اجتماعالتنويري

“الشروط الإنسانيَّة ومحدّداتها”؛ من أجل تجاوز “الحالة الإنسانيَّة”

كثيراً ما يرتبط حديثنا عن “الحالة الإنسانيَّة” بوصفها ذلك الوضع أو الهالة التي تُحْصَرُ فيها الذات الإنسانيَّة وتتحدَّد في مختلف مستويات الوجود، أو نعبِّر عنها بالقول “وَضْعُ الإنسان داخل الوجود”، لكن ما نريد بيانه في هذا المقال المقتضب هو تجاوز الحديث عن الوضع الإنساني وتعويضه بمفهوم آخر أكثر دقَّة هو “الشرط الإنساني” “condition humaine”، لكون هذا الأخير، يعبِّر في الحقيقة عن “الذات الإنسانيَّة ووضعها في مختلف مستويات الوجود”، كما أنَّه بمثابة شروط تشرط الإنسان، هذه الشروط تتميَّز بخاصيتي “المطلق والثابت” عكس “الحالة الإنسانيَّة” “L’existence humaine”  التي هي حالة “نسبيَّة ومؤقتة ومتغيِّرة”، كما أنَّها حالة مبهمة ومجهولة لا يمكن الوقوف على حقيقتها بدقَّة، لأنها متعلِّقة بالطبيعة الإنسانيَّة “La nature humaine” التي تتميز بالتغير والتحول والسيلان الدائم والمتدفق.

كما فضلنا استعمال مفهوم “الشرط الإنساني” على مفهوم “الوضع الإنساني”، ذلك أن هذا الأخير، يكتفي بحصر الذات الإنسانيَّة داخل الكون، دون تحديدها، أي دون شرطها، ومعنى شرطها “أي تحديد مختلف قيمتها وحدودها ومستوياتها في الوجود الإنساني”، كما أن هذا التحديد/التشريط يمكننا من الحديث عن مجمل التقاطعات والانفصالات والقطائع أو التداخلات الحادثة على مستوى الشروط والأسباب والأبعاد، خاصة تلك التي تحدِّد الإنسان كذات واعية ومستقلَّة ومسؤولة، أو تلك التي تحدِّد علاقة “ذات-الذات” بـ “ذات-الآخر”، ومن هنا ننطلق من حالة “الوضع الإنساني” إلى حالة “الشرط الإنساني” هذه الأخيرة التي تتداخل فيها الذات-الفرد، الذات-الجماعة، أو حتى الذات-المجتمع، ثم أخيراً الذات-التاريخ.

إن نظرتنا التجزيئية للذات-الفرد، هي نظرة اختزالية لا تنظر للذات-الشخص، كما لا تنظر للذات-الجماعة، بل وتهمِّش الذات-التاريخ، وهذه الاختزالية لا تراعي في حقيقتها لا الأخلاق والقيم والتربية والقانون والسياسة والثقافة، …إلى آخره.

فأي كائن بشري هو في الأساس فرد داخل نظام اجتماعي معين، هذا النظام الاجتماعي المعين هو ما يحدد ذلك الفرد، حيث يكتسب بالتدريج هويته وأساسه من المجتمع من خلال نضجه أو وعي، وهنا تجذر الإشارة إلى أن كل حديث عن الذات هو حديث عن الوعي، لهذا فالذات-وعي، يكتسب من خلال [الوعي] اللُّغة، ويحتك بفضله [أي الوعي] مع العالم الخارجي ويدخل في صداقة مع الآخرين.

هكذا تصبح اللُّغة شرطا إنسانيا لا خاصية إنسانية تحصر الذات الإنسانيَّة وتعرفها في مختلف مستويات الوجود.

اللُّغة ليست تعريفاً بل شرطاً إنسانيا، لكن لا ينسينا هذا أن الفرد له شخصية معينة يتقمصها، ويحمل ملامح نفسية ووجدانية وذهنية خاصة، تجعل منه شخصاً محددا بدقة يتمتع بقسط من حريته الفردية التي تشكل شرطاً إنسانيا بالنسبة إليه.

لكن وفي الوقت نفسه فالفرد يظل مشروطا إلى ما لا نهاية، بمحددات/مشروطات Déterminants بيولوجية/طبيعية، واجتماعية/جماعية.

