التنويريدراسات دينية

معنى “الزيارات” عند العلويِّين

لا حاجة لأن يكون الإنسان باحثاً أو دارساً لكي يلاحظ أنّ المقامات عند العلويين تنقسم إلى ثلاثة أنواع: مزارات الخضر، ومقامات الأنبياء، ومقامات الشيوخ أو الأولياء.

في حين أنّ الفئتين الأولى والثانية ترتبطان بفكرة تجسّد الأرواح النورانية، ترتبط فئة مقامات الشيوخ بفكرة تناسخ الأرواح، وخصوصاً تلك الأرواح البشرية التقيّة والموهوبة، والمتقدّمة روحياً على باقي البشر، والتي لها حظوةً عند الله. وكل مقام من هذه المقامات سُمّي باسم النبيّ أو الشيخ الذي بُنِيَ لأجله، أمّا المزارات المكرّسة لشخصية الخضر، فتسمّى تشريفات، وتحمل اسمه فقط.

من حيث القوة والقدرات الروحية، يعتبر الخضر أقوى المقامات. وزيارة مزاراته واجبة على العلويين إذ أنّها تعادل الحج، وذلك بسبب المكانة الرفيعة التي تحتلها شخصيته في اللاهوت العلوي.

فقصته مشهورة قي القرآن هو والنبي موسى. فهو كان مرشد الأخير، وعلّمه أموراً، حيث طلب منه موسى ((هل أتبعك على أن تعلّمَنّ مما عُلِّمتَ رُشداً))، وهذا إن دلّ على شي فإنه يشير إلى علاقة تابع بمتبوع، وتفاوت في المراتب.

ولا يخفى أيضاً أنّ العلويين يؤمنون بطبيعة لاهوتية لشخصية الخضر، فلا هو بني ولا هو بوليّ، إنّما كيان أعلى وأسمى ذو طبيعة إلهية، فهو الذي لا يموت ودائم الشباب. لذلك العلويون يقدّسون الخضر ويبجّلون ويقدمون له الأضاحي وباسمه، حتى تقام دوماً ذبيحة مكرّسة له شخصياً تسمّى “حسنة الخضر” توزّع على الفقراء والمحتاجين، توسّلاً منه البركة والعطاء والرعاية. ولا يخفى هنا الطابع الوثني السوري لاحتفال الخضر المرتبط بالخضرة والربيع والتجدد الدائم.

الفئة الأخرى من المقامات هي “مقامات الأنبياء” كمقامات: النبي يونس، والنبي متّى، وهي مزارات يحجّ إليها الناس طلباً للبركة والرعاية، حيث يُعتقد أنّ نبياً أو إماماً قد دُفِنَ هنا. أو قد تكون تشريفات، ونسخ من قبورهم في أماكن أخرى، والفكرة أنّ هذه الأماكن لا تحتوي أيشي له علاقة مباشرة بالنبي أو الإمام نفسه، بل ربما تتضمن خرقاً من مقامه، أو قطعة من ردائه أو خصلة من شعره، كما يُزعَم.

أمّا الفئة الثالثة من المقامات، وهي مقامات الشيوخ الأتقياء والأولياء، فمختلفة عن مزارات الأنبياء والخضر. فهي تحتوي رُفاة شيوخ سابقين، وغالباً ما يضمّ المقام رفاة الشيخ التقي على شكل قبّة، أو ضريح مقبّب. وذلك هو الفَرق بين المَقام والمَزار، فالمقام أو الضريح هو الذي يحتوي جسد النبي أو الشيخ العارف، بينما المَزار يكون مكاناً مقدّسا يؤمّه الناس للتبرّك، لكن ليس من الضروري أن يحتوي جسداً أو ضريحاً.

كما تبجّل الأضرحة أو المزارات بنفس الطريقة، إذ يُعتقد أنّ جسد الشيخ الطاهر أو العارف يتحوّل إلى أثير أو ضياء، هذا الجسد المضيء يُعلِن عن نفسه بحلول نور يسطع ليلاً من السماء إلى قبره. ويعتبر ذلك دليلاً لا لبس فيه أنّ الضريح مقام وبالتالي يجب أن يُحاط بقبّة.

ذلك النور الذي يسطع على القبر أو الضريح يعتقد أنّه لا شيء سوى روح الشيخ الطاهرة والمنيرة التي قد تحرّرت من أدران الجسد والقيود البدنية الأرضية، والأهم من ذلك تحرّرت من دورة الميلاد والموت، وأصبحت نوراً يجوب العوالم بين السماء والأرض والعالم النوراني.

كل مقامات الشيوخ تعتبر ناقلة للنداءات والمناشدات التي يطلبها البشر من الله. بالنسبة للعلويين، تعتبر قدرة المقام النسبية على درجة القرب بين الله والشيخ عندما كان لا يزال الأخير على قيد الحياة. كلّما كانت الصّلة أقوى، وكان الشيخ أقرب إلى الله، كانت قدرة مقام أكبر. وكثيراً ما يشير العلويون أنّ درجة القرب بين المقام والإله تتحدّد بكمية المعرفة الباطنية/العرفان التي حصّلها الشيخ العارف صاحب المقام، وبالأخص مقدار الحياة النقية والأخلاقية والطاهرة التي عاشها خلال وجوده على الأرض.

كذلك تختلف مقامات الشيوخ عن مزارات الأنبياء أو الخضر في أنّها ذات طابع أكثر محلية، أي أنّ المقام الفلاني يخصّ قرية معيّنة، أو خاص بناحية معينة، أو له علاقة بمجال محدّد ما، أو جماعة معيّنة.

وهناك مقامات معيّنة فقط مُنِحَت قدرات شفائية معيّنة -كزيارة الشيخ الدرسيني والرقيب الدوائي- وهي مقامات عابرة للأماكن والجماعات، ومقصد لجميع المؤمنين من كافة الأماكن ومختلف الجماعات، بل والأديان في بعض الأحيان.

من المهم أن نشير أنّ مقامات الشيوخ هي المواقع المقدّسة الأكثر زيارةً من قبل الجماعات الدينية الأخرى في منطقة الساحل السوري. كمقام الشيخ يوسف ربعو (أبو طاقة)، ومقام الشيخ أحمد بن أبي العَريض الغسّاني (أحمد قرفيص).

الخلاصة أنّ هناك ثلاثة أنواع للزيارات في الساحل السوري وجزء كبير من تركيا ولبنان وهي زيارات الخضر، وزيارات الأنبياء، وهي مختصّة بالمهام الشفاعية عند الله، وأقرب ما تكون إلى الوساطة والتقرّب من الله. وهناك النوع الثالث أو زيارات الشيوخ، وهي غالبا أضرحة مقبّبة تضمّ جثامين رجال دين بشريين بلغوا درجة عالية من النقاء والصفاء والعرفان حتى تحوّلوا إلى كائنات نورانية، وهذه الزيارات تختصّ بمهام علاجية وشفائية وتنبوئية أو قضائية. غالباً ما يتقدّس هؤلاء الرجال ليصلوا إلى درجة الملائكية أو الربوبية، بالتساوي مع أرباب مكّة في العالم القديم، أو الآلهة الصغرى في أي مجمّع إلهي، لهم وظائف ومهام محدّدة، منهم القديسون والأولياء، كل منهم يحمي ويرعى طبقة أو مجموعة محدّدة من المؤمنين.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.