“إِنَّ ما يشكل نَوَاةَ وُجُودِنا، (…)، والتي لا تعرف في قَرارَتِها غير شَيْئَيْنِ: أَنْ تُرِيدَ أَوْ أَلّا تُرِيدَ.”[1]
يوجد الإنسان، إذن، وبصفة عامة ككل كائن عاقل، بوصفه إرادة في ذاته، وليس مجرد شيئ نعبث به أو نلعب بواسطته، فالإنسان ليس شيئاً، إنه إرادة قوية تفكر ذاتها بذاتها لذاتها.
ولهذا وقع اختيارنا هذه المرة على الإرادة الإنسانية التي تخص الإنسان ذاته دون غيره.
لهذا وجب علينا أن نضع الإنسان كإرادة أولاً، ثم تأتي ماهيته ثانياً، فالإرادة تسبق الماهية، وهذه الإرادة تمنحنا الحق لأن نعتبرها قيمة في ذاتها، وبمجرد النطق بها نكون قد نطقنا بقدرة الإنسان على الفعل والتصرف وفق ما يريده هو دون تدخل الآخرين فيه أو في اختياراته.
وتشكل الإرادة بهذا المعنى تحقيقاً لما يرغب فيه الإنسان، أو لما يريده هو ويتوجه إليه بجهده الخاص، أي من خلال جهده المبذول من أجل تحقيق الذات أو تحقيق الاستقلالية، فالكل يرغب في الاستقلال، لا أحد يرغب في سجن نفسه داخل قوقعة معزولة عن العالم والآخرين، والإرادة تحقيق لكمال الإنسان في انفتاحه على الآخرين واستقلاله عنهم في نفس الوقت!
إن فكرة إرادة الإنسان تسبق ماهيته، فكرة منافحة لأطروحة سارتر بخصوص وجود الإنسان يسبق ماهيته، لكنها تختلف عنها في أسبقية الإرادة حتى على الوجود!ومعنى ذلك أن ماهية وحقيقة الإنسان لا تتحدد من خلال وجوده كما عبر عن ذلك سارتر، بل تتحقق من خلال قوة إرادته، واختياراته، وقدرته على الفعل، ونمط علاقاته بالآخرين من خلال الانفتاح عليهم والاستقلال عنهم في نفس الوقت.
لهذا فالإرادة هي ما تشكل حقيقة الإنسان الثابتة في ضوء ما يختاره من أفعال وتصرفات وسلوكات وممارسات وأفعال وتخيلات وآراء ذاتية وموضوعية، أي نابعة عن ذاته ومستقلة عن الأغيار.
يوجد الإنسان في هذا العالم كما أريد له أو كما أراد هو لنفسه أن يكون، بوصفه إرادة، وإذا لم يكن الإنسان إرادة فهو لن ولم يكون هوى أو رغبة عمياء وجوفاء في يد الآخرين.
ويمكن التعبير عن الإرادة بالقدرة على الفعل، أو القدرة على الاختيار أو القدرة على فعل وتفعل الحرية، أو القدرة على تموضع الذات داخل العالم، ويصبح الإنسان فاعلاً وفعالية وليس منفعلاً وسالباً، أي متلقياً لأفعاله من عالم خارجي.
وكل إنسان هو وعي حر يملك في طياته مبادرة خلاقة وواعية وفاعلة أو فعالية، إن كل إرادة هي إرادة لشيء ما، وتنبثق الإرادة أو تتدفق من داخل أي سكون وثبات، لقد وجدناها الآن، الإرادة حَرَكَةٌ مُقَاوِمَةٌ ومَسْؤولَةٌ.
لا ننفي هنا الشروط الإنسانية ومحدداتها التي تشرط الإنسان، أقصد الشروط الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية والقانونية والدينية والفكرية والإيديولوجية والثقافية والبيولوجية، … إلى آخره من الشروط، لكن رغم كل ذلك هناك حركة مقاومة ومزعجة تقاوم كل هذه الشروط أسميتها الإرادة.
إذن ثمة مسافة من الإرادة المنبثقة من الذات الإنسانية إلى الحرية والحركة والمقاومة الحيوية، أي إرادة سائرة وصائرة باستمرار، ما يعني أنها سيالة ومتغيرة ومتحولة وسائرة ومتدفقة، بل هي منظمة، لا يمكن تقييدها أو تقويضها، إنها تنفلت من كل سكون وثبات.
تشكل التجربة الذاتية للأفراد أيضاً إرادة ذاتية وحرة ومبدعة تخصهم لوحدهم، فمن خلالها يتعلم الفرد معنى القدرة على الفعل أو السلوك الإيجابي الحسن، ويعي القصد منها.
إن محاولتنا التفكير في سؤال معنى الإرادة، لا يجعل منا نحصر الإرادة في القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة بل يجعلنا نفكر في الإرادة في ضوء الوجود الإنساني الحالي بجميع تفصيلاته وأشكال تجلياته، فننتهي إلى كون الإرادة ضرورية في فهم وتحليل العالم وعلاقتنا بالآخرين.
ذلك أن الإرادة الخاصة بنا توجد بمعية الإرادات الأخرى، ما يدل على أن الإرادة تنتمي إلى مجال الغير، وتختلف عنه في نفس الآن، يمكن القول إذن: هذا ما أريده، أو هذا ما لا أريده أثناء مخاطبة الغير، أو هذا ما أرغب في أن يحدث أو أصبح عليه فيما بعد، أو العكس هذا ما لا أريد أن يحدث البتة، وتظل الحرية شرط الإرادة الإنسانية ومحدداتها.
