متلازمة رجل الدين والفيلسوف

image_pdf

تعّد مسألة التوفيق بين الدين والفلسفة من أبرز المعضلات التي واجهت فلاسفة الإسلام، وقد يعود السبب إلى أصل غالبية الآراء الفلسفية، إذ تعود لفلاسفة اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين، فلولا ترجمة أعمال هؤلاء خلال العصر العباسي بمباركة الحكام، لما ظهرت الفلسفة الإسلامية مع الكندي ثم الفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد من بعده.

قد يقول قائل إنّ الفرق الكلاميّة الإسلامية كالقدريّة والجهميّة والمرجئة والعلويّة والمعتزلة كذلك ظهرت بسبب الترجمة وهذا كلام فيه الكثير من المغالطات، نعم عرفت هذه الفرق الازدهار باستفادتها من حركة الترجمة وخاصة في مسائل الإلهيات (إثبات وجود الله بالأدلة العقليّة)، أما قضية ظهورها ونشأتها، فهي تعود أولا لتلك الصراعات السياسية العنيفة (حروب دموية واغتيالات) خلال القرن الأول الهجري، ومحاولات كل حزب تبرير أفعاله عقائدياً، في حين، يعود السبب الثاني لتطّور الجدل الديني بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الأديان والملل، وهنا أركّز على الجدل الإسلامي المسيحي المبكّر، وبالتحديد في العصر الأموي حيث منحت سلطة الدولة الأموية الحريّة لعدة شخصيات مسيحيّة لاهوتيّة من أجل الدفاع عن عقائدها.

يعّد القديس يوحنا الدمشقي من أوائل المسيحيّين الذين انتقدوا الإسلام، ولقد وظّف علم اللاهوت لأنه رأى أنّ الإسلام هرطقة يهومسيحية، ولهذا ناقش عقائد المسلمين فلسفياً (أثار مسألة ماهية كلام الله، مسألة الحرية الإنسانية والإرادة الإلهية، مسألة الأخلاق …)، وهذه المسائل هي نفسها التي صارت فيما بعد قضايا كلاميّة جدلية بين الفرق الإسلامية، دون أن نغفل إلى قضايا لاهوتية خلافية بين الفرق المسيحيّة كانت مُثارة بشدّة في تلك الفترة (النساطرة والقول بالطبيعتين، اليعاقبة والقول بالطبيعة الواحدة، الآريوسية، تكريم الأيقونات …)، وهي أيضاً أثّرت في تشكّل التصّورات الإلهية عند الفرق الإسلامية (مسألة صفات الله في التوحيد).

ما يمكن ملاحظته وهو الدافع لكتابتي هذا المقال، أنّ المسيحيّين تمكّنوا إلى حد كبير من التوفيق بين علمي اللاهوت والفلسفة، ولهذا الكثير من اللاهوتيّين هم فلاسفة أيضاً مثل القديس أوغسطين الذي كتب كثيرا في الردّ على المانويّين، وعلى الدوناتيّين، وعلى الفلاغوسيّين … ومثل القديس توما الأكويني الذي هضم فلسفة ابن سينا وأخذ عنه مسألة الفرق بين الماهية والوجود، كما هضم فلسفة ابن رشد وانتقده في عدة مسائل كالقول بقدم العالم … وحتى مؤسس الفلسفة العقلية رونيه ديكارت هو لاهوتي يدافع عن تصّور الإله وفق المدرسة الأكوينية وبالتحديد اليسوعيّين … وقد انتقد بقوة التصّور المسيحي الديكارتي للإله سبينوزا أيضا كفيلسوف لاهوتي … بل حتى إسحاق نيوتن كان فيلسوفاً لاهوتياً محنكاً استطاع تصّور الإله المسيحي من دون فكرة الثالوث المقدس …، فلماذا نجح اللاهوتيّ المسيحي في التوافق مع الفلسفة عكس المُتكلّم المسلم رغم اشتراكهما في كثير من المواضيع؟ فكلاهما يهتمان بإثبات وجود الله ومحاربة الإلحاد، وكلاهما يدافعان عن العقيدة (ردّ علماء المسيحيّة على الزرادشتية والمانويّة والديصانيّة … وكذلك ردّ علماء الإسلام على المجوسيّة والمانويّة والديصانيّة …)، وكلاهما يهتمان بالمنطق الأرسطي، وكلاهما يهتمان بمسألة علاقة الله بالعالم، وكلاهما يهتمان بمسألة الأخلاق …، صحيح أنّ بعض الفلاسفة المسلمين كانوا يحملون عقائد كلاميّة مثل الكندي (معتزليّ)، وابن سينا (شيعي إسماعيليّ)، ولكنّهم أبدا لم يخلطوا بين الفلسفة وعقيدتهم الكلاميّة لوعيّهم أن سبيل الفلسفة البرهان وليس الجدل، بل بعضهم الآخر كالفارابي وابن رشد انتقدوا علم الكلام وجعلوه أقّل قيمة من الفلسفة، فلماذا بقيّ هؤلاء الفلاسفة يفكرون بعيدا عن علم الكلام (علم اللاهوت الإسلامي) عكس ما وقع في الجانب المسيحي؟

