتمعات وقبائل السودان المختلفة مع  أطراف الحرب، ونشير هنا إلى الطابع الجهوي\الإثني للاصطفاف حول كل من قوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع يعود إلى التركيبة الجهوية لكل القوات العسكرية المتقاتلة في هذه الحرب ،  والتي باتت واضحة بعد الحرب في كل مؤسسات الدولة: بحيث أصبحت الدولة في تناقض وعداء مع  بعض المجتمعات التي توصف بأنها “الحواضن الاجتماعية” للتمرد أو قوات الدعم السريع. أيضا، لعل أهم ما يؤكد أن حرب 15 أبريل هي لحظة الانهيار التاريخي لدولة (56) أن التناقضات داخل الاجتماع-السياسي السوداني الحديث وصلت نقطة اللاعودة، حيث “إن استمرار الحرب من شأنه أن يزيد من انقسام المجتمعات، الأمر الذي سيجعل العودة إلى الحياة إلى طبيعيها أمرًا صعبًا للغاية عندما تنتهي الحرب.”[115]  ومن هنا نقرر أن الاجتماع-السياسي السوداني وعند لحظة حرب 15ابريل أصبح أمام خيارين  لا ثالث لها، الأول، هو تتفتت وتفكك الدولة السودانية إلى دويلات ذات سيادة كل في إقليمه أو أماكن سيطرته، والعودة بالتالي إلى السودان القديم حيث كل أقليم يشكل دولة، مثلما حدث مع جنوب السودان الذي انفصل ليعود خارج جغرافيا الدولة السودانية الحديثة في العام (2011) بعد حروب طويلة ومريرة مع الدولة المركزية. أما الخيار الثاني فهو تأسيس “الجمهورية السودانية الثانية.، وما يجب أن نؤكد عليه هنا، أن ذلك لا يمكن أن يتم  إلا عبر  عقد اجتماعي جديد مكان العقد الاجتماعي الاستعماري لدولة (56)، يؤسس للدولة السودانية الثانية التي تقطع مع مؤسسات الدولة الاستعمارية التي أعادت إنتاجها النخبة السياسية\العسكرية لدولة (56)، وقطع بالتبع مع الحكم الاحتكاري والتهميش الاجتماعي والفوارق التنموية والتطور غير المتكافئ وكل السياسات التي ترتبط بالتشكل الاستعماري للدولة الحديثة في السودان،ونؤكد أيضا، أنه وبدون هذا العقد الاجتماعي والتأسيس الدستوري الجديد للدولة السودانية، فإن السودان سيمضي في نفس المسار القديم الذي وصفناه هنا، والذي أدى سابقا إلى انفصال جنوب السودان في (2011) ويمكن أن يؤدي إلى انفصالات أخرى، ف “بدون جيش موحد، لا يمكن أن يكون هناك أمل في السودان الموحد.”[116] ومن هنا نعرف حرب 15 أبريل على أنها لحظة النهاية لدولة (56) وبداية السودان الجديد، والذي يعتمد توحده على قدرة القوى الاجتماعية في الهامش والمركر سويا، على التوافق على شكل جديد من الدولة والممارسة السياسية التي تضمن مصالح الجميع، وهذا لا يمكن أن يتم إلى في ظل حكم ديمقراطي تشاركي، ذلك أنه وفي حال فشلها في الوصول إلى صيغة الحكم التي تضمن حقوق جميع القوى الاجتماعية داخل الاجتماع-السياسي السوداني، فإن السودان الجديد سيكون دولتان في أحسن الفروض، أو عدة دول في أسوئها. 

المراجع العربية:

التونسي ، محمد أبن عمر ، تشحيذ الأذهان في سيرة بلاد العرب والسودان. القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1965.

القدال، محمد سعيد، تاريخ السودان الحديث(1820-1955)، الخرطوم: مركز عبد الكريم ميرغني، 2002.

أمبده صديق ، قلم التعليم وبلم المتعلمين: مقالات في التعليم والتمية. الخرطوم: مدارك للطباعة والنشر والتوزيع، ، 2017.

حاج حمد،  محمد ابو القاسم ، السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل بيروت: دار ابن حزم للطباعة والنشر،  1996، ج1.

فيليب، جولي،  ما بعد الجنجويد: فهم مليشيات دارفور. سويسرا:  مشروع مسح الأسلحة الصغيرة، 2009.