يتملك الإنسان إرادته في صميم قدرته على الفعل، والمقاومة الحيوية أو حتى القدرة على الحركة، التي تشكل الشرط الأساسي في وجودي، ومن هنا تأتي دعوتنا إلى الخروج من العزلة، والانفتاح الخلاق على العالم، بوصفه شرطا ضروريا لبناء إرادة مجاوزة للواقع والبحث عن أفق أو آفاق كونية.
لهذا فالمشكلة تعرض في البداية كمشكلة خاصة، إنها تُطرَحُ بصدد حضور الإرادة في الذات وعلاقتنا بالآخرين التي قد تكون علاقة استلاب واغتراب وتشييء، إنها خاصية تسلب إرادة الإنسان وتختزله عبر سجنه في عالم يشعر بالاغتراب والعزلة عنه.
إن غياب الإرادة، بمثابة عائق نهائي أمام كل تواصل مع الآخرين ومناقشة القضايا المختلفة بكل حرية، فالإرادة الذاتية وحدها الإرادة الحقيقية، وهي إرادة تظل غير قابلة، اعتبارا لخصوصيتها، أن تكون موضوع فعل تشاركي مع الآخرين، لكن رغم كل هذا يجب على الإنسان أن يحيا من أجل الآخر، بمعنى، أن يعيش حياة أو إرادة تراعي الغير وتنظر إليه نظرة غاية لا نظرة اختزال وتهميش.
إن إرادتنا إما أن تكون إرادة كاملة، وإما أنها لا تكون على الإطلاق. ذلك أن مصادر الإرادة مختلفة قد ينبغي أن تأتي بالضرورة من الخارج. كما قد نقر بأن إرادتنا إنما تنبع من الداخل. لكن ما يجب وضعه في عين الاعتبار هو أننا مندمجون مع العالم الخارجي اندماجا وثيقاً لا ينفصل. وبناء عليه، فإن كل أفعالنا وتصرفاتنا وسلوكاتنا وممارساتنا يمكنها أن تغير توجهات حياتنا.
تشكل الإرادة من هذا المنحى ملكة إحكام الذات عن طريق القدرة على الفعل والاختيار، لكن الإرادة على صلة وثيقة بالتفكير، والاستقلالية تجاه ضرورات الطبيعة، كما تتعارض مع كل النوازع والميولات والدوافع.
لكن لا يعني كل هذا، أن إرادتنا نفي للحياة المعيشة ذاتها، بل بالعكس إنها تنبثق من رحم الحياة والإنسان، إلا أن إرادتنا لا تقوم على فعل كل ما نريد، بل هي إرادة بشروط، لا يمكن للإرادة أن تقوم إلا على القدرة على فعل ما يجب أن نفعله، وأن لا نُجْبَرَ على فعل ما لا يجب فعله.
ويجب أن نحتفظ في ذهننا، أن الإرادة هي الحق في القيام بكل ما تسمح به القوانين، وألا نفعل بإرادتنا ما تمنعه القوانين، لأن إرادتنا ستتحول إلى فوضى تمس الشأن العام، مما قد يؤدي إلى إلغاء الإرادات وتضاربها، لهذا لا توجد أبداً إرادة بدون قوانين ولا يمكن أن توجد.
وعلاوة على ذلك، لا يكون للإرادة تحقيق فعلي في العالم إلا في حالة تحقيق ممارسة الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة الخاصة بالمرء، لا يمكن للإرادة أن تتجلى، إذن، إلا في إطار تجليها في السياق العام والحياة اليومية، أي خارج الذات، وفي العلاقات بين الأفراد، لأن ذات ودواخل المرء لا يمكن معرفته والاحاطة به، وهو ممتنع عن كل معرفة.
إن الإرادة، بوصفها واقعاً قابلاً للتحقيق، ترتبط ارتباطا وثيقاً بالحرية، وتشكلان معاً وجهان لعملة واحدة.
الإرادة قوة مبادرة واختيار، عبر الاستقلال الذاتي والحرية والقدرة على الفعل والسلوك، فكون المرء مريداً لا يعني أن يفعل ما يريد، بل تعني أن يصمم على ما يريد، بالمعنى الواسع للإرادة، بواسطة ذاته وفقط، مع الانفتاح على الآخرين، والإرادة هنا تدل على قدرة المرء على تحصيل غايات وأهداف مختارة بدقة، لهذا فالإرادة هي الاستقلال الذاتي والحر للاختيار-الفعل، من هنا تكون بداية تحقق الإرادة.
مصدر الإحالة:
[1]- Arthur Schopenhauer, Le Monde comme volonté et représentation, traduit de l’allemand vers le français : Bordeaux, M.J.F., troisième édition 3, année de parution : 1966, p.943, (Adapté).*ملاحظة مهمة: مقالنا هذا هو مجرد تعليق هامشي على هذه القولة التي تعبر عن نواة الوجود الإنساني حسب فيلسوفنا الألماني أرثور شوبنهاور الذي أُشتهر بالتشاؤم، لكن قولته هذه كانت مُفْعَمَةٌ بالحَياةِ والإرادة الإنْسَانِيَتَيْنِ.