مقدمة
ثمة شاغل يسكن مَشرُوع محمّد أركُون -ونلفي ذلك، بيِّناً، في معظم مُؤلفاته الفكريَّة القيِّمة*– وهو مُساءلة العقل الإسلامي ونقد أسسه؛ أي نقد المرجعيات الإبستيميَّة الإسلاميَّة التي أدت إلى انشراخه (=العقل الإسلامي) إلى فرق وشيع متعارضة. ولا نقصد بالمرجعيات، في هذا المقام، نصوص الوحي الإلهي، وإنما التفسيرات الكلاسيكيَّة المُغلقة التي قدمها المُفسرون، في العهد الكلاسيكي، أثناء تَأويلهم للنَّصّ القُرآني وتفسيرهم له (علم الكلام، أصول الفقه، علم الحديث….). ومن ثمة، أصبح نقد هذه المَنظُومة الإسلاميَّة الكلاسيكيَّة اليوم، في نظر محمّد أركون، مطلبًا ضروريًّا وحاجة فكرية للتخلص من الأفكار الماضوية المغلوطة التي تحجُب عن المسلم رؤية حقيقة الدِّين الإسلامي. وعلى هذا الأساس، يؤكد (=محمّد أركون) على أن “كل كتب التراث ينبغي أن تُغربل غربلةً شاملة، وأن تمحص تمحيصًا لا هوادة فيه”[1]؛ أي أن تضع كل الأفكار التراثيَّة والأشكال المختلفة للنظام الشعائري للاعتقاد الإسلامي موضع نقد وموضع أزمة واستشكال.
استناداً على هذه المنطلقات، ظهر مشروع الإسلاميات التطبيقيَّة، في وعي محمّد أركون، كلحظة علميَّة تبتغي زحزحة المسلمات الدوغمائيَّة التي ترتكز عليها الإسلاميات الكلاسيكيَّة، والاشتباه في خطاباتها الكبرى التي استحالت إلى إيديولوجية غريبة المأخذ، وأقل ما يقال عنها، إنها إيديولوجيَّة تزرع اليباب الفكري، وتؤدي إلى انقفال الآفاق المعرفية وانحجاب الحقيقة الدينيّة. وبالتالي، فالمُبتغى من تشييد هذا المشروع هو فتح آفاق معرفيَّة ومنهجيَّة رحبة للتفكير، من جديد، في قضايا الدّين الإسلامي وفي نصوصه التأسيسية، وفق مناهج العلوم الإنسانيَّة المعاصرة. وعليه، يدعو أركون، في هذا المشروع، إلى ضرورة الكشف عن السَّيرورة التَّاريخيَّة للإبيستيميات المعرفيَّة التي يسلم بها العقل الإسلاميِّ، والتَّعثُّرات الفكريَّة التِي شَهدَتها الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، والتَّفكير خَارِج الحُدود التِي رَسَمتهَا الشُّروح الإسلاميَّة التَّقليديَّة. ويعبر محمّد أركون، في مناسبات عدة، عن موقفه النقديّ مِن مَشرُوع الإسلاميَّات الكلاسيكيَّة، ويطمع فِي تجاوزهَا، وَذلِك مِن خِلَال انتهاجه أَكثَر الطُّرق وُعُورَة، وَهِي تَعقُّب تطوُّرَات المقاربات العلميَّة المعاصرة وتطبيقهَا على التُّرَاث الدِّينيِّ الإسْلاميِّ، بُغيَة إِثارة القضايَا اللَّامُفكِّر فِيهَا والمستحيل التَّفكير فِيهَا فِي ثقافتنَا. خاصة، أن العقل الإسلامي أو المسلم، اليوم، قد أسدل سِتَار التَّفكير النقدِي والتَّساؤل الجدِّيِّ، ولم يَعُد الانهمام بِمشكلات الدِّين لديه، أمرًا ضَرورِيًا.