وقبل التفصيل في الشروط الإنسانيَّة ومحدّداتها، نقول إن حالة الإنسان داخل الكون/العالم هي حالة فيها من التداخل والتعقيد والغرابة والتوتر والشعور بالخوف، لهذا عبر توماس هوبز عن حالته أثناء ولادته والتي تصور حالته الأولى داخل هذا العالم، حينما قال: “وُلِدْتُ أَنَا والخَوْفُ تَوْأَمَانِ”، كما عبر عنها الفيلسوف الروسي برديائيف قائلاً:

(Philosophe russe Nikolaï Berdiaev)

“إذا كنت لا أستطيع تذكر الصرخة الأولى التي أطلقتها حين أتيت إلى هذا العالم، فإنني أعلم علم اليقين أن شعوري منذ البداية كان شعور كائن سقط في جهة غريبة.” وكانت هذه الجهة الغريبة والمجهولة هي العالم، وهذا الأخير هو الذي يتسم بكثير من الغموض واللبس والتعقيد وصعوبة إدراك كنهه وحقيقته، بل لا نغالي في القول أننا نجهل مصدر مجيئنا، حيث “جئنا -كما قال جون بول سارتر- من مكان مجهول وسنذهب إلى مكان مجهول.”.

لكن من كل هذا ماذا نقصد بالشروط الإنسانيَّة التي تشرط الإنسان وتعبِّر عن واقعه داخل هذا العالم، والتي فضّلناها عن مصطلح “الوضع أو الحالة الإنسانيَّة”؟

أمَّا عن الشروط التي تشرط الإنسان وتحد من كماله الإنساني وتقيده وتتحكم فيه، فهي كالآتي:

أولاً: شرط الوجود في العالم.

Premièrement : la condition d’existence dans le monde.

ثانياً: شرط الوجود بالمَعِيَّةِ، أو الوجود مع الآخرين.

Deuxièmement : La condition d’être avec les autres.

ثالثاً: شرط اللُّغة والتاريخ والعلاقات الإنسانيَّة بمختلف أنواعها وأشكالها المتعددة.

Troisièmement : La condition du langage, de l’histoire et des relations humaines de toutes sortes et sous toutes leurs formes.

ولكل هذا نقول، إن هذه الشروط الإنسانيَّة هي بمثابة محدِّدات تتجاوز حالة الإنسان داخل الكون/العالم والتي تحصر الذات الإنسانيَّة وتعرفها في مختلف مستويات الوجود.

كما أنَّ الشرط الإنساني يتوفَّر على خاصية “الازدواجية والتنوعية””Dualisme et diversité”.

والذي هو شرط ضروري نلمحه في الوجود الإنساني برمته، كما لا ننسى الشرط الاجتماعي الذي هو شرط تقييدي، إكراهي، إلزامي، قهري إجباري، عسكري، حسب دوركهايم، لكن وإرضاءاً لنظرية التحليل النفسي الفرويدية نضيف كذلك الشرط السيكولوجي: الذي هو شرط يتضمن اللاوعي الذي أتبتثه نظرية التحليل النفسي والذي يتحكم بدوره في الأفراد ويتجاوز معطيات الأنا السطحية.

“Condition psychologique : Il s’agit d’une condition qui inclut l’inconscient, tel qu’établi par la théorie de la psychanalyse, et qui contrôle à son tour les individus, dépassant les données superficielles du moi.”

فالإنسان الذي نتحدث عنه داخل هذا العالم، هو إنسان أو كائن هش ضعيف مغلوب على أمره، معرض للأخطار من جميع النواحي، أو في مختلف مستويات الوجود، ومهدد في كل لحظة من أن يفقد الشروط الإنسانيَّة التي تشرطه، والتي تشكل حقيقته كإنسان، رغما عنه وبدون إرادته، لهذا يمكن القول أن الشروط الإنسانيَّة تحولت إلى ضرورات تقيد من حريته الفردية وتحدها.

لكن، ورغم كل هذا فإن هذا الإنسان لا يستطيع البتة أن يتخلص من وضعه المشروط بسلسلة من الضرورات، التي مرتبطة بدوره داخل المجتمع، لأن سيرورة الإنسان لا تتم في معزل عن الآخرين/الأغيار.

لكن ما يميز الإنسان صراحة، هو كونه الكائن الوحيد القادر على استخدام عقله، وتوجيهه نحو الوعي السليم والتفكير السديد، لأنه يختار نمط وجوده على هذا العالم، وليس وجوده على العالم الذي قلنا سلفا أنه شرطي، النمط الذي يختاره نقصد به نمط العيش أو طريقة العيش التي يعد الإنسان مسؤولا عنها.

