بين المتخيّل الديني والثقافة الشعبيّة

image_pdf

اتسّاع رقعة الدولة الإسلامية شرقاً في آسيا، وغرباً في إفريقيا وجنوب أوروبا، أدّى إلى تغلغل الكثير من ثقافات شعوب هذه الأمصار في الفكر الإسلامي، سواء في الجانب العقدي أو القصصي، إذ تأثر بعض المفسرين والمحدثين بما وجدوه من قصص وأخبار لتكملة الفراغات والتفاصيل أثناء تفسيرهم للقصص القرآني، وهنا وقع الخلط والمزج بين القصص القرآني ونظيره الثقافي ليعطي في النهاية المتخيّل الديني، هذا الأخير اكتسب هالة القداسة والحقيقة مع الوقت، وخاصة بعد انتصار المدرسة النقلية وهيمنتها على الفكر الديني الإسلامي.


فمثلا نجد الخلط بين إدريس وكونه أوّل من خط بالقلم، وخاط الثياب، وله علم الطب والفلك والحساب وتخطيط المدن، وله الحكمة، ورُفِع إلى السّماء، وبين الحكيم هرمس الإغريقي أستاذ فيثاغورس، وبين أخنوخ التوراتي، وبين أوزيريس المصري (حسب الميثولوجيا المصرية، فهو أوّل من خاط الثياب وعلّم الناس الحكمة والحساب والفلك والكيمياء والطب وبناء المدن، كما انتهى وجوده الأرضي بالرفع إلى السّماء)، وكمثال آخر حول قصة الخليقة، نجد في كتب التراث أنّ الأرض يحملها ملكاً على كتفيه، وضع إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب حتى تستقر(نفس أسطورة أطلس الإغريقي الذي عاقبة الإله زيوس بحمل العالم على كتفيه) ، كلاهما على قرني ثور عظيم نزل من الجنة (نفس قصة الثور العملاق الذي أنزلته من السماء الإلهة عشتار حسب أسطورة جلجامش)، وكلّهم على صخرة يحملها حوت يسمى النون، يتّم معاقبته إلهياً إذا تحرّك (تشابه مع أسطورة صينية حيث العالم على ظهر سلحفاة)، وقصة الشمس التي تجّرها الملائكة يومياً لنقلها من الشرق إلى الغرب ( تُحاكي قصة الإله المصري راع ورحلته يومياً من الشرق إلى الغرب حاملاً معه الشمس على مركبته) وغيرهما من القصص.

الآن لو نتساءل كيف تحوّلت خرافات وثقافات الأولين إلى معتقدات في الوجدان الجمعي الإسلامي ؟ أو على الأقل البعض منها، بتعبير آخر، كيف انتقل الأسطوري مع مرور الأجيال إلى المقدّس ؟ وكيف تأسّس المتخيّل الديني على قاعدة الثقافة الشعبية رغم اللامعقولية والتعارض مع النصوص الدينية وخاصة القرآن الكريم ؟

الإجابة عن هكذا إشكالية تحتاج إلى تحليل واسع (بحث متكامل)، ولهذا سأختزل التنظير الذي يُطيل المقال (القارئ في عصرنا يتهرّب من المقالات الطويلة)، وأستخدم مباشرة أحد الأمثلة لتقريب الفكرة وتبسيط شرحها.

تقريباً كل الأديان، القديمة منها والمعاصرة، تناولت الحديث عن كيان شرّير، عدّو أبديّ للبشرية، مسؤول عن الفتن والضلالات، اختلفت أسماء هذه الشخصية الميثولوجية وتعدّدت، منها “ديابلوس” عند الإغريق، “سِت” عند المصريّين ومنه جاء لفظ “ساتان” فيما بعد في لغات أخرى، “أهريمان” في ديانات الفرس، “عزازيل” و”ساتان” في اليهودية، “لوسيفير” في المسيحيّة، “إبليس” في الإسلام”.