يتبين إذن، أن محمّد أركون يبتغي إعادة إثَارة الإشكَالَات المسكُوت عَنهَا دَاخل الموروث الثقافي الإسلامي، ومُساءلة مَاهيتها واستشكال بداهتها، وإخضاعها للدراسة العلميَّة بغية الإفصاح عن حقيقة قضايا الفكر الإسلامي في واقعنا المعاصر، وفهمها بطريقةٍ سليمة؛ لأنها تشكل نمطاً معرفيًّا للكشف عن حقيقة المسلم وهُويته. وقضية الحج واحدة من القضايا اللامفكر فيها في الفكر العربي المعاصر. لذلك، شُغل به (=الحج) باعتباره ظاهرة دينيَّة، وعمل على استكشاف معالمه وسماته، وأخضعه إلى البحث التاريخي-الأنثروبولوجي، والمُساءلة العلميَّة المنهجية بغية الكشف عن تجليات حُضوره وتأثيره على الوعي العربي المعاصر. يتعين أن نتساءل، بدايةً، ما معنى الاسلاميات التطبيقية عند محمد أركون؟ ما هي مهامها؟ ما علاقتها بأسئلة العقل الإسلامي؟ هل يشكل الحج قضية لا مفكر فيها في الحياة الإسلاميَّة المعاصرة بالرغم من حضوره الواقعي في مناحي حياة المسلم؟ ثم كيف يمكن قراءة الآيات القرآنيَّة المتعلقة بمسألة الحج قراءة تستلهم من مناهج العلوم الإنسانيَّة المعاصرة؟
أولاً: مفهوم الإسلاميات التطبيقيَّة ومهامها
تنطلق رحلة المشروع الفكري لمحمّد أركون مِن تشديده على ضَرُورَة الخُروج مِن شَرنقَة الإسلاميَّات الكلاسيكيَّة الاستشراقيَّة التِي تَكتَفِي بِحَشد المعارف والمعلومات الأكاديميَّة حَول الثَّقافة الإسلاميَّة، وتغزل نسيج بحثهَا مِن التُّرَاث المكتوب فقط دُون استحضارهَا التُّرَاث الشَّفَهيِّ كَجُزء مِن التُّراث الإسلامي، و إهمالها “المعيش غير المكتوب و غير المَقول لدى من في وسعهم الكتابة”، و”المعيش غير المكتوب ، و لكن المَحكي” و” الأنظمة السيميائيَّة غير اللغويَّة المُؤسسة للحقل الدِّيني أو المُرتبطة به كالميثولوجيات والمُوسيقى والشعائر وتنظيم المكان والزمان، و اختطاط المدن، والعمارة و الرسم، بنى القرابة و البنى الاجتماعية …إلخ”([2]). أما الإسلاميَّات التَّطبيقيَّة فلها هدف أخر يتمثل في دراسة التُّراث الإسلَامي من خلال تنَاول الجوانب النظريَّة والعمليَّة للثَّقافة الإسلاميَّة، من أجل قراءة واقع الإسلام اليوم الذي أصبح مغموراً بالأفكار الإيديولوجية وبسموم التطرف والتعصب الطائفي، وذلك من خلال الالتزام بدراسته انطلاقاً مِن مَناهِج الفكر العلمِي الحدِيث، خَاصَّةً بِشقيه المعرفيِّ والمنهجيِّ النقدِي. وهكذَا فالإسلاميَّات التَّطبيقيَّة تَنطَلِق – بِرأيه – مِن الحاضر وقضاياه ولَا يَغرق فِي الماضي البعِيد المنقطع عن حَرَكيَّة الحيَاة والهموم المعاصرة”([3]). ومن أجل الظفر بهذا المبتغى، لابد من دراسة تراث الإسلام الذي يشمل النَّصّ الدّينيّ التَّأسيسي أي النَّصّ القرآني، ويشمل المُهمّش، والمنبُوذ، واللّامفكَّر فيه، والمُستحيل التفكير فيه وفق عُدّة منهجية معاصرة. وتتمَيَّز الإسلاميَّات التَّطبيقيَّة عن الإسلاميَّات الكلاسيكيَّة بِمجموعة مِن السِّمَات الفكريَّة التِي تَتَوخَّى أجرأتهَا أَثنَاء قِراءة ترَاث الإسلام وقراءته وفقهَا، ولتوضيح مَلامِح الإسلاميَّات التطبيقيّة، فقد حصر محمّد أركون هذه المميزات في خمسٍ هي:
- يتضمن الإسلام اليوم، كدين وَكتراث فكرِي، جُملَة مِن المسلمات الأيديولوجيَّة الرَّسميَّة التِي تَهدِف إِلى خَلق التَّوازنات النَّفسيَّة والاجتماعيَّة للمجتمعات الإسلاميَّة. لِذَلك تَرمِي الإسلاميَّات التَّطبيقيَّة إِلى إِثارة الأسئلة المؤرِّقة التِي تَطرَح نفسهَا اليوم على الإنسان المسلِم وإحدَاث برنامج مَنهَجي دقيق لِلدِّراسات مِن أَجل فَهم أَفضَل لِلمحتوى الموضوعيِّ للنَّصِّ القرآنيِّ وللتُّراث الإسلاميِّ الكلاسيكي.
