محمد نصيف شاعر وصديق أكن له كل مودة واحترام، عرفته اعلاميا قبل أن أعرفه شاعرا على هامش معرض تراثي يوثق ذكرى نكبة فلسطين في أيار 2008م، وكنت قد قدمت إلى عمَّان بعد غياب قسري بحكم الاحتلال الصهيوني زاد عن عقد من الزمان، وبعدها عرفته محلقا في فضاء شعر البحور الذي يشدني أكثر من غيره، فأصبحت حريصا كلما كنت في عمَّان أن أحضر أية أمسية شعرية سواء له أو مشاركا فيها، ومن بين خمس دواوين شعر من أشعاره تفرغت لها وقرأتها، أحببت أن يكون تحليقي الأول بقلمي بهذا الديوان، وإن كنت قد سجلت ملاحظات عن ديوان “عشتار تشرق من جديد” وديوان “عشتار وجراح الأندلس”، والتي آمل بمشيئة الله أن يكون لي تحليق خاص بهما، والشاعر محمد نصيف شاعر من العراق الذي يسكن القلب وشاعر على مستوى الساحات العربية والمشاركة بالمهرجانات الشعرية والأمسيات على امتداد الساحات الشعرية العربية.
الديوان صدر في عمَّان من 86 صفحة من القطع المتوسط، وثلاثة عشر قصيدة اضافة للمقدمة وتعريف بالشاعر في النهاية، صمم الغلاف الفنان التشكيلي عمر البدور وفي الغلاف الأول مشهد للأقصى وقبة الصخرة والأقصى يمتد الى الغلاف الأخير اضافة لصورة الشاعر، والغلاف الأخير يحمل خمسة أبيات شعرية عن القدس، وأهدى الشاعر ديوانه “إلى كل قلب ينبض بحب فلسطين ويؤمن بأن المقاومة طريقنا الوحيد للحرية، وقدم للديوان الشاعر نفسه بدأها بقوله: “فلسطين القضية والإنتماء والحب والجرح والنكبات والنكسات”، وأنها بالقول عن القصائد: “بعضها اختص بجرح فلسطين بالكامل وبعضها الآخر كتب لجراح أمتنا ولكن فلسطين كانت حاضرة في تفاصيل الوجع”.
ومن هنا سأشير في هذا المقال إلى ما وجدته من محاور في الديوان مستشهدا ببعض الأبيات الشعرية:
المحور الأول هو فلسطين بأقصاها وقدسها وغزتها: فكما اشار الشاعر وجدت فلسطين والقدس وجراح أمتنا محور أساس في الديوان، والأقصى والقدس أخذا مساحة ملحوظة من قصائد الشاعر، فهو وكما أشار في المقدمة “فلسطين القضية والإنتماء والحب والجرح والنكبات والنكسات” فيشعر القارئ أن فلسطين تسكنه وإن لم يسكنها، وهذا ناتج بالتأكيد عن النفس العروبي القوي في العراق، وعن الانتماء القومي العام للوطن العربي ولفلسطين بشكل خاص بتربيته الفكرية، حيث سنلاحظ أن الديوان بدأ بقصيدة مهمة كتبت يوم ملحمة طوفان الأقصى تحت عنوان “طوفان الأقصى في تشرين”، وبدأها بالبيت: “آتون نحوك يا أقصى على لهب.. آتون نزحف طوفانا من الغضب”، وهي قصيدة طويلة امتدت على مساحة ستة صفحات من الشعر الحماسي العابق بالأمل والثقة بالنصر، وفي قصيدة “القدس وجرح النكسة” يقول أيضا: “تنوح في المسجد الأقصى قصائدنا.. نوح الحمام بنجوى حزنه سجعا”، ويستمر التحليق في عشق الأقصى في قصائد الشاعر، فنرى روحه تبوح بنص “أرجوزة للمسجد الأقصى، أرجوزة لغزة” بالقول: “فالمسجد الأقصى لنا..نبينا به ركع”.
