أنسنة المدرسة: التربية على التّوجيه وتنمية الذات

image_pdf

مقدمة:

صدر الكتاب  سنة 2024 عن دار المقدّمة -المرناقية (تونس)، لمؤلّفه الدكتور محرز الدريسي مستشار عام خبير في التّوجيه المدرسيّ والجامعي، ومدير عام سابق بوازرة التّربية. ويعود المصنّف في الأصل إلى أطروحة دكتوراه أنجزها الباحث في علوم التّربية وتمحورت حول “التّربية على التّوجيه وتنمية الذّات التّلمذيّة بهدف أنسنة المدرسة وإدراج معرفة الذّات والتخطيط والمهارات الأفقيّة” (ص3). وقد كان منطلق تلك الأطروحة استنتاج توصّل إليه الباحث – بعد تجربة خصبة وثريّة في مجال التّوجيه المدرسيّ والجامعيّ- ومفاده “لم يعد من الممكن مقاربة التّوجيه المدرسيّ كآلية تصنيفيّة في المنظومة التّربويّة تفرض انتقال التّوجيه المدرسيّ من توجيه مسالك دراسيّة إلى توجيه الذّات وتدريب التّلاميذ على الحوار مع الذّات في كلّ أبعادها وإثراء كلّ مكوّناتها.  فإذا كان التّوجيه المدرسيّ يشتغل في الإعلام والإجراءات فرديّا وجماعيّا، ومؤسّسيا، فإنّ توجيه الذّات يرتبط بالسيرورات النّفسيّة والاجتماعيّة والتّربية على قيم تثري الذّات. فكلّ توجيه مدرسيّ أو استعداد للتّوجيه لحظة من لحظات اشتغال التّلميذ على ذاته وهيكلتها وترتيبها أي أن يقوم الفرد- التّلميذ ب”ترتيب بيته” الدّاخلي، ذلك أنّ الذّات رغم -التباسها الدّلالي- والتّنوّع المكثّف لمعانيها، تبقى مفهوما “جامعا” وقوتّها المعنويّة في بعدها الفرديّ وفي استتباعاتها التّربويّة ووظيفتها الإرشاديّة” (ص-ص 23-24). فالمنطلق، استنتاج بُني على مفارقة يقوم عليها التّوجيه المدرسيّ والجامعيّ، فهذا الفعل التّربويّ يتوجّه إلى التّلميذ ولا يلامس ذاته، لذلك كثيرا ما تقتصر حصص الإرشاد والتّوجيه على إعلام التّلاميذ بنسب التلاميذ كما هي موزّعة على كلّ الشعب (العلميّة، الادبيّة، التقنية…)،  وبشروط الالتحاق بهذا المسلك أو ذلك…، يقول الباحث “وقد أظهرت الممارسات المتّبعة في مجال التّوجيه والإعلام المدرسيّ والمهنيّ أنّها تتّسم بكون آثارها الإيجابيّة جدّ محدودة، لكونها تركّز بالأساس على حملات إعلاميّة موسميّة حول المسالك الدّراسيّة يطبعها الارتجال والرّتابة بحيث تعطى خلالها معلومات جاهزة لكن أحيانا غير نافعة رغم كثرتها ما يعطّل نسق التّفكير لدى التّلاميذ”. (ص331).

واستنادا لما تقدّم، نقول إنّ الكتاب عبارة عن تأمّل في ممارسة مهنيّة، هدف من خلاله الباحث إلى إخراج التّوجيه المدرسيّ والجامعيّ من الطّابع التّقنيّ -الذي بات مهيمنا عليه- إلى الطّابع التّربوي – الذي يجعله إنسانيّا مراعيا لذات التّلميذ، أي لميولاته ولقدراته ولطموحاته وعليه، فإنّ “تحليل سلوك التّوجيه والتّدريب مدخل أساسيّ لتطوّره، وهو ما يستوجب من مربّي التّوجيه وممارسيه أن تمتدّ نجاعتهم وفاعليتّهم بالبحث في صعوبات عملهم وعوائق أدائهم” (ص24).

بمعنى أنّ تطوير التّوجيه المدرسيّ والجامعيّ يحتاج إلى جهد فاعلين تربويّين ومنهم بطبيعة الحال مربّو التّوجيه. ومن هذا المنطلق، تكون للكتاب خاصيّتان رئيسيّتان أولاهما أنّه تحليل لممارسة مهنيّة فقد قضّى المؤلّف في مهنة الإرشاد والتّوجيه سنوات فخبر نقاط قوّة تلك المهنة ونقاط ضعفها، وثانيتهما أنّه رسالة للفاعلين التّربويّين وخاصّة منهم مربّو التّوجيه المدرسيّ إلى إعادة النّظر في التّقليد الذي بات عليه التّوجيه المدرسيّ وتبنّي ممارسات جديدة من أجل النّهوض به ومن ثمّ النّهوض بالمدرسة التّونسيّة التّي باتت اليوم تتخبّط في أزمات متنوّعة وعميقة. فالكتاب دعوة صريحة لإعادة النّظر في ممارسات فاعلين تربويّين والانخراط في ممارسات متبصّرة تعطي معنى جديدا للتّوجيه المدرسيّ، وتعيد للمدرسة التّونسيّة بريقا بدأ يخفت شيئا فشيئا.

وبالإضافة إلى الخاصيتين اللّتين سبقت الإشارة إليهما، للكتاب ميزة أخرى الا وهي أنّه نتاج جهد  من خبر “المدرسة من الدّاخل واشتمّ رائحة طباشيرها وتفاعل مع مختلف المتدخّلين التّربويّين ومع ناشئتها من المتمدرسين واحتكّ بمشاعر مراهقيها من انتصارات وإحباطات جعلته يزداد إيمانا بمحوريّة المؤسّسة التّربويّة وحيويّتها، واعتبار التّعليم والتّربية “الثّروة الحقيقيّة” وأنّه بإمكان المدرسة أن تكون رافعة الأمل في المستقبل وحاملة آفاق رحبة لأجيال من الشّباب الفاعل والإيجابيّ” (ص10). بعبارة أخرى، إنّ الكتاب حصيلة جهد ذات تربويّة، آمنت برسالة المدرسة وخبرت خباياها والعلاقات بين الفاعلين ضمنها.

إشكاليّة الكتاب:

يقول الباحث “اشتغلت في هذا الكتاب على التّوجيه المدرسيّ ولم يكن الهدف ضبط المعايير ولا تحديد الشّروط، بل كان سؤالي كيف يساهم التّوجيه في بلورة أدوات بيداغوجيّة وتربويّة تساهم في تنمية الذّات وبتنشيط مهارات حلّ المشكلات وتطوير قدرات بلورة المشروع الشّخصيّ، وهي عناصر ثقافة مدرسيّة جديدة في مرافقة المراهق/ التّلميذ تُسهم في استحضار الأبعاد التّربويّة والإنسانيّة للمدرسة” (ص9). بمعنى أنّ إشكاليّة البحث هي : كيف يكون التّوجيه المدرسيّ مدخلا لتبيئة ثقافة مدرسيّة جديدة تُدمج مهارات الحياة وقدرات بلورة المشروع الشّخصيّ، أي ثقافة مدرسيّة جديدة تُنمّي الذّات الفاعلة لدى المتعلّم؟ ولكنّ الباحث انتبه إلى أنّ الاشتغال على هذه الإشكاليّة لا ينشد تقديم “وصفة جاهزة بل تنشيط التّربية على التّوجيه وفكرة تنمية الذّات، وهي مفاهيم بكر في ثقافتنا التّربويّة رغم مرور أكثر من عقدين عليها، لكنّها ظلّت مفاهيم نبيلة دون أن تتحوّل إلى نصوص تشريعيّة أو ترتيبيّة وبالأحرى إلى ممارسات في الواقع التّربويّ، ومحاولة زرعها في التّربية المدرسيّة” (ص12).