أعتقد أن سبب عدم حصول هذا التوافق (الكلامي الفلسفي) يعود إلى هيمنة العقل النصيّ وخاصة الفقهيّ على الساحة الإسلامية (الزعم أن نصوص الدين تجيب عن كل الأسئلة، عكس الفلسفة التي هي تساؤل مستمر عن الواقع وزرع للشك)، فالعقل النصيّ هو عقل مُغلق ومُؤدلج نتيجة تحالف السلطتين السياسية والفقهية، حارب وطعن في كل العلوم التي تعالج قضايا الدين والإنسان عقليّاً (الفلسفة وعلم الكلام)، مستشهدا ببعض النصوص كقول النبي عليه الصلاة والسلام “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع”، زاعماً أن المراد بالحديث علوم الأوائل (الفلسفة اليونانية)، وبالتالي شنّ حرباً مقدسّة على التيار العقلاني بشقيه الفلسفي والكلامي وشيطنة وزندقة رجالهما … ففي ظل هذا الجوّ المضطرب والعنيف، كان اهتمام أحدهم بالفلسفة أو بعلم الكلام مجازفاً بحياته تعتبر شجاعة وجرأة، إذن ومنطقي جدا لم يحدث التطّور إلى مرحلة الجمع والتوفيق بينهما لانعدام الظروف الملائمة.

أما الآن في عصرنا، فتوجد ما تسمى بفلسفة الأديان، وهي لا تنطلق من الدين ومسلّماته كالفلسفة الإسلامية أو اللاهوتية، بل من التفكير في هذه المسلّمات (الأفكار الدينية) للإجابة عن الأسئلة، فهدف الفيلسوف الديني ليس الدفاع عن القضايا الدينيّة بل إيجاد الحلول للأزمات الراهنة من خلالها، فمثلا موضوع الأخلاق يعالجه المسلمون كلامياً وفلسفياً وفق النسق الإسلامي، كما يعالجه المسيحيّون لاهوتياً وفلسفياً وفق النسق المسيحي، أما الفيلسوف الديني فيعالجه بمناهج غير مرتبطة بهذه الأنساق … ولكن السؤال، إذا نحن الآن في عالمنا الإسلامي لا نملك علماء كلام ولا فلاسفة الإسلام إلا النزر القليل (حتى الأستاذ الباحث بجامعاتنا في هذه الاختصاصات تجده غارقاً في ظروف الحياة اليوميّة الصعبة، وفي واجبات التدريس والبرتوكولات الإدارية، ومع مناهج تعليميّة عقيمة لا تحفّز على التفكير والإبداع)، فهل يجوز لنا الحديث عن فلاسفة الدين؟

_________
* العفيفي فيصل: أستاذ اللغة الفرنسية وباحث دكتوراه في أصول الدين، جامعة تلمسان- الجزائر
.

جديدنا