مرزوقي، حسين، بلاد السودان في كتب الجغرافيين والرحالين العرب والمسلمين، (تونس: المجمع الأطرش للكتاب المختص، 2018.

وفد السودان 1946: عن مآسي الانجليز في السودان، الخرطوم: شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، 2006.  ط2

English References:

-Books:

Mises, Ludwig von. Nation, State, and Economy Translated to English edition by Leland B. (New York  University Press. 1983.

  Assal, Munzoul A. M, War in Sudan 15 April 2023: Background, Analysis and Scenarios, International Institute for Democracy and Electoral l Assistance, Stockholm, 2023.

Scientific Papers:

Badmus, Isiaka Alani, Contesting Exclusion: Uneven Development and the Genesis of the Sudan’s Darfur War- Journal of Alternatives in the Social Sciences: 2011, Vol 3.

Bratton, Michael ; Van de Walle, Nicolas . Neo-patrimonial Regimes and Political Transitions in Africa, World Politics, Vol. 46, No. 4 (Jul. 1994), 453-489.

 URL: http://links.jstor.org/sici?sici=0043-8871%28199407%2946%3A4%3C453%3ANRAPTI%3E2.0.CO%3B2-K

Kraushaar, Maren and Lambach Daniel: Hybrid Political Orders The Added Value of a New Concept ACPACS Occasional Paper Number 14. December (2009)

Onamu, Beatrice, Nyadera N., Israel. (2024), “Paramilitary Forces, Domestic Politics and Conflict: A Case of the Sudan Crisis.” Obrana a strategie 24, no. 1: 143-158.

https://www.obranaastrategie.cz/cs/archiv/rocnik-2024/1-2024/clanky/paramilitary-forces-domestic-politics-and-conflict.html

Ylönen, Aleksi, Institutions and Instability in Africa: Nigeria, Sudan Reflections from Mises’s Nation, State and Economy. New Perspectives on Political Economy Volume 1, Number 1, 2005, pp. 38-60

 Ylönen, Aleksi, On Sources of Political Violence in Africa The Case of “Marginalizing State in Sudan, Politica y Cultura, núm. 32, 2009, pp. 37-59.

Clements, Kevin P., Volker Boege, Anne Brown, Wendy Foley and Anna Nolan 2007. State Building Reconsidered: The Role of Hybridity in the Formation of Political Order, in: Political Science, 59, 1, June 2007, 45-56.

Abdel-Rahim, Muddathir,  Changing Patterns of Civilian-Military Relations in the Sudan (Sweden, Uppsala Offset Center AB, 197.

Reports:

(HRC) Independent International Fact-Finding Mission  for the Sudan Report, 5 September 2024,


[1] (HRC) Independent International Fact-Finding Mission  for the Sudan Report, Stockholm, 5 September 2024, pp6-9

[2] Ibid, p6

[3] Ibid, p6

 [4]  نقصد بالاجتماع السياسي السوداني الحديث النظام الاجتماعي الحديث الذي  نشأ بالتوازي مع تشكل الدولة الحديثة والحكم المركزي في الحقبة الاستعمارية الأولى (1821-1885). وهو النظام الاجتماعي الذي تحكمه الهوية الوطنية الحديثة، والتي يعرف السودانيون أنفسهم “كسودانين” بهذا المعنى الذي نستخدمه الآن نحن مواطنوا السودان الحاليين: استنادا إليها. وهذه الهوية الحديثة المؤسسة للاجتماعي الحديث هي التي استبدلت الهويات الوطنية القديمة التي كانوا يعرفون انفسهم استنادا إليها، ذلك أنه لما كانوا يعيشون في اجتماع سياسي يرتبط بالسلطة أو المملكة التي يعيشون فيها فقد كانوا يعرفون أنفسهم على سبيل المثال كمواطنين في سلطنة الفونج أوالمسبعات أو دارفور لا كمواطنون سودانيين بالمعنى الحالي.