وبعبارة أخرى، تمحورت إشكاليّة الكتاب حول كيف يكون التّوجيه المدرسيّ عامل تنمية لذات التّلميذ /المراهق ليكون مبادرا وقادرا على الاختيار وعلى ابتكار الحلول ومن ثم يتمّ القطع مع التّوجيه باعتباره إجراء تقنيّا ترتيبيّا؟ ويعكس الاشتغال على هذه الإشكاليّة وعيا من قبل الباحث بأنّ توطين ثقافة تربويّة ومدرسيّة جديدة لا يكون بتقديم وصفة جاهزة، وإنّما بالاشتغال على توطين شبكة مفاهيميّة جديدة محورها التّلميذ ذات فاعلة وليس “كائنا دراسيّا” (ص19). وبعبارة أخرى، لابدّ من إعطاء معنى جديد للتّوجيه المدرسيّ مغاير للسّائد الذي اختزل التّلميذ في كائن مدرسيّ تحدّد النّتائج المدرسيّة وحدها مساره ومصيره.

ولمّا كانت الإشكاليّة على النّحو الذي تقدّم فإنّ الاشتغال عليها أملى على الباحث تبنّي البحث التدخّلي أي البحث الذي يتجاوز النّظري إلى العمليّ ويُقحم فاعلين آخرين – وخاصّة التّلاميذ- في البحث. ويحيلنا هذا الكلام إلى المنهجيّة.

منهجيّة البحث:

ينتمي هذا العمل إلى البحوث التّدخليّة، أو البحوث الإجرائيّة. والبحث التدخّلي la recherche action هو “دراسة علميّة منهجيّة لفهم الواقع العمليّ من أجل تجاوز مشكلاته وتحسين نتائجه. إنّه استكشاف معرفيّ موضوعه الواقع العمليّ لممارسة مهنة ما[1]“.

ولهذا الضرب من البحوث خصائص منها:

  • الانطلاق من الممارسة ومشكلاتها ومتاعبها؛
  • إشراك الفاعلين المعنيّين في مختلف المراحل وخاصّة في إيجاد الحلول ومن ثم تطوير الممارسة؛
  • العمل على إيجاد حلّ لمشكل ما؛
  • الباحث هو من العاملين في الميدان، وهو قريب ومراقب ومنصت وهو متابع بدقّة للمشاكل اليوميّة، وله القدرة على تقديم حلول ناجعة لتلك المشاكل وعلى إشراك الفاعلين الآخرين في تدبير تلك الحلول وإعمالها.

وعادة ما يتمّ اللّجوء إلى البحث التّدخّلي عندما يشعر الباحث ب “وجوب الفعل لتناول مشكلة في الممارسة إذا أصبحت عائقا مهنيّا أو تربويّا أو ظاهرة تستدعي العلاج[2]“.

محدّدات الاشتغال في البحث في إشكالية أنسنة التربية

حدّد الباحث مجموعة من المحدّدات للاشتغال على هذه الإشكاليّة ألا وهي:

الانتقال من:

  • ضيق المناهج إلى رحابة المناهج؛
  • من المعرفة النّظريّة إلى معرفة تركيبيّة ونظريّة وتطبيقيّة؛
  • من الباحث المحايد إلى الباحث المنخرط؛
  • من التّلميذ موضوع البحث إلى التّلميذ الفاعل.

لماذا البحث في التّوجيه والإرشاد؟

يقول الباحث “عاينت خلال ممارستي التّربويّة والإرشاد الخاصّ بالتّوجيه المدرسيّ – على امتداد سنوات عديدة-  انعدام فضاءات الحوار في الفضاءات المدرسيّة والمدنيّة، وغيابا في التّعاطي مع التّلميذ كإنسان وكفرد، له حاجيات خارج المتطلّبات الدراسيّة” (ص 174). بمعنى أن الدّافع وراء البحث في التّوجيه المدرسيّ واعتماده مدخلا لأنسنة المدرسة يعود إلى ما لاحظه الباحث من تقصير في الاهتمام بالتّلميذ باعتباره إنسانا له هواجسه وطموحاته وآماله وتخوّفاته…الخ، واختزاله في كائن دراسيّ (عليه أداء واجباته الدّراسيّة ). وبعبارة مغايرة، وراء البحث في التوجيه رغبة في إعطاء معنى جديد للتوجيه المدرسيّ، حيث «سيتمّ التّعاطي مع التّوجيه المدرسيّ كفضاء تربويّ قادر على تجاوز الرّتابة والتّصنيف والتّوزيع إلى عمق تربويّ، يرتقي بتربية التّوجيه إلى مستوى نظرة بيداغوجيّة متكاملة مساهمة في وضع المتعلّم من جديد في طريق المعنى، معنى الذّات ومعنى المدرسة ومعنى التعلّم ومعنى المستقبل، إنّها المقاصد المركزيّة لكلّ تعلّم ناجع وفعّال”. (ص 121).

ولجعل مهمّة التّوجيه تتماثل مع مهمّة التّربية بما هي “السموّ بكلّ فرد إلى أكمل مظاهر الإنسانيّة التّي يسعى إلى بلوغها وأنّ غاية التّوجيه كغاية التّعليم مساعدة كلّ تلميذ – دون استثناء – على الوصول إلى أعلى درجات التّكوين التّي تخوّلها له قابليّته …، فتعريف التّوجيه يكون تعريفا للتّربية ذاتها…” (ص26)، كان على الباحث- لأجل ذلك- أن يشتغل على ذات التّلميذ، الذّات بما تعنيه سوسيولوجيّا من استقلال الفرد عن الكيان الجماعيّ، وبما تعنيه أيضا فلسفيّا من وعي بالذّات وبإحساس بالخصوصيّة والاستقلاليّة، والتّي تترجم في القدرة على قول “أنا”.

وفي بحثه عن كيفيّة الارتقاء بالتّوجيه إلى منزلة التربية التّي تنمّي ذات المتعلّم اعتمد الباحث تقنيات بحث متنوّعة ومتعدّدة فكان أن قام بتحليل مضمون مطويّات الإعلام والتّوجيه، وتبيّن من خلال ذلك أنّ “خطاب التّوجيه أُفرغ من طابعه التّربويّ والتّأطيري الإنسانيّ والتّوجيهيّ للذّات، وأصبح مجرّد خطاب حول الاختيارات المهنيّة والشخصيّة” (ص184). بمعنى أنّ تحليل مضمون مطويات الإعلام والتّوجيه مكّنه من تبيّن ضعف استراتيجيّة التّعاطي مع التّوجيه، لأنّ تلك الاستراتيجيّة أفرغت الفعل التّوجيهيّ من مضمونه الإنسانيّ وحوّلته إلى خطاب حول كيفيّة الاختيار، وحول شروط الاختيار، وكأنّنا بالتّوجيه مسألة تقنيّة لا غير.

وإلى جانب تقنية تحليل المضمون استخدم الباحث شبكة ملاحظة من خلال إنجازه ل “بطاقة ملاحظة” استخدمها في حضوره لست (06) حصص توجيه مدرسيّ . وتوصّل إلى أنّ حصّة التّوجيه تتضمّن خمس مكوّنات كبرى وهي:

  1. محتوى الحصّة؛
  2. السير العام للحصّة؛
  3. الطّريقة البيداغوجيّة؛
  4. طبيعة التّفاعلات؛
  5. المناخ العام للحصّة.

