تمثل الأسرة حجر الزاوية في المجتمع، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة في العصر الحديث، خصوصا مع ارتفاع معدلات الطلاق، وتفكك الروابط الأسرية، لذلك نجد أن هناك حاجة ملحة لبحث قضايا الأسرة من منظور إسلامي، لحماية هذه المؤسسة من الانهيار وما لذلك من تداعياته الخطيرة ليس فقط على أفراد الأسرة ولكن على المجتمع برمته.
تشهد الأسر تغيرات سلبية بفعل التأثيرات الاجتماعية والثقافية السلبية، مما يستدعي منا فهما أعمق لمكانة الأسرة في الدين وعوامل انحرافها وكيفية معالجتها، ومن خلال هذا المقال، سنستكشف السياقات المختلفة التي تؤثر على الأسرة ونعرض أهمية القيم الأسرية في الإسلام.
التحديات التي تواجه الأسرة في العصر الحديث
تتعدد التحديات التي تواجه الأسر اليوم، منها ضعف التواصل بين الأفراد وغياب الحوار الأسري، فقد تحولت الهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي إلى مصادر للعزلة بدلا من التقارب، مما أثر سلبا على العلاقات العائلية، بالإضافة إلى ذلك يشكل الابتعاد عن الزواج ظاهرة متزايدة بدأت تهدد بناء الأسر الجديدة، مما يؤدي إلى تأثيرات سلبية على المجتمع بأسره، ومع تفكك الروابط الأسرية يتعرض الأفراد لخطر فقدان دعمهم الاجتماعي والنفسي.
تتسبب العوامل الاجتماعية في انحراف الأسرة، مما يؤدي إلى تأثير سلبي على المجتمع، ومن أبرز هذه العوامل ضعف القيم الأسرية، وانتشار الأفكار التي تروج للشذوذ والعزوف عن الالتزام بالقيم المشتركة، كما يتجلى ذلك بشكل واضح في الأسر التي تفقد هويتها وثقافتها، مما يعزز الفجوة بين الأجيال. لذا فإن إدراك هذه المشكلات ومعالجتها بشكل فعال يتطلب جهودا جماعية من جميع مؤسسات المجتمع.
تعتبر مهارات التواصل والحوار ضرورية لبناء علاقات أسرية قوية وصحية، إن تشجيع الأفراد على التعبير عن مشاعرهم واحتياجاتهم يمكن أن يسهم في منع تفكك الأسرة، وإن الحوار الأسري يعزز الثقة ويقود إلى فهم أعمق بين الأعضاء، وفي حال غياب مثل هذا التواصل، تزداد فرص اندلاع النزاعات وتفاقم المشكلات، مما يؤدي في النهاية إلى تفكك الأسرة.
الابتعاد عن الزواج وآثاره السلبية
تشير الإحصائيات إلى تزايد حالات العزوف عن الزواج، مما يسهم في نقص الأسر الجديدة، هذا الابتعاد له آثار واسعة النطاق تشمل زيادة الضغط النفسي، والشعور بالوحدة، ناهيك أن المجتمعات تعاني أيضا من ضعف التماسك الاجتماعي نتيجة غياب نماذج الأسر السليمة، فالزواج مبني على أساس احترام وتفاهم يوفر مجتمعا صحيا يدعم أفراده ويمكنهم من مواجهة التحديات بشكل أفضل وسبحان القائل “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة”.
إن تفكك الأسرة لا شك يؤدي إلى فقدان الروابط العائلية، حيث تصبح العلاقات بين الأفراد سطحية، فغياب صلة الرحم يمكن أن ينتج عنه شعور بالعزلة والافتقار إلى الدعم العاطفي، كما أن فقدان العلاقات الأسرية يؤدي إلى تفشي المشاعر السلبية مثل الاكتئاب والقلق، لذا من الضروري إعادة بناء هذه الروابط من خلال تعزيز التواصل والانتماء العائلي.
يعد بر الوالدين وصلة الرحم من القيم الجوهرية في الإسلام، فقد أكد الله سبحانه وتعالى على أهمية هذه القيم في القرآن، مما يعكس مكانتها العالية في المجتمع الإسلامي، فبر الوالدين يعد واجبا أساسيا يجب تعليمه وغرسه في الأبناء منذ الصغر، عملا بقوله تعالى “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما”.