[5] نقصد به السودان ما قبل (1821) حيث كانت تسوده ممالك وسلطان كل منها ذات نظام حكم مركزي، حيث كانت كل من أقاليم شرق وشمال ووسط السودان تشكل الجغرافيا السياسية لسلطنة الزرقاء التي تسمى سلطنة الفونج. أما أقليم كردفان فقد كنت تحكمه سلطتة المسبعات وكانت دارفور تشكل سلطة إسلامية مستقلة أما جنوب السودان فقط كانت تسوده نظم عشائرية لا مركزية. وبعبارة أدق: حقبة السودان القديم هي الحقبة ما قبل الحكم المركزي الذي عرفه السودان في الحقبة الاستعمارية الأولى (1821-1885)

 [6] محمد بن عمر التونسي، تشحيذ الأذهان في سيرة بلاد العرب والسودان. (الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1965) ص133   

[7] محمد ابو القاسم حاج حمد، السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل (دار ابن حزم للطباعة والنشر، بيروت، 1996) ج1 ص33

[8] محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث(1820-1955)، (الخرطوم، مركز عبد الكريم ميرغني، 2002) ص20

[9] لمزيد من المعلومات حول السودان القديم ما قبل الحكم المركزي الموحد راجع : مرزوقي، حسين، بلاد السودان في كتب الجغرافيين والرحالين العرب والمسلمين، (تونس: المجمع الأطرش للكتاب المختص، 2018).

[10] Aleksi, Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa The Case of “Marginalizing State in Sudan, Politica y Cultura, núm. 32, 2009, pp 44-48

[11] القدال، تاريخ السودان الحديث، سبق ذكره،  ص19

[12] Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa: p45

[13] Ibid, p45

[14] القدال، تاريخ السودان الحديث، سيق ذكره، ص 73

[15] القدال، تاريخ السودان الحديث، سبق ذكره، ص76

[16] “القوى الاجتماعية النهرية” مصطلح نشير به إلى تلك التشكيلات الدينية، والقبلية، والاقتصادية، والسياسية التقليدية والحديثة التي وجدت تاريخيا في وسط-وشمال السودان حول نهر النيل، والتي تتكون من جماعات متباينة الأصول بعضها عربي والآخر أفريقي كوشي، الأمر الذي يجعل تسميتها بالعربية حصرا أمر إشكاليا، وأيضا نشير به أيضا رفقة هذه التشكيلات الأولى، إلى التشكيلات السياسية والاقتصادية الحديثة التي ظهرت نتيجة تحالف القوى الاجتماعية النهرية مع القوى الاستعمارية،  مثل “الموظفين، كبار التجار، النقابات، الأحزاب، الجمعيات و..الخ، ونستخدمه هنا لسببين:أولا، لتجنب استخدام المصطلحات الشائعة في الأكاديميا السودانية، مثل “المجتمعات الإسلاموعروبية”، “عرب الشريط- النيلي” الطبقة الإسلاموعروبية” نظرا لارتباطها بمشروع السودان الجديد، الذي يعرف الصراع الاجتماعي في السودان على أنه صراع ثقافي في المقام الأول بين مجموعات عربية وأفريقية، وهو الأمر الذي يفرض تعريف المجتمعات الأفريقية في الهامش على أنها الحامل الثوري لمشروع السودان الجديد، وثانيا، نتجنب عبره اختزال الصراع الاجتماعي على السلطة في السودان إلى صراع عرقي فقط، حيث نؤكد عبره أن الصراع الاجتماعي في السودان حتى وإن كان ذو ابعاد عرقية، إلا أنها ليست محركاته الأساسية، حيث نجد  أن المجتمعات العربية في الهامش كانت مهمشة أيضا، ولها مظالم تاريخية مثل المجتمعات الأفريقية، كما أن القوى النهرية ليست عربية ومسلمة حصرا، وليس أسلامو-عروبية حصرا على المستوى الثقافي، حيث نلاحظ وجود مجوعات أفريقية مؤثرة داخلها، مثل المجموعات الكوشية في الشمال، ولكل ذلك نرى أن مصطلح القوى الاجتماعية النهرية أدق وذي قدرة توصيفية أعلى.

[17]  القدال، تاريخ السودان الحديث، سيق ذكره، ص77

[18] نفس المصدر، ص79

[19] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa: p45

[20] القدال، تاريخ السودان الحديث، سبق ذكره،   ص76

[21] المصدر السايق، ص76

[22] نفس المصدر، ص76

[23] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa::p44

[24] Ibid:p44

[25] حاج حمد، السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل، سبق ذكره، ص66