وانتهى الباحث -اعتمادا على بطاقة ملاحظة- إلى خلاصة فحواها أنّ تلك الحصّة “ليست مبنيّة على ما ينتظره التّلميذ أو أن تفتح له فضاءات تحاوريّة وتفاوضيّة مع المستشار، بقدر ما تتّخذ طابعا دراسيّا، فهي لا تختلف كثيرا عن سير حصّة درس أيّ مادّة باستثناء أنّها مادّة تخصّص للتّوجيه المدرسيّ، وأنّ محورها ليس المتعلّم بل هو التّلميذ الذي يستوعب قواعد وشروط ومقاييس التّوجيه” (ص188).

بمعنى أنّ مواكبة الباحث لستّ حصص من حصص التّوجيه بطريقة منظّمة وهادفة تعتمد بطاقة ملاحظة، أفضت به إلى تبيّن كيف تحوّل التّوجيه المدرسيّ إلى درس يُشفع في حالات غير قليلة بتوصيات عامّة هي أقرب إلى الخطاب السّائد عند التونسيّات والتّونسيّين من قبيل ” عليك بالاجتهاد” و”انتبه للاختيار” و”عليك بتحسين نتائجك”…، فتحوّل خطاب الإرشاد إلى خطاب أخلاقيّ وعظيّ ( ص189).

انتهى الباحث  بذلك إلى أنّ حصص التّوجيه حصص تقليديّة” تتغذّى من الشّفويّ ولا تستثمر الوضعيّات الحقيقيّة ولا الخبرات ولا الاحتياجات ولا الطّابع الفارقيّ للتّلاميذ. إنّها بيداغوجيا تقليديّة ليست تنشيطيّة إلاّ في سياق السّؤال والجواب، ولا بنائيّة. بمعنى أنّها حصص تحاكي إلى حدّ كبير حصص الدّرس العاديّ، أو قل الحصص التّقليديّة التّي لا ينخرط فيها المتعلّم بفاعليّة وإيجابيّة، وإنّما يظلّ مشدودا إلى ما يقدّمه المدرّس /الموجّه عساه يجيب عن بعض من أسئلته.

وفضلا عن ذلك، عاد الباحث واستخدم تقنية تحليل المضمون محلّلا هذه المرّة خطاب التّلاميذ حول الذّات، من خلال استبيان “من أنا؟” /الوصف الذّاتي.  وقد وقع عليه الاختيار لتطابقه مع “محوريّة التّلميذ” وإمكانيّة إنتاجه “المادّة الذّاتيّة التّي ستضيئ صلة التّلميذ بذاته” ( ص193) . وقد تمكّن الباحث اعتمادا على هذه التّقنية من تحليل 5875 جملة محوريّة تشمل 15487 لفظة للتّعبير عن الآراء والانفعالات والتّفاعل مع مساحة للتجلّي والدّخول في لعبة التّأثير والتّأثّر حول علاقة التّلميذ بذاته.(ص-ص 205-206).

وانتهى الباحث إلى القول “لقد ظلّت العلاقة بالذّات لدى عيّنة الاستطلاع “حبيسة” الفرديّة بمعناها السّلبيّ لا الإيجابيّ، حيث تغيب الغيريّة والآخر، وتعرض صورة الذّات دون الغير، وأنا دون آخر، فالذّات هي الأنية، وتدفع أبرز أنماط الإسنادات الدلاليّة  لصياغة مجموعة من الاستنتاجات تختزل تشخيص علاقة التّلميذ بذاته في سياق الاستعداد للتّوجيه المدرسيّ في السّنة الأولى من التّعليم الثّانوي. ويُفيد حضور الانفعالات والعواطف والهواجس في نصّ مدوّنة خطاب تلاميذ العيّنة، أنّ هذا المجال لم يُحظ إطلاقا باهتمام المؤسّسة التّربويّة في حين أنّه يمثّل عنصرا أساسيّا في التربية والإرشاد والتنشئة الاجتماعيّة” (ص 213).

وعموما، واعتمادا على مختلف التّقنيات التّي استخدمها الباحث، خلص هذا الأخير إلى أن التّوجيه المدرسيّ الحالي لا يخلو من شوائب، فهو خطاب أقرب إلى خطاب الوعظ والإرشاد تغلب عليه نزعة التّعميم التّي لا تراعي الفوارق بين التّلاميذ.، حتّى أنّ التوجيهات المرافقة لفعل التّوجيه تكاد تُختزل في تطبيق التّراتيب الإداريّة (الالتزام بالآجال/ ملء استمارة التّرشّح بدقّة/التّدقيق في تحديد الأولويات…الخ). وعليه لم يلحظ الباحث اهتماما كبيرا بذات التّلميذ بما هو إنسان له طموحات تماما مثلما له هواجس وله نتائج دراسيّة ولكن أيضا له مواهب وقدرات لا تغطّيها النّتائج المدرسيّة. وممّا زاد الأمر تعقيدا في فعل التّوجيه هو تحوّل الحصص الخاصّة بالإرشاد في التّوجيه إلى حصص درس عاديّة، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار نفور تلاميذ اليوم من حصص الدّروس العاديّة لتبيّنا أنّ إضافة دروس أخرى -حتّى وإن تمحورت حول التّوجيه والإرشاد المدرسيّين-  لن تشدّ التّلاميذ إليها على النّحو المطلوب. وبعبارة أخرى، لم يركّز فعل التّوجيه والإرشاد على ذات المتعلّم ومن ثم تحوّل إلى فعل روتينيّ كثيرا ما لا يلقى تجاوبا من قبل التّلاميذ.  وحتّى لا يظلّ فعل التّوجيه والإرشاد المدرسيّين فعلا تقنيّا صرفا، كان لابد للباحث أن يقدّم مقترحا دقيقا يستجيب لما اعتبره حاجيات أكيدة للتلاميذ.

نحو مقاربة جديدة للتّوجيه والإرشاد المدرسيّين: برنامج تدريبيّ

يقول الباحث “نقترح برنامجا تدريبيّا يرمي إلى إرساء فضاء إرشادي حواريّ للاشتغال حول الذّات، يساعد التّلميذ المراهق على معرفة ذاته ومحاورتها في مرحلة التّحوّل” (ص 255). ويبدو واضحا توجّه البرنامج التّدريبيّ إلى القطع مع النظرة الروتينية للتّوجيه والإرشاد والتّي جعلت منهما إجراء تقنيّا بالأساس. ومن هذا المنطلق، هدف البرنامج التّدريبيّ إلى الاستجابة لحاجيات بدت أكيدة عند التّلاميذ من بينها:

  • ضمور في وصف العلاقة بالذّات، حتّى أنّ تلك العلاقة لا تبرز إلاّ من خلال ما هو مدرسيّ (النّتائج، التّوجيه…)، أو عبر كشف الانفعالات (أنا نرفوزي-طيّب-متفهّم…)؛
  • اهتزاز الذّوات؛ حتّى بالنّسبة إلى من لديهم معدّلات مقبولة أو جيّدة (تترجم في عبارات من قبيل عدم القدرة على الاختيار/ تنقصني الثقة في النّفس…) / كيف يصبح تقدير الذّات؟ وكيف تتاح للتّلميذ القدرة على التّفكير في الذّات؛
  • عطالة في حلّ المشكلات…، وهذا يتطلّب الاشتغال على تنمية المهارات الاجتماعيّة؛
  • الضّبابيّة في التّعامل مع مقولة الزّمن. وقد نجم عن ذلك افتقاد القدرة على ضبط الأهداف.