ويخاطب القدس بنفس القصيدة “طوفان الأقصى في تشرين” بالقول: “يا قدس أنت العروس اليوم فابتهجي.. تبختري في فساتين السنا القشب/ يا قدس يا مريم العذراء دانية.. لك القطوف فقري في حمى خصب”، ويتجلى الأمل واليقين بحرية الأقصى بقوله في أواخر القصيدة: “سندخل المسجد الأقصى كدخلتنا.. الأولى نتبر ما تبنون من قبب”، وتبقى القدس تسكن روح الشاعر وقصائده فنراه في قصيدة “القدس وجرح النكسة” يتألق من جديد فيقول: “خمسون عاما وجرح القدس ما هجعا.. وصمتنا عن أذاها زادها وجعا”، وفي”أرجوزة للمسجد الأقصى، أرجوزة لغزة” أيضا يخاطب القدس بالقول: “للقدس سيف مشرع.. به نعيد ما انتزع”، ويواصل التحليق في قصيدة ” القدس ترف بأجنحة الجرح” فيقول: “يا قدس ردي، أجيبي صوت من نزفا.. ومن يئن على شكوى هواكِ غفا”، ويقول في نفس القصيدة: “القدس مذبوحة تعتاد آسرها.. تعاقر الحزن حتى أدمنت دنفا”، ويقول أيضا عبر هذه القصيدة الجميلة واصفا ما جرى للقدس: “جاءتك يا قدس من شتى الدنا زمر.. ملعونة تحمل الأوهام والخرفا” وينهي القصيدة بالقول: “يا قدس إن كؤوس الحزن تدمننا.. وحلمنا قبل أن يرويْ الظما خُطفا”.
وفي قصيدة “طوفان الأقصى في تشرين” نراه يخاطب فلسطين بالقول: “هذي فلسطين درب الحق فانتسبوا.. تاجا من العز تهدي كل منتسب/ هي فلسطين أرض الأكرمين حمى.. والمصلحين اعوجاج العالم الخرب”، ونرى غزة في قصيدة “مواقد الجرح” التي يقول فيها: “اليوم يا غزةُ، التاريخ يكتبهم.. على صمودك سطرا كله خجل”، ويخاطب غزة في آخر بيت من نفس القصيدة بالقول: “ولترفلي بالسنا يا غزة انفرجت.. يليق بالثابتين الزهو والرفل”، وفي قصيدة “الذئب يبتسم” يقول: “تستنجد العرب قدس دونما أمل.. كالشاة صارخة والذئب يبتسم”، ويكمل القول عن فلسطين: “ترنو فلسطين للأعراب يائسة.. وأهلها بعد عزَّ دورهم خيم”، ويعود للقدس بالقول: “نامت سكارى جموع النفط أرهقهم..لهوٌ إذ القدس لا نوم ولا حلم”،
المحور الثاني هو العروبة: ورغم التمزق العربي ورغم خذلان الدول العربية للعراق ولفلسطين إلا أن الحسن القومي لم يضعف لدى الشاعر، فهو يميز بين الأنظمة وبين الشعب المغلوب والمقهور بقوة السلاح والتجويع والقمع، فيقول في قصيدة “ذاكرة الألق والجرح”: “بنو العروبة في البلوى لنا سند.. ولن تخيب نفوس هم أمانيها”، وكذلك في قصيدة “شكوى الحروف” التي رثى بها الشاعر الأردني إدوارد عويس حيث قال: “حروفك البكر كم أشعلتها شغفا.. هوى العروبة من أركانها اندفقا”، بينما في قصائد أخرى ينفطر قلبه الما من الأنظمة العربية وما آلت اليه العروبة، فنراه في قصيدة “القدس وجرح النكسة” يقول: “خمسون عاما وبعض العرب في سفه.. يستلطفون من الأفعال ما شنعا”، بينما في قصيدة “القدس ترف بأجنحة الجرح” يصف حال العروبة ويشخصها بقوله: “حال العروبة يا جرحا يحار به.. وصفُ الدواء فأعيا طب من وصفا”، وهو يتألم كما نتألم مما وصلت له الأمة من انحدار فيقول في قصيدة “الذئب يبتسم”: آه على أمتي من شر ما صنعوا.. لم ينج من حقدهم قدس ولا حرم”، ويقول أيضا مخاطبا الشهيد سليمان خاطر: “آه سليمان إن العرب في وسن.. ناموا على خور حفت بهم سُدم”.