[26]  المصدر السابق، ص68

[27] مفهوم “أنظمة الحكم الهجينة” (Hybrid Political Orders) هو مصطلح طوره الباحثون كيفن سليمنت وفولكر بويج أدريان ليفتويج، وأخرون  من المركز الأسترالي لدراسات السلام والنزاع (ACPACS) استنادًا إلى أبحاث ميدانية في العديد من بلدان جنوب المحيط الهادئ، وهو مفهوم يشير إلى أنظمة الحكم التي تتداخل وتختلط فيها المعايير والقيم التقليدية المحلية بالمعايير والقيم والمعايير الغربية الحديثة داخل مؤسسات الدولة الرسمية، لينتج دولة هجينة السلطة، تختلف كثيرا عن الدولة الحديثة (Westrren-style Weberian State) راجع:Maren Kraushaar, Daniel Lambach: Hybrid Political Orders The Added Value of a New Concept ACPACS Occasional Paper Number 14. December (2009)

[28] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa: p37

[29] القدال ، تاريخ السودان الحديث(1820-1955)، سبق ذكره، ص327

[30] Ludwig von Mises. Nation, State, and Economy: Contributions to the Politics and History of our Time, translated to English by Leland Yeager B. (New York: New York  University Press. 1983), p106

[31] Ibid, p108

[32] Ibid, pp106-112

[33] Muddathir Abdel-Rahim: Changing Patterns of Civilian-Military Relations in the Sudan (Sweden: Uppsala Offset Center AB, 1978), p 21

[34] Ibid, p21

[35] Ibid, p14

[36] Ibid, p14

[37] Volker Boege, Anne Brown, and et al.(2007) State Building Reconsidered: The Role of Hybridity in the Formation of Political Order. Political Science 59(1): pp46-48

[38] Aleksi Ylönen, Institutions and Instability in Africa: Nigeria, Sudan Reflections from Mises’s Nation, State and Economy. New Perspectives on Political Economy Volume 1, Number 1, 2005, p45

[39]Ibid, p45

[40] Ibid, p47

[41] Maren Kraushaar, Daniel Lambach,  : Hybrid Political Orders The Added Value of a New Concept ACPACS Occasional Paper Number 14. December (2009), p5

[42] Ibid, p5

[43] لمزيد من المعلومات عن سياسات القوى الاستعمارية البريطانية في السودان راجع: وفد السودان 1946: عن مآسي الانجليز في السودان، الخرطوم: شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، 2006.  ط2

[44] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa:  p47

[45] Aleksi Ylönen, Institution and Instability in Africa: p43

[46] Ibid, p43

[47] Ibid, p45

[48]  Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa:  p48

[49] Ibid,  p47

[50] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa:  p38

[51] Ibid,  p47

[52] Ibid,  p47

[53] Ibid, p48

[54] القدال، تاريخ السودان الحديث(1820-1955)، سبق ذكره،  ص363

[55] نفس المصدر، ص 263

[56] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa: p48

[57]Ibid, p48

[58] صديق أمبدة، قلم التعليم وبلم المتعلمين: مقالات في التعليم والتمية (مدارك للطباعة والنشر والتوزيع، الخرطوم، 2017)ص67

[59] مصطلح دولة (56) مصطلح راج تداوله في الأوساط الثقافية السودانية عقب حرب 15 أبريل، ويستخدم للإشارة إلى الدولة الوطنية عقب استقلال السودان في (1956)، وأنا استخدمه في هذا البحث، كمرادف للدولة الوطنية الثانية(1956-2023) ضمن التحقيب التاريخ للسودان الحديث الذي يبتدئ بالدولة الاستعمارية الأولى(1821-1885)، مرورا بالدولة الوطنية الأولى (1885-1899)، والدولة الاستعمارية الثانية (1899-1956)، وأيضا كمرادف لإعادة إنتاج الدولة الاستعمارية التي تكرس للتنمية غير المتوازنة بين أقاليم السودان  واحتكار الثروة والسلطة، والتهميش الاجتماعي: في صيغة وطنية.