وبما أنّ الباحث انتصر إلى البحث التّدخّلي – وهو في ذلك على صواب كبير- فقد وجّه اهتمامه إلى بناء ما أسماه ب “مقرح إرشاديّ في تنمية الذّات”. وقد بناه على ما أسماه بسبع إحداثيّات. ويمكن إجمال  هذه المرتكزات السبع إن صحّت العبارة  ومن خلالها هذا المقترح الإرشاديّ في الجدول الآتي:

الإحداثيّات /المرتكزاتالمعنى
              التربية على التّوجيه المدرسيّتجاوز التّوجيه التّقليديّ وبناء النّظرة التّربويّة للتّوجيه بما هي تربية على الاختيار وعلى الامتداد وعلى أخذ القرار (ص 224).  فالتربية على التّوجيه المدرسيّ فعل يتعالى عن اختزال التّوجيه في تقديم معلومات عن التّوجيه، وكأنّ الأمر مسألة إخبار لا غير. ومن ثم لم يعد ممكنا الاقتصار على تقديم معلومات حول التّوجيه كما لم يعد مقبولا الاكتفاء بتقديم معلومات عن مسالك وآجال فحسب. إن التّوجيه تربية بمعنى مسار يتدرّب خلاله التّلميذ /الفرد على اكتساب مهارات الاختيار والقرار وبناء المشروع الشّخصيّ. وبذلك يجوز القول “إن الغرض الأساسيّ للتّربية على التّوجيه ليس اختيار مسلك أو اختصاص دراسيّ بل تنمية شخصيّة التّلميذ، إذ أنّ مهمّة المدرسة إثراءها وإتاحة الفرص التّربويّة لكلّ شابّ لإنشاء هويّته وصناعة مشاريعه وابتكارها” (ص 224). وتنفرد التّربية على التّوجيه بخاصيّة جوهريّة أخرى ألا وهي الامتداد خارج المدرسة، بمعنى أنّ تلك التربية ” لا يمكن أن تكون مدرسيّة ومهنيّة فقط في القرن 21، بل تشمل نسق الأنشطة في العمل وخارجه، حيث يسعى التّلميذ من خلالها إلى تحقيق ما يرغب أن يكون، وأن يكون مسارا متواصلا يساعد الأفراد على الاسترشاد والإنشاء الذّاتي” (ص225). ومن ثم، فإنّ غرض التّربية على التّوجيه هو “نقل ممارسات التّوجيه من الحيز الإعلاميّ المحض إلى مرحلة تربويّة وإرشاديّة تعتمد التّدريب والتّفاعل” (ص226). وبناء على ما تقدّم، يصبح مفهوم التّربية على التّوجيه المدرسيّ رؤية إرشاديّة/ أنموذجا إرشاديّا يحفّز على الابتكار والتّجديد والإبداع. وعليه ينبغي أن يُفهم التّوجيه على أنّه سيرورة تربويّة تمكّن المتعلّم من بناء ذاته ومن ثم الانخراط في الحياة بما يتلاءم وينسجم مع طموحاته ورغباته وقدراته وميولاته.  فالتربية على التّوجيه ليست إجراء تقنيّا، وإنّما هي رؤية لمسار دراسيّ يبني خلاله التّلميذ ذاته ويؤطّر طموحاته وقدراته بما ييسّر عليه لاحقا الاندماج في الحياة المجتمعيّة بتفاصيلها المختلفة.
                أرضيّة الإرشاد والتّأطيربما أنّ الأمر يتعلّق بإرساء تربية على التّوجيه، فإنّ فعل التوجيه ينبغي أن يكون “أعمق وأبعد وأشمل بكثير من محادثة شخصيّة أو تطبيق بعض المعينات التقنيّة -النّفسيّة (روائز-استبيانات) أو تقديم نصائح أو “الإرشاد في دقيقة” أو الإرشاد السّريع أو الإرشاد الجاهز” (ص 226). وحتّى يكون الفعل الإرشاديّ عميقا ” لابدّ من تغيير النّظرة إلى التّلميذ فهو ليس مجرّد “حريف” أو “مسترشد” أو مستهلك للمعارف الإرشاديّة ولعلاقة المساعدة، بل هو ذات مفتوحة، وتمشّ بيداغوجي لإنشائها تدريجيّا” (ص-ص 226-227). يستلزم توفّر هذه الأرضيّة وفقا للباحث: وعيا بتعقّد المشهد التّربويّ؛وعيا بتعدّد المرجعيّات؛تدخّل المربّي /البحث التّدخّليّ. وبتوفّر هذه الأرضيّة يُنزع عن الفعل التّوجيه ذلك الطّابع التّقني، كما  ينزع عنه تلك النّصائح المخترقة للزّمان والمكان والتّي تتغاضى عن الفوارق بين المتعلّمين. ومن هنا تكون الحاجة إلى أرضيّة مغايرة للإرشاد والتّأطير تعطي التّوجيه معنى جديدا مغايرا لذلك السّائد اليوم.
          الاهتمام بفترة المراهقةفي غالب الأحيان يُنظر إلى فترة المراهقة نظرة حذر وريبة. فالمراهقة ارتبطت -في الثّقافة السّائدة- بفترة تحوّلات بدنيّة ونفسيّة يصبح خلالها المراهق (ة) صعب (ة) المراس. ولكنّ الباحث ينطلق من مسلّمة مفادها أنّ “المراهقة زمن معطى لولادة جديدة، تتميّز بالمراجعات وإعادة إصلاح العلاقة بالذّات، وتوجيهها وتضع التّلميذ مباشرة في سؤال “الوجود” والعلاقة بالعالم، بمعنى أنّ الدخول في المراهقة يتطلّب أخذ انطلاقة جديدة. فالمراهقة في بعدها الأوّل بحث عن المعنى والرّهانات” (ص227). ومن هنا يدعو الباحث الفاعلين التّربويّين والمعنيّين بالمسألة التّربويّة إلى الاستفادة من رغبة المراهق  في البحث عن المعنى وكسب الرّهانات. إنّها لحظة بقدر ما تتطلّب من وعي بأهميّتها، بقدر ما تستدعي قدرة على حسن الاستفادة منها. يفصح واقع المدرسة التونسيّة – وفي العالم- عن سلوكيّات منحرفة des comportements déviants (سلوكيّات لا مدنيّة/عنف)، تعود في جزء كبير منها إلى عدم التّفاعل بمرونة وتفهّم مع خصوصيّات مرحلة المراهقة. بمعنى أنّ المدرسة في حاجة إلى تبنّي مقاربة جديدة تربويّة وإرشاديّة جديدة للتّعامل مع المراهقين “فلا هم أطفال ولا هم كهول” والمراهقة هي “مرحلة المشروع أو بدقة الشّروع في مشروع الوجود” (ص 228). لكن السؤال الذي يُطرح  هو ما ذا يعني الوعي بالمراهقة باعتبارها الشّروع في مشروع الوجود؟ يعني ذلك الدّخول في حوار إرشاديّ يكون فيه المراهق فاعلا ومساهما في تمشّياته، بما يجسّد مبدأ القابليّة للتّربية.
        قابليّة التّربيةتتطلّب قابليّة التّربية حسب الباحث وجود مبدأين مترابطين، أوّلهما احترام الحرّية وإنشاء وضعيّات وسياقات تمكّن الأفراد من الانخراط والنموّ، وثانيهما حقّ التّلميذ /الفرد في التّعبير عن رأيه وحقّه في إصغاء الفاعلين التّربويّين الآخرين إليه. فعندما يتوفّر الميدان تغدو “المدرسة فضاء لم يتحدّد فيه كلّ شيء نهائيّا، بل إنّ كلّ شيء يبقى ممكنا، وكلّ الاحتمالات  التّربويّة واردة” (ص -ص 229-230). بعبارة مغايرة، لن يكون معيار نتائج المتعلّمين كافيا لتصنيفهم، بل لابدّ من الاشتغال على معايير أخرى تضيء جوانب أخرى في ذات المتعلّم/ الفرد. وهذه المعايير ليس من اليسير اكتشافها. إنّها تستدعي حوارا مع التّلميذ/الفرد، وإنصاتا للمتعلّم/ وتفهّما لرغباته وهواجسه ومخاوفه وقابليته للتعلّم. فالتّوجيه يكون حصيلة عمليّة تفاعليّة بنّاءة ومن هنا نكون أمام إحداثيّة أخرى هي البنائيّة.
          البنائيّةلعلّ ما يسترعي الاهتمام في هذا العمل هو أنّ الباحث نقل البنائيّة من فعل التعلّم (داخل الفصل) إلى حقل الإرشاد والتّوجيه المدرسيّ والجامعيّ (داخل المؤسّسة وخارجها). ويترتّب عن هذا الاختيار التزام بألاّ “يكون الإرشاد نقلا ولا تقليدا وإنّما إنشاء يسهم فيه التّلميذ، وعمليّة نشيطة تنتج مفاهيم ودلالات خلال التّفاوض الجماعي والتّشاركي” (ص230). بمعنى أنّ البنائيّة تجعل من فعل الإرشاد فعلا متنوّع مسارات التّواصل، فلا يكون هذا الأخير “في اتّجاه واحد، من “كهل” إلى “شابّ” بل عمليّات تفاعليّة بالتّفكير والتّعاقد. فالفرد يبني معرفته من خلال مروره بخبرات كثيرة تفضي إلى بناء معرفة يشارك بتصنيفها وتبويبها وربطها مع غيرها” (ص-ص 230-231). فالأهمّ في هذا التوجّه الجديد ليس تقديم معلومات حول طاقة استيعاب هذه الشعبة (المسلك) أو تلك، ولا إخبار التّلميذ بالمعايير المعتمدة في توجيه التّلميذ، وإنّما الأهمّ من كلّ ذلك هو إيجاد بيئة إرشاديّة تسمح بالحوار والتّفاوض وبناء المشترك. يصبح للتّوجيه معنى يقوم على الاعتراف بقدرات الذّات وخصوصيّاتها، كما يقوم على تفاعل مختلف الفاعلين التّربويّين وخاصّة التّفاعل بين التّلاميذ أنفسهم. وفي ذلك دربة على معرفة الذّات وتحمّل المسؤوليّة تجاه الآخر. أليس التوجيه في نهاية المطاف تنمية لقدرات على الانخراط في العيش المشترك بحرّية ومسؤوليّة.  
      الذّكاء الانفعاليّالمدرسة مدعوّة اليوم إلى تنمية ذكاءات مختلفة ومتعدّدة. ومن هنا فإنّ إهمال الذّكاء الانفعاليّ يعدّ تقصيرا من المؤسّسة التّربويّة. بمعنى أنّ هذه الأخيرة باتت مطالبة بالاهتمام بالذّكاء الانفعاليّ وبمهارات ذات صلة بضبط الذّات وبإدارة العواطف ومشاعر الآخرين…” وهذه الصّفات من مكوّنات الذّكاء العاطفي” ( ص231). إن اشتغال المدرسة على تنمية الذّكاء الانفعالي يسهم في إعطاء معنى جديد للتّوجيه، بحيث يجعله يتعالى عن النّتائج المدرسيّة التّي تكون في غالب الأوقات المحكّ الوحيد المعتمد في التّوجيه المدرسيّ.  
      السرديّة /الكلماتيرى الباحث أنّ التّلاميذ نادرا ما يتكلّمون بمعنى  الكلام الذي له وقع على سائر الفاعلين التربويّين، أو الكلام المفضي إلى تواصل ناجع. “فهم يتحدّثون ولا يتحادثون، يتكلّمون ولا يتكالمون، يخطبون ولا يتخاطبون، لهذا نعتقد أنّ البرنامج الإرشاديّ يوفّر الفضاء التّدريبيّ للتّعبير عن شعورهم وأفكارهم” (ص 233). بعبارة أخرى، الغرض من البرنامج الإرشادي هو أن تكون المدرسة فضاء للتّحاور ومن ثم لتبادل وجهات النّظر، والتّفكير انطلاقا من زوايا مختلفة الأمر الذي ييسّر للتّلاميذ الذّهاب بعيدا في أعماق فعل التّوجيه ولا يكون هذا الأخير مجرّد رجع صدى لنتائج مدرسيّة كان للدّروس الخصوصيّة دور محوري في الكثير منها.