- تكمن مهمة الإسلاميات التطبيقيّة في توضيح مدى هشاشة المسلمات المعرفيّة (الإيبستيميّة) التي يرتكز إليها الفكر الإسلامي القروسطي الذي يخلط بين الميثيّ والتاريخيّ، ويقوم بترسيخ المسلمات الأخلاقية والدينية في واقع الإسلام وهي السائدة منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا. تولد عن ذلك نشوء نزعة دوغمائيّة تؤمن بقدسية المعنى المرسل من قبل الله ووحدانيته وبتفوُّق الإنسان المسلم على غير المسلم. لذلك تسعى الإسلاميات التطبيقيّة إلى إثارة المشكلات النظريّة التي تتضمنها المسلمات المعرفيّة القروسطيّة من أجل تأسيس مسلمات معرفية حديثة قائمة على منجزات العلوم الإنسانية الحديثة.
- تبيان قصور الإسلاميَّات الكلاسيكيّة الذي انحصَر مَجَال اهتمامهَا فِي تَقدِيم مَعارِف مُحَددَة حَول الدِّين الإسلاميِّ إِلى الجمهور الغربِي، فِي حِين أنَّ الإسلاميَّات التَّطْبيقيَّة تنشَغِل بِدراسة الإسلام كفعَّاليَّة عِلميَّة دَاخلِية للفكر الإسلاميّ، متوافقة مع مَناهِج الفكر المعاصر. بِمعنى آخر، تبتغِي هذِه الإسلاميَّات تَجدِيد مَضامِين الفكر الدِّينيِّ الإسلاميِّ عَبر دِراسَته دِراسة عِلميَّة مِن أَجل إِرسَاء أنتروبولوجيا دِينيَّة. وَقصد تَحقِيق هذَا الأمر، لا بدَّ من إِعادة قِراءة النَّصّ القُرآني فِي ضَوء مَا جدَّ مِن مَناهِج عِلميَّة مُعَاصرَة كالنَّقد التَّاريخيِّ المقارن، والتَّحليل الألسني التفكيكي والتأمل الفلسفي…
- ليس الإسلام كظاهرة دينيَّة – في منظور الإسلاميَّات التَّطبيقيّة- مُجرد أفكار نظريَّة جامدة، بل إنه ظاهرة تتولّد من مجموع من العوامل التي ساهمت في نشأته وتطوره؛ ويحددها محمَّد أركون في: العامل النفساني (الفردي والجماعي)، والعامل التاريخي (تطور المجتمعات الإسلاميَّة)، والعامل السوسيولوجي والعامل الثقافي. وبالتَّالي وجب دراسة التُّراث الإسلامي بالاعتماد على تخصصات علميَّة مُتعددة.
