إنَّ الأحداث الكبيرة التي عصفت بمجتمعاتنا خلال الربع الثالث من القرن الماضي، والتي كانت صنيعة تيَّارات وحركات إسلاميّة أصوليّة، مثل اغتيال الرئيس المصري أنور السادات، انتصار ثورة الخميني، الجهاد في أفغانستان وغيرها من الأحداث، جعلت الكثير من الباحثين الغربيّين يدرسون الحركات الإسلاميَّة عن طريق علم الاجتماع السياسي وعلم الاجتماع الديني، ومن بين هؤلاء: “جيل كيبيل” المُهتّم بالشأن المصري وصاحب كتاب “النبيّ والفرعون”، و”فرونسوا بورجات” وكتابه “الإسلامويَّة في المغرب العربي: صوت الجنوب”، وكذلك “أوليفييه روا” الباحث في الجهاد الأفغاني والإسلام الشيعي الإيراني وله عدَّة كتب مثل “الإسلام والحداثة السياسية”، “إيران: كيف يمكن الخروج من ثورة دينية” … وغيرهم كثير.
مُنطلق هذه الدراسات الاستشراقيَّة الجديدة يقوم على اعتبار الحركات الإسلاميَّة حركات اجتماعيَّة بالدرجة الأولى، ما يُلزم هذا النوع من الدراسات والأبحاث مخالفة تلك القواعد والتصوّرات وحتى الأحكام التي تُعدُّ من الركائز في المؤلفات الاستشراقيَّة السابقة، إذ صار الآن الاهتمام بالجانب السوسيولوجي مقارنة بالأيديولوجي، والنزول إلى الميدان حيث الاحتكاك اليومي بالفئة المستهدفة من الدراسة عِوض الاكتفاء بتحليل النصوص الدينيّة.
فلا غرابة أنَّ هؤلاء المستشرقين الجدد اتَّجهوا للعيش في مناطق إسلاميّة واختلطوا بالمسلمين، تعلَّموا اللغة العربية الفصحى والدارجة، لاحظوا على المباشر الإسلام المعاش في الواقع، كما لاحظوا الفرق بين ظاهرة التديُّن وسلوكياته المختلفة من مجتمع لآخر والدين كما هو منصوص في كتبه الشرعيَّة، أو بتعبير آخر، نجحوا في رصد ذلك الفرق بين الإسلام الحركي والإسلام التاريخي بل وحتى العقائدي.
التركيز على البعد السوسيولوجي والسياسي في تحليل وقراءة مناهج وأدبيَّات الحركات الإسلاميَّة (البعض يسميها بـ”الإسلام السياسي”، “الحركات الأصوليّة”) باعتبارها حركات اجتماعية سياسية وما الدين بالنسبة لها سوى مادة أيديولوجية يتّم توظيفها في معركتي الوصول إلى السلطة وتغيير المجتمع (أسلمته)، أي أنّ الدين هو لغة هذه الجماعات إلاّ أن وقود حركتهم في الحقيقة هي تلك الرغبة الجامحة في التمّرد والتسلّط والهيمنة على الحكم اجتماعياً وسياسياً.
انتهت هذه الدراسات إلى أنَّ فشل الحركات الإسلاميَّة في الجمع بين الدين والسياسة في إطار دولة المواطنة المدنية الحديثة، هو نتيجة إخفاقها فكرياً نظراً لتمسكها بقيّم وعادات إسلامية منحتها غلاف القداسة وإن كانت في حقيقتها لا تتجاوز الثقافة والمتخيّل الجمعي للسابقين (القرون الهجرية الأولى)، وبالتالي لم تستطع التكيّف مع التطورات والمستجدات الاجتماعية المعاصرة، ما أفقدها أهّم عامل من عوامل نجاحها وهو القدرة على التعبئة الشعبيّة، هذا بالإضافة إلى دليل فشلها تاريخياً، حيث لم تتمكّن هذه الأصوليّات التي وصلت إلى الحكم، سواء بشقها الشيعيّ (إيران نموذجا) أو شقها السنيّ (أفغانستان نموذجا دون تجاهل فشل الإخوان أيضاً أثناء حكمهم مصر وتونس) من حلّ مختلف الأزمات السياسية داخلياً وخارجياً، ولا تلك المشاكل الكثيرة اقتصادياً واجتماعياً وحتى ثقافياً، بل راحت في تكرار خطابات أخلاقيّة تارة وأخرى إيمانية تارة أخرى، الهدف منها تخدير العقول، والحفاظ على الأتباع والقضاء على المعارضين تحت شعار وسيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إنّ مُنتجات ما يسمَّى بـ”الربيع العربي” جعلت بلداننا وخاصَّة شمال إفريقيا والشام والعراق تدخل في مرحلة من الغموض السوسيوسياسي، فبعض تيَّارات وأحزاب الإسلام السياسي اختارت مراجعة أصولها والتخلِّي عن الكثير من أبجديّاتها كفكرة إقامة دولة الخلافة، والقبول بالممارسة السياسيّة وفق مُحدثات العصر كالديمقراطية والمشاركة البرلمانية وقبول الآخر المختلف تحت مفهوم المواطنة وغيرها، وإن كان البعض يشكّك في مصداقية هؤلاء ويعتبر حركتهم مجرد حيلة تكتيكية للوصول والتمكين ثم الانقلاب، لأنّ مشكلتهم دينيا/أيديولوجيا مع مفرزات الديمقراطية كحقوق الإنسان، وضع المرأة، الحريّات، الليبرالية، غير المسلم، المثليّة …، وفي نفس الوقت، ارتفع أدرينالين التطّرف والعنف الديني والفكر الجهادي إلى درجة أضحت فيها بعض التنظيمات المُسلحة حلم الكثير من الشباب المسلم بذكوره وإناثه، ولم يعّد كالسابق عبارة عن جهاد نصرة وتضامن، بل تطّور إلى هجرة من أجل الاستقرار والمشاركة في جهاد التمكين وتأسيس الدولة الدينيّة، أما التيّار السلفي فقد بقي محافظاً على منهاجه في التعامل السياسي، حيث لا يرفع السلفية شعارات تصادمية مع النظام الحاكم ولا مطالب إسقاطه والخروج عليه، بل يكتفون بشعارات ذات طابع اقتصادي واجتماعي، الهدف منها إصلاح مؤسسات الدولة وخاصة جهاز العدالة، الاهتمام بكل طبقات المجتمع وخاصة الفقيرة منها، محاربة الفساد الإداري والأخلاقي وغيرها من المطالب الإصلاحية … أما طبيعة أنظمة دولنا أمام كل هذا الأخذ والردّ، فهي أنظمة هجينة تستخدم الدين أيضاً في السياسة ولكن بنسبة أقل، هجينة لأنّها تجمع بين مقتضيات العلمانية الراهنة والمقتضيات الدينيّة، حيث لا تزال الدولة تؤطّر الممارسات الدينيّة كشعائر وخُطب وتُحاسب من يطالها بالتشكيك أو النقد معتبرة هذا من مسؤوليتها (شأن عام)، عكس الدول العلمانية أين يرتبط الدين بالفرد فقط (شأن خاص)، وهذا التأطير وإن كان حماية للدين كما تنص القوانين فهو أيضا حماية للدولة ومؤسساتها إذ لها حق التدخل ومعاقبة المعارضين تحت شعار محاربة التطّرف الديني.
في الأخير، إن الإصلاح المنشود لمجتمعاتنا والخروج بها من دائرة التخلف لا يتحقّق إلاّ بإصلاح الخطاب الديني، هذا الأخير لن يكون ناجحاً على طريقة “مارتن لوثر” إذ علّق على باب الكنيسة وثيقة تتضمن 95 قاعدة إصلاحية تمّس عقيدة الإيمان المسيحية، والباباوية، والنظام الكنسي، بل عن طريق فهم التاريخ والتطّورات داخل مختلف المذاهب والتيارات الإسلامية (سياسية وغير سياسية) وفق علوم إنسانيّة واجتماعية أكاديمية معاصرة، فالعلاج لن يأت من داخل الجسد العليل بل من خارجه.
_________
*المراجع:
- برهان غليوم؛ نقد السياسة: الدولة والدين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء_المغرب، الطبعة الرابعة، سنة 2007.
- محمد أبو رمان؛ ما بعد الإسلام السياسي، مؤسسة فريدريش ايبرت، عمان_الأردن، سنة 2018.
- François Burgat ; L’islamimse au Maghreb :La voix du Sud, Karthala édition, Paris_France, année 1988.
- Gilles Kapel ; Le Prophète et Pharaon, Folio_histoire, France, année 1984.
____
*العفيفي فيصل: باحث دكتوراه في أصول الدين بجامعة تلمسان-الجزائر، أستاذ اللغة الفرنسية.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.