وحتّى تتمّ تبيئة هذا البرنامج الإرشادي القائم على الإحداثيّات السبع المشار إليها أعلاه، كان لابدّ لها من أرضيّة بيداغوجيّة . وضمن هذا السّياق، حدّد الباحث 9 أسس بيداغوجيّة هي الآتية:

الأساس البيداغوجيالمعنى
      التّدريبالحديث هنا عن بيداغوجيا التّدريب. ويأخذ التّدريب في البرنامج ” شكل صور حصص جماعيّة تستند إلى أنشطة تعبيريّة وحركيّة وحواريّة” (ص 234). ولا يبحث التّدريب عن تكوين كفايات بل عن بعث ديناميّة ذهنيّة ونفسيّة وسلوكيّة، وهو اختيار بيداغوجيّ لجعل التّلاميذ يستخدمون صلتهم بالذات وتقييمها، فيسمح لهم بتطوير مهاراتهم وتحديد أهدافهم بشكل يختلف عن مرحلة ما قبل التّدريب. فالتّوجيه حصيلة تدريب وتفاعل مع الذّات ومع الآخر. التّدريب ليس لحظة مغلقة، إنّه مسار ضِمنه تتطوّر المهارات والكفايات، وتتطوّر في إطاره النّظرة إلى الذّات والنّظرة إلى الآخر.
        المرافقةتمكّن المرافقة من إرساء مناخ علائقيّ وودّي بين المربّي والتّلاميذ. وهنا “تبدو كفاءات الباحث في تغيّر الصورة النّمطيّة للعلاقة البيداغوجيّة بين الطفل والكهل ورسم روابط أفقيّة بين الطرفين” (ص 235)، بمعنى أنّ المرافقة تغيّر من مسار التّواصل فتنزع عنه طابعه العموديّ، وتجعله أفقيّا بمعنى حواريّا. ولكن الاشتغال على المرافقة باعتبارها سبيلا لتنمية الذّات لا يكون حسب الباحث إلا اشتغالا بالمرافقة “إذ لا توجيه للذات دون مرافقة” (ص235). بمعنى أن تنمية ذات التّلميذ/المراهق تتطلّب مرافقته وهو في سنّ المخاطر واللاّيقين. وتشترط المرافقة حسب الباحث “تلازم ثلاثة مسارات وهي التّعليم والتّكوين والمرافقة” (ص235). وتتّسم المرافقة بخاصيّة جوهريّة وهي أنّها تسمح بالاقتراب من المراهق وتفهّم انشغالاته وهواجسه ومخاوفه وتطلّعاته فتقطع “مع الصّورة التّقليديّة في التّعامل مع المراهق والقطع مع الإقرارات المعروفة “يتعاملون معنا كأطفال” و “مشنا أولاد صغار” و”نحنا موش فروخ” (ص235). من هذا المنطلق، تكسر المرافقة صورة تواصل محكومة بصور نمطيّة وقوالب جاهزة كثيرا ما حكمت علاقة المربّين بالمراهقين، وهو ما تسبّب في بروز ظواهر من قبيل العنف…الخ. بمعنى أنّ توفير مناخ مدرسي un climat scolaire ملائم لتنمية ذات التعلّم  يقتضي مرافقة المراهق/الفرد ومساعدته على فهم ذاته. ولتكون تلك المهمّة ناجعة لابد في نظر الباحث من إحداث فضاءات للكلام والتّعبير مخصّصة للمراهقين /التلاميذ. وبالتّالي فإنّ المرافقة مقاربة جديدة للعلاقة التّربويّة ولتوفير مناخ مدرسيّ تُنمّى فيه ذات المتعلّم، وتتيح لهذا الأخير التّحدّث عن ذاته في السّياقين الفرديّ والجماعيّ. وبعبارة أخرى، “ليست المرافقة مسارا علاجيّا ولا متابعة ولا مساعدة، فهي ممارسة بيداغوجيّة تربويّة مرنة ذات خصوصيّة لا تشبه العلاقات التقليديّة في الوسط التّربويّ ( ص230). ولعلّ تلك الخصوصيّة هي التّي ستتيح للتّلميذ التّعبير عن ذاته في سياق فرديّ أو جماعيّ. الحديث عن “أنا” والقطع مع “أعوذ باللّه من كلمة أنا” .  
      المجموعة /بيداغوجيا المجموعةتلغي مقولة المجموعة مسار التّواصل الثّنائيّ معلّم -متعلّم. فيصبح التّلاميذ/المراهقون في علاقة مباشرة مع بعضهم البعض، فتتشكّل علاقات جديدة صلب المجموعة، ويكبر الجميع صلب تلك المجموعة وتنمو الذّوات داخلها، فيكون التّواصل متنوّع المسارات وغير ثنائي. يقول الباحث تتحوّل المجموعة إلى مجموعة تفكير Think Group تشتغل وفق ثلاثة مبادئ هي: التّضامن، كلّ تلميذ يكمل الآخرين ويعمل معهم على حلّ المشكل فيكون مكمّلا وجدانيّا للآخرين؛اللاّصراع؛ استبعاد الصّراعات الشّخصيّة، كلّ أفراد المجموعة فاعلون ومتفاعلون؛الاهتمام بأنشطة محدّدة ينخرط فيها التّلميذ الفرد ويكون شريكا في النّشاط ومستفيدا منه. ومن هنا، يصبح التّلميذ /الفرد في حالة “تبعيّة إيجابي’” يتنقّل من دور إلى آخر مثلا من دور المقيّم إلى دور المقيّم (ص 237)
  بيداغوجيا الحواريعدّ الحوار بالغ الأهميّة في الحياة المعاصرة المتّسمة بانتصار الفردانيّة وضعف الرّوابط الاجتماعيّة فضلا عن كثرة المشاغل والمشاكل التي بات الأفراد يواجهونها. فالحوار هو الوسيلة المثلى للتّواصل بين الأفراد والجماعات، وهو فضلا عن ذلك الوسيلة الفضلى لتدبير الخلافات ومنع اللّجوء إلى العنف وإرساء السّلوك الدّيمقراطيّ. فالحوار بما هو نقاش محكوم بشروط يسيطر عليها الأدب والهدوء والقناعة الرّاسخة بنسبيّة الحقيقة، ييسّر تفاعل الذّات مع الآخر، ويساعد على اكتساب الثقة. ولهذا، فإنّ بيداغوجيا الحوار تُعطي فعل الإرشاد معنى جديدا فيصبح الأخير “دخولا في حوار واعترافا بتنوّع