- انشغال الإسلاميَّات التَّطبيقيَّة بِدراسة القضايَا اللَّامفكر فِيهَا والميثولوجيَّات القديمة والأفكار الأيديولوجيَّة السَّائدة فِي الفكر الإسلامي، واقتحام القضايَا المسكوت عَنهَا والنَّبش في المناطق المغيبة باعتبارهَا مَسائِل دِينيَّة طمست لأغرَاض سِياسِيَّة أو أيديولوجيَّة أو أَسبَاب اجتماعيَّة. وَمِن أَجل إِرسَاء تَارِيخ منفتِح للفكر الإسلامي، عمل أَركُون على إِثارة هَذه القضايَا الشَّائكة ودراستها دراسة تفكيكية؛ كالمثلث الأنثروبولوجي: العُنف، الحُرم، الحقيقة([4])، وقضية الوحي في الإسلام وعلاقته بمفهوم الوحي في الأديان التوحيديَّة، وأثر المخيال الاجتماعي على تكوين الفكر الإسلامي، وبيان تاريخيَّة النَّصّ التأسيسي (القُرآن)، و قراءته لمسألة الحج قراءة لغوية، ودلاليَّة، وأنثروبولوجية من أجل تعميق الفهم في ماهيته كظاهرة دينية وثقافية.
ثانياً: الحج، المنهج، أسئلة العقل الإسلامي
أعرب محمَّد أركون عن تبرم عنيد من تأويلات المنظومة الإسلامية التقليدية للنصوص القرآنيّة المتعلقة بظاهرة الحج، وتنكفت بنفسها عن التحليل الموضوعي، من دون أن يشكك في مضمون هذه التفسيرات الفقهيَّة أو الدينية ومصداقيتها، لأنها تظل، على نحو من الأنحاء، اجتهادًا فكريًّا لفهم حقيقة النَّصّ القُرآني، ونمطاً لكشف ماهيته في ظل الأوضاع الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي نشأ فيه، كما لم يهدف إلى خدش الشعور الديني ذي الحس المرهف وخلخلة الإيمان الدّيني للمسلمين. لذلك، يتبدى هذا التبرم الأركوني في رفضه، فقط، الاقتصار على البعد العمودي الذي أقره التنزيل والوحي، وعزوفه عن إثارة الظروف النفسيَّة والسوسيولوجيَّة (أي البعد الأفقي) التي تتسم بها ظاهرة الحج في الخطاب القرآني. ورفض، أيضاً، عدم دراسة الحج كظاهرة دينية قابلة للتحليل والتفكيك وفق مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة. وعليه، لم يخفِ أركون استياءه وامتعاضه الشديد من هيمنة هذا التفسير الشرعي للحج، مشدداً على ضرورة توسيع الرؤية الفكرية في هذه الظاهرة، والاعتراف بوجود أشكال مختلفة من الحج؛ كالحج العقلي الروحاني الذي مثله كل أبو حيان التوحيدي والغزالي والقاضي سعيد والإمام جعفر من دون أن يتنكروا لفرائض الحج والتشكيك في واجباته الشرعية.
وفي هذا المضمار، شدد محمّد أركون على ضرورة تجاوز مناهج التفسيرات التقليديَّة التي حصرت انشغالها في قواعد التحليل النحوي واللفظي والأسلوبي للغة العربية، واستبدالها بالتحليل الأنثروبولوجي والتفسير التاريخي والسيميائي اللغوي، وتفكيك البنيات النفسيَّة والاجتماعيَّة والجوانب الاقتصادية الثاوية، واستجلاء الأصول اللغوية والتاريخيَّة خلف نشأة المعاني المضمرة في الآيات القرآنية التي تتحدث عن ظاهرة الحج، وتأثيرها على الوعي الإسلامي. وفي هذا السياق، يبين أركون أهمية دراسة مفهوم الحج دراسة مغايرة، استناداً على هذه المقاربات العلمية المنهجية[5]: المقاربة التاريخية الأنثروبولوجية، والمقاربة السيميائية، والمقاربة السوسيولوجية والسيكولوجية. لذلك، قام أركون بعرض مجموعة مختارة من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحج[6]. ويتعيّن أن لا ندرس هذه الآيات دراسةً تبسيطيةً، أو على جهة أن الخطاب القرآني خطاب متعالٍ يتجاوز التاريخ بشكل مطلق، بل من الضَّروريِّ تَدشِين قِراءة مُعَاصرَة تُحَاكِي مُتطلَّبات رُوح العصر، على الرغم من أنها تُواجَه بالصَّدِّ والرَّفض التَّام من طرف المجتمع العربي المنغلق.