إن تعالي الإنسان وسموه عن حالته الوجودية لا تتم فقط من خلال عمليتي الوعي بالذات والتفكير والتأمل، بل تتم حتى عن طريق اللاوعي كما وضح ذلك سيغموند فرويد، كما تتم أيضاً بفضل علاقاته بالآخرين داخل المجتمع، والتي هي علاقات إنسانية.

فالوجود الإنساني هو وجود ذاتي-غيري، أي يحتوي شروطاً ذاتيةً وشروطاً غيرية، بل وشروطاً تفاعلية تواصلية كذلك، لأن الإنسان بما هو فرد لا يكون أنانيا فينظر إلى ذاته وفقط وينغلق على تجربته الذاتية في الحياة المعيشة، التي هي حياة مشروطة بالمعية.

لا وجود لإنسان معزول عن الذوات والتجارب الإنسانيَّة الأخرى ولا يمكن أن يوجد.

لأنه وبكل بساطة نقول، إن الأنا-الذات-الفردية، تنتمي وتتفاعل مع الأنا-الذات-الجماعية، والتي هي بالضرورة أنا-ذات-اجتماعية.

ذلك أن الحديث عن “التجربة الجماعية” هو حديث عن “تجربة اجتماعية وثقافية وحضارية إنسانية مشترك” أو حديث عن “المشترك الإنساني”، الذي هو “مشترك تاريخي حضاري وزمني مشترك”، أستدعي هنا مثالي “الحربان العالميتان الأولى والثاني”، فنحن نتحدث هنا لا عن “حرب فرنسا ضد ألمانيا” بل نتحدث عن “حرب العالم مع مثيله العالم”، وهي تجارب تاريخية مشتركة رغما عن أنف الإنسانيَّة.

هكذا إذن، لا يدرك المرء-الفرد وجوده داخل هذا العالم، إلا عندما يشارك الآخر ويتفاعل معه.

“Partage et interagit avec l’autre”

وأريد أن تركزوا معي على عبارة “المشاركة مع الآخرين” التي هي دليل قوي على شرط “التعايش مع الآخرين” و “تقبل الآخرين” و “التسامح مع الآخرين”، من خلال الانغماس داخل مجموعة بشرية معينة، والتي تدل على قبول وتواضع الفرد وتنازله عن وجوده النسبي وانفتاحه على أفق وآفاق العالم والكون والمجتمع.

كما أن ثنائية الذاتية والموضوعية تلعبان دوراً كبيراً في تحديد الشروط الإنسانيَّة، لهذا لاحظ جون بول سارتر أن الوضع أو الحالة الإنسانيَّة هي حالة مركبة من مجموعة من الحدود/الشروط القبلية التي ترسم لنا الخطوط الأساسية العريضة للإنسان داخل الكون.

لأن هذا الإنسان ما لا يمكن أن يتغير بالنسبة إليه دائما، أو ما يظل ثابتا دائماً بالنسبة له، هو ضرورة أن يوجد، أو كما قلنا شريطة أن يوجد في مكان ما داخل هذا العالم، وبعد وجوده، يجب أن يوجد بالمَعِيَّةِ “L’être-avec”

والذي نقصد منه، الوجود بمعية الآخرين/الأغيار، لأن أكبر عقاب للإنسان هو أن يضع الله وحده في الجنة، فالشرط الأساسي هو أن يوضع بجانب الآخرين في الجنة أو النار، لكي يكون سعيداً، لا أن يترك وحده في الجنة، وآخر شرط أن يكون الإنسان مائِتاً، أي فانياً، وذلك لأن “كل نفس ذائقة الموت”، والإنسان لن يستحمل البقاء على الحياة لمدة طويلة، لأنه بكل بساطة إنسان.

وأخيراً، على الإنسان أن يتحمل الشروط الإنسانيَّة المفروضة عليه، إما برفضها أو قبولها أو تجاوزها، وذلك من أجل تأسيس علاقة تفاعل-تواصل-تشارك بين الذوات، وبالتالي نتفهم آنذاك علاقتنا مع ذواتنا ومع الآخرين كسيرورة فردية وجماعية، هذه السيرورة التي تعكس عنف وصراع الإرادات والمصالح والانفعالات والنزوات والميولات والممارسات والدوافع، لأن العلاقة مع الآخرين هي علاقة أوسع وتتخطى العلاقة الاجتماعية المصلحية إلى العلاقة الإنسانيَّة، لأن الآخرين ليسوا مجرد أفراد وفقط متناثرين هنا وهناك بل هم جميعاً جزءٌ لا يتجزأ من كل مركب عام منظم اقتصاديا وماليا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا وتربويا ودينيا واداريا، وكل هذا نقول عنه إنه سيرورة إنسانية.