واختلاف يستوجب الاحترام، التّبادليّة، المسؤوليّة، القبول، الابتكار” (ص 238). ومن أهمّ ميزات الحوار أنّه متعدّد المسارات، فلذلك يُخرج العمليّة التّواصليّة عن الطّابع السّائد اليوم والذي جعل “القسم مثل الكنيسة والثكنة” (ص238)، بمعنى أنّ الحوار ينوّع مسارات التّواصل، ويتيح للجميع التّفاعل وهو ما يفترض تحوّلا جذريّا في فعل الإرشاد ليقطع من النزعة الإعلاميّة الإخباريّة التّي تختزله في تقديم معلومات حول خصائص كلّ مسلك والنّسب التّي تخصّص له فضلا عن المعايير المحدّدة للولوج إلى هذا المسلك دون غيره. فيصير لفعل الإرشاد معنى آخر يشمل تنوّع مشاريع التّوجيه بتنوّع ملامح المنخرطين في الحوار. وهكذا يكون الحوار مدخلا للاستقلال الفكري، فيلبّي حاجة المراهق لمشاركة الآخرين ومقاسمته آرائه وأفكاره. إن الحوار هدف مشروع يحتاج إلى توطين، لأنّه في مدارسنا الحالية يظلّ باهت الحضور.
      الوضعيّة المشكلينطلق “البرنامج الإرشادي لتنمية الذّات من وضعيّات مشكل تجعل التّلميذ في تناقض مع ما هو سائد أو مع ما هو كامن، أو مع ما هو غامض ووضعيّة في “عدم اتّساق عرفاني “من أجل أن يكون الإرشاد مستجيبا لحاجياته ومتطلّباته الذّاتيّة وليس مسقطا” (ص239). إن الوضعيّة المشكل سياق يشتغل ضمنه المتعلّم /التّلميذ فيفكّر ويتفاعل حولها مع جماعته. ولذلك، فإن تجاوز الوضعيّة -المشكل يكون عبر فتح مساحة شراكة مع الأصدقاء لأنّ الإرشاد لا يكون فقط من قبل المرشد وإنّما من قبل الأصدقاء أيضا سواء أكان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وبعبارة مغايرة، إنّ الوضعيّة -المشكل سياق تفكير جماعي يجعل التّلميذ /الفرد يعمل مع غيره على تقديم الحلول/ الفعل الارشادي يكون فضاء تفاعل وبحث عن الحلول.
  إنتاج المعنىدون الاخذ بعين الاعتبار أحلام التّلاميذ، ودون توفير مساحات للتّعبير والتّفاعل متعدّد مسارات التّواصل والمفضي إلى بناء المعنى المشترك، لا يمكن أن يكون للإرشاد معنى. ذلك أنّ تغييب ذات المراهق/التّلميذ يجعل الإرشاد أمرا مفروضا ويسحب من التّلميذ كلّ مسؤوليّة عن اختياراته. فدون إشراك المراهق في بناء معنى التّوجيه يكون هذا الأخير إجراء روتينيّا مقنّنا وفاقدا لأي بعد إنسانيّ. إنّ المشروع المقترح ينشد إعطاء معنى جديد لفعل الإرشاد والتّوجيه.
            بيداغوجيا المشروعمن المفاهيم التربويّة التّي كان حضورها على مستوى النّصوص قويّا وعلى مستوى الممارسة ضعيفا، مفهوم المشروع، (مشروع المؤسّسة، مشروع الحياة، المشروع الشّخصي). ونجد جذورا لهذا المفهوم في تفكير روسو الذي دعا الى استخدام المشروع لمرحلة المراهقة في كتابه “ايميل”. وإذا ما أخذنا تعريف كيلباتريك Kilpatrick الذي يعرّف هذه الطّريقة في التعلّم بأنّها ” أيّ وحدة أو فعاليّة أو تجربة ذات دوافع داخليّة موجّهة نحو هدف معيّن” ينجزها المتعلّم بشكل فرديّ أو ينخرط فيها في جماعة من المتعلّمين.، نرى بوضوح أن بيداغوجيا المشروع تيسّر تنمية ذات المتعلّم باعتبارها تحفّز على التصوّر والتّخطيط والإنجاز سواء في شكل فرديّ أو في إطار مجموعة. وتراهن بيداغوجيا المشروع على استقطاب متعلّم منخرط في الفعل برغبة ذاتيّة، وبرضى نفسيّ وبمسؤوليّة واعية، وهي فرصة مفيدة لتعلّم القيادة، وتدبير الحرّية وتصريف الطّاقة، والانفتاح على المحيط. يتيح المشروع تنمية مهارات الذّات داخل فضاء المدرسة وخارجه، فيسهم بذلك في انفتاح المدرسة على المحيط، ومن ثم ييسّر للمراهق الفرد الاندماج في الحياة العامّة التي لا تنفصل بالمرّة عن الحياة بالمدرسة، وهذه رؤية جديدة لدور الإرشاد والتّوجيه.
    التّنشيط بالتّنشيطالتّواصل الحماسي، الذي يقطع مع الصّور النمطيّة والأحكام المسبقة ضروريّ لأنّه يتيح القطع مع الجمود ويؤسّس للتّفاعل النّشط الذي يقوم على الثقة في النفس وتفهّم الآخرين. ومن ثمّ فإنّ التّنشيط بالتّنشيط أمر لا غنى عنه اليوم لتنمية ذات فاعلة لدى المتعلّم فتنمّي مهاراته في اتّخاذ القرار وفي المبادرة وفي الانخراط في مجموعة وتبادل الأدوار ضمنها…، إن للإرشاد والتّوجيه وجه مغاير للمعنى السّائد حاليا.
      عقد التّقييممن نقاط قوّة المقترح أنّه ينصّ على تقييم أثر البرنامج. بمعنى تبيّن ما إذا كان للبرنامج أثر في بلورة فضاء تربويّ يتصالح فيه التّلميذ مع ذاته صلب المجموعة، بما يعنيه ذلك من دعم المؤسّسة لذات التّلميذ وتجاوز مرحلة الاعتراف إلى تقديم الدّعم والتّشجيع من خلال المربّي الباحث. ويتطلّب الشّعور بالذّات منتوجا ملموسا وأثرا مكتوبا أو رسما أو حركة تعكس قدرة التّلميذ على التّفكير والمبادرة والتّغيير…الخ.