يتعين أن ننبه، منذ البداية، إلى العناية الفائقة التي أوْلاها محمّد أَركُون لِلتَّحليل الأنثروبولوجي، لأَنه لا يَدرس النَّص القُرآني بوصفه نصًّا لُغَويًّا، بل أَنَّه يَعمل على التَّفكير، بِشَكل أَعمَق وأوسع، انطلاقًا مِن المحدِّدات الثَّقافيَّة المضمرة التي تتضمنها ظاهرة الحج، وذلِك مِن خِلَال الكشف عن تَأثِير الحج على الوعي الإنساني العرَبي آنذاك، وكيفِية تشكِّل المخيَّال الاجتماعي الذي يُشكِّل خَلفِية أنثروبولوجية تاريخيَّة لانبثاق الإيمان الإسلاميّ. لذلك، اهتم أركون بكشف، بداية، البعد الانثروبولوجي الذي تتضمنه ظاهرة الحج، من خلال دراسة ظروف نشأته، وانتقاله من الوثنية إلى الأسلمة أو العالم الإسلامي، أي انتقاله من دين قبلي إلى دين إمبراطوري بتعبير أركون، وارتباطه بأسماء لمواقع كثيرة مثل مكة وزمزم وغيرهما. كما قام أركون بتقديم وصف دقيق للمجال الجغرافي والمناخي والبيئي لمكة ومحيطها، ولتحركات الحجاج في المناطق التي يمارسون فيها الشعائر والتعاليم الدينية المتعلقة بالحج. لذلك، يلزم، حسب أركون، أن نقوم بتفكيك البنى اللغوية والنبش في الذاكرة التاريخية والدينية بغية استجلاء حقيقته؛ لأن هذا التغير الذي شهده الحج من طابعه الوثني إلى طابعه الإسلامي هو ” هو عمل من أعمال الواقعة الاجتماعية- السياسية والخلق المعنوي اللذين يمكن تتبع مراحلهما الواحدة بعد الأخرى، كما يمكن الكشف عن العلائم اللغوية التي تدل عليهما في القرآن”[7].
يظهر البعد السيمائي والدلالي لظاهرة الحج في انفتاحه على مركب دلالي سيميائي منفتح على المفارق، إذ تعددت دلالات المفردات ومعانيها. وتشمل السلوكات التعبديَّة والأقوال التي يرددها الحاج التي تقوي إيمانه وتكسبه الشعور بالخشوع والورع والتقوى، ليخوض تجربة روحية تندمج فيها الأفعال والممارسات المادية؛ من مسارات الحاج وطوافه، وحجارة الرجم والأضحية. ومن ثمة، يمكن أن نتكلم عن امتداد سيميائي ومعجم لغوي وثيق الصلة بالحج الذي ما كان ليمارس تأثيره الدائم في الوعي في حال ما كان الأمر يتعلق إلا بكلمات معزولة ذات معان واضحة قليلاً أو كثيراً، أو بالأحرى غامضة أكثر مما هي واضحة، وإنما بسبب هذا التأثير الراسخ يعود إلى كون كل كلمة تدل على مكان ما أو شيء ما أو حركة شعائرية أو كلام ما، مثال ذلك: الموقع الذي تحتله الكعبة، القماش الذي يكسوها، ومسارات الحج، ورمي الجمرات، ولحوم الأضاحي، ولباس الحجيج…. كلها مفاهيم تستخدم كمنظومة من المعتقدات الدينيَّة التي تُحدث تأثيرًا روحانيًّا في لاشعور الحاج؛ إذ ينتقل لاوعيه من الإيمان بالوقائع المادية الملموسة والمرئية في الزمكان إلى دخول الحاج في تجربة أنطولوجية ذات بعد إيماني وروحاني.