في القرآن الكريم، جاء الحديث عن إبليس أنّه من الجنّ وقد رفض السجود لآدم، ومن هنا نصب العداء للإنسان وتوعّده بالفتنة حتى يضّله عن الصراط المستقيم، ولكن علماء التفاسير والأحاديث والأخبار طرحوا تساؤلات أخرى: إذا كان إبليس من الجنّ في الأرض، فكيف ولماذا صعد إلى السّماء وصار مع الملائكة ؟ كيف تسلّل إلى الجنة ووسوس لآدم وزوجه وهو مطرود منها ؟ بعدما أُنزِل إلى الأرض، أين يعيش ؟ مع من ؟ ما هو شكله وهيأته ؟ ماذا يأكل وكيف يتكاثر ؟ وغيرها من الأسئلة.

للإجابة عما سبق، تطلّب منهم البحث في كتب أهل الكتاب، اليهوديّة والمسيحيّة، والتأثر بما يوجد في أديان وثقافات الشرق، دون تجاهل أثر البيئة العربية، وفي الأخير سيتمّ خلق شخصية مركبة تعكس نفسيات وثقافات البشر وهذا ما يسمى بالمتخيّل الديني.

تقول الرواية الأولى أنّ عزازيل كان من الجنّ، وبسبب فسادهم هجرهم وصعد إلى السّماء مع الملائكة، نظراً لإخلاصه وعبادته، كلّفه الله بقيادة جيش من الملائكة لمحاربة الجنّ وطردهم من الأرض، وهذه القصة مشهورة في أساطير الأديان القديمة وخاصة الإغريقية (الصعود إلى السّماء لمقابلة الإله ثم النزول بجيش لمحاربة الفاسدين)، أما الرواية الثانية فقريبة من الأولى، إذ في حرب الملائكة مع الجنّ، تمّ أسره واصطحابه معهم إلى السّماء، وبعدما أخلص في عبادة الله صار ملكاً عظيماً؛ ثم تتفّق الروايات أنّ الكِبر أصابه حين عظم شأنه بين الملائكة، إلى درجة رفضه الأمر الإلهي (السجود لآدم)، وهنا تمّ طرده من رحمة الله تعالى ويهبط إلى الأرض ويصير اسمه “إبليس”.

يصعد مجدداً إبليس إلى السّماء ويريد دخول الجنة للانتقام من آدم، يطلب المساعدة من الطاووس السّماوي (من طيور الجنة) بعدما قام بمدح جماله، هذا الأخير يتأثر بالمدح فساعده بنصيحة الاستعانة بالأفعى لأنّها أكثر حيلة، يتجّه إبليس إليها ويقابلها، حجمها ضخم كالإبل، لها قوائم وذيل ملون، وفعلاّ ساعدته في دخول الجنة بعد أن خبّأته في فمها.

واضح جدا التوظيف الرمزي للطاووس في القصة، لأنّ هذا الطائر مشهور في عدة موروثات شعبية بالغرور والإعجاب بالنفس، وهي نفس الصفة الأخلاقية المذمومة التي طُرد بسببها إبليس من الرحمة الإلهية، كما أنه رمز مهم في عدة أديان بعضها معاصرة كالأيزيدية، أمّا الأفعى، فهي مرتبطة في العقل العربي بالشياطين والجنّ منذ القدِم، وفيما يخص وصفها بالضخامة والذيل الملوّن وذات قوائم، فهذا وصف “التنين”، وهو كائن أسطوري مشهور في أديان وثقافات شرق آسيا، كما أنّ هذا الشكل هو رمز للشيطان في التراث المسيحي كما صوّرته “لوحة مارجرجس” الشهيرة.

تمكّن إبليس من إغواء آدم وزوجه والقصة معروفة، ثم يزيد الرواة في تفاصيل العقاب الإلهي، أنّ الله تعالى أهبط الجميع إلى الأرض (آدم وزوجه حواء، وإبليس، والطاووس، والحية)، مع عقاب آخر للأفعى بحرمانها من قوائمها وجعلها تزحف على بطنها.

قصة إسقاط الكائنات السماويّة كعقوبة إلهية مشهورة في التراجيديا التوراتية، تسمى “الملاك الساقط”، فهم مجموعة من الملائكة عصوا الله فأسقطهم من السّماء إلى الأرض، فقصة إبليس الملاك الساقط وحتى قصة “هاروت وماروت” لا تغادران جوهر هذه التراجيديا.