وفي هذه القصيدة يتنقل بين مدن وعواصم عربية فيذكر بيروت بالقول: “بيروت يحرقها أبناؤها فغدت.. على جوانحها الآهات تلتطم/ آه.. لكم بت يا بيروت خائفة.. غطت شوارعك الأحقاد والظلم”، ويذكر الشهيد في مصر العروبة سليمان خاطر فيقول:”إن الشهيد في مصر شيَّعه.. فخر مضى وانطفت في إثره الهمم/ يا أهل (أكيادَ)، يا نيلا ويا هرما.. إن غِيل فذ فكيف العرب تحترم” وأكياد قرية الشهيد، ويواصل التجوال في قصيدة “الفارس الأبهى” فيقول: “دمشق تنزف لا قلبٌ يحن لها.. وكفها الأهلين تختضب”، ليعرج على صنعاء بالقول: “صنعاء ترسف في أصفاد آسرها.. نهارها مثل وجه الليل مكتئب”، ويمر على مكة بالقول: “ومكة الآن حيرى قاتم غدها.. حلم المجوس على أسوارها يثب”، ويعود لمصر ثانية بالقول: “ومصر مغلولة الكفين مثقلة.. بقيدها وهي بالآمال ترتقب”.
ويفرد الصفحات بقصيدة كاملة لمصر في قصيدته “يا مصر عودي” فيقول في مطلعها: “ظمئنا إلى غيث العروبة هاطلا.. فيا مصر فيضي وابلا فاض وابلا”، ويشتد ألمه على ما آلت اليه العروبة في قصيدة “عذرا أيها العرب” بالقول: “في كل يوم لنا دمع نكفكفه.. على العروبة نبكي زهوها الفاني”، ويشتد المه بنفس القصيدة بالقول: “يا عُرب معذرة فالهم أقعدني.. وأثقل القهر بالأقذاء أجفاني”، ويزداد الألم بتساؤل مؤلم: “يممت يأسي للأنساب اسألها.. هل يعلم العُرب ما يجري ببغدان؟”، وفي قصيدة “الفارس الأبهى” يقول: “والقدس جرح تناسينا مواجعه.. ما عاد ينبض في اعراقِنا غضب”، وفي قصيدة “يا مصر عودي”يتجلى ألمه بالقول: “لقد أطفأوا شمس العراق لآمة.. أبى حاكموك العيش إلا اراذلا/ وقد حطموا للقدس أسوار حلمها.. فكانوا بأيدي الغاصبين معاولا”.
المحور الثالث هو العراق: وسيلاحظ القارئ للديوان أن الشاعر يربط في العديد من أبيات قصائده بين فلسطين والعراق، وبين بغداد والقدس، وبين الفلوجة وغزة، وقد أشار لذلك بالقول: “عندما أنظر إلى بغداد أرى القدس بجراحها، وعندما أنظر إلى غزة، أرى الفلوجة وهي تخضب التاريخ بحناء البطولة”، وقد وضع هذه العبارات أعلى قصيدة كتبها أثناء العدوان الصهيوني على غزة عام 2008، وقصيدته المعنونة “مواقد الجرح” يقول فيها: “بغداد والقدس والأشعار والفشل.. مواقد الجرح فيها الروح تشتعل”، ويخاطب القدس وألم بغداد يجتاح روحه بالقول: “يا قدس لا تيأسي فالمر في فمنا.. وأنَّ حزنك في بغداد متصل”، ويربط نكبات فلسطين بالعراق بالقول: “حتى ابتلينا بجرح في العراق وما.. للنائحات على أوجاعه قِبل”، ويكمل الألم بالقول: “هناك قدس هنا بغداد نازفةٌ.. هنا دماء هنا موتى هنا وجل”.