ثم ينتقل محمد أركون، بعد ذلك، إلى الحديث عن بعض المشاكل التي يطرحها إدماج الحج في الحياة الدينية اليوم، متسائلاً عن المعاني الدنيوية للحج الحالي، وعن علاقة الحج بالبعد الديني أو شروط التجديد الروحي في الحج وبوساطته. ونشير، في هذا المقام، إلى بعضها:يعد الحج، من الناحية السياسية، بالنسبة إلى كل دولة إسلامية مناسبة سنوية لتقوية تماسك الجماعة الإسلامية، يقول[8]: “إن الحج يرسخ فترة من السلام أو المدينة في مكة، فإن الاحتفالات تجعل المسلمين ينسون الخصومات المحلية حتى لو مؤقتاً، كذلك هي تحدث التقارب بين العائلات والطبقات الاجتماعية، وتقدم إلى مجمل الجماعة الوطنية لحظة من التقارب العقلي والانصهار الشعوري”.أما على المستوى الاقتصادي، نجد أن الحج يغذي انتقال الثروات والنشاطات التجارية المحلية إلى الحد الذي يصل ببعض الدول الإسلامية إلى تخفيض عدد حجاجها تفاديا لوقوع مشاكل في العملة. ومن الناحية النفسية، يغذي الإنسان الجانب الروحاني ويلبي انتظاراته الفردية المتنوعة؛ فهناك من يؤدي الحج من أجل الامتثال للواجب الشرعي، أو وفاء بنذر شخصي امتثالًا لأمر تلقوه خلال حلم من النبيّ أو من ولي محلي، أو للظفر بمكانة اجتماعية مرموقة.
وفق هذه المقاربات المنهجية المتنوعة التي عُنيت بدراسة مفهوم الحج، يتبين مدى تعقد وظائف الحج والتداخل القائم بين الدين والتاريخ، والمقدس والمدنس، الجماعي والفردي، وبين التطلعات الروحية والمنجزات المادية. ولفك هذه التعقيدات، لزم على المسلم، اليوم، أن يدرس الظاهرة الدينية دراسة موضوعية وعلمية، من خلال توسل مناهج العلوم الإنسانية كالأنثروبولوجيا وعلم التاريخ، والتحليل النفسي، والسيميائي واللساني.
إن أي قارئ ومتفحص في مجال الدراسات الإسلامية والقراءات التأويلية للنصّ القرآني، سيرى أن التصور الأركوني، يتسم بفرادة متميزة، لأنه استطاع أن ينتزع نفسه من الخطابات التقليديَّة المألوفة في مقاربة مواضيع تخص دراسة المفاهيم والقضايا الإسلاميَّة، إذ عمل صاحبه على تجاوز هذه الخطابات، وشُغل بكيفية تجديد عملية قراءة النصوص الدينيَّة قراءة يقظة ومتأنية لإثارة القضايا المسكوت عنها خلف المتن التاريخي، مع تشديده على ضرورة قراءة النصّ القرآني في ضوء مناهج جديدة، والاستفادة من مناهج العلوم الإنسانية بغية العلو بالدراسات الإسلامية إلى مقام التفكير العلمي الموضوعي.
المصادر المعتمدة
- العربيّة
أركون محمّد، الهوامل والشوامل: حول الإسلام المعاصر، ترجمة وتقديم هاشم صالح، بيروت: دار الطبيعة، 2010.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، قراءات في القرآن، ترجمة هاشم صالح، ط 1، بيروت: دار الساقي، 2017.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، تحرير الوعي الإسلامي، بيروت: دار الطليعة، 2005.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، تاريخية الفكر العربي الإسلاميّ، ترجمة هاشم صالح، ط2 ، بيروت: مركز الإنماء القومي،1996.
- الأجنبية
Arkoun Mohammed, ABC de l’islam : Pour sortir des clôtures dogmatiques, Paris, gaucher , 2007.