إضافة إلى أن المجتمع بأفراده وفتاته مندمج في إطار سيرورة، هذه السيرورة ممتدة عبر الزمن أو متأصلة في التاريخ الإنساني والذاكرة البشرية المشتركة، وعندما نجعل هذه السيرورة موضوعاً للتأمل والتفكير الفلسفيين يتحول الإنسان من خلالها إلى معرفة قابلة للدراسة والملاحظات والقياس وهذا ما تقوم به العلوم الإنسانيَّة والاجتماعية والاقتصادية.

وهذا ما يجعلنا نضع مسألة الشروط الإنسانيَّة للإنسان ضمن أفق فلسفي إشكالي أرحب، نتساءل من خلالها عن طبيعة الذات الإنسانيَّة وحقيقتها وموقعها بين العلوم الإنسانيَّة وعلاقتها بالوجود البشري في توتره بين الخضوع للضرورة والدرء عنها، وطبيعة هذه العلاقة من أجل فهم ترابطاتها وتقاطعاتها، رهاناتها وامتداداتها.

______________

للتعمق أكثر في مسألة “الشروط الإنسانيَّة” أنظر:

HANNAH ARENDT, L’Humaine Condition

Trad. de l’anglais (États-Unis) par Marie Berrane, Guy Durand, Georges Fradier et Patrick Lévy. Édition publiée sous la direction de Philippe Raynaud, Collection Quarto, Gallimard, Parution : 29-03-2012.

La Condition humaine par André Malraux (1933) : Ce roman explore les thèmes de la révolution, de la mort et de l’amour dans le contexte de la Chine des années 1920. Il est considéré comme l’un des chefs-d’œuvre de Malraux et l’une des œuvres les plus importantes de la littérature française du XXe siècle.

L’Être et le Néant par Jean-Paul Sartre (1943) : Cet ouvrage fondateur de l’existentialisme français explore les concepts de liberté, de responsabilité et de mauvaise foi. Il a eu une influence profonde sur la pensée philosophique et littéraire du XXe siècle.

Les Misérables par Victor Hugo (1862) : Ce roman épique raconte l’histoire de Jean Valjean, un ex-condamné qui cherche à se racheter. Il explore les thèmes de la pauvreté, de la justice et de la rédemption.

Le Deuxième Sexe par Simone de Beauvoir (1949) : Cet essai révolutionnaire est une analyse de la situation des femmes dans la société. Il a contribué à lancer le mouvement féministe moderne.

L’Étranger par Albert Camus (1942) : Ce roman raconte l’histoire de Meursault, un homme indifférent qui tue un Arabe sans raison apparente. Il explore les thèmes de l’absurdité de la vie et de l’aliénation.

Articles:

“La condition humaine” par Simone de Beauvoir (1946) : Cet article paru dans la revue Les Temps modernes explore la notion de condition humaine d’un point de vue féministe. Beauvoir argumente que les femmes sont particulièrement confrontées à la condition humaine en raison de leur situation sociale subordonnée.

“Le mythe de Sisyphe” par Albert Camus (1942) : Cet essai explore le mythe de Sisyphe, un homme condamné à rouler éternellement un rocher au sommet d’une montagne. Camus argumente que le mythe de Sisyphe est une métaphore de la condition humaine, mais qu’il est possible de trouver du sens dans l’absurdité de la vie en acceptant notre destin.https://www.librairie-gallimard.com/livre/9782070719662-le-mythe-de-sisyphe-albert-camus/

“L’expérience de la liberté” par Jean-Paul Sartre (1947) : Cet article paru dans la revue Les Temps modernes explore le concept de liberté d’un point de vue existentialiste. Sartre argumente que la liberté est la condition fondamentale de l’existence humaine, mais qu’elle est aussi une source d’angoisse.

محمد فرَّاح: طالب باحث، حاصل على شهادة الإجازة في التربية تخصص التعليم الثانوي التأهيلي-الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

محمد فراح

طالب في المدرسة العليا للأساتذة بالرباط ، سلك الإجازة في التربية تخصص التعليم الثانوي التأهيلي -الفلسفة ، السنة الثالثة.

مقالات ذات صلة