هذه الآداب ليست فقط تعبيرا عن الحب والاحترام، بل هي أساس لتحقيق السلم والأمان الأسري.
إن طاعة الوالدين واحترام كبار السن من الأمور التي تساهم في الحفاظ على تماسك الأسرة، فالتربية الإسلامية تدعو إلى تقدير هذه القيم وتعزيزها بين الأجيال، عندما يتخلى الأبناء عن طاعة والديهم، فإن ذلك يؤدي إلى فقدان الهيبة والاحترام المتبادل في العلاقات الأسرية. لذلك يجب أن يكون هناك تركيز على تعليم الأطفال أهمية هذه القيم منذ مراحل تكوينهم.
خطر الترويج للشذوذ وأثره على القيم الأسرية
يعتبر الترويج للشذوذ تحديا حقيقيا للقيم الأسرية التقليدية، فهو سلوك يعزز من فقدان الهوية الثقافية والدينية ويضعف من الأسس التي تقوم عليها الأسر، بل يعتبر هذا الأمر تهديدا للحياة الأسرية الطبيعية، حيث تستبدل القيم النبيلة بأخرى ضاربة في مصلحة الفساد.
لذلك ينبغي على المجتمع مواجهة هذه الظاهرة والعمل على نشر الوعي بأهمية الحفاظ على القيم الأسرية التقليدية، وإن رسولنا الكريم نبهنا على خطورة ذلك بالقول “أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني”.
أهمية الأسرة في الشريعة الإسلامية وأحكامها
تؤكد الشريعة الإسلامية على أهمية الأسرة بوصفها نواة المجتمع، لذا وضعت الشريعة أحكاما خاصة تتعلق باختيار الزوج والزوجة من خلال مراعاة القيم الأخلاقية والدينية، لذلك يجب أن يتضمن التعليم الديني تربية الشباب على كيفية اختيار شريك الحياة المناسب، إن هذه الأحكام تساعد في تعزيز الروابط الأسرية وتقليل حالات الطلاق وفقدان الهوية.
آداب اختيار الزوج والزوجة في الإسلام
إن اختيار الزوج والزوجة وفق النظرية الإسلامية يعكس أهمية القيم والأخلاق في العلاقات الأسرية، يجب أن تقوم هذه العملية على أساس الدين والتفاهم والاحترام، وإن المؤهلات مثل حسن السيرة والسلوك تعتبر أساسية في هذه الاختيارات، فهذه المعايير تساعد في ضمان بناء أسر ثابتة وقائمة على الحب والمودة، وعن اختيار الزوج الصالح قال الرحمة المهداة (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأخيار) “إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض”.
تلعب التربية الإسلامية دورا حيويا في تشكيل شخصية الأطفال وتعزيز القيم الأسرية، فالتربية الإسلامية تحث على أهمية التعليم والثقافة والتربية السليمة، كما تشمل رعاية الأطفال عاطفيا وروحيا، مما يشجعهم على احترام الأسرة والمجتمع، من خلال تعزيز القيم الإسلامية منذ الصغر، يمكننا إعداد أجيال قادرة على مواجهة تحديات العصر الحديث.
ضرورة وجود باب فقهي خاص بأحكام الأسرة
تتطلب الظروف الراهنة إيجاد باب فقهي خاص بأحكام الأسرة، ليشمل جميع جوانب الحياة الأسرية، هذا الباب يمكن أن يقدم حلولا وقواعد تضبط العلاقات الأسرية وتساعد في حل النزاعات، من المهم أن يستند هذا الباب إلى قيم الشريعة الإسلامية ويمهد لتعزيز الثقافة الأسرية، إن وجود مثل هذا الإطار الفقهي يضمن المحافظة على التوازن والاستقرار في المجتمع.
في النهاية، فإن الأسرة هي الركيزة الأساسية للمجتمع المسلم، ويجب علينا جميعا تعزيز القيم التي تضمن استمرارها.
خلاصة فقه الأسرة: التحديات التي تواجه الأسر في العصر الراهن تستدعي التعاون والوعي بأهمية العلاقات الأسرية، لذا علينا مواجهة هذه التحديات بتطبيق القيم النبيلة التي نصت عليها الشريعة الإسلامية لتكوين قاعدة أسرية راسخة، من خلال الالتزام بتعاليم الدين، يمكننا ضمان مستقبل أفضل لأجيالنا.
_______
العلامة السيد محمد علي الحسيني.