تقييم البرنامج الإرشادي: تقييم ينصبّ على الأثر

تم الاشتغال في هذا البرنامج على الأثر، أي “البحث عن مدى تحقّق تغيّر ما في المجموعة المستفيدة من التّلاميذ، ويشمل فهم مواقفهم وملاحظة تفاعلاتهم وآرائهم من خلال التّقاطعات ومناطق الاتّفاق والاختلاف، وبالتّالي يلاحظ الباحث ويقيّم مسارات وليس نتائج” ( ص255).

وأنجز تقييم البرنامج مع تلاميذ السنة الأولى من التّعليم الثّانوي في 12 حصة. وقد استخدم الباحث في عمليّة التّقييم تقنيات جمعت بين الكمّي والكيفيّ تمثّلت في:

  • الاستبيان التولوزي لتقدير الذّات، وجاء الاستبيان متضمّنا لستّين بندا وُزّعت على خمسة أبعاد هي على التّوالي:
  • الذّات الانفعاليّة
  • الذّات الاجتماعيّة
  • الذّات المدرسيّة
  • الذّات الجسديّة
  • الذّات المستقبليّة (المتشوّفة)

وقد جمعت البنود بين السّلبي والإيجابي مع استبعاد البنود ذات الصّلة بصورة الجسم وكذلك البنود ذات الصّلة  بالعلامات الدّراسيّة. بمعنى أنّ الجسم ونظام العلامات (النتائج المدرسيّة) تمّ استثناؤها من كلّ تأثير في ذات المراهق.

  • شبكة الملاحظة؛ استخدم الباحث شبكة ملاحظة واستفاد في بنائها من عمل “بوستيك” و”ديكيتال” كما تمّ الاستئناس بشبكة محمّد بن فاطمة (في ملاحظة سلوك المدرّس في الرّياضيات والفرنسيّة). وقد حرص الباحث على أن تلامس الشبكة تنمية الذّات والتّوجيه المدرسيّ وتقدير الذّات ومعرفة الذّات والمهارات الاجتماعيّة والأفق المستقبليّ. ولعلّ المهمّ في هذا السّياق هو قول تشديد الباحث على ضرورة اعتماد الشبكة لأنّ “البحث ليس تمرينا في غرفة” (ص 236).
  • المشاركة -الملاحظة؛ ينطلق الباحث من مسلّمة مفادها أنّ “الملاحظة دون مشاركة ليست إلاّ أفقا فقيرا على مستوى التّحليل المنجز” (ص 264). ولتكون الملاحظة مجدية لابدّ أن تتّسم ب:
  • الوجاهة  Pertinence
  • الصّلاحية Validité
  • الصدقيّة fiabilité

ولتكون الملاحظة ناجعة فعلا، كان لابدّ أن تستجيب لمحكّات الاتّساق/الشموليّة/الطّرافة/الوجاهة/ الموضوعيّة. وقد حرص الباحث في استخدامه للملاحظة-المشاركة مع عيّنة البحث على ملامسة الأبعاد الآتية:

  • بعد علاقة التّلميذ بالمهمّة وطبيعة تفاعله مع الأنشطة المنجزة؛
  • البعد العرفاني للتّلميذ أثناء إنجاز الأنشطة المقترحة؛
  • البعد الانفعاليّ خلال أداء الأنشطة المقترحة؛
  • البعد التّفاعليّ داخل المجموعة لخطّة تنفيذ مكوّنات الأنشطة المختلفة؛
  • البعد التّقييميّ للأنشطة التّربويّة.

ويمكن القول إنّ هذه الأبعاد مجتمعة تغطّي جوانب مختلفة من شخصيّة التّلميذ، العلائقيّ، العرفانيّ، الانفعاليّ، التّقييميّ (التّقييم الذّاتي والتّقييم من قبل الآخر ومع الآخر، لأنّ تقييم الأنشطة يتّخذ طابعا مميّزا عندما يكون جماعيّا).

  • المحادثات الفرديّة وخطاب التّلاميذ (تحليل المضمون)

وضمن هذا الإطار قام الباحث بإعداد دليل المحادثة وصياغته وفق أبعاد بروتوكول التدخّل الإرشاديّ (عيّنة من التّلاميذ 10 بالتّساوي بين الذّكور والإناث وأعمارهم تتراوح بين 15 و17سنة).