يستمّر القصّاصون بخيالهم الخصب، ومتأثرين بأهل الكتاب، وبثقافتهم الشعبية في إشباع القصة، فقالوا أنّ إبليس لما هبط على الأرض، حاول الالتحاق بالجنّ ولكنّهم رفضوه بعدما صار بشع المظهر، وقَبِله بعض العصاة منهم فصاروا من الشياطين مثله ومن جنده، كما كان يرتدي عمامة ونعلاً وإزاراً، وصار اسمه عربياً هو “الحارث”، ويحمل شهوة الرجال والنساء، فله عضو جنسي أنثوي على فخده، وعضو جنسي ذكوري على فخذه الآخر، وينكح نفسه، ويتكاثر بالتبييض، من نسله الغيلان والسعلاة والدلهاب وغيرهم من المسوخ.

لا يخفى هنا أثر خرافات ومعتقدات العرب القديمة (ما قبل الإسلام)، فالغول كائن خرافي مشهور عند العرب، والسعلاة كذلك من الجنّ الذي يسكن بيت الخلاء، والدلهاب يتعرض للمسافرين في الصحراء، كما تمّ تخيّل كائنات أخرى حسب المستجدات (شيطان مختص بالوسوسة أثناء الوضوء، وآخر للصلاة، وآخر للأسواق لزرع الشجار بين الناس، وآخر للوسوسة للأنبياء … وكلهم تحت حكم إبليس من على عرشه)، وصف مظهره بالبشع هو ما قامت به الكنيسة من قبل، أمّا جعله عربي الملبس، فهذا إسقاط جليّ للثقافة العربية، كما قد يكون مناسبة للنهي عن شكل بعض العمائم والنعال والإزار أو طريقة ارتدائها بعد ربطها بالشيطان، فيما يخص تسميته بالحارث، فاعتقد نسبة ل”النضر بن الحارث”، هذا الرجل كان من أشّد المزعجين للمسلمين بسبب ثقافته الموسوعية ومعرفته الكبيرة بمعتقدات وأساطير مختلف الشعوب، ولهذا تمّ إعدامه رغم وقوعه أسيراً في معركة بدر، كما تمّت شيطنته في الكتب إلى درجة حمل إبليس اسمه.

جعل إبليس خنثى “ينكح نفسه”، فعل مهين حسب الثقافة العربية، ولحد الآن يُستخدم هذا الفعل كشتيمة وللتحقير، كما أضاف له الراوي التبيض تشبيهاً له بالحشرات والزواحف (حتى لا يكون كالإنسان ولوداً).

لقد قام الرواة المسلمون بصناعة شخصية إبليس متطّورة نظراً لدوره الملحمي كعدوّ أبديّ للإنسان، وقد تأثروا بأساطير الأولين وبالبيئة الاجتماعية في صناعتهم، وجعلوا من التفاصيل التي أضافوها حقائق واقعة تاريخياً، وتقبّلها العوام وصدّقوها بعدما اعتمدها أهل التفسير والأحاديث في كتبهم، وصاروا يروونها على الناس في مجالسهم، رغم ما تتضمنه من خرافات ومن معارضات صريحة للقرآن الكريم، فما هو موجود في العقل الإسلامي عن إبليس والجنّ والشياطين، أغلبه من المتخيّل الأسطوري.

انتبه المعتزلة وخاصة الطبائعية منهم إلى معضلة المتخيّل الديني وما سيسببه من تدنيس للمقدّس، ونشر للخرافات والدجل بين رجال الدين وعوام الناس، ولهذا انتقدوا بشدة منهج المفسّرين للقصص القرآني المرتكز على الإسرائيليات وجمع الأخبار كحاطب الليل، وكانت دعوتهم التمييز والمقارنة مع نصوص القرآن من جهة، ورفض ما هو خرافي وغير عقلاني من جهة أخرى، يقول إبراهيم النظّام: “لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين، وإن نصبوا أنفسهم للعامة وأجابوا في كل مسألة، فإن كثيراً منهم يقول بغير رواية على غير أساس، وكلما كان المفسر أغرب عندهم كان أحبّ إليهم”.

_______
العفيفي فيصل، أستاذ اللغة الفرنسية وباحث دكتوراه في أصول الدين – جامعة تلمسان/الجزائر.

جديدنا