[60] Volker Boege, Anne Brown, and et al.(2007) State Building Reconsidered: p48

[61]Ibid, P2

[62] Isiaka Alani Badmus, Contesting Exclusion: Uneven Development and the Genesis of the Sudan’s Darfur War- Journal of Alternatives in the Social Sciences: 2011, Vol 3. p883

[63] Ibid: p883

[64] Ibid: P893

[65] Ibid, p893

[66] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa, p48

[67] Ibid, p50

[68] Badmus, Contesting Exclusion: p895

[69] Ibid: p895

[70] Ibid, p893

[71] النخب السياسة لدولة (56) مصطلح نشير به إلى النخب الوطنية استعمارية التشكل والتي ورثت الدولة الاستعمارية عقب الاستقلال(1956)، وأعادت إنتاج مؤسساتها الاستعمارية في صيغة وطنية ، وكذلك إلى النخب الوطنية التي تلتها وواصلت سياسات الدولة الاستعمارية، وبعبارة أدق يشير مصطلح النخب السياسية لدولة (56) إلى القيادة التاريخية للتشكيلات السياسية/العسكرية الحاكمة والمعارضة في المركز والتي تعود جذورها إلى القوى الاجتماعية النهرية، حيث حكمت السودان من (1956-2023) أي دولة الدولة الوطنية الثانية.

[72] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa:  p49

[73] أمبدة، قلم التعليم وبلم المتعلمين، ص65

[74]  نفس المصدر، ص84-86

[75] نفس المصدر، ص 84

[76] نفس المصدر، ص84

[77] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa:  p49

[78] Ibid, p49

[79]Ibid, p49

[80] Ibid, p50

[81] Ibid, p50

[82] Aleksi Ylönen, On Sources of Political Violence in Africa:  p50

[83] Michael Bratton, Nicolas Van de Walle, Neo-patrimonial Regimes and Political Transitions in Africa, World Politics, Vol. 46, No. 4 (Jul. 1994), p459

[84] Ibid, p458

[85] Ibid, p458

[86]  Ibid, p458

[87] Bratton, Van de Walle, Neo-patrimonial Regimes and Political Transition in Africa: P458

[88] Ibid: p458

[89] (HRC) Independent International Fact-Finding Mission  for the Sudan Report, 5 September 2024, p6

[90] Ibid, p6

[91] Bratton, Van de Walle, Neo-patrimonial Regimes and Political Transition in Africa, p463

[92] Munzoul A. M. Assal, War in Sudan 15 April 2023: Background, Analysis and Scenarios, (International Institute for Democracy and Electoral l Assistance, Stockholm, 2023)p10

[93] Ibid, p17

[94]  نميز هنا بين نوعين من المعارضة السياسية استنادا إلى إلى التناقض الرئسي والثانوي الذي وضحناه هما، (أ): المعارضة الاصلاحية: وهي اصلاحية نظرا لوجود تناقض ثانوية بينها وبين التشكيلات السياسية الحاكمة تاريخيا لدولة (56)، ذلك أنها من نفس القوى الاجتماعية المهيمنة على السلطة وبالتالي لهما نفس المصالح الاجتماعي،  و(ب)، المعارضة الثورية: وهي ثوريا نظرا لوجود تناقض رئيسي بينها وبين التشكيلات السياسية الحاكمة لدولة (56)، ذلك أنها من القوى الاجتماعية المهمشة والتي تتاقض مصالحها جذريا مع الحكم الاحتكاري للنخب السياسي لدولة (56)

[95] Bratton, Van de Walle, Neo-patrimonial Regimes and Political Transition in Africa, p463

[96]  Beatrice Onamu Israel Nyaburi Nyadera,  , (2024), “Paramilitary Forces, Domestic Politics and Conflict: A Case of the Sudan Crisis.” Obrana a strategie 24, no. 1: p150

[97] Ibid, p151

[98]Ibid, p151

[99] Ibid, p151

[100] Ibid, p150-152

[101] جولي فيليب، ما بعد الجنجويد: فهم مليشيات دارفور، (سويسرا ، شروع مسح الأسلحة الصغيرة، 2009)ص14

[102] نفس المصدر ص 13

[103] Bratton, Van de Walle, Neo-patrimonial Regimes and Political Transition in Africa, p463

[104] Ibid, p463

[105] Ibid, p463

[106] Assal, War in Sudan 15 April 2023, p10

[107] Ibid, p10

[108] Ibid, p12

[109] Onamu, Nyadera, (2024), “Paramilitary Forces, Domestic Politics and Conflict:, p10

[110] Assal, War in Sudan 15 April 2023, p14

[111] Ibid, p14

[112]Assal, War in Sudan 15 April 2023, p6

[113] Ibid, p6

[114] Ibid, p6

[115]Ibid, p6

[116] Ibid, p7

_______________
*الطيب على حسن عيسى: باحث سوداني، ومحاضر للفلسفة السياسية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الإمام المهدي.

وسوم:

اترك رد

جديدنا