ملاحظات ختاميّة

يمثّل هذا الكتاب – مثلما عبّر عن ذلك صاحبه-  بيانا، وهذا البيان:

  • يفصح عن واقع مكوّن رئيسيّ من مكوّنات العمليّة التّعليمية والتربويّة في تونس ألا وهو التّوجيه المدرسيّ والإرشاد التّربوي؛ فهو بمثابة تأمّل دقيق في ذلك المكوّن.
  • يدعو إلى ضرورة إعطاء معنى جديد للتّوجيه المدرسيّ والإرشاد التّربويّ، حتّى يتمّ القطع مع التصوّر السّائد للتّوجيه المدرسيّ ، لأنّ هذا التّصوّر غيّب ذات التلميذ وحوّل التّوجيه إلى إجراءات روتينيّة مملّة جعلت التّلميذ-  وهو المعنيّ الأوّل  بالتّوجيه – تحت ضغط مستمرّ (ضغط النّسب الخاصّة بكلّ مسلك، ضغط الروزنامة، ضغط انتظارات الأولياء، ضغط المؤسّسة الموجودة لأنّ بعض المعاهد لا تتوفّر بها كلّ المسالك الأمر الذي يجبر عددا من التّلاميذ على الالتحاق بمؤسّسات أخرى قد تكون بعيدة عن مساكن الكثير من التّلاميذ)؛
  • يدعو إلى ضرورة تبنّي مقاربة جديدة محورها الاعتراف بذات التّلميذ، بما يمكنه من الإفصاح عن قدراته ورغباته وهواجسه وانتظاراته الشخصيّة بمعزل عن انتظارات  الأولياء بما ييسّر له الانخراط في مشروعه الشّخصيّ. ففي المشروع وبالمشروع تنمو لا معارف التّلميذ فحسب بل مهاراته الحياتيّة وذكاءاته المختلفة بما فيها الذكاء الانفعاليّ.
  • يشدّد على أنّ المدرسة فضاء يحتضن المشروع الفرديّ، أو بالأحرى مشروع الحياة الذي يبدأ في المدرسة، لأنّ المدرسة لا تعدّ للحياة بل هي الحياة كما ذهب إلى ذلك جون ديوي. ولتحقيق ذلك لابدّ من توفير الأرضيّة القانونيّة التّي تيسّر خروج المدرسة من “الزّمن المغلق” أي الحصص الدّراسيّة (الغرفة السوداء) وتساعد على إدماج الكفايات الأفقيّة وفكرة المستقبل، بمعنى تمكين التّلميذ ممّا يساعده على التكيّف مع متغيّرات متسارعة؛
  • يبرز أهميّة البحوث التدخليّة، وهي بحوث يمكن أن تشكّل مجالات تعاون وتفاعل بين الباحثين بما فيهم الأكاديميون ومن ثم تيسّر الاستفادة من جهود الجميع، لأنّ البحوث الأكاديميّة اليوم وعلى أهميّتها لا نجد لها حضورا كافيا لدى المعنيين بالسياسات التّربويّة، ويمكن أن نتساءل عن حجم الأعمال الأكاديميّة التّي تمّت الاستفادة منها في الإصلاحات التربويّة؟ هذا لا يقلّل من أهميّة تلك البحوث الأكاديميّة ولكن هو دعوة إلى توطين البحوث التدخّلية في الوسط الأكاديميّ بما ييسّر على القائمين على تدبير الشأن التربويّ والتّعليميّ  الاستفادة منها.
  • يبيّن أهميّة جسر الهوّة بين النّصوص والواقع، فالنّصوص موجودة وتشدّد على أنّ التلميذ محور العمليّة التربويّة ولكنّ الممارسات اليوميّة مغايرة لذلك ما يبرز صراعا بين المنهج الصّريح والمنهج الخفيّ. ولعلّ مثال مفهوم المشروع الدليل القاطع على مفارقة التي يعاني منها النّظام التربويّ التّونسي، فالمفهوم حاضر بما في ذلك مشروع المؤسّسة والاشتغال عليه وضمنه يظلّ محدودا إن لم نقل غائبا.
  • يشدّد على ضرورة أنسنة المدرسة، فهذه المؤسّسة التّي تحتضن التّلميذ /الطفل أو التّلميذ /المراهق بطموحاته ورغباته وأحلامه لابدّ أن تُراعي خصوصياته الذّاتية بما ييسّر عليه رسم طريقه. بعبارة مغايرة، لا يمكن للمدرسة أن تختزل التّلميذ في الواجبات المدرسيّة، فصفة التّلميذ لا تنزع عنه صفة الطفل وصفة المراهق. وعليه فمراعاة ذاتيّة التّلميذ في أبعادها المختلفة تجعل المدرسة أمام مهمّة مركّبة ولكنّها ذات طابع إنساني، وهذا هو جوهر التربية أي بناء الإنسان.
  • ينشد إرساء ثقافة المشروع ومن خلالها ثقافة المبادرة والطموح والتفكير من خارج الصندوق، ففي ثقافة المشروع اعتراف بمهارات مختلفة ومتنوّعة منها الثّقة في النفس ومنها القدرة على العمل ضمن فريق بما تعنيه من قدرة على إقامة علاقات والالتزام بما تمليه تلك العلاقات من مصالح مشتركة، ومن قدرة على استبطان روح الفريق والعمل ضمنها.
  • يقدّم رؤية متكاملة لفعل التّوجيه والإرشاد ليكون مدخلا للإصلاح التّربوي، وفي ذلك ضرب من التّجديد لأنّ التّفكير في توجيه يبني ذات التّلميذ يطرح على المدرسة وعلى المنظومة التربويّة مراجعة المنهاج في مكوّناته المختلفة (شبكة المواد، طرق التّقييم، الحياة المدرسيّة، الشّعب والمسالك الدّراسيّة…).

وفي الختام يمكننا القول، إن أنسنة المدرسة تتطلّب فعلا مقاربة جديدة لفعل الإرشاد والتّوجيه، مقاربة تتضمّن إيمانا بأن جودة التّمدرس مستمدّة من احترام الفوارق بين المتعلّمين، ومن مراعاة خصوصيّاتهم، ومن الانتصار إلى مبدأ تعلّم لتكون مثلما جاء في تقرير اليونسكو الموسوم بالتّعليم ذلك الكنز المكنون. ومن شأن هذه المقاربة أن تُخرج التوجيه من النزعة التقنيّة التّي بات يتخبّط فيها. ولكنّ هذه المقاربة الجديدة تفرض أسئلة تتّصل باستتباعات هذا التوجّه على تكوين المختصّين في التّوجيه المدرسيّ والجامعي، بمعنى أيّ تكوين؟ وأيّة كفايات؟ وكذلك عن تأثيرات مقاربة “أنسنة المدرسة” على طرق إنجاز التعلّمات، والحال أنّ جزءا من الشبكة المفاهيميّة المضمّنة بالكتاب من قبيل الحوار، المشروع، المرافقة، الوضعيّة -المشكل، هي من أسس البيداغوجيا التّفاعليّة التّي يُفترض أن توجّه أنشطة التعلّم والتّقييم؟ ولا يمكن بالمرّة إغفال التّساؤل عن دور الحياة المدرسيّة في أنسنة المدرسة وهو ما قد يقودنا إلى هندسة الفضاء المدرسيّ وكيفيّة جعله فضاء مؤنسنا. إنّ هذا الكتاب يؤسّس لمقاربة جديدة تكون فيها المدرسة مبادرة لاحتضان إنسان ومن ثم لتنمية إنسانيته، أو بعبارة أخرى، إن الإيمان برسالة المدرسة وأهميّتها هي الحافز وراء تقديم مقترح لتجديد التوّجيه والإرشاد التربويين عمل الباحث على إنجازه حاثّا سائر الفاعلين التّربويّين على الاشتغال على الإصلاح التّربويّ – وهو مطلب ملحّ في تونس اليوم- من منطلقات جديدة حتّى يكون فعلا إصلاحا لا ترميما.


[1]  أبو جلال الدّين محمّد البازي؛ المدرّس الباحث؛ الرّؤية والمنهج، الرّباط، منشورات دار الأمان، 2023 ص26

[2]  المرجع نفسه، ص31


* الدكتور محمد بن راشد أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية. 

وسوم:

اترك رد

جديدنا