* انظر خاصةً: محمّد أركون، قضَايا في نقدِ العقل الدينيّ: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ترجمة وتعليق هاشم صالح (بيروت: دار الطبيعة،2004)، والفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، ترجمة: هاشم صالح، (بيروت: دار الساقي،1998). وتاريخية الفكر العربي الإسلاميّ، ترجمة هاشم صالح، ط2، (بيروت: مركز الإنماء القومي،1996)، ومن الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، (بيروت: دار الساقي،1991).
([1]) محمّد أركون، الهوامل والشوامل: حول الإسلام المعاصر، ترجمة وتقديم هاشم صالح (بيروت: دار الطبيعة، 2010)، ص 172.
([2]) محمّد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلاميّ، ص 52-53.
([3]) محمّد أركون، تحرير الوعي الإسلامي (بيروت: دار الطليعة، 2005)، ص 33.
(([4])) Mohammed Arkoun, ABC de l’islam : Pour sortir des clôtures dogmatiques, (Paris : gaucher , 2007), p. 50.
([5]) يقول محمّد أركون في هذا المضمار: “ينبغي العلم بأن الفكر العلمي يدمج كل الظواهر والمعطيات داخل ساجة دراسية كتوسعة باستمرار في الزمان والمكان، وذلك عن طريق علم الأركيولوجيا والحفريات عن الآثار (انظر مثلاً حفريات ماري، ومسكيني، وتل مردخ في سوريا). بواسطة كل ذلك، فإن علم التاريخ يكشف عن الأصول السامية حتى إلى مدة ألفين وخمسمئة سنة ما قبل يسوع المسيح، وهو -عندئذ- يطرح المشكلة الرهيبة بالنسبة إلى الإسلام، وأقصد مشكلة تاريخية إبراهيم والميثاق. ربما كان إبراهيم شخصاً غير تاريخي، أي لم يوجد قط. أما اللسانيات الحديثة، فيبرهن أن اللغات الطبيعية – أي البشرية- هي أنظمة علامات وكلمات، وأن الامتياز المعطى للغات المقدسة كالعبرية والعربية يمكن تفسيره بأسباب ثقافية لا بأسباب لغوية أو ببنية خصوصية تميزها عن سواها لغوياً، بمعنى أنه لا يوجد فرق جوهري بين ما يدعى باللغات المقدسة وبين اللغات غير المقدسة. أمّا علم الاجتماع، فيكشف النقاب عن العلاقات الوظائفية التي تربط الدين بالجوانب الهيكلية والبنيوية الأخرى للمجتمع كالجانب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي…. إلخ. فالدين، أو التدين، متأثر بها أكثر مما نظن. هذا ما يؤدي إلى تعديل المنظور المتعالي للأديان، فهي أرضية أيضاً وليست سماوية متعالية فقط. علم الأنثربولوجيا يكشف لنا عن تشابه عدد كبير من الأديان بعضها مع بعض في بنياتها التركيبية ووظائفها العملية. أمّا تاريخ الفكر، فيكشف عن الاستخدامات الأيديولوجيّة للأنظمة اللاهوتيّة والفلسفيّة الكبرى التي رسخت لزمن طويل مشروعية العقائد الإيمانيّة. انظروا الإسلام السياسي مثلاً وكيف يستغل الدّين لأغراض لا دينيّة. أمّا علم النفس والتحليل النفسي، فيكشفان عن البواعث الواقعيّة الحقيقيّة للاعتقاد الديني، وكذلك عن بواعث التصورات والتصرفات الدينيّة للإنسان”. محمّد أركون، قراءات في القرآن، ترجمة هاشم صالح، ط 1 (بيروت: دار الساقي، 2017)، ص 503- 504.
([6]) القرآن الكريم، “سورة الحج”، الآية 25 إلى الآية 37.
([7]) محمّد أركون، قراءات القرآن، ص 484.
([8]) المصدر نفسه، ص 500.
______________
أسماء عريش: باحثة مهتمّة بقضايا تَّأويليات النَّص الدّيني في الفكر العربي والغربي المعاصر و بقضايا الدِّراسات القرآنيَّة الغربية.