ويكمل الربط بين فلسطين والعراق بنفس القصيدة بمخاطبة غزة وخيانة الأعراب لها فيقول: “هنا العراق هنا في غزة ذبحت.. كل المروءات والأقوال والمثل/ خانتك يا غزة الأعراب وارتهنوا.. سيوفهم، عند حانات الأسى ثملوا/ يا غزة الصبر ما في القوم من مدد.. فمن تسلح صبرا ليس ينخذل”، وهذا الذي يتكرر الآن منذ قرابة العام بكل ما تتعرض له غزة بدون أية نصرة من أنظمة العرب، فما أشبه اليوم في البارحة، ويربط ببن الفلوجة وغزة بقوله: “يا أخت فلوجة تلك التي عبرت.. على الردى لم يشاغل جرحها ملل”، وفي قصيدة “من وحي المشانق” يقول: “ظلت فلسطين صيحات ترددها.. على المشانق حتى أخرسوا الودجا”.
وفي قصيدة “الذئب يبتسم” يخاطب بغداد: “بغداد فوق الذرى تزدان فاخرة.. في ظل أسادها بالعز تتسم/ بغداد تغفو بحضن المجد آمنة.. هيهات يفزعها من نومها قزم”، لكن ألمه يتجلى في قصيدة “عذرا أيها العرب” فيقول: “ماذا سأحكي إذا حدثت عن وطني.. وهو العراق الذي ما مثله ثانِ”، ويقول أيضا: “قد أحرقوا كل شيء فيك يا وطني.. عشقي وشِعري وأحلامي وألحاني”، ويكمل القول: “مشى العراق على حمى خناجرهم.. ما بين مستهزئ فيه وطعَان”، ويتصاعد ألمه في قصيدة “الفارس الأبهى” فيصرخ: “جرح العراق بوسع الآه محترق.. ويصطلي بلظاه النخلُ والقصبُ”، ويتألم مع بغداد في نفس القصيدة بالقول: “تئن بغداد لا حلمٌ يطوف بها.. والبؤس يسكنها والأمن مستلب”، وهوى بغداد والعراق يتجليا في قصيدة “ذاكرة الألق والجرح” وأستشهد منها بالبيت الأخير حين يقول: “هذي قبور العراقيين شاهدة.. والأرض تعرف منهم صدق فاديها”، فمثلث الشهداء في مدينة جنين الذي اقف دوما لقراءة الفاتحة على ارواح شهداء العراق وفلسطين، تنطق فيه قبور شهداء العراق.
وأيضا أخذ الرئيس الشهيد عدة قصائد في الديوان منها قصيدة “من وحي المشانق” ومن ابياتها: “في حضرة الموت يهتز الورى هلعا.. وأنت كالرمح لم نلمع به عِوجا”، وأيضا قصيدة “الفارس الأبهى” فيقول: “تضيق عن وصف ما نلقاه أحرفنا.. ينوح نوح الثكالى بعدك العرب”، وتألق الشاعر بوفائه ومحبته للرئيس الشهيد في قصيدة “وظل وجهك فينا ساطعا قمرا” ويقول فيها: “تخط فوق جبين الشمس منزلة.. لأمة سكنت بعد العلا حُفرا”.
وفي النهاية سعدت بالتحليق في ديوان كان عابقا بالمشاعر الجياشة والعواطف المختلفة المتراوحة بين الحزن والفخر والألم والأمل، وأحاسيس حب ووطنية وانتماء عروبي، جال بنا الشاعر فيه من خلال شعر البحور مع المحافظة على الجرس الموسيقي، بأحلام وطن ومشاعر انسان رابطا بين التراث والتاريخ، حيث اشار لذلك اكثر من مرة ومنها اشارة لهارون الرشيد وبابل، وبين الحاضر وحلم الغد، ولعل ما يشد المستمع والقارئ لشعر محمد نصيف قوة اللغة وتكثيفها واستخدام الفصحى القوية بأشعاره، إضافة للوحات المرسومة بألوان الحروف، فمنحني الشاعر وشعره لحظات من الجمال لا تنسى.
“عمَّان 15/9/2024”
العمق الوطني: يعتبر الديوان تجسيدًا للحنين والانتماء
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.